الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفصل الثاني: اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الإسلام
المبحث الأول: أثره في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام
مما لاشك فيه أن الزنا جريمة بشعة، ومرض خطير يستحكم في النفوس ويقوى تأثيره فيها، وآثار هذا الجرم الخبيث، ونتائجه السيئة أكثر من أن تحصى وأظهر من أن تشرح وهو من الجرائم المحرمة، وقد ثبت تحريمه بالكتاب والسنة والإجماع.
فدليل تحريمه من الكتاب قوله تعالى: {وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً} .1
فدلت الآية الكريمة على تحريم الزنا وأنه جريمة خبيثة يجب على المؤمنين اجتنابها لأنها تدنسهم، وتهلكهم، وتفسد أرضهم وأهلهم.
أما دليل تحريمه من السنة فقوله صلى الله عليه وسلبم في حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: "قلت: يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل لله نداً وهو خلقك، قلت ثم أي: قال: أن تقتل ولدك من أجل أن يطعم معك، قلت ثم أي؟ قال: أن تزاني حليلة جارك".2
1 الإسراء: 32.
2 أخرجه البخاري 4/176 كتاب الحدود باب إثم الزنا واللفظ له ومسلم 1/90 كتاب الإيمان باب كون الشرك أقبح الذنوب.
وغيره من الأحاديث التي تدل دلالة واضحة على تحريم هذه الجريمة الخبيثة وأن ارتكابها يعد من أعظم الذنوب.
أما الإجماع: فقد أجمع علماء المسلمين على تحريمه وأنه من الفواحش القبيحة، لما فيه من ضياع الأنساب وتفكك الأسر، وانحلال المجتمعات وانتشار الفساد في الأرض.1
وهذا الفعل القبيح له عقوبة عظيمة، يعاقب بها من تسول له نفسه فعل هذه الجريمة الفاحشة، وعقوبة حد الزنا إما الجلد والتغريب أو الرجم.
فالزاني البكر عقوبته الجلد لقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .2
وجاءت السنة النبوية مقررة لعقوبة الجلد مع زيادة التغريب لمدة عام.
فعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلبم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام.3
وفي حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة.4
1 الاختيار 4/79، وبلغة السالك 2/421، وكفاية الأخيار 2/110، وكشاف القناع 6/89.
2 النور: 2.
3 أخرجه البخاري 4/181 كتاب الحدود باب البكران يجلدان وينفيان.
4 أخرجه مسلم 3/1316 كتاب الحدود باب حد الزنا.
وقد أجمع العلماء على وجوب الجلد على الزاني إذا كان بكراً1 أما التعريب فقد خالف فيه الحنفية فقالوا: الزاني البكر عقوبته الجلد فقط.2
لكن الأحاديث الصحيحة الصريحة الدالة على تغريب الزاني البكر ترد قولهم وتضعفه.
أما الزاني غير البكر - المحصن - أي المتزوج فعقوبته الرجم وقد ثبت الرجم في حقه بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه الثيب بالثيب جلد مائة والرجم.3
وبحديث جابر رضي الله عنه أن رجلاً من أسلم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلبم فحدثه أنه قد زنى فشهد على نفسه أربع شهادات فأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلبم فرجم وكان قد أحصن.4
وقد وقع الإجماع على رجم الزنا المحصن ولم يشذ في ذلك إلا بعض فرق الخوارج.5
1 قوانين الأحكام الشرعية ص 384، ورحمة الأمة ص 272، والإفصاح لابن هبيرة 2/234، ومراتب الإجماع لابن حزم ص 129.
2 الاختيار 4/86 واللباب في شرح الكتاب 3/2187.
3 أخرجه مسلم 3/1316 كتاب الحدود باب حد الزنا.
4 أخرجه البخاري 4/76 كتاب الحدود باب رجم المحصن واللفظ له، ومسلم 3/1318 كتاب الحدود باب من اعترف على نفسه بالزنا.
5 الاختيار 4/84، وأسهل المدارك 3/315، وكفاية الأخيار 2/110، والمبدع 9/61، ومراتب الإجماع ص 129.
وقد اتفق الفقهاء على وجوب إقامة حد الزنا على المسلم إذا زنى في دار الإسلام، بمسلمة، أو بذمية، أو بمستأمنة1
أما المستأمن إذا زنى في دار الإسلام، فلا يخلوا من حالتين:
الحالة الأولى: أن يزني المستأمن بكافرة، ذمية كانت أو مستأمنة.
فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد عليه في هذه الحالة إلى قولين:
القول الأول: لا يقام حد الزنا على المستأمن إذا زنى بكافرة.
وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف، والمالكية، والشافعية في أصح الأوجه والحنابلة.2
القول الثاني: يقام حد الزنا على المستأمن إذا زنى بكافرة.
1 المبسوط 9/56، وفتح القدير 5/268، وقوانين الأحكام الشرعية ص 383، والشرح الصغير 2/390، والمهذب 2/280، والمغني 8/157، والمبدع 9/63، 73.
2 بدائع الصنائع 7/340، والمبسوط 9/ 57، وقوانين الأحكام الشرعية ص 383، والخرشي على مختصر خليل 8/75، والفواكه الدواني 2/284، وحاشية البيجوري 2/238، ومغني المحتاج 4/147.
وهو قول الأوزاعي، وأبي يوسف من الحنفية، والشافعية في وجه إذا شرط عليه ذلك في عقد الأمان.1
الأدلة:
أولاً: أدلة الجمهور:
استدلوا بالكتاب، والمعقول، والقياس:
أ - دليلهم من الكتاب:
وجه الدلالة من الآية:
أن الشارع أوجب علينا إبلاغ المستأمن مأمنه، بهذا النص الصريح وفي إقامة الحد عليه تفويت للتبليغ الواجب.3
ويمكن أن يرد عليهم بأن الآية ليس فيها ما يدل على عدم إقامة حد الزنا على المستأمن بل غاية ما تدل عليه الآية جواز عقد الأمان مع الكفار في دخول دار الإسلام لسماع كلام الله والإطلاع علي محاسن الإسلام،
1 بدائع الصنائع 7/34، والمبسوط 9/56، وفتح القدير 5/268، والخراج لأبي يوسف ص 189، والأم 325، ونيل الأوطار 7/93.
2 التوبة: 6.
3 المبسوط 9/57، 58.
ثم إن أسلم فهذا هو الغاية من الأمان، وإن لم يسلم فنبلغه مأمنه حتى يرجع إلى داره التي يأمن فيها.
أما دليلهم من المعقول: فمن ثلاثة أوجه:
الوجه الأول:
1-
أن حد الزنا من الحقوق الخالصة لله تعالى، والأصل عندهم عدم إقامة الحد فيما هو حق لله تعالى، كالسرقة، وقطع الطريق، ولا تقام عليه الحدود إلا فيما يرجع إلى حقوق العباد كالقصاص والقذف، وأما حقوق الله تعالى فلا تلزمه، لأنه لم يلتزمها، ولهذا لا تضرب عليه الجزية ولا يمنع من الرجوع إلى دار الحرب.1
2-
أن إقامة الحدود أساسها الولاية، ولا ولاية للمسلم على المستأمن لأن إقامته لمدة معلومة.2
3-
أن المستأمن لم يدخل دار الإسلام على سبيل الإقامة والتوطن، بل على سبيل العادية، يعاملنا ونعامله في التجارة وغيرها، حتى يقضي حاجته ثم يعود إلى داره دار الكفر.
ولهذا لم يكن في دخوله دار الإسلام دلالة على التزامه بأحكام الإسلام التي هي حق الله تعالى بل التزم بالأحكام التي هي حق للعباد كالقصاص وغيره.3
1 انظر: المبسوط 9/56، 57، وبدائع الصنائع 7/34، وشرح السير الكبير 1/306.
2 انظر: المبسوط 9/57.
3 انظر: بدائع الصنائع 7/34، وفتح القدير 5/268.
ولكن يمكن أن يرد على أدلتهم هذه بما يلي:
1-
أن المقصود من إقامة الحد على المستأمن هو الزجر له، والردع لغيره، ومنع الفساد في الأرض وزلزلة أمن المجتمع، ولا فرق بين حق الله وحق العبد في هذه الناحية فالحد شرع للزجر سواء كان الحد حقاً لله أو حقاً لعباده.
2-
أما قولهم بأنه لا ولاية للمسلم على المستأمن، فهذا شيء غريب فالمستأمن بمجرد عقد الأمان دخل تحت ولاية الدولة الإسلامية والتزم بأحكامها، فهو مادام في دار الإسلام ومن رعايا الدولة الإسلامية فهو تحت ولايتها لأنها مسؤولة عنه وعن المحافظة على دمه وعرضه وماله وعدم الاعتداء عليه من قبل سكانها المسلمين أو الذميين.
3-
وقولهم بأنه دخل للتجارة ولم يلتزم أحكام الإسلام يقال لهم إنه بمجرد عقد الأمان معه فهو ملتزم بأحكام الإسلام مدة إقامته فيها كالذمي ولهذا يقام عليه حد القذف كما يقام على الذمي، فالمستأمن في إقامة الحدود عليه كالذمي بجامع الكفر والعصمة.1
ج - أما دليلهم من القياس:
فقد قاسوا المستأمن، على الحربي غير المستأمن، بجامع عدم الالتزام بأحكام الإسلام2 ويقال لهم هذا قياس مع الفارق لأن هناك فرقاً بينه
1 بدائع الصنائع 7/34.
2 المبسوط 9/56، وتبيين الحقائق 3/183، والجوهرة النيرة 2/346.
وبين الحربي غير المستأمن، فهذا تحت ولاية دولته الكافرة فكيف يلتزم لأحكام الإسلام، وكذلك مباح الدم ويمنع من دخول دار الإسلام، وذاك تحت ولاية الدولة الإسلامية مدة إقامته فيها ومعصوم الدم والمال ما دام في دار الإسلام ملتزماً لأحكامه، مستمسكاً بشروط الأمان.
ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني الذين قالوا بوجوب إقامة الحد على الزاني المستأمن في دار الإسلام.
استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس.
أ - دليلهم من الكتاب:
عموم النصوص الواردة في وجوب إقامة حد الزاني كقوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} .1
وجه الدلالة من الآية:
دلت الآية بعمومها على وجوب إقامة حد الزاني على المستأمن لأنها لم تفرق بين أن يكون الزاني مسلماً أو غيره، فتكون شاملة للمستأمن.
ب - دليلهم من السنة:
1-
بحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن الرسول صلى الله عليه وسلبم رجم اليهوديين.2
2- وبحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "رجم النبي صلى الله عليه وسلبم رجلاً من
1 النور: 2.
2 أخرجه البخاري 4/182، كتاب الحدود باب أحكام أهل الذمة ومسلم 3/1326 كتاب الحدود حديث 1699.
أسلم ورجلاً من اليهود وامرأته".1
وجه الدلالة من هذه الأحاديث:
دلت الأحاديث على وجوب إقامة الحد على المستأمن إذا زنى في دار الإسلام لأن النبي صلى الله عليه وسلبم أقام حد الزنا على اليهود وهم وإن كانوا من أهل الذمة فالمستأمن كالذمي في إقامة الحدود عليه بجامع الكفر والعصمة.
قال الشوكاني: "وأحاديث الباب تدل على أن حد الزنا يقام على الكافر كما يقام على المسلم".2
وقال الصنعاني: "وفي الحديث دليل على إقامة الحد على الكافر إذا زنى".3
ج - دليلهم من المعقول:
أن المستأمن لما دخل دار الإسلام فقد التزم بأحكامه بمجرد عقد الأمان مدة إقامته بها، فصار كالذمي التزمها طول حياته، والمستأمن ملتزم لها إلى أجل.
ومن الأحكام التي التزمها إقامة الحد عليه إذا ارتكب موجبها كالقذف والقتل، فيجب أن يقام عليه حد الزنا كذلك، والمستأمن يعتقد
1 أخرجه مسلم 3/1328 كتاب الحدود باب رجم اليهود حديث رقم 1701 وفي لفظ (وامرأة) .
2 انظر: نيل الأوطار 7/93.
3 انظر: سبل السلام 4/1282.
حرمة الزنا لأنه حرام في الأديان كلها، وقد تمكن الإمام من إقامة الحد عليه لأنه في دارنا، فيجب أن يقيم هذا الحد عليه، لأن المقصود من إقامة الحدود الشرعية هو تطهير دار الإسلام وصيانتها من الفساد، فلو قلنا بعدم إقامة الحد عليه مع قدرة الإمام على ذلك لأنه تحت ولايته لكان ذلك من الاستخفاف بالمسلمين وما أعطيناه الأمان ليستخف بالمسلمين ويفسد ويدنس دارهم الطاهرة.1
د - دليلهم من القياس:
قاسوا حد الزنا على حد القذف، قالوا فكما يجب إقامة حد القذف على المستأمن إذا قذف مسلماً بالاتفاق2، فكذلك يجب إقامة حد الزنا على المستأمن.
وكذلك قاسوه على الذمي فهو كافر ملتزم لجميع أحكام الإسلام طول حياته، وتقام عليه جميع الحدود، ومعصوم الدم، فكذلك المستأمن كافر يلتزم بأحكام الإسلام، وتقام عليه الحدود لأنه معصوم الدم مثله.3
الحالة الثانية: أن يزني المستأمن بمسلمة في دار الإسلام:
وقد اختلف الفقهاء إقامة الحد في هذه الحالة إلى ثلاثة أقوال:
1 انظر: المبسوط 9/56، وبدائع الصنائع 7/34، وفتح القدير 5/268، والبحر الرائق 5/19، وتبيين الحقائق 3/182.
2 الاختيار 4/95، والمدونة 6/222، وروضة الطالبين 10/106، والمغني 8/216، والمحلى 10/27.
3 نفس المراجع السابقة مع نيل الأوطار 7/93.
القول الأول: المستأمن إذا زنى بمسلمة لا يقام عليه الحد كما إذا زنى بكافرة.
وهو قول فقهاء الحنفية والشافعية في أصح الأوجه.1
القول الثاني: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقتل حداً.
وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة في الصحيح من المذهب.2
القول الثالث: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقام عليه الحد، كما إذا زنى بكافرة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، ووجه للشافعية في غير المشهور وبالأخص إذا اشترط عليه ذلك في عقد الأمان، ورواية للحنابلة.3
الأدلة:
أولاً: استدل أصحاب القول الأول بنفس الأدلة في الحالة السابقة.
وهي أن المستأمن إذا زنى بكافرة لا يقام عليه الحد.
1 بدائع الصنائع 7/34، والمبسوط 9/56، وتبيين الحقائق 3/182، ومغني المحتاج 4/147، وأسنى المطالب 4/ 127 ونيل الأوطار 7/93.
2 بلغة السالك 2/421، والفواكه الدواني 2/242، قوانين الأحكام الشرعية ص 372، المغني 8/269، وكشاف القناع 6/91.
3 بدائع الصنائع 7/34، وتبيين الحقائق 3/ 182، والأم 7/358 وأسنى المطالب 4/127، والمبدع 9/63.
ثانياً: استدل أصحاب القول الثاني الذين قالوا بأنه يقتل حداً بالمعقول فقالوا: المستأمن إذا زنى بمسلمة يقتل حداً لأنه انتهك حرمات الدولة الإسلامية، ونقض العهد فيجب قتله ولا يجب مع القتل حد سواه.1
ثالثاً: استدل أصحاب القول الثالث بنفس الأدلة التي توجب إقامة الحد على المستأمن إذا كان الْمَزْنِيُّ بها كافرة، وقد تقدمت في الحالة الأولى.
الرأي المختار:
وبعد عرض آراء الفقهاء في الحالتين وأدلتهم ومناقشتها اتضح لي أن الرأي القائل بوجوب إقامة حد الزنا على المستأمن سواء كان الْمَزْنِيُّ بها كافرة أو مسلمة هو الأرجح، وذلك للأسباب الآتية:
1-
لعموم النصوص الموجبة لإقامة حد الزنا على المسلم وغيره، ولم يرد ما يخصص هذا العموم.
2-
ولأن غالب الفقهاء قالوا بإقامة حد الزنا على الذمي لورود النصوص الصحيحة في هذا كحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وحديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما وقد مضت، والمستأمن كالذمي في غالب الأشياء كالدين فكل منهما كافر، والعصمة فكل منهما معصوم الدم والمال، إلا أن الذمي عصمته مؤبدة، أما المستأمن فعصمته مؤقتة وهذا لا تأثير له في إقامة الحدود.
1 كشاف القناع 6/91، وبلغة السالك 2/421.
3-
أن المصلحة تقتضي إقامة الحد على المستأمن الزاني بمسلمة أو كافرة، وذلك لتطهير الدولة الإسلامية من الجرائم الخبيثة، وصيانة حرمتها، ومنع انتشار الفساد في أرضها والأمراض الخطيرة.
4-
أن الزنا محرم في جميع الأديان والشرائع لما فيه من الضرر والمساوئ القبيحة التي تعم الجماعة كلها.
5-
أن القصد من إقامة الحد على المستأمن هو الزجر له والردع لغيره حتى أن الأحناف أنفسهم قالوا شرعت الحدود للزجر.
6-
أن تطبيق الحدود والعقوبات الشرعية في دار الإسلام متيسرة لثبوت الولاية في دار الإسلام لإمام المسلمين على المسلمين وغيرهم كالمستأمنين.
7-
أن كون الزنا من حقوق الله تعالى لا يمنع من إقامة الحد على المستأمن لأن القصد من إقامة الحدود سواء كانت حقاً لله أو حقاً لعباده الزجر والردع لمن تسول له نفسه فعل هذه الأشياء الخبيثة والمذمومة، ومنع انتشار الفساد والأضرار التي تعود على المسلمين وغيرهم من وراء هذا الجرم القبيح.
وبناء على هذه الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام، لأنه عندما كان في داره دار الكفر، لا يلتزم بأحكام الإسلام فلا يقام عليه حد الزنا، ولكن عندما دخل دار الإسلام بأمان، التزم لأحكام الإسلام فيما يرجع للحدود، فيقام عليه حد الزنا، وبهذا يختلف الحكم لاختلاف الدارين.
المبحث الثاني: أثره في قذف1 المستأمن في دار الإسلام
إن حد القذف من الحدود التي أمر الله بإقامتها، لأن جريمة القذف من الجرائم الكبرى المخلة بالشرف والأخلاق، وقد حرمها الشارع ونهى عنها، والقذف من الكبائر الموبقة لصاحبها والمهلكة لفاعلها، وهو محرم باتفاق أهل العلم، وقد دل على تحريمه الكتاب، والسنة، والإجماع.
فدليل تحريمه من الكتاب:
قوله سبحانه وتعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} .2
فقد أمر الله سبحانه وتعالى بجلد الذين يرمون المحصنات والجلد لا يكون إلا على فعل محرم.
1 القذف لغة: الرمي مطلقاً، والمصباح المنير 2/495، ولسان العرب 9/276، 277، والمبدع 9/83.
وشرعاً: عرفة الحنفية والحنابلة بالرمي بالزنا. الاختيار 4/93، واللباب 3/195، والمبدع 9/83. وزاد الحنابلة اللواط. انظر: كشاف القناع 6/104. وهناك تعاريف أخرى لجريمة القذف عند المالكية والشافعية. انظر فيها: حاشية العدوي 2/299، ومغنى المحتاج 4/157.
2 النور: 4.
وقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} 1
ففي هذه الآية قد توعد الله الذين يرمون المحصنات بالطرد والإبعاد من رحمته، والعذاب العظيم، وهذا أيضاً لا يكون إلا على فعل محرم.
أما دليل تحريمه من السنة:
فبما روى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "اجتنبوا السبع الموبقات قالوا يا رسول الله وما هن؟ قال: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات".2
فقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن السبع المهلكة لصاحبها والتي منها قذف المحصنات المؤمنات الغافلات، ولأنها من الكبائر والمحرمات التي يجب اجتنابها.
أما الإجماع:
فقد اجتمعت الأمة الإسلامية على تحريم القذف وأنه من الموبقات التي يجب اجتنابها.3
1 النور: 23.
2 أخرجه البخاري 4/185 كتاب الحدود باب رمي المحصنات، ومسلم 1/92 كتاب الإيمان باب بيان الكبائر.
3 اللباب في شرح الكتاب 3/195، وحاشية العدوي 2/300، ومغني المحتاج 4/157، والمبدع 3/83.
وعقوبة جريمة القذف هي جلد القاذف ثمانين جلدة كما في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .1
ولا خلاف بين الفقهاء في وجوب إقامة حد القذف على المسلم إذا توفرت فيه الشروط2، وكذلك اتفقت المذاهب الأربعة على عدم وجوب إقامة حد القذف على المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً، لأنهم يشترطون أن يكون المقذوف محصناُ ومن شروط الإحصان الإسلام.3
لقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَات} .4
وجه الدلالة من الآية:
أن المحصنات معناها الحرائر، والغافلات معناه العفائف عن الزنا، والمؤمنات المسلمات.
1 النور: 4.
2 الاختيار 4/93، وحاشية العدوي 2/300، وكفاية الأخيار 2/114، والمبدع 3/83،84.
3 بدائع الصنائع 7/41، والمبسوط 9/119، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، مواهب الجليل 6/298، وبداية المجتهد 2/441، ومغني المحتاج 4/157، والأحكام السلطانية للماوردي ص 229، وكفاية الأخيار 2/114، وكشاف القناع 6/105، 114، والمغني 8/228، والمبدع 9/84، 85، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلى ص 270.
4 النور: 23.
فبينت الآية أن الإيمان والعفة عن الزنا شرط لوجوب الحد على القاذف، وحيث أن الكافر غير متوفر فيه هذا الشرط فلا يحد قاذفه.1
وقد جاء الإحصان في القرآن بمعاني متعددة منها الإسلام كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنّ} أي أسلمن هكذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه وبهاذ يجب اعتبار الإسلام شرطاً في إحصان المقذوف.
ولقوله صلى الله عليه وسلم في حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما "من أشرك بالله فليس بمحصن".2
فالحديث ظاهر الدلالة في أن الإسلام شرط للإحصان، فقد نفى الرسول صلى الله عليه وسلم الإحصان عن الكافر فلا إحصان إلا بالإسلام لأنه لو لم يشترط الإسلام لوجب الحد على قاذف الكافر وفي ذلك إكرام له، وكفره يقتضي إهانته وإذلاله لا إكرامه وعزته.3
ولأن الحد إنما وجب بالقذف دفعا لعار الزنا عن المقذوف وما في الكافر من عار الكفر أعظم.4
وخالف الظاهرية جمهور الفقهاء فقالوا يقام الحد على المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً.5
1 بدائع الصنائع 7/41، وتبيين الحقائق 3/200.
2 فتح القدير 1/451، والآية 25 من سورة النساء.
3 بدائع الصنائع 7/41، ومغني المحتاج 4/157.
4 بدائع الصنائع 7/41.
5 انظر: المحلى 11/268.
لعموم قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً} .1
قال ابن حزم: "وهذا عموم تدخل فيه الكافرة والمؤمنة فوجب أن قاذفها فاسق إلا أن يتوب".2
ولحديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكبائر فقال: " الشرك بالله، وعقوق الوالدين، وقتل النفس، قول الزور".3
قالوا في وجه الدلالة من الحديث:
إن قذف الكافرة البريئة من قول الزور بلا خلاف من أحد، وقول الزور من الكبائر كما بين رسول الله صلى الله عليه وسلم. 4
ولكن يمكن أي يرد عليهم بأن العموم في الآية مخصص بالآيات الأخرى التي بينت أن الإحصان من معانيه الإسلام وأنه شرط له. كما في قوله تعالى: {فَإِذَا أُحْصِنّ} 5 أي أسلمن.6
1 النور: 4.
2 المحلى 11/268.
3 أخرجه البخاري 4/48 كتاب الأدب باب عقوق الوالدين من الكبائر. ومسلم 1/91، 92 كتاب الإيمان حديث رقم 88.
4 المحلى 11/369.
5 النساء: 25.
6 فتح القدير 1/451.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاتِ الْمُؤْمِنَات} .1
وكذلك مخصص بقوله صلى الله عليه وسلم: "من أشرك فليس بمحصن".2
وأما حديث الكبائر فليس لهم فيه دلاله بل غابة ما يدل عليه الحديث أن شهادة الزور وقول الزور أي التكلم بغير الحق من الكبائر، فالحديث وارد لهذا الشأن ولم يرد في بيان قذف المسلم الكافر، وليس قذف الكافر من قول الزور كما قالوا، وليس باتفاق كما قالوا، بل جميع العلماء على خلاف قولهم.
وبهذا يترجح رأي جمهور الفقهاء من أن المسلم إذا قذف ذمياً أو مستأمناً لا يقام عليه الحد، لأن الإحصان من شروطه الإسلام، والكافر ليس بمحصن لأنه غير مسلم، ولأن عرض الكافر أي كافر كان لا حرمة له، ولأنه ليس هناك عار أعظم من عار الكفر، فلا يحد قاذف الكافر لأنه لا يستحق هذه المكرمة، ولكن للمحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين يعزر القاذف لهم من قبل الإمام كما صرح بذلك بعض الفقهاء.3
وفي هذا يقول ابن قدامة: "ولكن يجب تأديبه ردعاً له عن أعراض
1 النور: 23.
2 سبق تخريجه 116.
3 انظر: الأحكام السلطانية للماوردي ص229، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص270.
المعصومين وكفا له عن أذاهم.1
أما المستأمن الذي دخل دار الإسلام بأمان إذا قذف مسلماً أو مسلمة.
فقال جمهور الفقهاء من الحنفية والمالكية والشافعية في وجه، والحنابلة والظاهرية يقام عليه حد القذف.
وعللوا ذلك بأن الغالب في حد القذف أنه حق للعباد، والمستأمن قد التزم بعقد أمانه حقوق العباد. 2
ولأن الأئمة الأربعة يشترطون في المقذوف أن يكون محصناً ومن شروط الإحصان الإسلام، وهذا المقذوف مسلم فوجب إقامة الحد على قاذفه مسلماً كان أو كافرا مستأمناً أو ذمياً متى توفرت شروط إقامة الحد، ولأن المستأمن كالذمي، والذمي يقام عليه الحد بالاتفاق، فكذلك المستأمن.
وذهب فقهاء الشافعية في وجه إلى عدم إقامة حد القذف على المستأمن إذا قذف مسلماً أو مسلمة، لأن حد القذف حق لله تعالى
1 انظر: المغني 8/228.
2 انظر: المبسوط 9/109ن وشرح فتح القدير 5/338، وحاشية ابن عابدين 4/56، وبداية المجتهد 2/4420، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، والمدونة 6/222، ومنح الجليل 4/503، وحاشية العدوي 2/301، وروضة الطالبين 10/106، والمهذب 2/336، ومغني المحتاج 4/157، والمغني 8/216، وكشاف القناع 6/105، والمحلى 11/274.
والمستأمن غير ملتزم بحقوق الله، بل إنه غير ملتزم بأحكام الإسلام لأن مدة إقامته بدار الإسلام مؤقتة غير مؤبدة كالذمي.1
ولكن الراجح هو قول الجمهور أن المستأمن إذا قذف المسلم يقام عليه حد القذف زجراً له، وردعاً لغيره من المستأمنين، وحتى لا ينتشر الفساد في دار الإسلام، وحتى لا يقع الاستخفاف بالمسلمين، والتعدي على أعراضهم من قبل المستأمنين، ولأن المستأمن ما عصم دمه وماله إلا في مقابل التزامه بغالب الأحكام الإسلامية والتي من جملتها إقامة حد القذف إذا وقع منه في حق المسلم.
وبناء على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في ارتكاب جريمة القذف من المستأمن في دار الإسلام.
أما إذا قذف المستأمن مستأمناً آخر أو ذمياً في دار الإسلام فجمهور الفقهاء قالوا لا يقام عليه الحد لأنهم يشترطون في المقذوف أن يكون محصناً ومن شروط الإحصان الإسلام، وهنا لم يتحقق الشرط في المقذوف لأنه كافر.2
وقال الظاهرية: الكافر المستأمن إذا قذف كافراً مستأمناً كان أو ذمياً يقام عليه حد القذف.
1 انظر: حاشية قليوبي وعميره 4/184، وتحفة المحتاج 9/119.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/41، والمبسوط 98/119، وبداية المجتهد 2/441، وقوانين الأحكام الشرعية ص 386، وكفاية الأخيار 2/114، والأحكام السلطانية للماوردي ص 229، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 270، والعدة ص 562.
وفي هذا يقول ابن حزم: "وأما إذا قذف الكافر كافراً فليس إلاّ الحد فقط، على عموم أمر الله تعالى فيمن قذف محصنة بنص القرآن".1
ولأن الظاهرية كما سبق لا يشترطون الإسلام للإحصان، فبذلك يجب عندهم الحد على قاذف الكافر، مسلماً كان القاذف له أو كافراً آخر.
وقد سبق الرد عليهم وبأن العموم الذي في الآية مخصص بالآيات الأخرى التي اشترطت الإسلام للإحصان وبالسنة التي بينت أن الإسلام شرط للإحصان.
وبهذا يكون قول الجمهور هو القول المختار وأن المستأمن إذا قذف مستأمناً آخر أو ذمياً لا يقام عليه الحد، لأن الإسلام شرط للإحصان المشروط في المقذوف، والكافر ليس بمحصن لأنه غير مسلم.
ولكن يعزر ويؤدب المستأمن إذا قذف غيره من الكفار في دار الإسلام، زجراً له، وردعاً لغيره، ومحافظة على أعراض المعصومين في دار الإسلام من الذميين والمستأمنين، ومحافظة على دار الإسلام من انتشار الفساد فيها.2
1 انظر: المحلى لابن حزم 11/275.
2 انظر: كشاف القناع 6/114.