الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[الدليل]
والمقصود هنا: أن المطلوب هو العلم والطريق إليه هو الدليل. فمن عرف دليل مطلوبه، عرف مطلوبه، سواء نظمه بقياسهم أم لا، ومن لم يعرف دليله لم ينفعه قياسهم. ولا يقال إن قياسهم يعرف صحيح الأدلة من فاسدها، فإن هذا إنما يقوله جاهل لا يعرف حقيقة قياسهم، فإن حقيقة قياسهم ليس فيه إلا شكل الدليل وصورته. وأما كون الدليل المعين مستلزمًا لمدلوله، فهذا ليس في قياسهم ما يتعرض له بنفي ولا إثبات، وإنما هذا بحسب علة بالمقدمات ولا فسادها. وإنما يتكلمون في هذا إذا تكلموا في مواد القياس وهو الكلام في المقدمات من جهة ما يصدق بها. [وكلامهم] في هذا فيه خطأ كثير، كما نبه عليه في موضع آخر.
والمقصود هنا أن الحقيقة المعتبرة في كل برهان ودليل في العالم هو ((اللزوم)) فمن عرف أن هذا لازم لهذا، استدل بالملزوم على اللازم. وإن لم يذكر لفظ ((اللزوم)) ولا تصور معنى هذا اللفظ. بل من عرف أن كذا لابد من كذا، أو أنه إذا كان كذا كان كذا، وأمثال هذا، فقد علم ((اللزوم)). كما يعرف أن كل ما في الوجود فهو آية لله، فإنه مفتقر إليه محتاج إليه لابد له منه فيلزم من وجوده وجود الصانع.
وكما يعلم أن المحدث لابد له من محدث، كما قال تعالى: (أم خلقوا
من غير شيء أم هم الخالقون). قال جبير بن مطعم: لما سمعت هذه الآية أحسست بفؤادي قد انصدع)). فإن هذا تقسيم حاضر يقول: أخلقوا من غير خالق خلقهم؟ ، فهذا ممتنع في بداية العقول. أم هم خلقوا أنفسهم؟ فهذا أشد امتناعًا، فعلم أن لهم خالقًا خلقهم. وهو سبحانه وتعالى ذكر الدليل بصيغة استفهام الإنكار، ليبين أن هذه القضية التي استدل بها فطرية بديهية مستقرة في النفوس، لا يمكن لأحد إنكارها، فلا يمكن صحيح الفطرة أن يدعي وجود حادث بدون محدث أحدثه، ولا يمكنه أن يقول: هذا أحدث نفسه. وكثير من النظار يسلك طريقًا في الاستدلال على المطلوب ويقول: لا يوصل إلى مطلوب إلا بهذا الطريق، ولا يكون الأمر كما قاله في النفي، وإن كان مصيبًا في صحة ذلك الطريق، فإن المطلوب كلما كان الناس إلى معرفته أحوج، يسر الله على عقول الناس معرفة أدلة له، فأدلة إثبات الصانع وتوحيده وأعلام النبوة وأداتها كثيرة جدًا، وطرق الناس في معرفتها كثيرة، وكثير من الطرق لا يحتاج إليه أكثر الناس، وإنما يحتاج إليه من لم يعرف غيره، أو من أعرض عن غيره.
وبعض الناس يكون كلما كان الطريق أدق وأخفى وأكثر مقدمات وأطول، كان أنفع له، لأن نفسه اعتادت النظر الطويل في الأمور الدقيقة. فإذا كان الدليل قليل المقدمات أو كانت جلية لم تفرح نفسه به، ومثل هذا قد تستعمل معه الطرق الكلامية المنطقية وغيرها لمناسبتها لعادته، لا لكون العلم بالمطلوب متوقفًا عليها مطلقًا، فإن من الناس من إذا عرف
ما يعرفه جمهور الناس وعمومهم أو ما يمكن غير الأذكياء معرفته، لم يكن عند نفسه قد امتاز عنهم بعلم. فيجب معرفة الأمور الخفية الدقيقة الكثيرة المقدمات.
ولهذا يرغب كثير من علماء السنة في النظر في العلوم الصادقة الدقيقة كالجبر والمقابلة وعويص الفرائض والوصايا والدور وهو علم صحيح في نفسه وعلم الفرائض نوعان: أحكام وحساب، فالأحكام ثلاثة أنواع، علم الأحكام علة مذهب بعض الفقهاء، وهذا أولها. ويليه علم أقاويل الصحابة والعلماء فيما اختلف فيه منها، ويليه علم أدلة ذلك من الكتاب والسنة.
وأما حساب الفرائض فمعرفة أصول المسائل وتصحيحها والمناسخات وقسمة التركات. وهذا الثاني كله علم معقول يعلم بالعقل كسائر حساب المعاملات وغير ذلك من الأنواع التي يحتاج إليها الناس، ثم قد ذكروا حساب المجهول الملقب بحساب الجبر والمقابلة وهو علم قديم، لكن إدخاله في الوصايا والدور ونحو ذلك، أول من عرف أنه أدخله فيها محمد بن موسى الخوارزمي وبعض الناس يذكر عن علي بن أبي طالب أنه تكلم فيه؛ وأنه تعلم ذلك يهودي، وهذا كذب على علي رضي الله عنه ((الدور)) يقال على ثلاثة أنواع:((الدور الكوني)) الذي يذكر في الأدلة العقلية أنه ((لا يكون هذا حتى يكون هذا))، وطائفة من النظار كانوا يقولون هو ممتنع، والصواب أنه نوعان كما يقوله الآمدي وغيره: دور قبلي ودور