الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
البرهان لا يفيد إلا الكليات
ويقولون: البرهان لا يفيد إلا الكليات. ثم أشرف الكليات هي العقليات المحضة التي لا تقبل التغيير والتبديل، وهي التي تكمل بها النفس فتصير عالمًا معقولًا موازيًا للعالم الموجود بخلاف القضايا التي تتبدل وتتغير. وإذا كان المطلوب هو الكليات العقلية التي لا تقبل التبديل والتغيير، فتلك إنما تحصل بالقضايا العقلية الواجب قبولها بل إنما يكون في القضايا التي جهتها الوجوب، كما يقال: كل إنسان حيوان وكل موجود فإما واجب وإما ممكن. ونحو ذلك من الكلية التي لا تقبل التغيير. ولهذا كانت العلوم ثلاثة إما علم لا يتجرد عن المادة لا في الذهن ولا في الخارج وهو الطبيعي وموضوعه الجسم وإما مجرد عن المادة في الذهن لا في الخارج وهو الرياضي كالكلام في المقدار والعدد، وإما يتجرد عن المادة منها وهو إلهي، وموضوعها الوجود المطلق بلواحقه التي تلحقه من حيث هو وجود، كانقسامه إلى واجب وممكن، وجوهر وعرض، وانقسام الجوهر إلى ما هو حال وإلى ما هو محل، وما ليس بحال ولا محل، بل هو يتعلق بذلك تعلق التدبير، وإلى ما ليس بحال ولا محل ولا هو متعلق بذلك. فالأول هو الصورة، والثاني هو المادة وهو الهيولي، ومعناه في لغتهم المحل، والثالث: هو النفس، والرابع: هو العقل. والأول: يجعله أكثرهم من مقولة الجوهر، ولكن طائفة من متأخريهم كابن سينا امتنعوا من تسميته جوهرًا، وقالوا: الجوهر ما إذا وجد، كان وجوده لا في موضوع، أي لا في محل، يستغني عن الحال فيه، وهذا إنما يكون فيما وجوده غير ماهيته، والأول ليس كذلك فلا يكون جوهرًا. وهذا مما خالفوا
فيه سلفهم، ونازعوهم فيه نزاعًا لفظيًا، ولم يأتوا بفرق صحيح معقول فإن تخصيص اسم الجوهر بما ذكروه أمر اصطلاحي، وأولئك يقولون بل هو (كل ما) ليس في موضوع كما يقول المتكلمون، كل ما هو قائم بنفسه، أو كل ما هو متحيز، أو كل ما قامت به الصفات، أو كل ما حمل الأعراض، ونحو ذلك. وأما الفرق المعنوي فدعواهم أن وجود الممكنات زائد على ماهيتها في الخارج باطل. ودعواهم أن الأول وجود مقيد بالسلوب أيضًا باطل، كما هو مبسوط في موضعه. والمقصود هنا الكلام على البرهان.
فيقال هذا الكلام وإن ضل به طوائف؛ فهو كلام مزخرف، وفيه من الباطل (ما يطول) وصفه، لكن ننبه هنا على بعض ما فيه، وذلك من وجوه:
الأول: أن يقال إذا كان البرهان لا يفيد إلا العلم بالكليات والكليات إنما تتحقق في الأذهان لا في الأعيان، وليس في الخارج إلا وجود معين، لم يعلم بالبرهان شيء من المعينات، فلا يعلم به موجود أصلًا، بل إنما يعلم به أمور مقدرة في الأذهان، ومعلوم أن النفس لو قدر أن كمالها في العلوم فقط، وإن كانت هذه قضية كاذبة، كما بسط في موضعه، فليس هذا علمًا تكمل به النفس، إذ لم تعلم شيئًا من الموجودات، ولا صارت عالمًا معقولًا موازيًا للعالم الموجود بل صارت عالمًا لأمور كلية مقدرة، لا نعلم بها شيئًا من العالم الموجود، وأي خير في هذا، فضلًا عن أن يكون كمالًا.
والثاني: أن يقال أشرف الموجودات هو واجب الوجود، ووجوده
معين لا كلي، فإن الكلي لا يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، وإن لم يعلم منه ما يمنع تصوره من وقوع الشركة فيه، بل إنما علم أمر كلي مشترك بينه وبين غيره لم يكن قد علم واجب الوجود، وكذلك الجواهر العقلية عندهم، وهي العقول العشرة أو أكثر من ذلك عند من يجعلها أكثر من ذلك عندهم كالسهر وردي المقتول وأبي البركات وغيرهما منهم، كلها جواهر معينة، لا أمور كلية، فإذا لم نعلم إلا الكليات لم نعلم شيئًا منها، وكذلك الأفلاك التي يقولون إنها أزلية أبدية، فإذا لم نعلم إلا الكليات، لم تكن معلومة، فلا نعلم واجب الوجود ولا العقول ولا شيئًا من النفوس ولا الأفلاك ولا العناصر ولا المولدات، وهذه جملة الموجودات عندهم، فأي علم هنا تكمل به النفس؟
الثالث: إن تقسيمهم العلوم إلى الطبيعي والرياضي والإلهي وجعلهم (الرياضي) أشرف من الطبيعي، والإلهي أشرف من الرياضي، هو مما قلبوا به الحقائق، فإن العلم الطبيعي وهو العلم بالأجسام الموجودة في الخارج؟ دأ حركاتها وتحويلاتها من حال إلى حال، وما فيها من الطبائع أشرف من مجرد تصور مقادير مجردة وأعداد مجردة، فإن كون الإنسان لا يتصور إلا شكلًا مدورًا أو مثلثًا أو مربعًا، ولو تصور كل ما في إقليدس، أو لا يتصور إلا أعدادًا مجردة ليس فيه علم بموجود في الخارج، وليس ذلك كمال النفس
ولولا أن ذلك طلب فيه معرفة المعدودات والمقدرات الخارجية التي هي أجسام وأعراض لما جعل علمًا.
وإنما جعلوا علم الهندسة مبدأ تعلم الهيئة ليستعينوا به على براهين الهيئة أو ينتفعوا به في عمارة الدنيا. هذا مع أن براهينهم القياسية لا تدل على شيء دلالة مطردة يقينية سالمة عن الفساد إلا في هذه المواد الرياضية. فإن علم الحساب الذي هو علم بالكم المنفصل، والهندسة التي هي علم بالكم المتصل، علم يقيني لا يحتمل النقيض البتة، مثل جمع الأعداد وقسمتها وضربها ونسبة بعضها إلى بعض. فإنك إذا جمعت مائة إلى مائة علمت أنهما مائتان، فإذا قسمتها على عشرة، كان لكل واحد عشرة، وإذا ضربتها في عشرة، كان المرتفع مائة، والضرب مقابل للقسمة، فإن ضرب الأعداد الصحيحة تضعيف آحاد أحد العددين بآحاد العدد الآخر، (والقسمة توزيع أحد العددين على آحاد العدد الآخر) فإذا قسم المرتفع بالضرب على أحد العددين، خرج المضروب الآخر، وإذا ضرب الخارج بالقسمة في المقسوم عليه خرج المقسوم، فالمقسوم نظير المرتفع بالضرب، فكل واحد من المضروبين نظير المقسوم والمقسوم ليه، والنسبة تجمع هذه كله، فنسبة أحد المضروبين إلى المرتفع، كنسبة الواحد إلى المضروب الآخر، ونسبة المرتفع إلى أحد المضروبين كنسبة الآخر إلى الواحد. فهذه الأمور وأمثالها مما يتكلم فيه الحساب أمر معقول كنسبة مما يشترك فيه ذوو العقول.
وما من أحد من الناس إلا يعرف منه شيئًا فإنه ضروري في العلم، ولهذا يمثلون به في قولهم: الواحد نصف الاثنين ولا ريب أن قضاياه كلية واجبة القبول لا تنتقض البتة.
وهذا كان مبدأ فلسفتهم التي وضعها فيثاغورث، وكانوا يسمون أصحابه أصحاب العدد، وكانوا يظنون أن الأعداد المجردة موجودة خارجة عن الذهن. ثم تبين لأفلاطون وأصحابه غلط ذلك. وظنوا الماهيات المجردة كالإنسان المطلق والفرس المطلق موجودات خارج الذهن وأنها أزلية أبدية ثم تبين لأرسطو وأصحابه غلط ذلك. فقالوا بل هذه الماهيات المطلقة موجودة في الخارج مقارنة لوجود الأشخاص، ومشى من مشى من أتباع أرسطو من المتأخرين على هذا، وهو أيضًا غلط. فإن ما في الخارج ليس بكلي أصلًا، وليس في الخارج إلا ما هو كلي في الذهن يوجد في الخارج، لكن إذا وجد في الخارج، لا يكون إلا معينًا، لا يكون كليًا، فكونه كليًا مشروط بكونه في الذهن، ومن أثبت ماهية لا في الذهن ولا في الخارج فتصور قوله تصورًا تامًا، يكفي في العلم بفساد قوله، وهذه الأمور مبسوطة في غير هذا الموضع.
والمقصود هنا أن هذا العلم وهو الذي تقوم عليه براهين صادقة، لكن لا تكمل بذلك نفس ولا تنجو به من عذاب ولا تنال به سعادة. ولهذا قال أبو حامد الغزالي وغيره في علوم هؤلاء: هي بين علوم صادقة لا منفعة فيها، ونعوذ بالله من علم لا ينفع، وبين ظنون كاذبة لا ثقة بها، وإن بعض الظن إثم، يشيرون بالأولى إلى العلوم الرياضية، وبالثاني إلى ما يقولونه في الآلهيات وفي أحكام النجوم ونحو ذلك. لكن تلتذ النفس بذلك كما تلتذ بغير ذلك، فإن الإنسان يلتذ بعلم ما لم يكن علمه، وسماع ما لم يكن سمعه، إذا لم يكن مشغولًا عن ذلك بما هو أهم عنده منه، كما قد يلتذ بأنواع من الأفعال التي هي من جنس اللهو واللعب. وأيضًا ففي الإدمان على معرفة ذلك تعتاد
النفس العلم الصحيح والقضايا الصحيحة الصادقة والقياس المستقيم. فيكون في ذلك تصحيح الذهن والإدراك. وتعود النفس أنها تعلم الحق وتقوله، لتستعين بذلك على المعرفة التي هي فوق ذلك.
ولهذا يقال: إنه كان أوائل الفلاسفة، أول ما يعلمون أولادهم العلم الرياضي وكثير من شيوخهم في آخر أمره إنما يشتغل بذلك. لأنه لما نظر في طرقهم وطرق من عارضهم من أهل الكلام الباطل، ولم يجد في ذلك ما هو حق، أخذ يشغل نفسه بالعلم الرياضي، كما كان يتحرى مثل ذلك من هو من أئمة الفلاسفة كابن واصل وغيره. وكذلك كثير من متأخري أصحابنا يشتغلون وقت بطالتهم بحكم الفرائض والحساب والجبر والمقابلة والهندسة ونحو ذلك لأن فيه تفريحًا للنفس، وهو علم صحيح لا يدخل فيه غلط. وقد جاء عن عمر بن الخطاب أنه قال إذا لهو تم فالهوا بالرمي وإذا تحدثتم فتحدثوا بالفرائض. فإن حساب الفرائض علم معقول مبني على أصل مشروع، فتبقى فيه رياضة العقل وحفظ الشرع. لكن ليس هو علمًا يطلب لذاته، ولا تكمل به النفس.
وأولئك المشركون كانوا يعبدون الكواكب ويبنون لها الهياكل ويدعونها بأنواع الدعوات. كما هو معروف من أخبارهم وما صنف على طريقهم من الكتب الموضوعة في الشرك والسحر ودعوة الكواكب
والعزائم والأقسام التي بها يعظم إبليس وجنوده. وكان الشيطان بسبب الشرك والسحر، يغويهم بأشياء هي التي دعتهم إلى ذلك الشرك والسحر، وكانوا يرصدون الكواكب ليتعلموا مقاديرها ومقادير حركاتها وما بين بعضها من الاتصالات. مستعينين بذلك على ما يرونه مناسبًا لهذا ولما كانت الأفلاك مستديرة، ولم يمكن معرفة حسابها إلا بمعرفة الهندسة وأحكام الخطوط المستقيمة والمنحنية، تكلموا في الهندسة لذلك، ولعمارة الدنيا. فلهذا صاروا يتوسعون في ذلك، وإلا فلو لم يتعلق بذلك غرض إلا مجرد تصور الأعداد والمقادير، لم تكن هذه الغاية مما يوجب طلبها بالسعي المذكور وربما كانت هذه غاية لبعض الناس الذين يتلذذون بذلك، فإن لذات النفوس أنواع، ومنهم من يلتذ بالشطرنج والنرد والقمار، حتى يشغله ذلك عما هو أنفع له منه. وكان مبدأ وضع المنطق من الهندسة، وسموه حدود، حدود تلك الأشكال لينتقلوا من الشكل المحسوس إلى شكل المعقول وهذا لضعف عقولهم وتعذر المعرفة عليهم إلا بالطريق البعيدة. والله تعالى يسر للمسلمين من العلم والبيان والعمل الصالح والإيمان ما برزوا به على كل نوع من أنواع جنس الإنسان. والحمد لله رب العالمين.
وأما العلم الإلهي الذي هو عندهم مجرد ن المادة في الذهن والخارج. فقد تبين لك أنه ليس له معلوم في الخارج، وإنما هو علم بأمور كلية مطلقة لا توجد كلية إلا في الذهن. وليس في هذا من كمال النفس شيء. وإن عرفوا واجب الوجود بخصوصه، فهو علم بمعين يمنع تصوره من وقوع الشركة
(فيه) وهذا مما يدل عليه القياس الذي يسمونه البرهان، فبرهانهم لا يدل على شيء معين بخصوصه، لا واجب الوجود ولا غيره، وإنما يدل على أمر كلي. والكلي لا يمنع تصوره من وقو الشركة فيه، وواجب الوجود يمنع العلم به من وقوع الشركة فيه. ومن لم يتصور ما تمتنع الشركة فيه؛ لم يكن قد رف الله، ومن لم يثبت للرب إلا معرفة الكليات، كما يزعمه ابن سينا وأمثاله، ولأن ذلك كمال للرب، فذلك يظنه كمالًا للنفس بطريق الأولى، سليمًا إذا قال: إن النفس لا تدرك إلا الكليات. وإنما يدرك الجزئيات البدن، فهذا في غاية الجهل وهذه الكليات التي لا تعرف الجزئيات الموجودة لا كمال فيها البتة والنفس إنما تحب معرفة الكليات، لتحيط بها بمعرفة الجزئيات، فإذا لم يحصل ذلك، لم تفرح النفس بذلك الوجه.
الرابع: أن يقال هب أن النفس تكمل بالكليات المجردة كما يزعمون، فما يذكرون في العلم الأعلى عندهم، الناظر في الوجود ولواحقه، ليس كذلك فإن تصور معنى الوجود فقط أمر ظاهر حتى يستغني عن الحد عندهم لظهوره فليس هو المطلوب. وإنما المطلوب أقسامه، ونفس أقسامه إلى واجب وممكن وجوهر وعرض وعلة ومعلول وقديم وحادث، هو أخص من مسمى الوجود. وليس في مجرد معرفة انقسام الأمر العام في الذهن إلى أقسام بدون معرفة الأقسام ما يقتضي علمًا كليًا عظيمًا عاليًا على تصور الوجود. فإذا عرفت الأقسام، فليس فيها ما هو علم بمعلوم لا يقبل التغيير والاستحالة، وليس معهم دليل أصلًا يدلهم على أن العالم لم يزل ولا يزال.
هكذا. وجميع ما يحتاجون به على دوام الفاعل والفاعلية والزمان والحركة وتوابع ذلك فإنما يدل على قدم نوع ذلك ودوامه، لا قدم شيء معين ولا دوام شيء معين. فالجزم بأن مدلول تلك الأدلة هو (العلم) بهذا أو شيء منه، جهل محض، لا مستند له، إلا عدم العلم بموجود غير هذا العالم. ودم العلم ليس علمًا بمعلوم.
ولهذا لم يكن ند القوم إيمان بالغيب الذي أخبرت به الأنبياء، فهو لا يؤمنون لا بالله ولا بملائكته ولا كتبه ولا رسله ولا البعث بعد الموت. وإذا قالوا: نحن نثبت العالم العقلي أو المعقول الخارج عن (العالم) المحسوس وذلك هو الغيب. فإن هذا وإن كان قد ذكره طائفة من المتكلمة فالمتفلسفة، خطأ وضلال، فإن ما يثبتونه من المعقولات، إنما يعود عند التحقيق إلى أمور مقدرة في الأذهان لا موجودة في الأعيان.
والرسل أخبرت عما هو موجود في الخارج، وهو أكمل وأعظم وجودًا مما نشهده في الدنيا. فأين هذا من هذا، وهم لم كانوا مكذبين بما أخبرت به الرسل، قالوا: إن الرسل قصدوا إخبار الجمهور بما يتخيل إليهم، لينتفعوا بذلك في العدل الذي أقاموه لهم، ثم منهم من يقول: إن الرسل عرفت ما عرفناه من نفي هذه الأمور. ومنهم من يقول بإن لم يكونوا يعرفون هذا وإنما كان كمالهم في القوة العملية لا النظرية. وأقل أتباع الرسل إذا تصور حقيقة ما عندهم وجده مما لا يرضى به قل تباع الرسل.
وإذا علم بالأدلة العقلية أن هذا العالم يمتنع أن يكون شيء منه قديمًا أزليًا، وعلم بأخبار الأنبياء المؤيدة بالعقل أنه كان قبله عالم آخر منه خلق، وأنه سوف يستحيل وتقوم القيامة، ونحو ذلك، علم أن عامة ما عندهم
من الأحكام الكلية ليست مطابقة، بل هي جهل لا علم، وهب أنهم لا يعلمون ما أخبرت به الرسل، فليس في العقل ما يوجب ما ادعوه من كون هذه الأنواع الكلية في هذا العالم أزلية أبدية لم تزل ولا تزال. فلا يكون العلم بذلك علمًا بكليات ثابتة، وعامة فلسفتهم الأولى وحكمتهم العليا من هذا النمط وكذلك من صنف على (طريقتهم) كصاحب المباحث المشرقية وصاحب حكمة الإشراق وصاحب دقائق الحقائق ورموز الكنوز وصاحب كشف الحقائق وصاحب الأسرار الحقيقية في العلوم العقلية، وأمثال هؤلاء مما لم يجرد القول لنصرر مذهبهم مطلقًا ولا تخلص من أشراك ضلالهم مطلقًا. بل شاركهم في كثير من ضلالهم، وشكلهم في كثير من محالهم، وتخلص من بعض وبالهم، وإن كان أيضًا لم ينصفهم في بعض ما أصابوا، وأخطأ لعدم علمه بمرادهم، أو بعدم معرفته أن ما قالوا (غير صواب، ثم إن هؤلاء إنما يتبعون كلام ابن سينا، وابن سينا تكلم في أشياء من الإلهيات والنبوات والمعاد والشرائع، ولم يتكلم فيه سلفه، ولا وصلت إليها عقولهم ولا بلغتها علومهم، فإنه استفادها من المسلمين، وإن كان إنما أخذ عن الملاحدة المنتسبين إلى المسلمين كالإسماعيلية
وإن كان أهل بيته وأتباعهم معروفين عند المسلمين بالإلحاد، وحسن ما يظهرون دين الرفض، وهم في الباطل يبطنون الكفر المحض.
وقد صنف المسلمون في كشف أسرارهم وهتك أستارهم كتبًا كبارًا وصغارًا وجاهدوهم باللسان واليد إذ كانوا بذلك حق من اليهود والنصارى ولو لم يكن إلا كتاب كشف الأسرار وهتك الأستار للقاضي أبي بكر محمد بن الطيب وكتاب عبد الجبار بن أحمد وكتاب أبي حامد الغزالي وكلام أبي إسحاق وكلام بن فورك والقاضي أبي يعلى والشهر ستاني. وغير هذا مما يطول وصفه.
والمقصود هنا أن ابن سينا أخبر عن نفسه أن أهل بيته وأباه وأخاه كانوا من هؤلاء الملاحدة، وإنه إنما اشتغل بالفلسفة بسبب ذاك، فإنه كان يسمعهم يذكرون العقل والنفس. وهؤلاء المسلمون الذين ينسب إليهم، وهم مع الإلحاد الظاهر والكفر الباطن، أعلم بالله من سلفه الفلاسفة
كأرسطو وأتباعه، فإن أولئك ليس عندهم من العلم بالله إلا ما عند عباد مشركي العرب ما هو خير منه.
وقد ذكرت كلام أرسطو نفسه الذي ذكره في علم ما بعد الطبيعة في مقالة اللام وغيرها، وهو آخر منتهى فلسفته، وبينت بعض ما فيه من الجهل. فإنه ليس في الطوائف المعروفين الذين يتكلمون في العلم الإلهي مع الخطأ والضلال مثل علماء اليهود والنصارى وأهل البدع من المسلمين وغيرهم أجهل من هؤلاء، وأبعد عن العلم بالله تعالى منهم.
نعم لهم في الطبيعيات كلام غالبه جيد. وهو كلام كثير واسع، ولهم عقول عرفوا بها ذلك، وهم قد يقصدون الحق، لا يظهر عليهم العناد، لكنهم جهال بالعلم الإلهي إلى الغاية ليس عندهم إلا قليل كثير الخطأ.
وابن سينا لما عرف شيئًا من دين المسلمين، وكان قد تلقاه عن الملاحدة وعمن هو خير منهم من المعتزلة والرافضة، أراد أن يجمع بين ما عرفه بعقله من هؤلاء، وبين ما أخذه من سلفه. ومما أحدثه مثل كلامه في النبوات وأسرار الآيات والمنامات، بل كلامه في بعض الطبيعيات وكلامه في واجب الوجود، ولا شيء من الأحكام التي لو أجب الوجود وإنما يذكرون العلة الأولى، ويثبتونه من حيث هو على غنائية للحركة الفلكية يتحرك الفلك للتشبه به فابن سينا أصلح تلك الفلسفة الفاسدة بعض إصلاح حتى راجت على من يعرف دين الإسلام من الطلبة النظار وصاروا يظهر لهم بعض ما فيها من التناقض، فيتكلم كل منهم بحسب ما عنده ولكن سلموا لهم أصولًا
فاسدة في المنطق والطبيعيات والإلهيات، ولم يعرفوا ما دخل فيها من الباطل فصار ذلك سببًا إلى ضلالهم في مطالب عالية إيمانية، ومقاصد سامية قرآنية، خرجوا بها عن حقيقة العلم والإيمان، وصاروا بها في كثير من ذلك لا يسمعون ولا يعقلون، بل يسفسطون في العقليات، ويقرمطون في السمعيات.
والمقصود هنا التنبيه على أنه لو قدر أن النفس تكمل بمجرد العلم. كما زعموه، مع أنه قول باطل فإن النفس لها قوتان: قوة علمية نظرية، وقوة إرادية عملية، فلابد من كمال القوانين بمعرفة الله وعبادته، بجمع محبته والذل له، فلا تكمل النفس فقط. إلا بعبادة الله وحده لا شريك له.
والعبادة تجمع معرفته ومحبته والعبودية له، وبهذا بعث الله الرسول، وأنزل الكتب الإلهية كلها يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له، وهؤلاء يجعلون العبادات التي أمرت بها الرسل. مقصودها إصلاح أخلاق النفس. لتستعد للعلم الذي زعموا أنه كمال النفس، أو مقصودها إصلاح المنزل والمدينة وهو الحكمة العلمية، فيجعلون العبادات وسائل محصنة إلى ما يدعونه من العلم. ولذلك يرون هذا ساقطًا عمن حصل المقصود، كما يفعل الملاحدة الإسماعيلية، ومن دخل في الإلحاد أو بعضه وانتسب إلى الصوفية أو المتكلمين أو الشيعة أو غيرهم فالجهمية قالوا. الإيمان مجرد معرفة الله. وهذا القول وإن كان خيرًا من قولهم فإنه جعله معرفة الله بما يلزم ذلك من معرفة ملائكته وكتبه ورسله. وهؤلاء جعلوا الكمال معرفة الوجود المطلق ولواحقه. وهذا أمر لو كان له حقيقة في الخارج، لم يكن كمالًا للنفس إلا معرفة خالقها سبحانه وتعالى فهؤلاء الجهمية من أعظم المبتدعة بل جعلهم غير واحد
خارجين عن الثنتين وسبعين فرقة كما يروى ذلك عن عبد الله بن المبارك ويوسف بن أسباط. وهو قول طائفة من المتأخرين من أصحاب أحمد وغيرهم، وقد كفر غير واحد من الأئمة كوكيع بن الجراح وأحمد بن حنبل وغيرهما من يقول هذا القول وقالوا هذا يلزم منه أن يكون إبليس وفرعون واليهود الذين يعرفونه؛ كما يعرفون أبناءهم، مؤمنين. فقول الجهمية خير من قول هؤلاء، فإن ما ذكروه هو أصل ما تكمل به النفوس. لكن لم يجمعوا بين علم النفس وبين إرادتها التي هي مبدأ القوة العلمية وجعلوا الكمال في نفس العلم، وإن لم يعضده قول ولا عمل، ولا اقتران به الخشية والمحبة والتعظيم وغير ذلك، مما هو من أصول الإيمان ولوازمه. وأما هؤلاء فبعدوا عن الكمال غاية البعد، والمقصود هنا الكلام على برهانهم فقط، وإنما ذكرنا بعض ما لزمهم بسبب أصولهم الفاسدة.
واعلم أن بيان ما في كلامهم من الباطل والنقص، لا يستلزم كونهم أشقياء في الآخرة، إلا إذا بعث الله إليهم رسولًا فلم يتبعوه، بل يعرف به أن من جاءته الرسل بالحق، فعدل عن طريقهم إلى طريق هؤلاء. كان من الأشقياء في الآخرة. والقوم لولا الأنبياء، لكانوا أعقل من غيرهم.
لكن الأنبياء جاءوا بالحق وبقاياه في الأمم وإن كفروا ببعضه. حتى مشركي العرب كان عندهم بقايا من دين إبراهيم فكانوا خيرًا من الفلاسفة المشركين الذين يوافقون أرسطو وأمثاله على أصولهم.
الوجه الخامس: أنه إن كان المطلوب بقياسهم البرهاني معرفة الموجودات الممكنة، فتلك ليس فيها ما هو واجب البقاء على حال واحد أزلاء وأبدًا. بل هي قابلة للتغير والاستحالة، وما قدر أنه من اللازم لموصوفه فنفس الموصوف ليس واجب البقاء. فلا يكون العلم به علمًا بموجود واجب الوجود، وليس لهم على أزلية شيء من العالم دليل صحيح، كما بسط في موضعه وإنما غاية أدلتهم، تستلزم دوام نوع الفاعلية ونوع المادة والمدة، وذلك ممكن بوجود عين بعد عين من ذلك النوع أبدًا، مع القول بأن كل مفعول محدث مسبوق بالعدم، كما هو مقتضي العقل الصريح والنقل الصحيح، فإن القول بأن المفعول المعين مقارن لفاعله أزلًا وأبدًا مما يقضي صريح العقل بامتناعه (في) أي شيء قدر فاعله، لا سيما إذا كان فاعلًا باختياره، كما دلت عليه الدلائل اليقينية، ليست التي يذكرها المقصرون في معرفة أصول العلم والدين، كالرازي وأمثاله، كما بسط في موضعه.
وما يذكرون من اقتران المعقول بعلته، فإذا أريد بالعلة، ما يكون مبتدعًا للمعلول فهذا (باطل بصريح العقل. ولهذا يقر بذلك جميع الفطر السليمة التي لم تفسد بالتقليد الباطل. ولما كان هذا مستقرًا في الفطر كان
نفس الإقرار بأنه خالق كل شيء، موجبًا لأن يكون ما سواه محدثًا، مسبوقًا بالعدم وإن قدر دوام الخالقية لمخلوق بعد مخلوق فهذا لا ينافي أن يكون خالقًا لكل شيء أو ما سواه محدث مسبوق بالعدم، ليس معه شيء سواه، قديم بقدمه، بل ذلك أعظم في الكمال والجود والإفضال. وأما إذا أريد بالعلة ما ليس كذلك كما يمثلون به من حركة الخاتم بحركة اليدو وحصول الشعاع عن الشمس فليس هذا من باب الفاعل في شيء بل هو من المشروط، والشروط قد يقارن المشروط وأما الفاعل فيمتنع أن يقارنه مفعوله المعين، وإن لم يمتنع أن يكون فاعلًا لشيء بعد شيء، فقدم نوع كقدم نوع الحركة. وذلك لا ينافي حدوث كل جزء من أجزائها، بل يستلزمه لامتناع قدم شيء منها بعينه.
وهذا مما عليه جماهير العقلاء من جميع الأمم حتى أرسطو وأتباعه، فإنهم وإن قالوا بقدم العالم، فهم لم يثبتوا له مبتدعًا، ولا علة فاعلية، بل علة غائية يتحرك الفلك للتشبه بها، لأن حركة الفلك إرادية.
وهذا القول وهو أن الأول ليس مبدعًا للعالم وإنما هو علة غائية للتشبه به، وإن كان في غاية الجهل والكفر، فالمقصود أنهم وافقوا سائر العقلاء في أن الممكن المعلوم لا يكون قديمًا بقدم علته، كما يقول ذلك ابن سينا وموافقوه.
ولهذا أنكر هذا القول ابن رشد وأمثاله من الفلاسفة الذين اتبعوا طريقة أرسطو وسائر العقلاء في ذلك سواه أما ما ذكره ابن سينا مما خالف به سلفه وجماهير العقلاء، وكان قصده أن يركب مذهبًا من مذاهب المتكلمين ومذهب سلفه، فيجعل الموجود الممكن معلول الواجب، مع كونه أزليًا قديمًا بقدمه. واتبعه على إمكان ذلك أتباعه في ذلك كالسهر وردي الحلبي والرازي والآمدي والطوسي وغيرهم. وزعم الرازي ما ذكره في أن القول يكون- المفعول المعلول للواجب بالذات يكون قديمًا، مما اتفق عليه الفلاسفة المتقدمون الذين نقلت إلينا أقوالهم كأرسطو وأمثاله. وإنما قاله ابن سينا وأمثاله والمتكلمون إذ قالوا بقدم ما يقوم بالرب من الصفات ونحوها فلا يقولون إنها مفعولة ولا معلولة لعلة فاعلة، بل الذات القديمة هي الموصوفة بتلك الصفات عندهم، فصفاتها من لوازمها يمتنع تحقق كون الواجب واجبًا قديمًا إلا بصفاته اللازمة له، كما قد بسط في موضعه. ويمتنع عندهم قدم ممكن يقبل الوجود والعدم مع قطع النظر عن فاعله. وكذلك أساطين الفلاسفة يمتنع عندهم قديم يقبل العدم، ويمتنع أن يكون الممكن لم يزل واجبًا سواه قيل إنه واجب بنفسه أو لغيره.
ولكن ما ذكره ابن سينا وأمثاله في أن الممكن قد يكون قديمًا واجبًا بغيره أزليًا أبديًا، كما يقولون في الفلك الذي هو في الإمكان يرد عليه من الأسئلة القادحة في قولهم ما لا يمكنهم أن يجيبوا عنه، كما بسط في موضعه.