المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: أثر اختلاف الدارين في الأحكام الشرعية

- ‌الفصل الأول: أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص والدية والكفارة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في وجوب القصاص

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدارين وأثره في وجوب الدية

- ‌المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي

- ‌المطلب الثاني: أثره في دية المعاهد المجوسي وغيره من الكفار

- ‌الفصل الثاني: اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: أثره في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الثالث: أثره في إقامة حد السرقة على المستأمنين في دار الإسلام

- ‌المبحث الرابع: أثره في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الخامس: أثره في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث السادس: أثره في تجسس المستأمن في دار الإسلام

- ‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد

- ‌الفصل الرابع: اختلاف الدار وأثره في أحكام المعاملات والنكاح

- ‌المبحث الأول: أثره في التعامل بالربا في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب

- ‌الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر

- ‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب

- ‌الفصل السادس: اختلاف الدار وأثره في الميراث والوصية

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في الميراث

- ‌المطلب الأول: أثره في الميراث بين غير المسلمين

- ‌المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد

- ‌فهرس المصادر والمراجع المطبوعة

الفصل: ‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد

‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد

المبحث الأول: أثره في الهجرة 1 من دار الكفر

لما كان الإسلام دين القوة والعزة، والهيبة والرفعة، فإنه قد أبى على معتنقيه أن يستذلوا للكفار، ويستسلموا لهم، من أجل ذلك منع ديننا الحنيف المسلمين العاجزين عن إظهار دينهم من الإقامة في دار الكفر، وبين أظهر الكفار، لأن إقامة المسلمين في بلد يتسلط عليه ويحكمه الكفار، فيه شعور لهم بالضعف والخذلان.

مع أن ديننا الإسلامي يريد من المسلمين أن يكونوا أهل عزة وقوة وأن يكونوا متبوعين لا تابعين، وأن تكون السلطة والسيطرة وغلبة الأحكام لهم في أي مكان وفي كل زمان، وترتفع رايتهم وتنتكس راية أعدائهم.

لذلك حرم عليهم الإقامة في ديار الكفار التي لا سلطان للإسلام فيها إلا إذا استطاعوا أن يظهروا إسلامهم، ويدعوا غيرهم إليه، ويرغبونهم فيه، ويعملون طبقا لعقيدتهم الإسلامية، دون أن يخشوا الفتنة على أنفسهم أو على دينهم.

فالمسلمون المقيمون في ديار الكفار إذا عجزوا عن إظهار دينهم

1 الهجرة لغة: الترك والمفارقة. انظر: المصباح المنير 2/634، ومعجم لغة الفقهاء ص 492، أما في الاصطلاح الشرعي: فهي: الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام. انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/484، وفتح الباري 1/16، ونيل الأوطار 1/ 116.

ص: 161

وجبت عليهم الهجرة إلى دار الإسلام باتفاق العلماء.

وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.

أولا: الدليل من الكتاب:

1-

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً} 1

وجه الدلالة من هذه الآية:

دلت الآية دلالة واضحة على وجوب الهجرة على المسلمين المستضعفين العاجزين عن إظهار دينهم في بلد لا سلطان للإسلام فيه، وإنما السلطة وغلبة الأحكام فيه لأعداء الله.

قال القرطبي: "وفي هذه الآية دليل على هجران الأرض، التي يعمل فيها بالمعاصي"2

وقال ابن كثير: "ظالمي أنفسهم - بترك الهجرة - ثم قال: هذه الآية عامة لكل من أقام بين ظهراني المشركين، وهو قادر على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو مرتكب حراما بالإجماع وبنص هذه الآية"3

1 النساء: 97.

2 انظر: الجامع لأحكام القرآن 5/346.

3 انظر: تفسير القرآن العظيم 1/ 542.

ص: 162

وقال القاسمي: "الآية دليل على أن الرجل إذا كان في بلد لا يتمكن فيه من إقامة أمر دينه، حقت عليه المهاجرة"1

وقال ابن سعدي: "في الآية دليل على أن الهجرة من أكبر الواجبات وتركها من المحرمات، بل من أكبر الكبائر"2

ثانيا: الدليل من السنة:

فقد دلت السنة أيضا على وجوب الهجرة وتحريم إقامة المسلمين في ديار الكفر إذا لم يقدروا على إظهار دينهم.

وفي هذا يقول ابن القيم: "ومنع رسول الله صلى الله عليه وسلم من إقامة المسلم بين المشركين إذا قدر على الهجرة من بينهم"3

والأحاديث التي منع فيها الرسول صلى الله عليه وسلم من الإقامة في ديار الكفار كثيرة منها:

1-

قوله صلى الله عليه وسلم في حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين، قيل: يا رسول الله ولم؟ قال: لا تراءي ناراهما" 4

1 انظر: تفسير القاسمي 5/ 1489.

2 انظر: تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان 2/ 138.

3 انظر: زاد المعاد 3/ 122.

4 أخرجه أبو داود 3/ 105 كتاب الجهاد باب النهي عن قتل من اعتصم بالسجود. والترمذي 4/ 155 كتاب السير باب ما جاء في كراهية المقام بين أظهر المشركين حديث رقم 1604. والنسائي 8/ 36 في القسامة. والبيهقي 9/ 12، 13، قال ابن حجر في بلوغ المرام إسناده صحيح. وقال الشوكاني: رجال إسناده ثقات، وقال الألباني: حديث صحيح. انظر: بلوغ المرام مع سبل السلام 4/ 1334، ونيل الأوطار 8/ 25، وإرواء الغليل 5/ 30.

ص: 163

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على تحريم الإقامة في ديار الكفار، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد برأ من المقيم في ديار الكفار، والبراءة لا تكون إلا على من فعل محرم.

قال البغوي: "من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار، ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام لهذا الحديث"1

2-

حديث سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من جامع المشرك وسكن معه فهو مثله" 2

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على تحريم مساكنة الكفار، ووجوب مفارقتهم.3

قال الصنعاني: "فيه دليل على وجوب الهجرة من ديار المشركين"4

3-

وبحديث بهز بن حكيم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لا يقبل الله عز وجل من مشرك بعد ما أسلم عملا أو يفارق المشركين إلى المسلمين" 5

1 انظر: شرح السنة 10/ 373.

2 أخرجه أبو داود 3/ 224 كتاب الجهاد باب في الإقامة بأرض الشرك. والحاكم 2/ 141، 143، وقال صحيح شرط على البخاري. قال الألباني سنده ضعيف. إرواء الغليل 5/ 32.

3 نيل الأوطار 8/ 26.

4 انظر: سبل السلام 4/1334.

5 أخرجه أحمد 5/4، 5، والنسائي 5/ 82، باب من سأل بوجه الله عز وجل. وابن ماجة 2/ 848 كتاب الحدود باب المرتد عن دينه حديث 2536 قال الألباني: إسناده حسن. انظر: إرواء الغليل 5/ 32.

ص: 164

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة في أن الله لا يقبل عمل المسلم حتى يفارق ديار المشركين إلى ديار المسلمين.

5-

وحديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها" 1

فالحديث دل على أن الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باقية لم تنقطع وهذا مما يدل على وجوبها.

قال البغوي: "لا تنقطع الهجرة أراد بها هجرة من أسلم في دار الكفر عليه أن يفارق تلك الدار ويخرج من بينهم إلى دار الإسلام"2

وقال الصنعاني: "دل الحديث على ثبوت حكم الهجرة وأنه باق إلى يوم القيامة"3

6-

وحديث جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يبايع فقلت: يا رسول الله أبسط يديك، حتى أبايعك، واشترط علي فأنت أعلم، قال: "أبايعك على أن تعبد الله، وتقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة

1 أخرجه أحمد 4/ 99. وأبو داود 3/ 7 كتاب الجهاد باب الهجرة هل انقطعت. والدارمي 2/ 239، 240 باب أن الهجرة لا تنقطع قال الألباني: صحيح رجال إسناده ثقات. إرواء الغليل 5/ 33، صحيح الجامع الصغير 6/ 186.7

2 انظر: شرح السنة 10/373.

3 انظر: سبل السلام 4/ 337.

ص: 165

وتناصح المسلمين، وتفارق المشركين" 1

فدل الحديث على وجوب مفارقة ديار المشركين إلى ديار المسلمين.

ثالثا: الإجماع:

فقد أجمع علماء المسلمين على أن المسلم العاجز عن إظهار دينه في ديار الكفار، تحرم عليه الإقامة في ديارهم وتجب عليه الهجرة إلى ديار المسلمين. أما إذا قدر على إظهار دينه ولم يخف من الفتنة فيه، فلا بأس بالإقامة لما يرجى من إسلام غيره.2

وسأذكر ما قاله العلماء في وجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام باختصار لتكمل الفائدة.

فقال علماء الحنفية: "من أقام في أرض العدو، وإن انتحل الإسلام وهو يقدر على التحول إلى المسلمين، فأحكامه أحكام المشركين، وإذا أسلم الحربي فأقام ببلادهم، وهو يقدر على الخروج منها، فليس بمسلم، يحكم عليه بما يحكم على أهل الحرب من انقطاع العصمة في المال والنفس"3

1 أخرجه أحمد 4/365، والنسائي 2/183، والبيهقي 9/ 13، وقال الألباني: إسناده صحيح. إرواء الغليل 5/ 32.

2 أحكام القرآن للجصاص 3/ 211، والمقدمات الممهدات 2/285، وفتح الباري 6/190، وكشاف القناع 3/43، ونيل الأوطار 8/ 26.

3 أحكام القرآن للجصاص 3/ 211.

ص: 166

وقال علماء المالكية: "لا يحل لمسلم أن يقيم في دار الكفر وهو قادر على الخروج منها"1

قال ابن العربي: "من أسلم في دار الحرب وجب عليه الخروج إلى دار الإسلام"2

قال ابن رشد: "واجب بإجماع المسلمين على من أسلم بدار الكفر أن لا يقيم بها، حيث تجري عليه أحكام المشركين، وأن يهاجر ويلحق بدار المسلمين حيث تجري عليه أحكامهم"

فقد وجب بالكتاب، والسنة، والإجماع، على من أسلم ببلد الحرب أن يهاجر ويلحق بدار المسلمين ولا يقعد بين المشركين، ويقيم بين أظهرهم، لئلا تجري عليه أحكامهم في تجارة أو غيرها.

وقد كره الإمام مالك أن يسكن أحد ببلد يسب فيه السلف فكيف ببلد يكفر فيه بالرحمن، وتعبد فيه من دونه الأوثان.3

وقال علماء الشافعية:"الناس في الهجرة ثلاثة أضرب:

1-

أن يكون ممن أسلم، ويكون له عشيرة يمتنع بها، ويقدر على إظهار دينه ولا يخاف الفتنة في دينه، فهذا يستحب له أن يهاجر لقوله

1 الكافي لابن عبد البر 1/470، وأسهل المدارك 2/ 16.

2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 484.

3 انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد 2/285،286.

ص: 167

تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} 1

2-

أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له يمتنع بها، ولا يقدر على الهجرة لعجزه، كأن يكون ضعيف البدن، أو ليس معه نفقات السفر، فهذا لا تجب عليه الهجرة بل يجوز له المقام في ديار الكفار، فإن حمل على نفسه، وتكلف الخروج منها أجر.

3-

أن يكون ممن أسلم ولا عشيرة له تمنعه، ولكنه يقدر على الهجرة فهذا تجب عليه الهجرة لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ} 2

فأخبر الله سبحانه وتعالى في هذه الآية أن من كان مستضعفا بين المشركين وهو يقدر على الخروج من بينهم فلم يفعل فإن مأواه النار، فوجبت الهجرة على المستضعف الذي يقدر على الخروج بنص الآية، واستثني المستضعف الذي لا يقدر على الخروج من الوعيد"3

وقال علماء الحنابلة أيضا كما قال الشافعية: "الناس في الهجرة على ثلاثة أضرب:

1-

من تجب عليه الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وهو من يقدر عليها ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه الإقامة بين الكفار من إقامة

1 المائدة: 51.

2 النساء: 97.

3 تكملة المجموع 18/47، وفتح الباري 6/190.

ص: 168

واجبات دينه، وذلك لقوله تعالى:{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} وهذا وعيد شديد يدل على الوجوب.

ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"1.

ولأن القيام بأمر الدين واجب على القادر، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"2

2-

من لا هجرة عليه، وهو العاجز عنها لمرض، أو إكراه على الإقامة أو ضعف من النساء والولدان ومن يشبههم، فهذا لا هجرة عليه لقوله تعالى:{إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً} 3

3-

من تستحب له الهجرة، ولا تجب عليه، وهو القادر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، عند إقامته في دار الكفر، لكنه يستحب له أن يهاجر الكفار ومخالطتهم، ورؤية المنكر بينهم، ولا تجب عليه لامكان إقامة دينه بدون الهجرة، وقد كان العباس عم النبي صلى الله عليه وسلم مقيما بمكة مع إسلامه"4

1 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.

2 المغني 8/ 457، والمبدع 3/ 313، 314، وكشاف القناع 3/ 43، ونيل المآرب 1/116، والهداية للكلوذاني 1/112،والإنصاف 4/121،والمقنع بحاشيته1/485.

3 الآيتان 98، 99 من سورة النساء.

4 المرجع السابق نفسه.

ص: 169

وكذلك الظاهرية قالوا بوجوب الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام حتى التجار لا يجوز لهم المقام بين أظهر المشركين1، واستدلوا بقوله صلى الله عليه وسلم:"أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهر المشركين"2.

وبهذا يتضح لنا إجماع العلماء على وجوب الهجرة على المسلم العاجز عن إظهار دينه في دار الكفر إلى دار الإسلام كما دل على ذلك الكتاب، والسنة، وينطبق هذا الحكم على دار الكفر في هذا الزمان، فالمسلم المقيم في دار الكفر في هذا الزمان ويخاف على نفسه، وعلى دينه من الفتنة، فيجب عليه أن يهاجر إلى أي دار من دور الإسلام، ليأمن على نفسه، ويستطيع أن يظهر دينه.

أما السفر من دار الإسلام إلى دار الكفر لقصد التجارة أو طلب العلم أو غير ذلك من الأغراض الأخرى، ففيه تفصيل:

فإن كان المسلم المسافر إلى بلاد الكفار يقدر على إظهار دينه ولا يخاف من الفتنة فيه، ولا يوالي المشركين، فهذا يجوز له السفر، كما فعل بعض الصحابة رضي الله عنه كأبي بكر الصديق رضي الله عنه فقد سافر إلى بلدان المشركين للتجارة، ولم ينكر عليه النبي صلى الله عليه وسلم.3

1 المحلى لابن حزم 7/ 349.

2 سبق تخريجه في الجزء الأول، ص 308.

3 الولاء والبراء ص 281.

ص: 170

وكما صرح بذلك العلماء أن القادر على إظهار دينه في ديار الكفار فلا بأس بإقامته فيها، وهذا يدل على أن من سافر إليها لغرض وقدر على إظهار دينه جاز له ذلك.1

أما العاجز عن إظهار دينه في ديار الكفار والخائف من الفتنة فيه، وغير القادر على عدم موالاة الكفرة ومحبتهم، فهذا لا يجوز له السفر إليها كما صرح بذلك العلماء أن العاجز عن إظهار دينه في دار الكفر تجب عليه الهجرة. وهذا يدل على أن من سافر إلى ديار الكفار لغرض كتجارة، أو طلب علم، ولا يقدر على إظهار دينه، ولا على عدم موالاتهم، لا يجوز له ذلك، وعليه تحمل النصوص الواردة في المنع من الإقامة في ديار المشركين.2

وبعد هذا التفصيل ندرك مدى الهوة التي وصل إليها أبناء المسلمين اليوم من حب السفر إلى أرض الأعداء للسياحة والتنزه أو غير ذلك، ومدى موالاتهم ومحبتهم لأعداء الله والإقامة بأرضهم، بل ما يعجب له الأمر ولا يقبله العقل أن الكثير من أبناء المسلمين يسافرون إلى ديار الكفار لتحضير الشهادات العليا في العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية.

أما غيرها من العلوم الضرورية التي لا توجد في البلاد الإسلامية فهذه لا بأس بالسفر للحصول عليها للضرورة ولحاجة المسلمين إليها والضرورة تقدر بقدرها.

1 سبق بيانه في الجزء الأول، ص 167.

2 سبق بيانه في الجزء الأول، ص 167.

ص: 171

وقد كتب علماء أفاضل في خطورة هذه المسألة، وبينوا مخاطر الابتعاث على أبناء المسلمين وبخاصة الابتعاث لغير ضرورة، أما إذا كانت هناك ضرورة للابتعاث للإطلاع على بعض العلوم التي لا توجد في البلاد الإسلامية، وقدر المبتعثون على إظهار دينهم فهذا لا بأس به، أما إذا لم يقدروا فلا يجوز لهم الابتعاث حتى لو كانت هناك ضرورة، ولتراجع هذه الكتب في مظانها.1

1 من هذه الكتب: الابتعاث ومخاطره - للشيخ محمد لطفي الصباغ، وحصوننا مهددة من داخلها للدكتور محمد محمد حسين وغيرها كثير.

ص: 172

المبحث الثاني: أثره في قسمة الغنيمة1 في دار الكفر الحربية

أباح الله سبحانه وتعالى الغنيمة لهذه الأمة دون غيرها من الأمم السابقة، وقد دل على ذلك الكتاب، والسنة، والإجماع.

فالدليل من الكتاب قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2

وجه الدلالة من الآية:

دلت الآية بوضوح على مشروعية الغنيمة وإباحتها للغانمين. قال ابن كثير: "بين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصا لهذه الأمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة بإحلال الغنائم"3

1 الغنيمة في اللغة الفوز والظفر والربح. المعجم الوسيط 2/664، وكشاف القناع 3/77.

أما الغنيمة في الشرع فهي: كل ما أخذ من أموال الكفار المحاربين عنوةً وقهراً حين القتال. انظر: المبدع 3/354، وكشاف القناع 3/77 ومعجم لغة الفقهاء ص339.

2 الأنفال: 41.

3 انظر: تفسير القرآن العظيم 2/310.

ص: 173

وقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 1.

وجه الدلالة من الآية:

فأمر الله سبحانه عباده المؤمنين بالأكل من الغنيمة وأنها حلال طيب لهم دليل على إباحتها لهم دون غيرهم.

قال ابن سعدى: "وهذا من لطفه تعالى بهذه الأمة أن أحل لها الغنائم ولم تحل لأمة قبلها"2

أما الدليل من السنة:

فحديث جابر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي: نصرت بالرعب مسيرة شهر، وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل، وأحلت لي المغانم ولم تحل لأحد قبلي، وأعطيت الشفاعة وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة" 3

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة في إباحة الغنيمة لهذه الأمة دون غيرها من

1 الأنفال: 69.

2 تيسير الكريم المنان في تفسير كلام الرحمن 3/191.

3 أخرجه البخاري 1/70 كتاب التيمم واللفظ له. ومسلم 1/371 كتاب المساجد ومواضع الصلاة حديث رقم 503.

ص: 174

الأمم، لقوله صلى الله عليه وسلم:"أعطيت خمسا لم يعطهن أحد قبلي" ثم ذكر منها إحلال الغنيمة وما أحل له فهو لأمته إلا ما خص به صلى الله عليه وسلم.

أما الإجماع:

فقد أجمعت الأمة الإسلامية على مشروعية الغنيمة1. وقد اتفق العلماء على جواز قسمة الغنيمة في دار الإسلام.2

وكذلك اتفقوا على أنه يجوز للإمام أن يجتهد ويبيع الغنيمة أو يقسمها في دار الكفر الحربية إذا رأى أن المصلحة في ذلك.3

واختلف الفقهاء في حكم تقسيم الغنائم في دار الكفر الحربية إلى قولين:

القول الأول: لا يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب.

وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا محمد بن الحسن- فإنه قال: تكره القسمة، لكن الأفضل عنده ألا تقسم الغنيمة إلا في دار الإسلام، ولا تقسم في دار الحرب.

1 بدائع الصنائع 7/121، وأسهل المدارك 2/ 17، ورحمة الأمة ص 297، والمبدع 3/ 354.

2 المبسوط10/18، وقوانين الأحكام الشرعية ص 168، والأحكام السلطانية للمارودي ص 139.

3 بدائع الصنائع 7/ 121، وفتح القدير 5/ 227، والخرشي على المختصر 3/136، ورحمة الأمة ص 297، والإفصاح لابن هبيرة 2/434.

ص: 175

وقال أبو يوسف: "إن قسمت في دار الحرب جاز وأحب إلي أن تقسم في دار الإسلام. وهو رواية عند الحنابلة"1

وقال الإمام أبو حنيفة: "إذا غنم جند من المسلمين غنيمة في أرض العدو من المشركين فلا يقتسمونها حتى يخرجوها إلى دار الإسلام ويحرزوها"2

القول الثاني: يجوز قسمة الغنائم في دار الحرب بل يستحب.

وهو مروى عن الأوزاعي وأبي ثور.

وهو قول جمهور الفقهاء المالكية، والشافعية، والحنابلة في الصحيح من المذهب، والظاهرية.3

1 انظر: المبسوط 10/17- 18، وتبيين الحقائق 3/1250، ومختصر الطحاوي ص282، والجوهرة النيرة 2/366، والبحر الرائق 5/91، وفتح القدير 5/224- 225، وبدائع الصنائع 7/121، والخراج ص 176، والاختيار 4/126، ومجمع الأنهر 1/ 641، والإنصاف 4/ 163.

2 انظر: الرد على سير الأوزاعي ص 5.

3 الرد على سير الأوزاعي ص5، والمدونة 3/ 12، وحاشية الدسوقي 2/ 179، والمنتقى على الموطأ 3/ 176، والشرح الكبير للدردير 2/ 179، وحاشية العدوى 2/9، وقوانين ألحكام الشرعية ص 166، والأم 7/302، والمهذب 2/313، ومغنى المحتاج 3/101، والأحكام السلطانية للمارودي ص139، ورحمة الأمة ص297، والمغني 8/421، 447، والإنصاف 4/ 163، والمبدع 3/ 358، وكشاف القناع 3/ 82، والمقنع بحاشيته 1/501، والإفصاح 2/434، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص 150، والمحلى 7/341.

ص: 176

قال الإمام ابن حزم الظاهري: "تعجيل القسمة أولى فإن مطل ذي الحق لحقه ظلم وتعجيل إعطاء كل ذي حق حقه فرض"1

سبب الخلاف:

هو اختلافهم في هل الملك لا يثبت في الغنائم إلا بعد الاحراز بدار الإسلام، أو أنه يثبت بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب. بعد الفراغ من القتال، قبل إحرازها بدار الإسلام.2

فمن قال أن الملك لا يثبت في الغنائم إلا بعد الإحراز بدار الإسلام قال لا تجوز قسمة الغنيمة في دار الحرب وهم فقهاء الحنفية.

ومن قال: إن الملك يثبت في الغنائم بمجرد الاستيلاء عليها، بعد نهاية القتال. قال: يجوز قسمة الغنيمة في دار الحرب وهم جمهور الفقهاء.

الأدلة:

أدلة أصحاب القول الأول الذين قالوا بعدم جواز القسمة في دار الحرب. استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول:

أ - دليلهم من السنة:

1-

حديث ابن عباس رضي الله عنهما "أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم بدر إلا بعد مقدمه المدينة"3

فدل هذا الحديث على أن الغنيمة لا يجوز قسمتها في دار الحرب

1 المحلى 7/ 342.

2 بدائع الصنائع 7/ 121، وفتح القدير 5/224.

3 المبسوط 10/ 17، والرد على سير الأوزاعي ص 9.

ص: 177

لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بعدما رجع إلى المدينة وهي دار إسلام ولم يقسمها في بدر لأنها كانت دار حرب.1

ويدل على ذلك: أن الرسول صلى الله عليه وسلم ضرب لعثمان وطلحة رضي الله عنهما بسهم، فقالا وأجرنا فقال وأجركما، ولم يشهدا وقعة بدر.2

ويؤكد ذلك ما رواه ابن عمر رضي الله عنهما قال: إنما تغيب عثمان عن بدر فإنه كان تحته بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت مريضة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم إن لك أجر رجل ممن شهد بدرا وسهمه.3

وكذلك طلحة رضي الله عنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم لتجسس على خبر عير قريش فكان مشغولا بعمل المسلمين فجعله كمن شهد بدرا لأنه كان في طاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم.4

فإعطاء النبي صلى الله عليه وسلم عثمان وطلحة رضي الله عنهما من غنيمة بدر مع كونهما لم يشهدا الغزوة دليل واضح على أن الغنيمة لم تقسم في بدر وإنما قسمها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة بعد رجوعه إليها من الغزوة.

1 المبسوط 10/ 17، والرد على سير الأوزاعي ص9، والخراج ص 176.

2 أخرجه البيهقي مطولا عن عروة بن الزبير 9/ 58، وذكره الإمام الشافعي في الأم 7/ 303 بهذا اللفظ. وذكره أيضا أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص 9 بهذا اللفظ.

3 أخرجه البخاري 2/195 باب إذا بعث الإمام رسولا في حاجة.

4 أخرجه البيهقي 9/58، وانظر: حاشية الرد على سير الأوزاعي ص9.

ص: 178

2-

حديث "أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنيمة في دار الحرب"1

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث يدل على عدم جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب لأن فيها معنى البيع لاشتمالها على المبادلة معنى، وبيع الغنيمة لا يجوز في دار الحرب فكذلك قسمتها.2

3-

وبما رواه الزهري ومكحول عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يقسم غنيمة في دار الحرب.3

وهذا يدل على عدم جواز قسمتها في دار الحرب اقتداء بفعله صلى الله عليه وسلم لأنه لا يقسمها إلا في دار الإسلام ولم يقسمها في دار الحرب.4

1 ذكره الزيلعي في نصب الراية 3/ 408، وقال غريب جدا. وذكره السرخسي في المبسوط 10/18، والموصلي في الاختيار 4/126، وصاحب الغرة المنيفة ص176 ولم أجده في كتب السنن المشهورة.

أما الحديث الذي ورد في النهي عن بيع الغنيمة قبل القسمة فأخرجه أحمد 2/387، وأبو داود 3/666 كتاب البيوع باب تفسير العرايا ونصه "عن أبي هريرة رضي الله عنه نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع الغنائم حتى تقسم"

2 تبيين الحقائق 3/250، والاختيار 4/126، وفتح القدير 4/225، والبحر الرائق 5/90، والغرة المنيفة ص 176.

3 ذكره أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص10، ولم أجده في كتب السنن المعروفة.

4 الرد على سير الأوزاعي ص10، والغرة المنيفة ص 176.

ص: 179

4-

وبما رفعه الكلبي1 إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه بعث عبد الله بن جحش رضي الله عنه إلى بطن نخلة2 فأصاب هنالك عمرو ابن الحضرمي وأصاب أسيرا أو اثنين3 وأصاب ما كان معهم من آدم وزيت4 وتجارة من تجارة أهل الطائف، فقدم بذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقسم ذلك عبد الله ابن جحش حتى قدم المدينة وأنزل الله عز وجل في ذلك:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 5، فقبض رسو ل الله صلى الله عليه وسلم المغنم وخمسه. 6

وجه الدلالة من الحديث:

دل الحديث على عدم جواز قسمة الغنائم في دار الحرب لأن عبد الله بن جحش رضي الله عنه لم يقسم الغنائم التي غنمها في طريقه إلا عندما قدم

1 هو أبو النضر محمد بن السائب بن بشر بن عمرو بن الحارث الكلبي، ولد بالكوفة عالم بالنسب، والتفسير، والأخبار وأيام العرب، متهم بالكذب وتوفي بالكوفة سنة 146هـ. انظر: تقريب التهذيب 2/ 163 وميزان الاعتدال 13- 6، والوافي بالوفيات 3/ 83.

2 بطن نخلة: قرية من قرى المدينة. معجم البلدان 1/450.

3 الصحيح أنه أصاب أسيرين وهما الحكم بن كيسان، وعثمان بن عبد الله كما ذكر ذلك البيهقي في السنن 9/58، وابن إسحاق في السيرة النبوية 1/603، 604.

4 الصحيح وزبيب. كما ذكره البيهقي 9/58.

5 البقرة: 217.

6 أخرجه البيهقي مطولا عن عروة بن الزبير 9/58، وذكره أبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص 11، 12 وهذا لفظه.

ص: 180

إلى المدينة دار الإسلام ولم يقسمها في المكان الذي غنمها فيه لأنه كان دار حرب.

ب - دليلهم من المأثور:

بما رواه مجالد بن سعيد1 عن الشعبي أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص قد أمددتك بقوم فمن أتاك منهم قبل أن تتفقأ2 القتلى فأشركه في الغنيمة.3

وجه الدلالة من الأثر:

أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد أن يشرك المدد في الغنيمة وإشراكهم دليل على أن الغنيمة لاتحرز في أرض الحرب.4

قال أبو يوسف: "وهذا يعلم أنهم لم يحرزوا ذلك في أرض الحرب"5

1 هو: مجالد بن سعيد بن عمير الهمداني، أبو عمرو الكوفي، رواية للأحاديث والأخبار، من أهل الكوفة اختلف في توثيقه. قال البخاري صدوق، وقال ابن حجر ليس بالقوي. توفي سنة 144. تقريب التهذيب 2/ 229، والأعلام 6/277.

2 تتفقأ: الفقأ عبارة عن التميز والتشقق. المصباح المنير 2/479.

ومعناه: ما لم يتميز قتلى المشركين من قتلى المسلمين بالدفن، أو ما لم يتفقأ القتلى بتطاول الزمان. الرد على الأوزاعي ص11.

3 أخرجه البيهقي 9/50 وذكره أبو يوسف في الرد على الأوزاعي ص 6.

4 فقه الأوزاعي 2/519.

5 الرد على سير الأوزاعي ص 6.

ص: 181

ج - دليلهم من المعقول: من وجهين:

الوجه الأول: أن الإمام يجب عليه ألا يشغل بالقسمة في دار الحرب، ولا يشتغل إلا بأمور الحرب، لأن الوقت الذي توزع فيه الغنائم هم في أشد الحاجة إليه، ولأنهم إذا اشتغلوا بتقسيم الغنائم يتكاسلون في أمر الحرب، وربما يتفرقون، فيرجع عليهم العدو مرة أخرى، وهم مشغلون بتوزيع الغنائم.1

الوجه الثاني: أن الغنيمة لا تملك قبل الإحراز بدار الإسلام لأن الملك لا يتم إلا بالاستيلاء، والاستيلاء لم يتم في دار الحرب، ولا يتم إلا بإحراز الغنيمة في دار الإسلام.2

قال المنبجي: "الأصل عندنا إنما يثبت الحق فيها بالإحراز بدار الإسلام ولا تملك إلا بالقسمة وحصولها في أيديهم في دار الحرب لا يثبت لهم فيها حقا"3

ثانيا: أدلة الجمهور الذين قالوا إن الغنيمة تقسم في دار الكفر:

استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس:

1 المبسوط 10/ 17، 18، وفتح القدير 5/ 224.

2 تبيين الحقائق 3/250، والبحر الرائق 5/91، واللباب في شرح الكتاب 4/125، والاختيار 4/ 126، 127، والخراج لأبي يوسف ص176، والغرة المنيفة ص176.

3 انظر: اللباب في الجمع بين السنة والكتاب 2/ 803.

ص: 182

أ - دليلهم من الكتاب:

1-

بقوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 1

وجه الدلالة من الآية:

الآية دلت على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب، لأن قوله تعالى:{فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ} يقتضي ثبوت الملك في الغنيمة، وإذا حصل الملك لهم فيه وجبت القسمة لأنه لا معنى للقسمة على هذا التقدير إلا صرف الملك إلى المالك، وذلك جائز بالاتفاق، ولم تفرق الآية في ثبوت الملك بين دار الحرب ودار الإسلام.2

2-

وبقوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} 3

وجه الدلالة من الآية:

أن الأمر بالأكل من الغنيمة في الآية عام ولم يفرق بين أن يكون

1 الأنفال: 41.

2 التفسير الكبير للفخر الرازي 15/ 166.

3 الأنفال: 69.

ص: 183

ذلك في دار الإسلام أو في دار الحرب، فما غنمتموه حلالا طيبا لكم سواء كان في دار الحرب أو في دار الإسلام.

ب - دليلهم من السنة:

بفعله صلى الله عليه وسلم حيث كان يقسم الغنائم في دار الحرب قبل رجوعه إلى دار الإسلام من ذلك غزوة بني المصطلق وحنين وخيبر.1

1-

فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: "خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة بني المصطلق فأصبنا سبيا من2 سبي العرب فاشتهينا النساء واشتدت علينا العزبة وأحببنا العزل3، فأردنا العزل وقلنا نعزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا قبل أن نسأله فسألناه عن ذلك فقال ما عليكم أن لا تفعلوا ما من نسمة كائنة إلى يوم القيامة إلا وهي كائنة"4

وجه الدلالة من هذا الحديث:

أن الصحابة رضي الله عنهم سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن العزل عند وطء السبايا من غنائم غزوة بني المصطلق فلم ينكر الرسول صلى الله عليه وسلم عليهم ذلك،

1 الأم 7/ 323، والمنتقى شرح الموطأ 3/ 176، والمغني 8/ 421، 422.

2 السبي: الأسرى من النساء والأطفال، المعجم الوسيط 1/ 415، ومعجم لغة الفقهاء ص240.

3 العزل هو: الإبعاد والتنحي. المصباح المنير 2/ 407، والمعجم الوسيط 2/ 599، والمراد به في الحديث إنزال مني الرجل خارج فرج المرأة.

4 أخرجه البخاري 3/ 37 كتاب المغازي باب غزوة بني المصطلق.

ص: 184

وهذا دليل على أن الغنائم قد قسمت في دار الحرب.

2-

وبحديث أنس رضي الله عنه قال: "اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين"1

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث صريح الدلالة في جواز قسمة الغنائم في دار الحرب لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين قبل رجوعه إلى دار الإسلام.2

قال البيهقي: "بعد أن ذكر الحديث: وفي هذا دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها"3

3-

وبحديث أنس رضي الله عنه قال صلى النبي صلى الله عليه وسلم الصبح قريبا من خيبر بغلس4 ثم قال: "الله أكبر خربت خيبر أنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين فخرجوا يسعون في السكك فقتل النبي صلى الله عليه وسلم المقاتلة وسبي الذرية، وكان في السبي صفية فصارت إلى دحية الكلبي5 ثم صارت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل عتقها صداقها"6

1 أخرجه البخاري 2/ 181 كتاب الجهاد باب من قسم الغنيمة في غزوه وسفره.

2 فتح الباري 6/ 182.

3 انظر: السنن الكبرى 9/ 56.

4 غلس: جمع أغلاس وهو ظلمة آخر الليل. انظر: معجم لغة فقهاء ص 333.

5 هو دحية بن خليفة بن فروة بن فضالة الكلبي، صاحبي، حضر كثير من الوقائع، وكان يضرب به المثل في حسن الصورة عاش إلى خلافة معاوية وتوفي سنة 45هـ، الإصابة 2/161، 162، وطبقات ابن سعد 4/184.

6 أخرجه البخاري 3/49 كتاب المغازي باب غزوة خيبر.

ص: 185

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر في طريقه قبل رجوعه إلى المدينة دار الإسلام، فوقوع صفية في سهم دحية ثم صيرورتها إلى النبي صلى الله عليه وسلم وتزوجه بها في الطريق بين خيبر والمدينة دليل على أن الغنائم قسمت في دار الحرب قبل الوصول بها إلى دار الإسلام.1

4-

عن أبي بردة عن موسى قال: "قدمنا على النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا"2

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث دل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم خيبر فيها وقد كانت دار حرب لأنه قسم لأبي موسى رضي الله عنه ومن معه ولم يقسم لمن لم يشهد الغزوة، وقسمه غنائم خيبر فيها دليل على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب.

ج - دليلهم من المعقول:

أن الغنيمة تملك بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، وعندئذ تجوز قسمتها والدليل على ثبوت الملك في دار الحرب ما يلي:

1-

أن سبب الملك الاستيلاء التام وهذا يحصل بمجرد إحرازها بأيدي المسلمين لأننا قهرنا الأعداء ونفيناهم وأثبتنا أيدينا عليها، والاستيلاء يدل على حاجة المستولى فيثبت الملك كما في المباحات.

1 فقه الأوزاعي 2/ 517.

2 أخرجه البخاري 3/ 54 كتاب المغازي باب غزوة خيبر.

ص: 186

2-

أن ملك الكفار قد زال عنها بمجرد قهرهم وهزيمتهم بدليل أن تصرفهم لا يصح وملكهم لم يزل إلى غير مالك، فعلم أن ملكهم زال إلى الفاتحين، فلو أعتق الكفار رقيقا لم ينفذ عتقهم.

3-

أنه لو أسلم عبد الحربي ولحق بجيش المسلمين صار حرا وهذا يدل على زوال ملك الكافر وثبوت الملك لمن قهره1 د - دليلهم من القياس:

قاسوا جواز القسمة في دار الحرب على جوازها في دار الإسلام.2

المناقشة:

أولا: مناقشة أدلة الحنفية القائلين بعدم جواز قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية:

أ - مناقشة أدلتهم من السنة:

1-

استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم بدر في المدينة.

يرد عليه: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسمها بسير شعب من شعاب وادي الصفراء، قريب من بدر وهو وادي من أو ديتها فيكون تابعا لها لأنه أقرب إليها من المدينة، فبهذا تكون قسمة غنيمة بدر فيها وهي في ذلك الوقت كانت دار حرب.

1 المغني 8/ 422، وفتح الباري 6/ 182، والمقنع بحاشيته 1/ 501.

2 المنتقى شرح الموطأ 3/ 177، والمغني 8/ 422.

ص: 187

وقولهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أعطى عثمان وطلحة رضي الله عنهما من الغنيمة مع أنهما لم يشهدا غزوة بدر، وهذا مما يدل على أنه قسمها في المدينة.

يرد عليه: بأن إعطاء من لم يحضر الوقعة من الغنيمة لا يدل على تأخير القسمة إلى دار الإسلام.

أما استدلالهم بحديث النهي "عن بيع الغنيمة في دار الحرب" فيرد عليه: بأن هذا الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تذكره كتب الصحاح والسنن المشهورة بل إن الحنفية أنفسهم قالوا بأنه غريب جدا.1

وأيضا حتى لو ثبت الحديث ليس لهم فيه دلالة على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب، لأن معناه النهي عن بيع الغنائم في دار الحرب قبل أن تقسم وهذا ما صرح به الرسول صلى الله عليه وسلم في حديث آخر "حيث إنه صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الغنائم حتى تقسم"2

وكذلك النهي عن بيع الغنائم في دار الحرب، لا يستوجب النهي عن قسمتها في دار الحرب، لأن هناك فرقا بين البيع والقسمة.

وبهذا يتضح لنا أنه لا دلالة للحنفية في هذا الحديث لأنه لم يثبت وحتى لو ثبت ليس لهم فيه دلالة على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب. وكذلك استدلالهم بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنيمة في دار الحرب، غير صحيح، بل الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم ما غنم غنيمة إلا وقسمها قبل أن يرجع

1 نصب الراية 3/ 408، وفتح القدير 5/ 224.

2 سبق تخريجه ص 179.

ص: 188

إلى دار الإسلام.1

وأيضا هذا الحديث لم يثبت عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولم تذكره إلا كتبهم2، ولم يذكر في كتب الصحاح والسنن.

وعلى فرض ثبوته لا دلالة فيه: لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقسم الغنائم في دار الحرب، إما لأنها لم تحرز ويستولي عليها الاستيلاء التام، وإما أن الرسول رأى أن المصلحة هو عدم قسمتها في دار الحرب لئلا تشغل الجيش عن الجهاد فأخر القسمة حتى الرجوع إلى دار الإسلام. ومما لا خلاف فيه بين العلماء أن الإمام إذا رأى أن المصلحة في عدم قسمتها في دار الحرب وإنما هي في تأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام جاز له ذلك

أما استدلالهم بقصة عبد الله بن جحش وعمرو بن الحضرمي. فقد رد عليهم الإمام الشافعي بقوله: "وأما ما احتج به من وقعة عبد الله بن جحش وابن الحضرمي، فذلك قبل بدر وقبل نزول الآية، وكانت وقعتهم في آخر يوم من الشهر الحرام فتوقفوا فيما صنعوا حتى نزلت:{يَسْأَلونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} 3 وليس مما خالف فيه الأوزاعي بسبيل) .4

1 الأم 7/ 323.

2 الرد على سير الأوزاعي للإمام أبي يوسف ص 100، والمبسوط 10/19 والغر المنيفة ص 176.

3 الآية 217 من سورة البقرة.

4 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/ 58.

ص: 189

قلت: وبهذا يكون استدلالهم بهذه القصة ضعيف لأنها كانت قبل بدر بل قبل نزول آية الغنائم كما أشار إلى ذلك الإمام البيهقي حيث قال:

بعد ذكر القصة: "وفي ذلك دلالة على أن ذلك كان قبل نزول الآية في الغنائم"1

ب - مناقشة دليلهم من المأثور:

يرد عليه من وجهين:

1-

قال الإمام الشافعي: "أن هذا الأثر لم يثبت عن عمر رضي الله عنه وفيه مجالد بن سعيد وهو ضعيف" 2

2-

وعلى فرض ثبوته ليس فيه ما يدل على أن الغنيمة لا تقسم في دار الحرب، بل غاية ما يدل عليه هو أنه يجوز للإمام أن يشرك المدد في الغنيمة قبل انتهاء القتال، وقبل الاستيلاء على الغنيمة، أما إذا انضموا إلى الجيش بعد انتهاء الحرب وبعد الاستيلاء على الغنيمة وإحرازها بدار الحرب، فلا يشركهم فيها، ولم يتعرض الأثر لقسمة الغنائم لا في دار الحرب ولا في دار الإسلام.

ج - مناقشة دليلهم من المعقول:

قولهم إن الإمام يجب ألا يشتغل بالقسمة ولا يشتغل إلا بأمور

1 السنن الكبرى 9/ 59.

2 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/50.

ص: 190

الحرب يرد عليه: بأن الاشتغال بتوزيع الغنائم لا يمنع من الاشتغال بأمور الحرب، لأن الإمام لا يوزع الغنائم إلا بعد الانتهاء من الحرب ليعلم بانتهائها تحقق الظفر واستقرار الملك.

أما إذا رأى الإمام أن المصلحة هو تأخير قسمة الغنائم عند الرجوع إلى دار الإسلام جاز له ذلك وهذا مما لا خلاف فيه بين العلماء.1

وأما قولهم أن الغنيمة لا تملك قبل الإحراز بدار الإسلام لأن ملك لا يتم إلا بالاستيلاء. يرد على ذلك: أن الغنيمة تحرز بدار الحرب ويتم الاستيلاء عليها بمجرد هزيمة الأعداء وقهرهم، وانتهاء الحرب لأن ملك الأعداء قد زال عنها بدليل أن تصرفهم فيها لا يصح.2

وإذا أحرزت وتم الاستيلاء عليها تعجلت قسمتها كيدا للأعداء، وفرحا بالنصر، وحفظا للغنيمة.3

ثانيا: مناقشة أدلة الجمهور القائلين بجواز قسمة الغنائم في دار الحرب:

أ - مناقشة دليلهم من الكتاب:

1-

قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ} 4 الآية لا دلالة فيها

1 الأحكام السلطانية للمارودي ص 139، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص150.

2 المغني 8/ 422.

3 الأحكام السلطانية للمارودي ص 139، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي ص150.

4 الأنفال: 41.

ص: 191

على جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، بل غاية ما تدل عليه الآية هو إباحة الغنيمة للمجاهدين، الخمس منها للأصناف المذكورة في الآية والأربعة أخماس الباقية تقسم بينهم.

يجاب عن ذلك: بأننا لا ننكر أن الآية أباحت الغنيمة للمجاهدين ولكن إباحتها يقتضي ثبوت الملك لهم فيها، ومتى ثبت الملك جازت القسمة سواء ملكت في دار الحرب أو في دار الإسلام.1

وكذلك قوله تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً} 2

لا تدل على جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، بل غاية ما تدل عليه هو إباحة الغنائم للمجاهدين وأنها حلال طيب لهم.

ويجاب عن ذلك: بأن الأمر بالأكل من الغنيمة جاء عاما ولم يفرق بين أن يكون أكلها في دار الإسلام، أو في دار الحرب ولم يرد ما يخصص هذا العموم، من أن الأكل لا يجوز إلا في دار الإسلام فتبقى الآية على عمومها، وهو إباحة الغنيمة للمجاهدين ولهم قسمتها متى أحرزوها واستولوا عليها سواء كان ذلك في دار الحرب أو في دار الإسلام.

ب - مناقشة أدلتهم من السنة:

1-

استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم غزوة بني المصطلق فيها، وكان مكان الغزوة آنذاك دار حرب.

1 التفسير الكبير للفخر الرازي 15/166.

2 الأنفال: 69.

ص: 192

يرد على ذلك: بأن الرسول صلى الله عليه وسلم عندما قسم غنائم بني المصطلق قسمها بعد أن افتتح بلادهم، وظهر عليها، وصارت بلادهم دار إسلام بدليل أن الرسول صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة يأخذ صدقاتهم.1

قال السرخسي: "وقسم غنائم بني المصطلق في ديارهم، وكان قد افتتحها يعني صيرها دار إسلام، ويدل على ذلك حديث مكحول قال: ما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم الغنائم إلا في دار الإسلام،2 وفي هذا دليل على أنها لا تقسم في دار الحرب"3

وأجيب عن ذلك:

بأن دار بني المصطلق لم تزل دار حرب بعد غزوهم، لأن النبي صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون في نعمهم، وسباهم، وقسم أموالهم وسبيهم في دارهم، سنة خمس، وإنما أسلموا بعدها بزمان ولذلك كان بعثه صلى الله عليه وسلم للوليد ابن عقبة مصدقا سنة عشر، فعندما غزاهم الرسول صلى الله عليه وسلم ورجع عن دارهم كانت دار حرب كما قال الإمام الشافعي.4

قال الباجي: "إن هذا غير صحيح أي كون دار بني المصطلق دار إسلام، لأنهم لم يكونوا مسلمين وقت الغنيمة، ولو كانوا مسلمين ما قسم

1 الرد على سير الأوزاعي ص2، وفتح القدير 5/244، وبدائع الصنائع 7/121، والغرة المنيفة ص 176.

2 سبق تخريجه ص 177.

3 المبسوط 10/19.

4 الأم 7/335.

ص: 193

النبي صلى الله عليه وسلم غنائمهم والنبي صلى الله عليه وسلم غنم بني المصطلق سنة خمس، وأسلموا سنة عشر وفي سنة عشر بعث إليهم الوليد بن عقبة مصدقا"1

2-

وكذلك استدلالهم بأن الرسول صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بالجعرانة وكانت تابعة لمكة وهي دار حرب.

يرد عليه: بأن كون النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم غنائم حنين إلا بعد رجوعه من الطائف، وقسمها بالجعرانة وكانت من دار الإسلام، دليل على أن الغنائم لا تقسم في دار الحرب.

وقولهم بأن الجعرانة كانت تابعة لمكة وهي دار حرب. فهذا غير صحيح، لأن الجعرانة كانت من دار الإسلام، لأن غزوة حنين كانت بعد فتح مكة، والجعرانة من نواحي مكة فتكون تابعة لها.

وروى أن الأعراب طالبوه بقسمتها، ومع كثرة مطالبتهم أخر القسمة حتى انتهى إلى دار الإسلام، فدل على أنها لا تقسم في دار الحرب.2

وأجيب عن ذلك: بأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها، لأن الجعرانة كانت على حدود مكة، فهي خارجة عنها وتعتبر تابعة للمكان الذي وقعت فيه غزوة حنين، حتى إن الإمام البيهقي قال: بعد ذكر الحديث

1 المنتقى شرح الموطأ 3/176.

2 المبسوط10/18،19، وبدائع الصنائع 7/121، وفتح القدير 5/224، والغرة المنفية ص 176.

ص: 194

الذي فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتمر من الجعرانة حين قسم غنائم حنين. وفي الحديث دلالة على أنه صلى الله عليه وسلم قسم غنائم حنين بها.1

وعلى فرض أن الجعرانة تابعة لمكة وتعتبر من دار الإسلام كما قال الحنفية يقال لهم يحتمل أن النبي صلى الله عليه وسلم أخر قسمة الغنائم حتى رجع إلى دار الإسلام لأنه رأى أن المصلحة تقتضي التأخير وهذا مما لا خلاف بين العلماء.2

3-

أما استدلالهم بأحاديث قسمة غنائم خيبر، فكذلك لا دلالة لهم فيها على جواز قسمة الغنائم في دار الحرب، لأن خيبر بعد الفتح صارت دار إسلام بدليل أن النبي صلى الله عليه وسلم عقد الذمة مع أهلها وعاملهم على النخل، وعلى فرض أن جميع سكانها من أهل الذمة تعتبر دار إسلام، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما فتحها أجرى فيها أحكام الإسلام، ومعاملة النبي صلى الله عليه وسلم يهود خيبر وقسمته أراضيها أشهر من أن يعرف بها، لورود الأحاديث الصحيحة الصريحة في هذا، فكيف تصير دار حرب بعد إجراء أحكام الإسلام فيها.3

قال السرخسي: "وأما خيبر فإنه افتتح الأرض وجرى فيها حكمه، فكانت القسمة فيها بمنزلة القسمة في المدينة، وقسم الغنائم فيها قبل أن

1 السنن الكبرى للبيهقي 9/56.

2 الأحكام السلطانية للماوردى ص 139،والأحكام السلطانية ص 150.

3 الرد على سير الأوزاعي ص 2،3، وبدائع الصنائع 7/12، وفتح القدير 5/224، وتبيين الحقائق 3/250، والغرة المنيفة ص 177.

ص: 195

يخرج منها، ففي هذا دليل على أن الإمام إذا افتتح بلدة وصيرها دار إسلام بإجراء أحكام الإسلام فيها، فإنه يجوز له أن يقسم الغنائم فيها وقد طال مقام رسول صلى الله عليه وسلم بخيبر بعد الفتح وأجرى أحكام الإسلام فيها، فكانت من دار الإسلام، القسمة فيها كالقسمة في غيرها من بقاع دار الإسلام"1

وأجاب الجمهور عن ذلك: بأن خيبر بعدما فتحها النبي صلى الله عليه وسلم دار حرب، لأنه لم يكن فيها مسلم واحد وما صالح الرسول صلى الله عليه وسلم إلا اليهود وهم على دينهم، وما حول خيبر كله كان دار حرب.2

4-

أما استلالهم بحديث أبي موسى رضي الله عنه فلا دلالة لهم فيه لأن النبي صلى الله عليه وسلم قسم له وأصحابه، لأنهم شاركوا في الفتح قبل الهزيمة إحراز الغنيمة والاستيلاء عليها بدار الإسلام لأن خيبر صارت دار لإسلام بعد فتحها.3

ولهذا قال أبو موسىرضي الله عنه: "ولم يقسم لأحد لم يشهد الفتح غيرنا" وأجيب عن ذلك بأن قسم النبي صلى الله عليه وسلم لأبي موسى وأصحابه رضي الله عنهم بعد الفتح والاستيلاء على الغنائم، يدل عليه قول أبي موسى:"قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن افتتح خيبر فقسم لنا " ولا يلزم من مشاهدتهم الفتح اشتراكهم فيه.

1 المبسوط 10/19.

2 الأم 7/335، والسنن الكبرى 9/56.

3 فتح القدير 5/226.

ص: 196

ج - مناقشة دليلهم من المعقول:

قولهم بأن الغنيمة تملك بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، هذا غير صحيح، لأن الملك لا يتم إلا بالاستيلاء، والاستيلاء التام لا يثبت إلا بإحراز الغنيمة في دار الإسلام، فما دامت في دار الحرب لم يستحكم الملك.1

أما قولهم بأن الدليل على إحرازها بدار الحرب هو أن ملك الكفار قد زال عنها.

فرد عليهم الحنفية بقولهم: قدرة الكفرة على الانتفاع بأموالهم ثابتة لأن الغزاة ماداموا في دار الحرب فالاسترداد ليس بنادر بل هو ظاهر أو محتمل احتمالا على السواء والملك كان ثابتا لهم فلا يزول مع الاحتمال.2

أجاب الجمهور عن ذلك بقولهم: إن الغنيمة تملك ويتم الاستيلاء عليها بمجرد انتهاء القتال وهزيمة الأعداء، وإذا أحرزت وجمعت في دار الحرب تعجل قسمتها، لأن في ذلك كيدا الأعداء وأطيب لقلوب المجاهدين، وأحفظ للغنيمة، وأرفق بهم في التصرف لبلادهم.

أما الكفار فقد زال ملكهم عنها بمجرد قهرهم وهزيمتهم ولا يستطيعون الانتفاع منها بشيء.3

1 الغرة المنيفة ص 176، والخراج لأبي يوسف ص 176، واللباب في شرح الكتاب 4/125.

2 بدائع الصنائع 7/121.

3 الخرشي على المختصر خليل 3/136، والأحكام السلطانية للماوردي ص 139، والأحكام السلطانية للقاضي أبي يعلي ص150، والمغني 8/422.

ص: 197

د - مناقشة دليلهم من القياس:

قياسهم جواز القسمة في دار الحرب على جوازها في دار الإسلام قياس مع الفارق، لأن الغنيمة بمجرد وصولها إلى دار الإسلام يتم إحرازها والاستيلاء عليها، بخلافها في دار الحرب ولأن السلطة والهيمنة في دار الإسلام للمسلمين، بخلافها في دار الحرب، لأنه ربما نتج عن الاشتغال بتقسيم الغنائم في دار الحرب عواقب سيئة من التكاسل عن الجهاد، وتفرقة المجاهدين، فربما أغار عليهم العدو كرة أخرى وهم لاهون بتوزيع الغنائم فهزمهم واستولى على غنائمهم، بخلاف ذلك في دار الإسلام.1

أجيب عن ذلك: بأن القياس صحيح، وليس مع الفارق كما قلتم، لأن الغنيمة كما تملك وتحرز في دار الإسلام فكذلك في دار الحرب، ولأن الاطمئنان يحصل للمجاهدين في دار الحرب بمجرد هزيمة أعدائهم وقهرهم، والاستيلاء على أموالهم، فتقسم الغنائم في دار الحرب كما تقسم في دار الإسلام، بل إنها قسمتها في دار الحرب أولى لأنه ربما نتج حرج ومشقة في حملها إلى دار الإسلام، ولأن الغنيمة حق للمجاهدين وتعجيل الحق لصاحبه أولى من تأخيره، ولأن في قسمتها في دار الحرب كيدا للأعداء وفرحا للمسلمين بالنصر.2

1 المبسوط 10/18،19،وفتح القدير 5/224،225،والغرة المنيفة ص 176.

2 الخرشي على المختصر خليل 3/136، والأحكام السلطانية للماوردي ص 139، والمغني 8/422، والمحلي7/341.

ص: 198

وإذا خيف من سوء العاقبة التي ربما تنتج عن قسمتها في دار الحرب فتأخيرها إلى دار الإسلام جائز بلا خلاف بين العلماء.1

الرأي المختار:

وبعد عرض آراء الفقهاء في قسمة الغنيمة في دار الحرب وأدلتهم ومناقشتها، اتضح لي أن الرأي المختار هو جواز قسمة الغنائم في دار الحرب وهو ما ذهب إليه الجمهور- وذلك للأسباب الآتية:

1-

لقوة الأدلة التي استدلوا بها من ذلك قسمته صلى الله عليه وسلم غنائم بدر قبل أن يصل إلى المدينة، وغنائم بني المصطلق وحنين وخيبر، كما دلت على ذلك الأحاديث الصحيحة السابقة.

قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "لولا آخر المسلمين ما فتحت قرية إلا قسمتها بين أهلها، كما قسم النبي صلى الله عليه وسلم خيبر"2

وقال الإمام الأوزاعي: "لم يقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوة أصاب فيها مغنما إلا خمسة وقسمه قبل أن يقفل"3

وقال الإمام الشافعي: "ما علمت للرسول صلى الله عليه وسلم سرية قفلت من موضعها حتى تقسم ما ظهرت عليه وقال: إن أهل المغازى لا يختلفون في أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قسم غير مغنم في بلاد الحرب"4

1 تكملة المجموع 18/161، والأحكام السلطانية للماوردي ص139، والأحكام السلطانية لأبي يعلي ص150.

2 أخرجه البخاري 2/193كتاب الجهاد باب الغنيمة لمن شهد الوقعة.

3 الرد على سير الأوزاعي ص 1، والأم 7/335.

4 الأم 7/335.

ص: 199

وقال الإمام الباجي: "لم يزل الناس من لدن النبي صلى الله عليه وسلم إلى زمن عمر وعثمان والخلفاء كلهم وجيوشهم في البر والبحر ما قسموا غنيمة قط إلا حيث غنموها وهذا معروف عند أهل السير والمغازي"1

وقال الخرشي: "السنة الماضية التي فعلها النبي صلى الله عليه وسلم والعمل الذي مضى عليه السلف أن الإمام يقسم الغنيمة في أرض العدو"2

وأقوال العلماء هذه تؤكد لنا أن الثابت من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قسمة الغنيمة في دار الحرب.

2-

ولأن الأدلة التي استدل بها الحنفية على عدم جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب، منها ما هو ضعيف ومنها ما هو صحيح، فالضعيف منها يسقط به الاستدلال، والصحيح منها لا دلالة لهم فيه، بل غاية ما دل عليه أن النبي صلى الله عليه وسلم قسم الغنيمة في دار الإسلام، وهذا لا يمنع من قسمتها في دار الحرب.

ويمكن حمله على النبي صلى الله عليه وسلم أخر القسمة إلى دار الإسلام لأن المصلحة تقتضي التأخير وهذا لا خلاف فيه بين أهل العلم.

3-

ولأنه ربما نتج عن تأخيرها إلى دار الإسلام الحرج والمشقة، لأن المجاهدين ربما لا يستطيعون حملها وهم في حاجة إليها وهذا مما يوقعهم في الحرج والمشقة وهما مرفوعان عن هذه الأمة بكتاب الله سبحانه وتعالى

1 المنتقى شرح الموطأ 3/176.

2 الخرشي شرح مختصر خليل 3/136.

ص: 200

وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقال تعالى:{وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} 1، وقال صلى الله عليه وسلم:"إن الدين يسر" 2

4-

ولأن الغنيمة بمجرد انتهاء القتال وهزيمة الأعداء وتفرق شملهم يتم الاستيلاء عليها، فتتعجل متى أحرزت، لأن الغنيمة حق من حقوق المجاهدين وتعجيل الحق لصاحبه أولى من تأخيره.

حتى أن بعض الفقهاء كره تأخير قسمتها إلى دار الإسلام، قال النووي:"يستحب قسمتها في دار الحرب ويكره تأخيرها إلى دار الإسلام من غير عذر" 3

5-

ولأن قسمة الغنيمة في دار الحرب أنكى للعدو، وأطيب لقلوب المجاهدين، وأحفظ للغنيمة، لأنها ربما تعرضت للضياع أثناء حملها إلى دار الإسلام. وبناء على هذا الاختيار يتضح لنا أن اختلاف الدار لا أثر له في قسمة الغنيمة في دار الكفر الحربية فتجوز قسمتها في دار الكفر كما تجوز قسمتها في دار الإسلام.

تتمة:

ويتفرع عن اختلافهم في جواز قسمة الغنيمة في دار الحرب مسائل منها:

1 الحج: 78.

2 أخرجه البخاري 1/16 كتاب الإيمان باب الدين يسر.

3 انظر: روضة الطالبين 6/376.

ص: 201

1-

أن المدد الذي يصل إلى دار الحرب بعد انتهاء القتال وإحراز الغنيمة لا يسهم له منها عند الجمهور كما في حديث أبان رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقسم له ولأصحابه من الغنيمة لأنهم لم يشهدوا الغزوة1، والغنيمة لمن شهد الوقعة كما قال عمر رضي الله عنه.2

ولأن الغنيمة تملك وتحرز بمجرد الاستيلاء عليها في دار الحرب، وإذا ملكت وأحرزت لا حق لهم فيها. وقال الأحناف: المدد الذي يصل إلى دار الحرب بعد انتهاء القتال، يسهم له من الغنيمة لأنها لا تملك إلا بإحرازها في دار الإسلام.

2-

ومنها أنه إذا مات أحد الغانمين في دار الحرب يسهم له ويورث نصيبه عند الجمهور. ولا يسهم له ولا يورث نصيبه عند الأحناف.

3-

ومنها: أنه إذا أتلف أحد الغانمين شيئا من الغنيمة، يضمنه عند الجمهور وعند الحنفية لا يضمن.

4-

ومنها: أن الإمام إذا باع شيئا من الغنيمة بدون حاجة جاز له ذلك عند الجمهور، ولا يجوز عند الحنفية.

5-

ومنها: أن الإمام إذا قسم الغنائم في دار الحرب من غير اجتهاد جاز له ذلك عند الجمهور، وعند الحنفية لا يجوز.3

1 أخرجه البخاري 3/55 كتاب المغازي، باب عزوة خيبر.

2 سبق تخريجه ص 186.

3 بدائع الصنائع 7/121، وتأسيس النظر للدبوسي ص 79، وأحكام القرآن للجصاص 3/، وأسهل المدارك 2/12، والأم 7/335 والمغني 8/422.

ص: 202