الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المبحث الثالث: أثره في إقامة حد السرقة على المستأمنين في دار الإسلام
إن جريمة السرقة من الجرائم المحرمة البشعة، وتنشر الفساد في الأرض.
وقد ثبت النهي عنها وأنها من الجرائم المحرمة بالأدلة القاطعة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسل وإجماع المسلمين.
فدليل تحريمها من الكتاب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} .1
فقد أمر الله عزوجل بقطع يد السارق، ولو لم تكن السرقة محرمة وفاعلها قد ارتكب كبيرة من الكبائر، لما أرم الله عزوجل بقطع يد السارق بتلك الجريمة.
ووصف هذه العقوبة بالشدة، ووسمها بالنكال، دليل أيضاً على فظاعة هذا الجرم، وعظم ذنب فاعله، ومثل هذا العقاب لا يكون إلا فعل محرم فتكون السرقة محرمة.
أما دليل تحريمها من السنة فبما رَوَى أبو هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسل قال: "لعن الله السارق يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده".2
1 المائدة: 38.
2 أخرجه البخاري 4/174 بكتاب الحدود باب السرقة، ومسلم 3/1414 كتاب الحدود حديث رقم 1687.
واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، ولا يكون إلا على فعل محرم، فثبت بهذا أن السرقة من الجرائم المحرمة.
وأما الإجماع: فقد أجمعت الأمة الإسلامية على تحريم السرقة وأن عقوبة فاعلها قطع يده.1
أما السرقة من المستأمن في دار الإسلام فلا تخلو من حالتين:
الحالة الأولى: أن يكون المستأمن هو السارق، سواء سرق من مال مسلم، أو من مال مستأمن آخر أو ذمي، فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد عليه إلى ثلاثة أقوال:
القول الأول: المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره من الكفار المقيمين في دار الإسلام لا يقام عليه حد السرقة.
وهو قول فقهاء الحنفية وأشهب2 من المالكية، والشافعية في أصح
1 الاختيار 4/103، وبداية المجتهد 2/447، وكفاية الأخيار 2/116، والمبدع 9/114.
2 هو أشهب بن عبد العزيز بن داود القيسي العامري الجعدي، أبو عمر ويقال اسمه مسكين، ثقة فقيه من أصحاب الإمام مالك، قال الإمام الشافعي ما أخرجت مصر ثقة أفقه من أشهب ولد سنة 145، وتوفي سنة 204 بمصر. تقريب التهذيب 1/80، والأعلام 1/333.
الأوجه وابن حامد1 من الحنابلة.2
القول الثاني: المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره، يقام عليه حد السرقة.
وهو مروي عن الأوزاعي وابن أبي ليلى.
وهو قول فقهاء المالكية، والحنابلة، ووجه للشافعية، ورواية لأبي يوسف من الحنفية.3
القول الثالث: أن المستأمن يقام عليه حد السرقة إذا اشترط عليه ذلك في عقد الأمان.
وهو وجه للشافعية حسنه النووي.4
1 هو الحسن بن حامد بن علي بن مروان البغدادي، إمام الحنابلة في زمنه، توفي سنة 403 وله الجامع في المذهب وشرح الخرقي. انظر: شذرات الذهب 4/166.
2 المبسوط 9/178، وبدائع الصنائع 7/71، وحاشية ابن عابدين 4/83، وتبيين الحقائق 3/185، ومنح الجليل 4/538، وروضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175، وقليوبي وعميرة 4/196، وتكملة المجموع للمطيعي 19/9، والمبدع 9/135، والإنصاف 10/281.
3 الكافي لابن عبد البر 2/1080، والمدونة 6/168، والشرح الصغير 4/405، والجامع لأحكام القرآن 6/168، والإنصاف 10/281، والمبدع 9/135، والمغني 8/401، وكشاف القناع 6/142، وروضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175، والمبسوط 9/178، وبدائع الصنائع 7/71.
4 روضة الطالبين 10/142، والمغني المحتاج 4/175.
الأدلة:
أولاً: أدلة أصحاب القول الأول: استدلوا بما يلي:
1-
أن المستأمن عندما يسرق من مال المسلم أو غيره في دار الإسلام توفرت فيه شبهة الإباحة، لأنه لم يلتزم بأحكام الإسلام كلها، فيعتقد أن ذلك مباحاً له، وهذه شبهة مسقطة للحد لأن الحدود تدرأ بالشبهات.1
ورد على ذلك: بأن المستأمن بمجرد عقد الأمان فقد التزم بأحكام الإسلام.
فيما يرجع إلى المعاملات والحدود، لأنه سيعصم دمه وماله في مقابل الالتزام بهذه الأحكام، ولو ترك المستأمن يدخل دار الإسلام هكذا بدون التزام لأحكام الإسلام، لما كان لعقد الأمان فائدة، وانتفت الحكمة من جوازه، لأن من أهم الحكم التي شرع الله من أجلها عقد الأمان هو الالتزام بأحكام الإسلام، للإطلاع على محاسنه وعدالته، مما يكون سبباً في اعتناقه.
وبما انه مشروط عليه الالتزام بأحكام الإسلام العامة، تنتفي شبهة الإباحة التي يعتقدها، كما قال الحنفية.
2-
أن حد السرقة الغالب فيه أنه حق لله تعالى، والمستأمن لم يلتزم
1 بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181.
الأحكام التي هي حقوق لله تعالى، كحد السرقة، فمن أجل ذلك لا يقام عليه الحد، بخلاف الأحكام التي هي حقوق للعباد، فإن المستأمن يؤاخذ بها عليه ويقام عليه الحد إذا ارتكب موجبها كالقذف.1
ويرد على ذلك بأن هذا الاستدلال فيه ضعف لأن حق الله تعالى هو حق المجتمع كما يقول الأحناف أنفسهم.2 وإنما نسب إلى الله تعالى لعظم خطره وشأنه، فلا يكون الحق سبباً في إسقاط حد السرقة عن المستأمن.
ثانياً: أدلة أصحاب القول الثاني: استدلوا بالكتاب، والسنة، والمعقول، والقياس.
أ - دليلهم من الكتاب:
عموم النصوص الموجبة لقطع بد السارق من غير فرق بين المسلم وغيره كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} 3 الآية.
فلفظ السارق في الآية عام يشمل المسلم وغير المسلم كالمستأمن في دار الإسلام.
ب - دليلهم من السنة:
هو عموم الأحاديث التي تأمر بقطع بد السارق المسلم وغيره.
1 نفس المراجع السابقة.
2 المبسوط 9/56.
3 المائدة: 38.
ومنها: قوله صلى الله عليه وسل في حديث عائشة رضي الله عنها: "تقطع يد السارق في ربع دينار".1 فلفظ السارق في الحديث عام في المسلم وغيره.
ج - دليلهم من المعقول: من خمسة أوجه:
1-
أن المسلم إذا سرق من مال المستأمن يقام عليه الحد، فإقامة الحد على المستأمن إذا سرق المسلم أو غيره في دار الإسلام من باب أولى.
2-
أن المستأمن ملتزم لأحكام الإسلام مدة إقامته بدار الإسلام فصار كالذمي، والذمي يقام عليه الحد بالاتفاق فكذلك المستأمن. 2
وفي هذا يقول السرخسي: "المستأمن ملتزم للأحكام فيما يرجع إلى المعاملات والعقوبات، فيعاقب بارتكاب أسباب العقوبات".3
3-
أن السرقة من الفساد في الأرض، فلا بد من عقاب زاجر يمنع كل أحد تسول له نفسه ارتكاب هذه الجريمة البشعة في دار الإسلام.
4-
أن العصمة التي للمسلم بسبب إسلامه، وللذمي بعقد الذمة موجودة في المستأمن بعقد أمانه المؤقت، الذي أعطاه حق الإقامة المؤقتة في
1 أخرجه البخاري 4/173 كتاب الحدود باب قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} ، ومسلم 3/1312 كتاب الحدود باب حد السرقة 9/56 حديث رقم 1684.
2 المبسوط 9/56 ومنح الجلي 4/538 ومغني المحتاج 4/175 وكشاف القناع 6/142، والمبدع 9/135، والإنصاف 10/281.
3 انظر: المبسوط 9/56.
دار الإسلام، وحد السرقة يقام على المسلم والذمي بالاتفاق، لالتزامهما أحكام الإسلام فكذلك المستأمن، يقام عليه الحد بجامع العصمة في دار الإسلام والتزام الأحكام، وإلا لما كان لعقد الأمان فائدة تعود على المسلمين إذا لم يلتزم أحكامهم.
5-
أن إفساد المال يحصل بسرقة المستأمن كما يحصل بسرقة المسلم والذمي سواء بسواء، فلذا يقام عليه الحد، لأن في ذلك درءاً لكثير من المفاسد.1
د - دليلهم من القياس: من وجهين:
1-
القياس على حد القذف: قالوا: فكما يقام حد القذف على المستأمن القاذف للمسلم، صيانة للأعراض، فكذلك يقام عليه حد السرقة صيانة للأموال.
2-
القياس على القصاص: قالوا: فكما يقتص للمسلم من المستأمن إذا جنى عليه حفظاً للأرواح، فكذلك تقطع يده إذا سرق ماله حفظاً للأموال.2
ثالثاً: أدلة أصحاب القول الثالث: استدلوا بالمعقول فقالوا:
1 منح الجلي 4/38، والخرشي 8/102، ومغني المحتاج 4/175، والمغني 8/268، والمبدع 9/135، والفروع 6/134، وكشاف القناع 6/142، والمبسوط 9/56.
2 المغني 8/268، والمبدع 9/135، والفروع 6/134، وكشاف القناع 6/142.
إن المستأمن إذا شرط عليه ذلك في العقد يقام عليه الحد، لأنه التزم أحكام الإسلام، والتي منها إقامة الحدود عليه كحد السرقة، أما إذا لم يشترط عليه ذلك في العقد فلا يقام عليه الحد، لعدم التزامه لأحكام الإسلام.1
ويرد على ذلك بأن المستأمن بمجرد عقد الأمان فهو ملتزم لأحكام الإسلام، اشترط عليه ذلك أولم يشترط، لأن من أهم شروط عقد الأمان هو الالتزام بالأحكام الإسلام العامة.
الرأي المختار:
وبعد ذكر آراء الفقهاء وأدلتهم، ما ورد عليها من مناقشات، يتضح لي أن الرأي الثاني القائل بإقامة الحد على المستأمن إذا سرق في دار الإسلام هو الرأي المختار والذي ينبغي المصير إليه. وذلك للأسباب الآتية:
1-
لأن أدلة المخالفين ليست قوية، بينما أدلة من قال بوجوب إقامة حد السرقة على المستأمن إذا سرق في دار الإسلام، قوية.
2-
ولأن السرقة من الفساد في الأرض، وأضرار هذه الجريمة ومفاسدها لا تنتفي إذا كان مرتكبها مستأمناً، فيقام عليه الحد صيانة لدار الإسلام من هذا الفساد، وحفظاً لأموال المسلمين وغير المسلمين المقيمين في دار الإسلام، ومنعاً لانتشار الجرائم فيها.
وردعاً وزجراً للمجرمين، وتحقيقاً للأمن على النفس والمال والعرض لكل فرد من الأفراد.
1 روضة الطالبين 10/142، ومغني المحتاج 4/175.
3-
ولأن الأصل في الشريعة الإسلامية العموم، فتطبق ما أمكن التطبيق، وتطبيقها على المستأمن ميسور في دار الإسلام، لثبوت ولاية الإمام على من فيها من المستأمنين، فيجب تطبيق العقوبات الشرعية على من يرتكب الجرائم في دار الإسلام مسلماً كان أو غير مسلم صيانة لها ومحافظة على من فيها.
أما الحالة الثانية: فهي أن يكون المستأمن هو المسروق سواء كان السارق له مسلماً أو مستأمناً آخر:
فقد اختلف الفقهاء في وجوب إقامة الحد على المسلم أو غيره إذا سرق من مال المستأمن في دار الإسلام إلى قولين:
القول الأول: يقام الحد على السارق من مال المستأمن مسلماً كان السارق أو ذمياً أو مستأمناً آخر.
وهو قول فقهاء المالكية والحنابلة وزفر من الحنفية.1
القول الثاني: لا يقام الحد على المسلم أو غيره إذا كان المسروق هو المستأمن.
وهو قول فقهاء الحنفية ما عدا زفر وبه قال الشافعية.2
1 انظر: المدونة 6/291، والخرشي 8/96، والمنح الجليل 4/524، وبلغة السالك 2/428، والمغني 8/369، والمبدع 9/135، والإفصاح 2/261، وكشاف القناع 6/142، والمبسوط 9/181، وبدائع الصنائع 7/71.
2 انظر: بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/18، وحاشية رد المحتار 4/84، ومغني المحتاج 4/175، وتحفة المحتاج 9/150، ونهاية المحتاج 7/440، والمهذب 2/277، وقليوبي وعميرة 4/196، والإقناع 2/ 193.
الأدلة:
استدل أصحاب القول الأول بما يلي:
1-
أن مال المستأمن معصوم بالأمان، بدليل وجوب ضمانه بالإتلاف، فيقام الحد على سارقه مسلماً كان أو غيره.1
2-
أن المسلم سرق مالاً معصوماً من حرز مثله كسارق مال الذمي، وسارق مال الذمي يقطع لأنه استفاد العصمة المؤبدة بعقد الذمة فكذلك سارق المستأمن، لأنه معصوم عصمة مؤقتة، وهي تقتضي المحافظة على ماله من الاعتداء عليه في دار الإسلام حتى يرجع إلى داره.2
واستدل أصحاب القول الثاني بما يلي:
1-
أن المستأمن لا يقام عليه الحد إذا سرق مال المسلم أو الذمي، فكذلك لا يقام الحد على المسلم أو غيره إذا سرق من ماله من باب أولى، ولأنه لم يلتزم الأحكام أشبه الحربي3.
يرد على ذلك بأنا لا نسلم بعدم قطع المستأمن إذا سرق من مال المسلم أو غيره، بل دلت الأدلة على أنه يقام عليه حد السرقة إذا سرق
1 انظر: كشاف القناع 6/142، والمبدع 9/135، والشرح الكبير 4/336 والخرشي 8/96، وبدائع الصنائع 7/71.
2 بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181، والمغني 8/269.
3 انظر: مغني المحتاج 4/175، والمهذب 2/336، والإقناع للشربيني 2/193.
من مال المسلم أو غيره فكذلك يقام الحد على سارق ماله لأنه معصوم بالأمان.1
2-
أن المسلم سرق مالاً فيه شبهة الإباحة لأن الحربي المستأمن من أهل دار الحرب، وإنما دخل دار الإسلام ليقضي حاجته ثم يعود إلى داره، فكونه من أهل دار الحرب يورث شبهة الإباحة في ماله، ولهذا لا يقتل المسلم به نظراً لشبهة الإباحة في دمه، بخلاف الذمي فإنه من أهل دار الإسلام ومعصوم الدم والمال عصمة مؤبدة ليس فيها شبهة الإباحة.2
يمكن الرد على ذلك: بأننا لا ننكر أن المستأمن من أهل دار الحرب، وهذا لا يمنع من إقامة الحد على سارق ماله لأنه بمجرد عقد الأمان فقد عصم ماله ودمه، والعصمة تقتضي المحافظة على ماله من الاعتداء عليه، والمحافظة لا تتحقق إلا إذا أقيم الحد على من يسرق ماله.
ولو قلنا بعدم إقامة حد السرقة على من سرق مال المستأمن لسوينا بينه وبين الحربي غير المستأمن، وهذا يتنافى مع المبادئ والأسس التي تقوم عليها الشريعة، وهي عدم المساواة بين الحربية والمستأمن.
الرأي المختار:
بعد عرض آراء الفقهاء وأدلتهم يتبين لنا أن الرأي القائل أن المسلم أو غيره إذا سرق من مال المستأمن يقام عليه حد السرقة - وذلك لما يلي:
1 انظر: بدائع الصنائع 7/71، والمبسوط 9/181، ومغني المحتاج 4/175.
2 انظر: المصادر السابقة.
1-
لأن مال المستأمن معصوم بمجرد عقد الأمان، والعصمة لا تكون كافية إلا إذا أقيم حد السرقة على من يسرق ماله مسلماً كان أو غيره، وإلا لما كان للأمان فائدة.
2-
ولأن الغرض من إقامة الحدود الزجر والردع لمن يفعل هذه الجرائم والأخذ بهذا الرأي يحقق ذلك الغرض.
3-
ولأن المستأمن إذا سرق يقام عليه الحد، فيقابل هذا المحافظة على ماله، وحمايته من الاعتداء عليه، والحماية لا تكون كافية إلاّ إذا أقيم حد السرقة على من يسرق ماله من المسلمين أو غيرهم.
وبهذا يتضح لنا أن اختلاف الدار له أثر في إقامة حد السرقة على المستأمنين المقيمين في دار الإسلام.
وكذلك أثر اختلاف الدار في إقامة حد السرقة على المسلم السارق من مال المستأمن، فمال المستأمن في درا الإسلام يختلف عنه في دار الكفر، فما له في دار الإسلام معصوم بأمانه، ويقام الحد على من سرقه أو اعتدى عليه، أما في دار الكفر فما له مباح، ولا يقام الحد على من سرقه.