المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب - اختلاف الدارين وآثاره في أحكام الشريعة الإسلامية - جـ ٢

[عبد العزيز بن مبروك الأحمدي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثاني: أثر اختلاف الدارين في الأحكام الشرعية

- ‌الفصل الأول: أثر اختلاف الدار في وجوب القصاص والدية والكفارة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في وجوب القصاص

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدارين وأثره في وجوب الدية

- ‌المطلب الأول: أثره في دية المعاهد الكتابي

- ‌المطلب الثاني: أثره في دية المعاهد المجوسي وغيره من الكفار

- ‌الفصل الثاني: اختلاف الدار في جرائم الحدود في دار الإسلام

- ‌المبحث الأول: أثره في إقامة حد الزنا على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الثالث: أثره في إقامة حد السرقة على المستأمنين في دار الإسلام

- ‌المبحث الرابع: أثره في إقامة حد الحرابة على المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث الخامس: أثره في ارتكاب جريمة البغي من المستأمن في دار الإسلام

- ‌المبحث السادس: أثره في تجسس المستأمن في دار الإسلام

- ‌الفصل الثالث: اختلاف الدار وأثره في الجهاد

- ‌الفصل الرابع: اختلاف الدار وأثره في أحكام المعاملات والنكاح

- ‌المبحث الأول: أثره في التعامل بالربا في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: أثره في نكاح الكتابية في دار الحرب

- ‌الفصل الخامس: اختلاف الدار وأثره في الجرائم في دار الكفر

- ‌المبحث الأول: أثره في جرائم القصاص في دار الكفر

- ‌المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب

- ‌الفصل السادس: اختلاف الدار وأثره في الميراث والوصية

- ‌المبحث الأول: اختلاف الدار وأثره في الميراث

- ‌المطلب الأول: أثره في الميراث بين غير المسلمين

- ‌المطلب الثاني: أثره في ميراث المرتد

- ‌فهرس المصادر والمراجع المطبوعة

الفصل: ‌المبحث الثاني: اختلاف الدار وأثره في جرائم الحدود في دار الحرب

فهذه الآيات الكريمات تدل بعمومها على تحريم فعل هذه الجرائم في أي بقعة من الأرض سواء كانت في دار الإسلام أو في دار الحرب.

وفي هذا يقول ابن العربي: "توهم قوم أن ابن الماجشون لما قال أن من زنا في دار الحرب بحربية لم يحد أن ذلك حلال، وهو جهل بأصول الشريعة ومأخذ الأدلة، قال تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ. إِلا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ..} "1.

فلا يباح الوطء إلا بهذين الوجهين -فالخلاف في إقامة الحد- فأما التحريم فهو متفق عليه، فلا تستنزلنكم الغفلة في تلك المسألة.2

وكذلك اتفقوا على وجوب إقامة الحد على من ارتكب هذه الجرائم من المسلمين في دار الإسلام، متى توفرت فيه الشروط.3

واختلفوا في وجوب إقامة الحدود في دار الحرب إلى ثلاثة أقوال:

القول الأول: المسلم أو الذمي إذا ارتكب أحدهما جريمة الزنا، أو القذف، أو السرقة، أو شرب الخمر في دار الحرب، لا يقام عليه الحد، حتى إذا رجع

1 المؤمنون: 5، 6.

2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/516.

3 انظر: بدائع الصنائع 7/33، 40، 65، 131، والمدونة 6/291، ومغنى المحتاج4/150، والمبدع 9/59.

ص: 328

إلى دار الإسلام، لا حد عليه، وإنما سقط الحد بمجرد وقوع الجريمة في دار الحرب، ولا يقام الحد في دار الحرب إلا في حالة واحدة إذا كان الخليفة مع المسلمين في دار الحرب، فيقيم الحدود على مرتكبيها، ولا يؤخرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

وهذا هو قول فقهاء الحنفية ما عدا أبا يوسف1، وبه قال ابن الماجشون من المالكية.2

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله: "إذا غزا الجند أرض الحرب وعليهم أمير فإنه لا يقيم الحدود في عسكره إلا أن يكون أمام مصر والشام والعراق، أو ما أشبهه، فيقيم الحدود في عسكره. أما أمير السرية: فلا يقيم الحدود لأنه لم يفوض إليه إقامة الحدود، وإنما فوض إليه تدبير الحرب"3

القول الثاني: أن من ارتكب جريمة من جرائم الحدود في دار الحرب كالزنا، أو السرقة، أو القذف أو غيرها، أقيم عليه الحد، ولا يسقط عنه بحجة

1 انظر: بدائع الصنائع 7/131، وشرح السير الكبير 5/1851، والبحر الرائق 5/18، وتبيين الحقائق 3/182، والجوهرة النيرة 2/245، 346، والهداية 2/102، واللاخيار 4/91، وحاشية الشرنبلالي 2/66، والدرر الحكام في غرز الأحكام2/66، وفتح القدير 5/47.

2 انظر: أحكام القرآن لابن العربي 1/ 516.

3 الرد على سير الأوزاعي ص80.

ص: 329

ارتكابه في دار الحرب، فكما يقام عليه الحد في دار الإسلام، يقام عليه في دار الحرب.

قال به الليث بن سعد ويحي الأنصاري وأبو ثور وابن المنذر. وهو قول فقهاء المالكية، والشافعية وأبي يوسف من الحنفية.1

فقد سئل الإمام مالك – رحمه الله عن أمير الجيش إذا دخل دار الحرب، فسرق الجند بعضهم من بعض، أو شربوا الخمور، أو زنوا، أيقيم عليهم أميرهم الحدود؟

فقال: "يقيم عليهم في أرض الحرب أمير الجيش، وهو أقوى له على الحق، كما تقام الحدود في أرض الإسلام.2

وقال الإمام الشافعي رحمه الله: "يقيم أمير الجيش الحدود حيث كان من الأرض إذا ولى ذلك، فإن لم يولّ، فعلى الشهود الذين يشهدون على الحد أن يأتوا بالمشهود عليه إلى الإمام، ولّى ذلك ببلاد الحرب، أو ببلاد الإسلام، ولا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام، فيما أوجب الله

1 المدونة 6/291، والخرشي 713، والشرح الكبير 2/166، والجامع لأحكام القرآن لابن العربي 1/516، وجواهر الاكليل 2/293، والمنتقى 7/145، والأم 7/354، والمهذب 2/241، والمجموع 18/120، والاشراف 2/43، والأوسط ص290، وروضة الطالبين 10/141، وسنن البيهقي 9/103، ومغنى المحتاج 4/150، والمقنع بحاشيته 3/451، والرد على سير الأوزاعي ص 80، والجوهرة النيرة 2/245.

2 انظر: المدونة للإمام مالك 6/291.

ص: 330

على خلقه من الحدود"1، وقال أيضا: "قد أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم الحد بالمدينة والشرك قريب، وفيها شرك كثير موادعون، وضرب الشارب بحنين والشرك قريب منه"2

وهذا القول قال به الإمام الأوزاعي في غير حد السرقة.

فقال رحمه الله: "من تأخر على جيش وإن لم يكن أمير مصر من الأمصار، أقام الحدود في عسكره، غير القطع حتى يقفل من الدرب، فإذا قفل قطع"3

أي: حتى يرجع إلى دار الإسلام، فإذا رجع أقام حد السرقة.

القول الثالث: لا تقام الحدود على المسلمين والذميين في دار الحرب، وإنما تؤخر إقامتها حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

وهو قول إسحاق بن راهويه وفقهاء الحنابلة والأوزاعي في حد القطع.4

1 انظر: الأم 7/354.

2 انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/103.

3 انظر: الرد على سير الأوزاعي ص 80، والأم 7/354.

4 انظر: المغني والشرح الكبير 10/536، والمبدع 9/59، والأنصاف 10/169، والمقنع بحاشيته 3/451، والإفصاح 2/430، وكشاف القناع6/88، وأعلام الموقعين 3/7، وجامع الترمذي 4/53، 53، والرد على سير الأوزاعي ص 80، والإشراف ورقة 84م.

ص: 331

الأدلة:

أولا: أدلة الحنفية الذين قالوا بأن الحدود لا تقام في دار الحرب: استدلوا بالسنة، والمأثور، والمعقول:

أ - دليلهم من السنة:

1-

حديث: "لا تقام الحدود في دار الحرب".1

قالوا في وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن إقامة الحدود في دار الحرب ولم يرد به صلى الله عليه وسلم حقيقة عدم الإقامة حسا، لأن كل واحد يعرف أنه لا يمكن إقامة الحد في دار الحرب لانقطاع ولاية الإمام عنها، فكان المراد بعدم الإقامة عدم وجوب الحد.2

2-

حديث بسر بن أرطأة3عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تقطع الأيدي في السفر".4

1 أخرجه الزيلعي في نصب الراية 3/343، وقال غريب، وذكره الأحناف في كتبهم.

انظر: الهداية 2/103، والاختيار 4/91، وتبيين الحقائق 3/ 182.

2 انظر: العناية على الهداية 5/46.

3 هو بسر بن أرطأة (أو ابن أبي أرطأة) ، واسمه عمير بن عويمر بن عمران العامري القرشي، يكنى أبا عبد الرحمن، اختلف في صحبته، ولد فبل الهجرة بمكة، وتوفي سنة 86 بدمشق وقيل بالمدينة.

انظر: الإصابة 1/152، وتقريب التهذيب 1/96، والأعلام 2/51.

4 أخرجه أبو داود 4/564، كتاب الحدود، باب في الرجل يسرق في الغزو، حديث 4408، والدارمي 2/231، والبيهقي 9/104.

ص: 332

وفي رواية أخرى: "لا تقطع الأيدي في الغزو"1.

وفي لفظ ثالث: عن جنادة بن أبي أمية2، قال: كنا عند بسر بن أرطأة في البحر، فأتى بسارق يقال له مصدر، قد سرق بختيه3، فقال: لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهانا عن القطع لقطعتك فجلده ثم خلى سبيله.4

وجه الدلالة من الحديث:

الحديث ظاهر الدلالة في النهي عن إقامة حد السرقة في دار الحرب، ويقاس عليها سائر الحدود، فلا تقام في دار الحرب.5

3-

حديث عطية بن قيس الكلابي6، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا هرب الرجل وقد زنا أو سرق، إلى العدو ثم أخذ أمانا على نفسه فإنه

1 أخرجه أحمد 4/181، والترمذي 4/53، كتاب الحدود حديث 1450، وقال: حديث غريب.

2 هو جنادة بن أبي أمية بن ملك الأزدري، أبو عبد الله، صحابي من كبار الغزاة في العصر الأموي، وتوفي سنة 80 بالشام.

الإصابة 1/256، 257، والاستيعاب 1/242، وتقريب التهذيب 1/134.

3 البختية: الأنثى من الإبل. انظر: معالم السنن مع سنن أبي داود 4/564.

4 أخرجه أحمد 4/181، واللفظ له، وأبو داود 4/ 564، كتاب الحدود حديث 4408، والترمذي 4/53، كتاب الحدود حديث 1450، والبيهقي في سننه 9/104.

5 فتح القدير 5/47، ونصب الراية 3/343.

6 هو: عطية بن قيس الكلابي الشامي، أبو يحي، ثقة، مقريء، من الثالثة، مات سنة 121، وقد جاوز المائة، تقريب التهذيب 2/25.

ص: 333

يقام عليه ما فر منه، وإذا قتل في أرض العدو أو زنا أو سرق، ثم أخذ أمانا لم يقم عليه شيء مما أحدث في أرض العدو" 1.

فالحديث يدل أيضا على عدم إقامة الحدود في دار الحرب، كما ذكر ذلك السرخسي.2

ج- دليلهم من المأثور:

1-

ما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله ألا يجلدن أمير الجيش ولا سرية أحدا حتى يخرج إلى الدرب قافلا لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.3

وفي البيهقي: أن عمر رضي الله عنه كتب إلى عمير بن سعد الأنصاري4 وإلى عماله، أن لا يقيموا حدا على أحد من المسلمين في أرض الحرب حتى يخرجوا إلى أرض المصالحة.5

2-

ما روي مكحول عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قال: لا تقام

1 ذكره محمد بن الحسن في السير الكبير 5/1851، ولم أجده في غيره من كتب الصحاح، والسنن المشهورة.

2 انظر: شرح السير الكبير للسرخسي 5/1851.

3 أخرجه ابن أبي شيبة 9/171، وسعيد بن منصور 2/196، والبيهقي في سنة 9/105، والزيلعي في نصب الراية 3/343.

4 هو: عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري الأوسي، صحابي، شهد فتح الشام، واستعمله عمر على حمص، وكان يسمية نسيج وحده، توفي نحو سنة 45هـ.

الإصابة 5/33، وتقريب التهذيب 2/86، وحيلة الأولياء 1/247.

5 أخرجه البيهقي في السنن 9/105.

ص: 334

الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق أهلها بالعدو.1

3-

وبما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان ينهى أن تقام الحدود على المسلمين في أرض العدو.2

4-

وعن علقمة قال: كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة3، فشرب الخمر، فأردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أميركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم.4

وفي لفظ آخر، عن علقمة قال: أصاب أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لأبي مسعود وحذيفة بن اليمان: أقيما عليه الحد، فقالا: لا نفعل نحن بإزاء العدو، ونكره أن يعلموا فيكون جرأة منهم علينا، وضعفا بنا.5

1 أخرجه البيهقي في السنن 9/105، والزيلعي في نصب الراية 3/343، وذكره محمد بن الحسن في السير الكبير 5/185، وأبو يوسف في الرد على سير الأوزاعي ص81، وابن القيم في إعلام الموقعين 3/18.

2 هو: علقمة بن قيس بن عبد الله بن مالك الكوفي النخعي الهمداني، تابعي فقيه العراق في زمانه، شهد صفين وغزا خرسان، وسكن الكوفة، توفي بها سنة 62هـ.

انظر: تهذيب التهذيب 7/467، وحيلة الأولياء 2/98، وتاريخ بغداد 12/296.

3 هو: الوليد بن عقبة بن أبي معيط القرشي الأموي، أو بدهب، من فتيان قريش وشعرائهم وأجوادهم، أسلم يوم فتح مكة، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق، توفي بالرققة سنة 61هـ. الإصابة 4/277، والأعلام 8/122.

4 أخرجه ابن أبي شيبة 10/103، 104، وسعيد بن منصور 2/197، وابن التركماني في الجوهر النقي 9/105.

5 أخرجه عبد الرزاق 5/192.

ص: 335

5-

وبقصة أبي محجن1رضي الله عنه وستأتي بالتفصيل.

فقد ذكر ابن القيم رحمه الله أن اسقاط سعد بن أبي وقاص الحد عن أبي محجن قد يتمسك به من يقول لا حد على مسلم في دار الحرب وهم الحنفية، لأن سعداً أسقط الحد عن أبي محجن عندما رأى منه التوبة النصوح.2

ج - دليلهم من المعقول: من ثلاثة أوجه:

الوجه الأول: لا تقام الحدود في دار الحرب مخافة أن يلحق من يقام عليه الحد بالعدو، أو يرتد عن الإسلام، فينضم إلى الأعداء، فيتقوى شأنهم على المسلمين.3

الوجه الثاني: أنه لا ولاية ولا قدرة لإمام المسلمين على دار الحرب، فكيف يقم الحدود، لأن الوجوب مشروط بالقدرة، ولا قدرة للإمام على مسلم

1 هو: أبو محجن الثقفي، صحابي، أسلم سنة 9هـ، أحد الأبطال والشعراء، والكرماء، واسمه: عمرو بن حبيب بن عمرو بن عمير بن عوف، روى عدو أحاديث عن الرسول صلى الله عليه وسلم توفي بأذربيجان، وقيل بجرجان سنة30هـ. الإصابة 7/171، والأعلام 5/76.

2 انظر: إعلام الموقعين 2/7.

3 الجوهرة النيرة 2/245، وأعلام الموقعين 3/7.

ص: 336

تلبس بالحد في دار الحرب، فلا حد إذا، أما لو كان الإمام معه في المعسكر، فيقيم الحد عليه، لأنه تحت يده، فالقدرة ثابتة عليه.1

وفي هذا يقول الكاساني: "لأن الإمام لا يقدر على إقامة الحدود في دار الحرب لعدم الولاية، ولو فعل شيئا من ذلك ثم رجع إلى دار الإسلام لا يقام عليه الحد أيضا، لأن الفعل لم يقع موجبا أصلا"(2)

الوجه الثالث: أن المقصود من إقامة الحدود هو الانزجار والارتداع، وولاية الإمام منقطعة في دار الحرب، فيعرى الوجوب عن الفائدة، فإذا أقيم الحد في دار الحرب، لم يحصل مقصوده.3

وفي هذا يقول الزيلعي: ولأنه - أي الحد-لم يجب لذاته، وإنما وجب لمقصوده، وهو الانزجار والاستيفاء فإن لم يمكن الاستيفاء، فلا يجب لخلوه من الفائدة، فامتنع الوجوب لعدم الفائدة، وهو الاستيفاء، فإذا لم ينعقد موجبا من الابتداء، فلا ينقلب موجبا بالخروج.4

1 انظر: فتح القدير 5/47، والعناية على الهداية 5/46، والجوهرة النيرة 2/245، ومجمع الأنهر 1/596.

2 انظر: بدائع الصنائع 7/131.

3 انظر: البحر الرائق 5/18، وفتح القدير 5/47، والسير الكبير 5/1851.

4 انظر: تبيين الحقائق 3/182.

ص: 337

ثانيا: أدلة المالكية والشافعية الذين قالوا بوجوب إقامة الحدود في دار الحرب:

استدلوا بالكتاب، والسنة، والمأثور، والمعقول، والقياس:

أ- دليلهم من الكتاب:

عموم الآيات الدالة على وجوب إقامة الحدود على مرتكبيها من غير فرق بين مكان وزمان، والتي منها:

1-

قوله تعالى {.. الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} 1.

2-

وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} 2

3-

وقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} 3

فقد دلت هذه الآيات الكريمات بعمومها على إقامة الحدود على

1 النور: 2.

2 النور: 4.

3 المائدة: 38.

ص: 338

مرتكبيها في كل مكان وزمان، من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب.1

وفي هذا يقول الإمام الشافعي رحمه الله: "لا فرق بين دار الحرب ودار الإسلام، فيما أوجب الله على خلقه من الحدود، لأن الله عز وجل يقول: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزاني الثيب الرجم، وحد الله القاذف ثمانين جلدة، لم يستثن من كان في بلاد الإسلام ولا في بلاد الكفر، ولم يضع عن أهله شيئا من فرائضه، ولم يبح لهم شيئا مما حرم عليهم ببلاد الكفر، وهو مما يعقله المسلمون ويجتمعون عليه، أن الحلال في دار الإسلام حلال في دار الكفر، والحرام في بلاد الإسلام حرام في بلاد الكفر، فمن أصاب حراماً فقد حده الله على ما شاء منه، ولا تضع عنه بلاد الكفر شيئا"2

ب - أما دليلهم من السنة:

فقد استدلوا بعموم الأوامر التي يأمر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بإقامة الحدود في كل وقت، وفي أي أرض من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب.3

1 انظر: الجامع لأحكام القرآن 6/171، والإشراف لابن المنذر 1/43، والأم 7/354 - 355.

2 انظر: الأم 7/354 - 355.

3 المرجع السابق نفسه.

ص: 339

ومن هذه الأحاديث:

1-

ما روت عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقطع السارق في ربع دينار فصاعدا".1

2-

ما روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "خذوا عني، قد جعل الله لهن سبيلا، البكر بالبكر، جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب، جلد مائة والرجم".2

3-

وعن زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه قال: "سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يأمر فيمن زنى ولم يحصن جلد مائة وتغريب عام".3

4-

وبما روى أنس رضي الله عنه "أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى برجل قد شرب الخمر فجلده بجريدتين نحو أربعين".4

وفي لفظ آخر: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يضرب في الخمر بالنعال والجريد أربعين".5

1 أخرجه البخاري 4/173، كتاب الحدود، ولفظه: تقطع اليد في ربع دينار، ومسلم 3/2312، كتاب الحدود، باب السرقة واللفظ له، حديث 1684.

2 أخرجه مسلم 3/1316، كتاب الحدود، باب حد الزنى، حديث 1690.

3 أخرجه البخاري 4/4/181، كتاب الحدود، باب البكران يجلدان وينفيان.

4 أخرجه البخاري 4/171، كتاب الحدود، باب ما جاء في ضرب شارب الخمر، ولفظه: أن النبي صلى الله عليه وسلم ضرب في الخمر بالجريد والنعال. ومسلم 3/1330، كتاب الحدود، باب حد الخمر، واللفظ له حديث 1706.

5 مسلم 3/1331، كتاب الحدود، باب حد الخمر حديث 1706.

ص: 340

وجه الدلالة من هذه الأحاديث:

أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإقامة الحدود وأقامها بنفسه، وأمره عام غير خاص بمكان دون آخر، أو بزمان دون زمان، فكما تقام الحدود في دار الإسلام، تقام في دار الحرب، وهناك أحاديث صرحت بإقامة الحدود في دار الحرب منها:

5-

ما روي عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "جاهدوا الناس في الله تبارك وتعالى، القريب والبعيد، ولا تبالوا في الله لومة لائم، وأقيموا حدود الله في الحضر والسفر".1

الحديث ظاهر الدلالة في وجوب إقامة الحدود في الحضر والسفر، والسفر عام يشمل دار الإسلام ودار الحرب.

وفي هذا يقول البنا في الفتح الرباني: "الحديث يدل على عدم جواز تأخير إقامة الحد، سواء كان في الحضر أو السفر"

قال الحافظ: "وقد احتج به الجمهور على إقامة الحد في السفر والحضر لأنه أصح من حديث بسر، ويشهد لصحته عموم الكتاب والسنة وإطلاقاتهما لعدم الفرق فيها بين القريب والبعيد والمقيم والمسافر، والحديثان إذا تعارضا وجب العمل بأصحهما"2

1 أخرجه الإمام أحمد في مسنده 5/316 - 426، والإمام أبو داود في مراسيله ص127، والإمام البيهقي في السنن 9/104.

2 نقلا عن بلوغ الأماني بشرح الفتح الرباني 16/115.

ص: 341

6-

وبما روي عن عبد الرحمن بن أزهر الزهري1 رضي الله عنه قال: "رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يتخلل الناس، يسأل عن منزل خالد بن الوليد، وأتى بسكران فأمر من كان عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وحثا رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه من التراب"2.

فالرسول صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أمر بإقامة حد الخمر على شاربه في أرض الحرب، وهذا يدل على وجوب إقامة الحدود فيها.

ج- أدلتهم من المأثور:

1-

بما رواه يحي3بن عروة بن الزبير عن أبيه، أن بعض الصحابة كضرار بن مالك4 رضي الله عنه شربوا الخمر بالشام، فأتى بهم إلى أبي عبيدة بن

1 هو: أبو جبير عبد الرحمن بن أزهر الزهري، صحابي، صغير، مات قبل موقعة الحرة، وله ذكر في الصحيحين مع عائشة رضي الله عنها. انظر: تقريب التهذيب 1/472.

2 السنن الكبرى للبيهقي 9/103.

3 هو: يحي بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، أبو عروة، ثقة من السادسة، وله أحاديث في الصحيحين، ضربه إبراهيم بن هشام المخزومي والي المدينة حتى مات سنة 114 تقريبا.

انظر: تقريب التهذيب 2/354، والأعلام 8/156.

4 هو: ضرار بن مالك بن أوس بن خزيمة الأسدي أبو الأزور، ويقال أبو بلال، أحد الأبطال في الجاهلية والإسلام، وهو الذي قتل مالك ابن نويرة، وقاتل يوم اليمامة حتى قتل بعد أيام في اليمامة سنة 11هـ. انظر: الإصابة 3/269، والأعلام 3/216.

ص: 342

الجراح رضي الله عنه فكتب في أمرهم إلى عمر رضي الله عنهفأمره بإقامة الحد عليهم، فدعاهم أبو عبيدة رضي الله عنه فأقام عليهم الحد.1

2-

وبما روي عن الليث بن سعد، أنه كان يرى إقامة الحدود في أرض الروم لأن الله عز وجل يقول:{وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً} 2

وقال أيضا: "ما رأينا ولا سمعنا قديما ولا حديثا ترك الحدود، بل تقام في أرض العدو"3

د- أما دليلهم من المعقول فهو:

أن فعل هذه الجرائم كالزنا، والسرقة، وشرب الخمر، وغيرها محرم في دار الحرب، كما هو محرم في دار الإسلام، وإذا كانت الداران لا تختلفان في تحريم الفعل، فالواجب أن لا تختلفا في العقوبة التي شرعت لهذه الجرائم.4

هـ - أما دليلهم من القياس:

فهو قياس دار الحرب على دار الإسلام، فكما تقام الحدود في دار الإسلام فكذلك تقام في دار الحرب بجامع تحريم الفعل في كل.5

1 أخرجه البيهقي 9/105.

2 المائدة: 41.

3 أخرجه البيهقي 9/106، وذكره ابن المنذر في الأوسط 1/293.

4 الأم 7/355، والمهذب 2/341.

5 الأم 7/355.

ص: 343

ثالثا: أدلة الحنابلة ومن معهم الذين قالوا بتأخير إقامة الحدود في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام: استدلوا بالسنة، والمأثور، والإجماع، والمعقول، والقياس:

أ- دليلهم من السنة:

حديث بسر بن أرطأة، وفيه يقول صلى الله عليه وسلم:"لا تقطع الأيدي في الغزو".

وفي لفظ آخر: "لا تقطع الأيدي في السفر، وقد تقدم بألفاظه الثلاثة "1.

قالوا في وجه الدلالة:

أن الحديث ظاهر الدلالة في النهي عن إقامة حد القطع في الغزو ويقاس عليه غيره من الحدود، كما فهم ذلك ابن القيم رحمه الله فقال:"إن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن تقطع الأيدي في الغزو لئلا يكون ذريعة إلى إلحاق المحدود بالكفار، ولهذا لا تقام الحدود في الغزو كما تقدم".

أما وجه الدلالة على التأخير إلى دار الإسلام، فيفهم من منعه صلى الله عليه وسلم، من ذلك في دار الحرب، لأن الحد لا يسقط عن مرتكبه أينما كان وأنى ذهب، وهذا الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم كعمر وأبي الدرداء، وهم أقرب الأمة لفه كلام نبيها صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراده، وبهذا أخذ ابن القيم

1 سبق تخريجه ص 332.

ص: 344

رحمه الله وحمل ما وقع من الصحابة رضي الله عنهم من تأخير الحد تفسيراً للنص وكشفا عن مراده صلى الله عليه وسلم.1

وقد قال ابن القيم -بعد أن ذكر الحديث-: "فهذا حد من حدود الله، وقد نهى عن إقامته في الغزو، خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله، أو تأخيره من لحوق صاحبه بالمشركين حمية وغضبا2.

ب - دليلهم من المأثور:

1-

بما روى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كتب إلى عماله أن لا يجلدن أمير جيش أو سرية ولا رجل من المسلمين حدا، وهو غاز، حتى يقطع الدرب قافلا، لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار3.

وجه الدلالة من هذا الأثر على تأخير الحد حتى الرجوع إلى دار الإسلام ظاهرة، لنهيه رضي الله عنه، عن إقامة الحد على الغزاة إلا إذا قطع الدرب راجعا إلى دار الإسلام، مبينا رضي الله عنه علة التأخير بقوله: لئلا تلحقه حمية الشيطان فيلحق بالكفار.4

1 أعلام الموقعين 3/7، 8، والمبدع 9/59، وكشاف القناع 6/88، والحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 43، 44.

2 انظر: أعلام الموقعين 3/7، 8.

3 سبق تخريجه ص 334.

4 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 54.

ص: 345

2-

وبما روي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنه كان ينهى أن تقام الحدود على الرجل وهو غاز في سبيل الله، حتى يقفل، مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار، فإن تابوا تاب الله عليهم، وإن عادوا فإن عقوبة الله من ورائهم.1

وجه الدلالة:

أن أبا الدرداء نهى عن إقامة الحدود في الغزو، وإنما تؤخر حتى الرجوع إلى دار الإسلام، مبينا رضي الله عنه علة التأخير.

3-

وبما روى علقمة أنه قال: "كنا في جيش في أرض الروم ومعنا حذيفة بن اليمان رضي الله عنه وعلينا الوليد بن عقبة، فشرب الخمر فاردنا أن نحده، فقال حذيفة: أتحدون أيركم وقد دنوتم من عدوكم فيطمعون فيكم"

وفي لفظ آخر: قال: "أصاب أمير الجيش وهو الوليد بن عقبة شرابا فسكر، فقال الناس لأبي مسعود وحذيفة بن اليمان: أقيما عليه الحد، فقالا: لا نفعل نحن بإزاء العدو ونكره أن يعلموا فيكون جرأة منهم علينا وضعفا بنا"2

وجه الدلالة من الأثر:

أن حذيفة رضي الله عنه لم يسقط الحد عن الوليد، ولكنه استنكر عليهم تعجيله وهم بأرض العدو، مخافة أن يطمع فيهم الأعداء، فامتنع عن إقامة

1 سبق تخريجه ص 356.

2 سبق تخريجه ص 335.

ص: 346

الحد عليه لهذه العلة، وعند الرجوع إلى دار الإسلام تزول هذه العلة، فعندئذ يقام الحد.

ج - أما دليلهم من الإجماع:

فهو إجماع الصحابة رضي الله عنهم على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب، حتى الرجوع إلى دار الإسلام، كما ذكر ذلك ابن قدامة وابن القيم وابن مفلح1 وغيرهم من فقهاء الحنابلة.

د - أما دليلهم من المعقول:

فقالوا: لا يقام الحد في دار الحرب خشية أن يلحق المحدود بدار الكفر، ويحمله الغضب على الدخول في الكفر.2

وفي هذا يقول ابن القيم: لا يقام الحد في الغزو خشية أن يترتب عليه ما هو أبغض إلى الله من تعطيله أو تأخيره من لحوق لصاحبه بالمشركين حمية وغضبا.3

هـ - أما دليلهم من القياس:

فهو قياس تأخير الحد في دار الحرب على تأخيره في دار الإسلام عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض.

1 انظر: المغني لابن قدامة 8/474، 475، وأعلام الموقعين 3/7، والمبدع 9/59.

2 انظر: المبدع 9/59، والمغنى 8/474، 475.

3 انظر: أعلام الموقعين 3/5.

ص: 347

وفي هذا يقول ابن القيم رحمه الله تأخير الحد لمصلحة راجحة، إما من حاجة المسلمين إليه، أو من خوف ارتداده ولحوقه بالكفار، وتأخير الحد لعارض أمر وردت به الشريعة، كما يؤخر عن الحامل والمرضع، وعن وقت الحر والبرد والمرض، فهذا تأخير لمصلحة المحدود، فتأخيره لمصلحة الإسلام أولى.1

وقال ابن مفلح: "ولأن تأخيره لعارض من مرض أو شغل جائز، فإذا زال، أقيم عليه لوجود المقتضى السالم عن المعرض"2

وقال ابن قدامة: "وإنما يؤخر لعارض كما يؤخر لمرض أو شغل، فإذا زال العارض أقيم الحد لوجود مقتضيه وانتفاء معارضه"3

وهذا قياس مسلم يفيد مطابقة صريح المعقول لصحيح المنقول قد استوفى شروط القياس وأركانه.4

أما دليلهم على وجوب إقامة الحدود المرتكبة في دار الحرب عند تأخيرها إلى دار الإسلام فهو: عموم الآيات والأحاديث التي دلت على وجوب إقامة الحدود، وأنها لا تسقط عن مرتكبها في دار الإسلام، أو في دار الحر ب، إلا أنها تؤخر إذا ارتكبت في دار الحرب لمصلحة المحدود،

1 انظر: أعلام الموقعين 3/7.

2 انظر: المبدع 9/59.

3 انظر: المغنى 8/474، 475.

4 انظر: الحدود والتعزيرات ص 58.

ص: 348

وهو الخوف عليه من اللحاق بالكفار.1

ومع أن ابن القيم اختار تأخير الحدود عن المسلمين في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

إلا أنه استثنى من هذا، أن من كانت له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته التي وقع فيها، وقد ظهرت منه مخايل التوبة النصوح، فإنه يسقط عنه الحد بالكلية.2

وقد استدل على هذا الإستثناء بقصة أبي محجن رضي الله عنه مع سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه فقال: أتى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه بأبي محجن رضي الله عنه يوم القادسية، وقد شرب الخمر، فأمر بع إلى القيد، فلما التقى الناس، قال أبو محجن:

كفى حزنا أن تطرد الخيل بالقنا3

وأترك مشدودا عليّ وثاقيا

فقال لامرأة سعد4: أطلقيني ولك والله عليّ إن سلمني الله أن أرجع حتى أضع رجلي في القيد، فإن قتلت استرحم مني، قال: فخلته حتى

1 انظر: المغنى 8/474، والمبدع 9/59، والمقنع بحاشيته 3/ 451، وكشاف القناع 6/88.

2 انظر: أعلام الموقعين 3/7.

3 اسم من أسماء العصا. انظر: معجم لغة الفقهاء ص 370.

4 اسم امرأة سعد المذكورة سلمى، وكانت أولا زوجة للمثنى بن حارثة، وهي ابنة خصفة، الفارس المشهور، ثم تزوجها سعد بعد موت المثنى، وهي ابنة خصفة، وقيل حصفة، وقيل حفصة، انظر: الإصابة 7/171.

ص: 349

التقى الناس، وكانت بسعد جراحة، فلم يخرج يومئذ إلى الناس، قال: وصعدوا به فوق البيت1 ينظر إلى الناس، واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة2، فوثب أبو محجن على فرس لسعد يقال لها البلقاء، ثم أخذ رمحا ثم خرج، فجعل لا يجعل على ناحية من العدو، إلاّ هزمهم، وجعل الناس يقولون: هذا ملك، لما يرونه يصنع.

وجعل سعد يقول: الضبر ضبرا3 البلقاء والطعن طعن أبي محجن، وأبو محجن في القيد، فلما هزم العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجليه في القيد، فأخبرته امرأته -أي امرأة سعد- بما كان من أمره، فقال سعد: لا والله لا أضرب اليوم رجلا أبلى للمسلمين ما أبلاهم فخلى سبيله، فقال أبو محجن: قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحد، وأطهر منها، أما إذ بهرجتني4 فو الله لا أشربها أبدا.5

1 وفي رواية: فوق الغديب. انظر: المراجع السابقة.

2 هو: خالد بن عرفطة بن أبرهة بن السنان الليثي، ويقال القضاعي والعذري، صحابي استنابه سعد على الكوفة، توفي سنة 64هـ. انظر: الإصابة 2/94، 95، وتقريب التهذيب 1/216.

3 قال ابن حجر في الإصابة 7/171، والاستيعاب: الضبر ضبر البلقاء، هو بالضاد المعجمة والياء الموحدة: عدو الفرس، ومن قال بالصاد المهملة، فقد صحف.

4 بهرجتني: أي أهدرتني بإسقاط الحد عني. انظر: النهاية 1/166، وإعلام الموقعين 3/7.

5 أخرج هذه القصة: سعيد بن منصور في سننه 2/197، 198، وابن أبي شيبة في مصنفه 9/170، وعبد الرزاق في مصنفه 9/243، وذكرها ابن القيم في إعلام الموقعين 3/6،7. وهذه القصة صحيحة الإسناد كما قرره الحافظ ابن حجر.

ص: 350

وقال ابن القيم في إيضاح وجه الدلالة من هذه القصة، عن سقوط الحد ممن كانت حاله كحال أبي محجن من الإبلاء في الإسلام، والنكاية بالعدو، وظهور مخايل التوبة النصوح منه:

والظاهر أن سعدا رضي الله عنه اتبع في ذلك سنة الله تعالى، فإنه لما رأى من تأثير أبي محجن في الدين وجهاده وبذله نفسه لله ما رأى درأ عنه الحد، لأن ما أتى به من الحسنات غمرت هذه السيئة الواحدة، وجعلتها كقطرة نجاسة وقعت في بحر، ولا سيما وقد رأى منه مخايل التوبة النصوح وقت القتال، إذ لا يظن مسلم اصراره في ذلك الوقت الذي هو مظنة القدوم على الله وهو يرى الموت، وأيضا فإنه بتسليمه نفسه ووضع رجله في القيد اختياراً، قد استحق أن يوهب له وحده، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للرجل الذي قال له يا رسول الله أصبت حدا فأقمه عليّ، فقال: هل صليت معنا هذه الصلاة؟ قال نعم، قال: إذهب فإن الله قد غفر لك حدك.1

وظهرت بركة هذا العفو والإسقاط في صدق توبته، فقال: والله لا أشربها أبدا، وفي رواية أبد الأبد، وقد بريء النبي صلى الله عليه وسلم مما صنع خالد ببني خذيمة، وقال: اللهم أني أبرأ إليك مما صنع خالد، ولم يؤاخذه به لحسن بلائه ونصره للإسلام.

وقال أيضا: وقوله إذ بهرجتني، أي أهدرتني بإسقاط الحد عني، ومنه يبهرج دم ابن الحارث، أي أبطله، وليس في هذا ما يخالف نصا ولا قياسا

1 أخرجه الإمام أحمد في المسند 5/265، بلفظ: اذهب فإن الله قد عفا عنك.

ص: 351

ولا إجماعا ولا قاعدة من قواعد الشرع، بل لو ادعى أنه إجماع الصحابة كان أصوب.1

المناقشة:

أولا: مناقشة أدلة الحنفية

أمناقشة أدلتهم من السنة:

بالنسبة لاستدلالهم بحديث: لا تقام الحدود في دار الحرب. يرد عليه من وجهين:

الوجه الأول: أن هذا الحديث لم يصح عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يوجد في كتب الصحاح والسنن المشهورة، حتى أن الحنفية أنفسهم، قالوا: إنه غير صحيح، فهذا الزيلعي يقول في نصب الراية: حديث غريب.2

وقال ابن الهمام: الحديث لم يعلم له وجود.3

وبهذا يتضح عدم ثبوت هذا الحديث.

الوجه الثاني: على فرض وجوده، فالاستدلال به محتمل، وهو على خلاف مدعاهم، فإن مذهبهم سقوط الحد بشرط أن لا يكون الإمام مع العسكر،

1 انظر: إعلام الموقعين 3/7، 8.

2 انظر: نصب الراية 3/343.

3 انظر: فتح القدير 5/47.

ص: 352

والحديث لا إشارة فيه إطلاقا إلى وجوب إقامة الحد مع وجود الإمام في المعسكر في دار الحرب، بل ينافيه، وكذلك الحديث لا تثبت به دعوى سقوط الحد من أصلها، لأن عدم إقامة الحد في دار الحرب لا تستلزم سقوطه، بل تحتمل تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

ومع هذا الاحتمال يسقط به الاستدلال، بل أن معناه في تأخير الحد أظهر، ويقوي هذا المعنى الآثار المروية عن بعض الصحابة رضي الله عنهم في تأخير الحد، إذا كان مرتبكا في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

وبهذا يبطل استدلال الحنفية بهذا الحديث رواية ودراية.1

2-

وكذلك حديث بسر بن أرطأة، أخرجه الترمذي، وقال غريب2، وسكت عنه أبو داود3، وبسر راوي الحديث اختلف في صحبته.4

1 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 62، 63.

2 انظر: سنن الترمذي 4/53.

3 انظر: سنن أبي داود 4/563.

4 الإصابة 1/152، فقال يحي بن معين:"بسر رجل سوء"، قال المنذري:"وهذا يدل على أنه عنده لا صحبة له"

وقال البيهقي: "وذلك لما اشتهر من سوء فعله في قتال أهل الحرة. نيل الأوطار 7/137، والسنن الكبرى 9/104، 105. وقد تكلم في عدالة بسر بكلام خشن، ذكره الذهبي في الميزان 1/309، وابن حجر في الإصابة 1/152، والشوكاني في نيل الأوطار 7/137.

ص: 353

ولكن مع هذا الخلاف في صحة الحديث، وصحبة راويه.. أقول:

إن المنع من إقامة القطع في دار الحرب لا يستلزم سقوطه، بل يستلزم تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام، وهذا هو الذي فهمه الصحابة رضي الله عنهم كعمر وأبي الدرداء وحذيفة بن اليمان، وهم أقرب الأمة إلى فهم كلام الرسول صلى الله عليه وسلمو مراده من المنع عن إقامة الحد في أرض الأعداء.

3-

أما حديث عطية بن قيس، فهو أيضا لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم ولم تذكره كتب الصحاح والسنن المشهورة، ولم يذكره إلا محمد بن الحسن في السير الكبير، ولو كان صحيحا وثابتا عن النبي صلى الله عليه وسلم لذكرته الكتب المعينة بالأحاديث.

ولكني أقول: على فرض صحته وثبوته عن النبي صلى الله عليه وسلم فهو محمول على تأخير الحد إلى أن يرجع المحدود إلى دار الإسلام، لأن لفظ الحديث لم يقم عليه شيء مما أحدث في أرض العدو، وإذا لم يقم في أرض العدو، أخر إلى أرض الإسلام، لأن الحد لا يسقط عن المحدود، لا في دار الحرب، ولا في دار الإسلام، والمنع من إقامته في دار الحرب، لا يفهم منه إلاّ تأخيره حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

ب - مناقشة أدلتهم من المأثور:

1-

أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استدلوا به ضعيف الاسناد.1

وعلى فرض صحة هذا الأثر، فإنه لا دلالة لهم فيه، لأن عمر رضي الله عنه

1 لأنه من رواية الأحوص بن حكيم بن عمير العنسي، وهو ضعيف من قبل حفظه، كما قال ابن حجر. انظر: تقريب التهذيب 1/49.

ص: 354

منع من إقامة الحدود على المسلمين في أرض الأعداء، خشية أن يلحق المحدود بالكفار ويرتد عن الإسلام، فمن أجل ذلك منع من إقامة الحدود في دار الحرب، وأخرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام، ولم يسقط الحدود في دار الحرب كما ذهب إلى ذلك الحنفية.

وقال الإمام الشافعي في الأم: "وما روى عن عمر بن الخطاب، منكر غير ثابت، وهو بعيد أن يحتج بحديث غير ثابت"1

2-

أما ما روى عن زيد بن ثابت، فهو كذلك لم يثبت عنه، لأنه من رواية مكحول عنه، ومكحول لم ير زيد بن ثابت، كما قال الإمام الشافعي.2

وعلى فرض صحته، فهو محمول على أن المنع من إقامة الحدود في دار الحرب، ليس المراد منه إسقاطها، بل تأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام، لأن الحد لا يسقط عن مرتكب الجريمة في أي مكان كان، في دار الإسلام، أو في دار الحرب.

3-

وكذلك أيضا أثر أبي الدرداء رضي الله عنه لا تثبت به حجة، لأنه ضعيف الإسناد بأبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم الغساني الشامي، وهو ضعيف.3

1 انظر: الأم 7/355.

2 انظر: المرجع السابق 7/355، ونقله البيهقي عنه في السنن الكبرى 9/105.

3 انظر: تقريب التهذيب 2/398.

ص: 355

وعلى فرض صحته، فهو يحمل على أن مراد أبي الدرداء رضي الله عنه من منع إقامة الحدود في دار الحرب، هو ليس سقوطها بالكلية، بل تأخيرها إلى حين أن يرجع المحدود إلى دار الإسلام، كما جاء في بعض ألفاظه: حتى يقفل مخافة أن تحمله الحمية فيلحق بالكفار.1

وهذا هو الاحتمال الصحيح لهذا الأثر.

4-

أما أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه، فهو صحيح، لأن جميع رواته ثقات.2

ولكنه مع صحته لا دلالة لهم فيه على سقوط الحدود في دار الحرب، وإنما الذي يفهم من كلام حذيفة رضي الله عنه أن الحد لا يقام أمام الأعداء، لئلا يطمعوا فينا، وإنما يؤخر حتى الرجوع إلى دار الإسلام، لقوله:"لا نفعل ونحن بإزاء العدو، ومفهوم المخالفة، أنا إذا لم نكن بازاء الأعداء وبأرضهم، وكنا بازاء المسلمين وأرضهم عندئذ نقيم الحدود"

5-

أما قصة أبي محجن رضي الله عنه، فلا حجة للحنفية فيها، كما يقول ابن القيم، وإنما أسقط سعد الحد عن أبي محجن، لأنه رأى فيه بذل نفسه لله عز وجل والظفر بالأعداء، وبلائه في الإسلام البلاء الحسن، وظهور مخايل التوبة النصوح منه3، فمن أجل ذلك أسقط عنه الحد، أما أن يقال:

1 سنن سعيد بن منصور 2/196.

2 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 56.

3 أعلام الموقعين 3/7.

ص: 356

إنه أسقطه عنه لأن الجريمة ارتكبت في دار الحرب، فهذا لم يقل به أحد من العلماء.

وأيضا هذه الآثار التي استدلوا بها -على فرض صحتها- فإنه لا يمكن أن تقوى على معارضة عموم الآيات والأحاديث التي دلت على وجوب إقامة الحدود من غير فرق بين كون الجريمة ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الحرب.

ج - مناقشة دليلهم من المعقول:

أما قولهم بأن الحدود لا تقام في دار الحرب مخافة أن يلحق المحدود بالعدو أو يرتد عن الإسلام، فقد رد عليهم الإمام الشافعي بقوله:"فأما قولهم: يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له، ومن ترك الحد خوف أن يلحق المحدود ببلاد المشركين تركه في سواحل المسلمين ومسالحهم1التي اتصلت ببلاد الحرب مثل طرسوس2"3.

وأقول: إذا كانت هناك مصلحة في تأخير الحد إلى دار الإسلام كأن يخاف لحوق المحدود بدار الحرب، أو ارتداده عن الإسلام، فلا بأس بذلك تفاديا لهذه المخاوف التي قد تلحق بالمحدود.

1 المسالح: جمع مسلحة، وهي المكان الذي يكثر فيه السلاح، كالثغور ونحوها.

انظر: معجم لغة الفقهاء ص 429.

2 طرسوس: هي مدينة بثغور الشام بين أنطاكية وحلب وبلاد الروم.

انظر: معجم البلدان 4/28.

3 انظر: الأم 7/355.

ص: 357

2-

أما قولهم بأنه لا ولاية ولا قدرة للإمام على دار الحرب، والواجب مشروط بالقدرة:

نقول لهم: نسلم أن مناط إقامة الحد هي القدرة، لكن ما الذي أسقطه بالكلية، حتى ولو رجع المحدود إلى دار الإسلام؟، فإن المسلم إذا رجع إلى داره، فهو تحت ولاية وقدرة إمامه، فالولاية والقدرة ثابتة عليه، فإذا لم تقم الحدود، لا في دار الحرب، ولا إلى حين الرجوع إلى دار الإسلام، نكون أهدرنا نصوص الكتاب والسنة، الآمرة بإقامة الحدود، أما إذا قلنا بتأخير إقامة الحد عن مرتكبه في دار الحرب حتى يرجع إلى دار الإسلام، فقد راعينا المصلحة، ولم نهدر الحد بالكلية.1

3 -

أما قولهم: بأن المقصود من إقامة الحدود هو الانزجار والارتداع، وإذا أقيم الحد في دار الحرب لا يحصل هذا المقصود، بل ربما يحصل العكس، وهو اللحاق بالأعداء أو الارتداد عن الإسلام، فهذا استدلال وجيه، إلاّ أنه معارض بالعمومات من الكتاب، والسنة الدالة على إقامة الحدود في كل مكان، وفي أي زمان، فيكون فاسد الاعتبار، وأيضا الانزجار يحصل بإقامة الحد على مرتكبه في دار الحرب، عند الرجوع إلى دار الإسلام.

ثانيا: مناقشة أدلة المالكية والشافعية:

أ- بالنسبة لاستدلالهم بعموم الآيات والأحاديث الدالة على وجوب

1 الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 65.

ص: 358

إقامة الحدود في كل مكان من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب:

يرد عليه بأن هذا العموم معارض بالأدلة الدالة على تأخير الحد حتى الرجوع إلى دار الإسلام التي سبق ذكرها.

فإن المصلحة تقتضي تأخير الحد خوفا من لحوق المحدود بالكفار وارتداده عن الإسلام، ولمصلحة المسلمين تكثيرا لصفهم، ومحافظة على سلامة وحدتهم، وهذا ما فهمه الصحابة رضي الله عنهم.

يجاب عن ذلك: بأن الأدلة التي دلت على وجوب تأخيرها إلى دار الإسلام، لا تقوى على معارضة العموم، أما من ناحية عدم القدرة على إقامتها في دار الحرب أو كانت هناك مصلحة للمحدود في التأخير إلى دار الإسلام، فهذا ما قال به جميع الفقهاء، ما عدا الحنفية.

أما حديث عبادة بن الصامت فهو ضعيف الإسناد.1

وعلى فرض صحته، فالحديث لم يصرح بإقامته الحدود في دار الحرب، لأن نص الحديث:"وأقيموا الحدود في السفر والحضر"، والسفر قد يكون داخل الإسلام، فالمراد به إقامة الحدود في السفر، وهو معارض بحديث بسر بن أرطأة، وهو أقوى منه، ويمنع من إقامة الحدود في الغزو.2

1 انظر: مجمع الزوائد 6/252، وتقريب التهذيب 2/398، والفتح الرباني 14/75.

2 المبدع 2919، والمقنع بحاشيته 3/451.

ص: 359

وأجيب عن ذلك: بأننا لا نسلم ضعف الحديث، لأن أسانيد أحمد ثقات، ويشهد له ويعضده شواهد صحيحة، كعموم الآيات والأحاديث الدالة على إقامة الحدود من غير فرق بين القريب والبعيد، والمقيم والمسافر، وقال ابن حجر:"حديث عبادة أصح من حديث بسر، ويقدم عليه"1، ودعوى المعارضة لا تسلم أيضا، فقال الشوكاني:"لا معارضة بين الحديثين، لأن حديث بسر أخص مطلقا من حديث عبادة، فيبني العام على الخاص، وبيان أن السفر المذكور في حديث عبادة أعم مطلقا من الغزو المذكور في حديث بسر، لأن المسافر قد يكون غازيا وقد لا يكون، وأيضا حديث بسر في حد السرقة، وحديث عبادة في عموم الحد"2

أما حديث عبد الرحمن الزهري رضي الله عنه هو لا يقوى على معارضة حديث بسر بن أرطأة، الذي منع من إقامة الحدود في دار الحرب، وأيضا فإن الحديث لم يصرح بإقامة الحد، وإنما صرح بأن الرسول صلى الله عليه وسلم حثا عليه التراب، وأمر من عنده فضربوه بما كان في أيديهم، وهذا قد يكون من باب التعزير والتأديب.

ولكن يمكن أن يجاب عن هذا: بأن الأحاديث التي صرحت بإقامة الحدود في دار الحرب -ولو كان

1 الفتح الرباني 14/75،16/115.

2 انظر: نيل الأوطار 7/137، 138.

ص: 360

في إسنادها ضعف- فإنها تقوي بعضها البعض، ويشهد لها ويقويها عموم الآيات والأحاديث التي تدل لعمومها على وجوب إقامة الحدود في دار الحرب، وبهذا تسلم هذه الأحاديث من المعارضة وتبقى دلالتها ثابتة على وجوب إقامة الحدود في دار الحرب.

وبالنسبة لحديث بسر وغيره من الأحاديث والآثار، فإن المنع فيها من إقامة الحدود لا يستلزم سقوطها، وإنما يستلزم تأخيرها عند الرجوع إلى دار الإسلام، إذا كانت هناك مصلحة للمحدود، وهي مخافة أن يلحق بالعدو أو يرتد عن الإسلام.

ج - أما بالنسبة للآثار التي استدلوا بها:

فيرد عليها بما يلي:

1-

أثر يحي بن عروة ليس في دلالة على إقامة الحدود في دار الحرب، وإنما غاية ما دل عليه هو تأخيرها إلى دار الإسلام، كما يفهم ذلك من الأثر، وأيضا الإمام البيهقي ذكره في باب من زعم ألا تقام الحدود في أرض الحرب حتى يرجع.1

2-

وكذلك أثر الليث بن سعد، لا يقوى على معارضة الأحاديث والآثار الدالة على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب، حتى الرجوع إلى دار الإسلام، والآية التي استدل بها ليس له فيها دلالة.

1 انظر: السنن الكبرى للبيهقي 9/104.

ص: 361

أما قوله: ما رأينا ولا سمعنا أحدا ترك الحد في الحرب، فيقال له: أن الرسول صلى الله عليه وسلم منع من إقامة الحد في الغزو، كما في حديث بسر، وأمر بتأخير الحدود في دار الحرب، عمر وحذيفة بن اليمان وأبو الدرداء، وقد ترك سعد بن أبي وقاص إقامة الحد على أبي محجن رضي الله عنهم أجمعين وهذا كله يعتبر ناقصا لما قاله الليث بن سعد.

وأجيب عن ذلك بأن هذه الآثار تدل على وجوب إقامة الحدود في كل مكان، ويقويها ويشهد لها عموم الكتاب، والسنة.

د- أما دليلهم من المعقول:

فيرد عليه بما يلي: قولهم بأن فعل هذه الجرائم محرم في دار الحرب، كما هو محرم في دار الإسلام، يقال لهم: هذا بالاتفاق، ولم يخالف فيه أحد، وإنما الخلاف في العقوبة المشروعة لهذه الجرائم، هل تقام على ذلك الفعل في دار الحرب أم لا؟

فقال الحنفية: لا تقام وإنما تسقط لوجود الشبهة، وهو مخافة أن يلحق المحدود بالعدو ويرتد عن الإسلام، والحدود تدرأ بالشبهات.

أما الحنابلة فقالوا: تؤخر إلى دار الإسلام لمصلحة المحدود.

وأجيب عن ذلك: بأن العقوبة المشروعة لهذه الجرائم كالفعل، ولا تسقط عنه في دار الحرب، كما لا يسقط عنه الذنب.

ص: 362

هـ- أما قياس إقامة الحد في دار الحرب على إقامته في دار الإسلام: فهو قياس مع الفارق، لأن الولاية والقدرة على إقامة الحدود ثابتة للإمام ثبوتا كاملا في دار الإسلام، بخلاف دار الحرب، ولأنه توجد شبهة بإقامة الحد في دار الحرب، وهي مخافة أن يلحق المحدود بالكفار، بخلاف دار الإسلام، فلا شبهة عند إقامة الحدود فيها.

ثالثا: مناقشة أدلة الحنابلة ومن معهم الذين قالوا بتأخير إقامة الحدود في دار الحرب إلى دار الإسلام:

بالنسبة لاستدلالهم بحديث بسر بن أرطأة. يرد عليه من وجهين:

الوجه الأول: بأن الحديث مختلف في صحته، فقيل غريب، وقيل راوية لا صحبة له.

وقد سبق تفصيل ذلك عند مناقشة أدلة الحنفية.1

الوجه الثاني: لا دلالة لهم فيه على تأخير الحد إلى دار الإسلام، لأن ظاهر الحديث سقوط الحد لا تأخيره، والحال يقتضي البيان، لأن لفظ الحديث:"لا تقطع الأيدي في الغزو".2

1 تقدم ذلك في ص 627، 638.

2 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 44.

ص: 363

ويمكن أن يجاب عن هذه المناقشة من وجهين:

الوجه الأول: بالنسبة لدراسة الحديث الإسنادية، قد تبين صحة الإسناد إلى بسر وأن مدارك الكلام في هذا الحديث على بسر، وهو قد صرح بالسماع في هذا الحديث وغيره، فدل تصريحه بالسماع على صحبته وسماعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا صحح بعض الأئمة هذا الحديث.

فقال الذهبي: "الحديث جيد لا يرد هذا أحد، بمثل الكلام في بسر"1

وقال ابن حجر: "إسناده قوي"2

ولعل الظاهر من كلام ابن القيم على هذا الحديث هو تصحيحه.3

وقال الألباني: "إسناده صحيح على ما قيل في ابن أبي أرطأة"4

الوجه الثاني: أن الحديث لم ينه عن إقامة الحدود في دار الحرب، وإنما نهى عن إقامة حد القطع في ظرف خاص، وهو في حالة الغزو، فهذا نهى عن إقامة الحد في حالة الغزو، وليس إسقاطا له، ولأن بعض الصحابة رضي الله

1 نقلا عن فيض القدير شرح الجامع الصغير 6/417.

2 انظر: الإصابة 1/152.

3 انظر: إعلام الموقعين 3/615.

4 انظر: مشكاة المصابيح بتعليق الألباني 2/299، مع الحدود والتعزيرات ص 52.

ص: 364

عنهم الذين هم أعلم الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ومعرفة مراده صلى الله عليه وسلم من هذا الحديث.

أخروا إقامة الحدود عن مرتكبيها في الغزو في قضايا متعددة، كما تقدم أثر عمر وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم أجمعين.

فبهذا يكون الحديث سليم الدلالة رواية ودراية، لصراحة لفظه وصحة إسناده.1

ثانيا: مناقشة استدلالهم بالمأثور:

أ- أثر عمر بن الخطاب رضي الله عنه الذي استدلوا به، ضعيف الإسناد كما سبق.2

وأجيب عن ذلك: بأن هذا الأثر ليس فيه ضعف وخاصة أن له شواهد تقويه، كحديث بسر، وأثر أبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهما.

ب- وكذلك أيضا أثر أبي الدرداء لا دلالة فيه، لأنه ضعيف الإسناد كما سبق.3

ويجاب عن ذلك:

1 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 54.

2 انظر: تقريب التهذيب 1/49.

3 انظر: المرجع السابق 2/398.

ص: 365

بأن ضعف الإسناد لا يضعف من دلالة هذا الأثر، وبخاصة أن له متابعات وشواهد تقوية، ودلالته نصية على تأخير الحد كأثر عمر رضي الله عنهم.1

ج- أما أثر حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لا دلالة لهم فيه، لأنه لم ينص على تأخير الحد إلى دار الإسلام، لأن حذيفة لم يسقط الحد، وإنما استنكر إقامته في أرض العدو.

ويجاب عن ذلك: بأن استنكار حذيفة رضي الله عنه تعجيل إقامة الحد في أرض العدو، يدل على تأخير الحد، لأن العلة في استنكاره هي قربهم من العدو، خشية طمعه فيهم، فدل أنه بعد العودة يعود الحكم بالحد لزوال علته، وعليه فإن أثر حذيفة رضي الله عنه دل على تأخير إقامة الحدود في دار الحرب حتى الرجوع إلى دار الإسلام.2

ثالثا: مناقشة استدلالهم بالإجماع:

قولهم: بأن تأخير الحد إلى دار الإسلام عند وقوع الجريمة في دار الحرب، هو إجماع الصحابة، هذا منقوض، لأن الصحابة رضي الله عنهم لم يجمعوا على ذلك، كما قال الحنابلة، بل منهم المخالف، ولم يقل بتأخير الحد إلى دار الإسلام، إلا بعض الصحابة كعمر وأبي الدرداء وحذيفة رضي الله عنهم، فكيف يكون هذا إجماعا.

1 انظر: الحدود والتعزيرات ص 55.

2 انظر: الحدود والتعزيرات عند ابن القيم ص 55.

ص: 366

ويرد على هذا: بأن الإجماع المذكور -والله أعلم- هو الإجماع السكوتي1، فإن القول بهذا قد ورد عن جملة من الصحابة رضي الله عنهم في مواجهة آخرين منهم، فلم يظهر في سياق الأخبار خلاف أحد منهم، فصار إذا إجماعا على تأخير الحد.2

رابعا: مناقشة استدلالهم بالمعقول:

أما قولهم بأن الحد يؤخر مخافة أن يلحق المحدود بدار الكفر، ويحمله الغضب على الدخول في الكفر.

فيرد عليهم بما قاله الإمام الشافعي. حيث قال: "فأما قولهم بأن المحدود يلحق بالمشركين، فإن لحق بهم فهو أشقى له"3

خامسا: مناقشة استدلالهم بالقياس:

قياسهم تأخير الحد في دار الحرب إلى دار الإسلام، على تأخيره عن الحامل والمرضى ووقت المرض، قياس مع الفارق، لأن العلة الجامعة بينهما مختلفة، فالعلة من تأخير الحد في دار الحرب، هي مخافة أن يلحق المحدود ببلاد الكفر.

1 الإجماع السكوتي هو: أن يقول بعض المجتهدين قولا في حكم حادثة مثلا، ويسكت باقي المجتهدين مع اشتهار ذلك القول وانتشاره. انظر: روضة الناظر ص 79.

2 انظر: الحدود والتعزيرات ص 57.

3 انظر: الأم 7/355.

ص: 367

بينما العلة في تأخير الحد عن المريض والحامل، هي مخافة أن يموت المحدود.

وأيضا فإن تأخير الحد في دار الحرب يكون من دار إلى دار، بينما تأخير الحد عن المريض وغيره، يكون في نفس الدار، وبهذا يكون القياس غير صحيح، ويسقط الاستدلال به

أما استدلال ابن القيم رحمه الله بقصة أبي محجن رضي الله عنه على سقوط الحد عمن كانت حاله كحال أبي محجن رضي الله عنه له من الحسنات والنكاية بالعدو ما يغمر سيئته، وظهرت منه التوبة النصوح، فهذا في النفس منه شيء، لأن الحدود لا تسقط عن مرتكبيها أينما كانوا، ومهما فعلوا من الأعمال الحسنة، والظفر بالأعداء، كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث السابقة التي دلت بعمومها على وجوب إقامة الحدود في أي مكان، وفي كل وقت وعلى كل أحد مهما بلغت حسناته، فلم يرد ما يخصص هذا العموم، وأن ما ورد في هذه القصة لا يقوى على تخصيص عموم الكتاب والسنة، ويحتمل أن سعدا لم يسقط الحد عن أبي محجن، وإنما أخره حتى رجع إلى دار الإسلام، وعلى فرض أنه أسقطه عنه، فربما يكون هذا اجتهادا من سعد رضي الله عنه والله أعلم.

الرأي المختار:

وبعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم، وما طرأ عليها من مناقشات وردود، تبين لي أن الرأي الأولى بالاختيار هو:

ص: 368

الرأي القائل بوجوب إقامة الحدود في دار الحرب، ولا تسقط عن مرتكبيها، لا في دار الحرب، ولا في دار الإسلام، كما قال المالكية والشافعية.

ولكن إذا لم تكن هناك قدرة على إقامتها في دار الحرب، أو كانت هناك مصلحة للمحدود، فلا بأس بتأخيرها، كما قال فقهاء الحنابلة.

وقد اخترت هذا الرأي للأسباب التالية:

1-

لقوة ما استدلوا به، وهو عموم الآيات والأحاديث السابقة الدالة على وجوب إقامة الحدود في أي مكان من غير فرق بين دار الإسلام ودار الحرب، ولم يرد من النصوص ما يخصص هذا العموم.

2-

لضعف ما استدل به الحنفية، فلم يسلم لهم دليل صحيح، يدل على إسقاط الحدود التي ترتكب جرائمها في دار الحرب، وكذلك ما استدل به الحنابلة - إلا إذا لم يقدر على إقامتها في دار الحرب، أو إذا كانت هناك مصلحة للمحدود - فهذا دليل قوي في التأخير.

3-

ولأن الجريمة شر وفساد في الأرض، وهذا الوصف لاصق بها ولا ينفك عنها أينما كان محل ارتكابها، فجريمة الزنى مثلا، لا يتصور إنفكاكها عن الفساد والشر، سواء ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الحرب، وحيث أن وصف الفعل بالإجرام يبقى قائما، فلا بد أن يترتب عليه أثره، وهو العقاب، وتعذر العقاب المانع لا يسقط العقاب، وإنما ينتظر إمكان استيفائه، كالمدين إذا تعذر استيفاء الدين منه لإفلاسه أو

ص: 369

لغيبته أو لهربه، فإن الدين لا يسقط، وإنما يتأخر الاستيفاء، فكذلك إذا تعذر استيفاء الحدود في دار الحرب، فلا تسقط، وإنما تؤخر إلى دار الإسلام.1

4-

وللحرص على الفضيلة والشرف والأمانة وحفظ النفس، وحتى لا يفسح المجال أمام ضعاف الإيمان الذين ينتهزون الفرص للقيام بأعمال إجرامية على العرض والمال، ترجع نتائجها على المجتمع الإسلامي، وخصوصا في هذا الزمان الذي سهل فيه الانتقال والسفر إلى ديار الكفار بأبسط الطرق، لتقدم وسائل النقل الحديثة، كالطائرات والقاطرات وغيرها، فقد يعمل هؤلاء المفسدون أعمالهم الإجرامية ويتذرعون بما جاء في المذهب الحنفي، فيعم الفساد والخراب، ويستفحل الشر.

وللأسف أن الذين يقومون بهذه الأعمال يمثلون الإسلام والمسلمين، فتنعكس صورة غير طيبة عن الإسلام بسبب هذه الأعمال، فربما يظن أهل الكفر أن الإسلام يبيح هذه الأشياء، ولم يورد لها عقوبة رادعة، ولكن سدا لهذا الباب، نقول بوجوب إقامة الحدود في دار الكفر، حربية، كانت، أو غير حربية، حسب الاستطاعة والقدرة، أما إذا انتفت، فلا بأس بتأخيرها، حتى الرجوع إلى دار الإسلام.

5-

ولأن في الأخذ بهذا الرأي - وهو وجوب إقامة الحدود في دار الحرب حسب القدرة، ولا بأس بتأخيرها إلى دار الإسلام إذا كانت

1 انظر: أحكام الذميين والمستأمنين في دار الإسلام ص 221.

ص: 370

هناك مصلحة- جمعا بين الأدلة وعملا بكل ما ورد منها في هذه المسألة، والعمل بجميع الأدلة أولى من العمل بالبعض وإهمال البعض الآخر.

6-

ولأن الإسلام دين العزة والكرامة، لا يجيز لأبنائه التردي في الفواحش والمفاسد، ولا يرضى لهم الانحلال من أخلاقهم ومعتقداتهم بمجرد مغادرتهم دار الإسلام، في الوقت الذي يجب أن يكونوا فيه القدوة الحسنة، والمثل الأعلى في التحلي بآداب الإسلام والتزام أحكامه في ديار الكفار التي يسافرون إليها، لأن أعداء الإسلام ينظرون إلى المسلمين المنحرفين أخلاقيا على أنهم هم أهل الإسلام، وهذا له الأثر السيئ في نفوس الذين يريدون الدخول في الإسلام، لأنهم هم القدوة التي يقتدون بها، والمجرم والفاسد لا يكونان مثلا أعلى يقتدى بهما، بل إن المسلمين بأعمالهم الإجرامية -التي يمكن أن تحدث - في دار الكفر، يصدون عن سبيل الله، وعن طريق الهدى، وفي إهمالهم من تطبيق حدود الله عليهم، تشجيع لغيرهم من أبناء الإسلام الذين يغادرون بلادهم للتحلل من أخلاق الإسلام، والبعد عن منهجه، وعلى العكس من ذلك، وهو إقامة الحدود عليهم أمام أعداء الإسلام ليعرفوا أن الإسلام شرع العقوبة الرادعة لمثل هذه الجرائم، وأنه دين العدالة، والدين الصحيح إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وأخيرا نقول: إنه يجب إقامة الحدود في كل مكان، من غير فرق بين دار الإسلام

ص: 371

ودار الحرب، وينطبق هذا الحكم على ديار الكفار في هذا الزمان، الحربية وغير الحربية.

فالمسلم الذي يرتكب جرائم الزنا أو السرقة أو شرب الخمر أو غيرها في ديار الكفار في هذا الزمان، يجب إقامة الحد عليه، بحسب القدرة والاستطاعة على إقامته، والتي قد تكون متيسرة في دار الكفر غير الحربية -دار العهد- للعهد الذي بين أهلها وبين المسلمين، ولا يحتاج إلى تأخير حتى الرجوع إلى دار الإسلام، أما إذا لم يستطع إمام المسلمين إقامة الحدود في ديار الكفار، وبخاصة الحربية منها، لعدم وجود العلاقة بينها وبين الدول الإسلامية، فلا بأس بتأخيرها حتى رجوع مرتكبيها إلى دار الإسلام، فيقيمها عليهم ولا تسقط عنهم بأية حال من الأحوال، سواء ارتكبت في دار الإسلام، أو في دار الكفر.

وبناء على هذا الاختيار يتضح لي أن اختلاف الدار لا أثر له في إسقاط الحدود عن مرتكبي الجرائم في دار الكفر، سواء كانت حربية، أو غير حربية، فالحدود كما يجب إقامتها في دار الإسلام، فكذلك يجب إقامتها في دار الكفر، ولا يؤثر اختلاف الدار إلا من ناحية التأخير، فالإمام إذا لم يقدر على إقامة الحدود في ديار الكفار، فلا بأس بتأخيرها حتى الرجوع إلى دار الإسلام لأنه لا سلطة ولا قدرة لإقامتها في دار الكفر.

ص: 372