الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقسام الدليل
فصل: وأيضًا فإنهم قسموا جنس الدليل إلى القياس والاستقراء والتمثيل: قالوا؛ لأن الاستدلال: إما أن يكون بالكلي على الجزئي، أو بالجزئي على الكلي، أو بأحد الجزئيين على الآخر. وربما عبروا عن ذلك بالخاص والعام فقالوا: إما أن يستدل بالعام على الخاص، أو بالخاص على العام، أو بأحد الخاصين على الآخر.
قالوا: والأول هو القياس. يعنون به قياس لشمول، فإنهم يخصونه باسم القياس. وكثير من أهل الأصول والكلام يخصون باسم القياس التمثيل. وأما جمهور العقلاء، فاسم القياس عندهم يتناول هذا وهذا.
وقالوا والاستدلال بالجزئيات على الكلي هو الاستقراء، وإن كان تامًا فهو الاستقراء التام، وهو يفيد اليقين، وإن كان ناقصًا، لم يفد اليقين. فالأول هو استقراء جميع الجزئيات، والحكم عليه بما وجد في جزئياته والثاني استقراء أكثرهما وذلك كقول القائل: الحيوان إذا أكل حرك فكه الأسفل، لأنا استقريناها فوجدناها هكذا، فيقال له التمساح يحرك الأعلى.
ثم قالوا: إن القياس ينقسم إلى اقتراني واستثنائي ما تكون النتيجة أو بعضها مذكورًا فيه بالفعل والاقتراني ما تكون فيه بالقوة، كالمؤلف من القضايا الحلية: كقولنا كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام والاستثنائي ما يؤلف من الشرطيات، وهو نوعان: أحدهما متصلة: كقولنا إن كانت
الصلاة صحيحة، فالمصلي متطهر. واستثناء عين المقدم، ينتج عين التالي، واستثناء نقيض التالي، ينتج نقيض المقدم. والثاني المنفصلة وهي إما مانعة الجمع والخلو، كقولنا العدد إما زوج وإما فرد. فإن هذين لا يجتمعان، ولا يخلو العدد عن أحدهما، وإنا مانعة الجمع فقط كقولنا هذا إما أسود وإما أبيض، أي لا يجتمع السواد والبياض. وقد يخلو المحل عنهما، وإما مانعة الجمع والخلو فهي الشرطية الحقيقية، وهي مطابقة للنقيض في العموم والخصوص ومانعة الجمع هي أخص من النقيضين فإن الضدين لا يجتمعان وقد يرتفعان وهما أخص من النقيضين. وأما مانعة الخلو فإنهما أعم من النقيضين.
وقد يصعب عليهم تمثيل ذلك بخلاف النوعين الأولين، فإن أمثالهما كثيرة. ويمثلونه بقول القائل: هذا راكب البحر، أولًا لا يغرق فيه، أي لا يخلو منهما، فإنه لا يغرق إلا إذا كان في البحر. فأما أن لا يغرق فيه، وحينئذ لا يكون راكبه وإما أن يكون راكبه وقد يجتمع أن يركب ويغرق. والأمثال كثيرة، كقولنا هذا حي، أو ليس بعالم، أو قادر أو سميع أو بصير أو متكلم فإنه إن وجدت الحياة، فهو أحد القسمين، وإن (عدمت) عدمت هذه الصفات. وقد يكون حيًا من لا يوصف بذلك، فكذلك إذا قيل هذا متطهر، أو ليس بمصل، فإنه إن عدمت الصلاة، عدمت الطهارة، وإن وجدت الطهارة، فهو القسم الآخر، فلا يخلو الأمر منهما. وكذلك كل عدم شرط ووجود مشروطه فإنه إذا وجد المر بين وجود المشروط وعدم الشرط، كان ذلك مانعًا من الخلو، فإنه لا يخلو
الأمر من وجود الشرط وعدمه. وإذا عدم، عدم الشرط، فصار الأمر لا يخلو من وجود المشروط وعدم الشرط.
ثم قسموا الاقتراني إلى الأشكال الأربعة لكون الحد الأوسط (إما) محمولًا في الكبرى موضوعًا في الصغرى وهو الشكل الطبيعي، وهو ينتج المطالب الأربعة الجزئي والكلي والإيجابي والسلبي. وإما أن يكون الأوسط محمولًا فيهما وهو الثاني ولا ينتج إلا السلب، وإما أن يكون موضوعًا فيهما ولا ينتج إلا الجزئيات، والرابع ينتج الجزئيات والسلب الكلي لكنه بعيد عن الطبع. ثم إذا أرادوا بيان الإنتاج الثاني والثالث وغير ذلك من المطالب، احتاجوا إلى الاستدلال بالنقيض والعكس عكس النقيض، فإنه يلزمه من صدق القضية كذب نقيضها، وصدق عكسها المستوى وعكس نقيضها فإذا صدق قولنا: ليس أحد من الحجاج بكافر صح قولنا ليس أحد من الكفار بحاج.
فنقول هذا الذي قالوه: إما أن يكون باطلًا، وإما أن يكون تطويلًا يبعد الطريق على المستدل فلا يخلو عن خطأ يصد عن الحق، أو طريق طويل يتعب صاحبه، حتى يصل إلى الحق. مع إمكان وصوله بطريق قريب كما كان يمثله بعض سلفنا بمنزلة من قيل له: أين أذنك؟ فرفع يد رفعًا شديدًا ثم أدارها إلى أذنه اليسرى، وقد كان يمكنه الإشارة إلى اليمنى أو اليسرى من طريق مستقيم. وما أحسن ما وصف الله به كتابه بقوله:
{إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم} ، فأقوم الطريق إلى أشرف المطالب ما بعث الله به رسوله.
وأما طريق هؤلاء فهي مع ضلالهم في البعض، واعوجاج طريقهم وطولها في البعض الآخر إنما يوصلهم إلى أمر لا ينجي من عذاب الله فضلًا عن أن يوجب لهم السعادة، فضلًا عن حصول الكمال للأنفس البشرية بطريقهم.
بيان ذلك أن ما ذكروه من حصر الدليل في القياس والاستقراء والتمثيل، حصر لا دليل عليه، بل هو باطل.
فقولهم أيضًا: إن العلم المصلوب لا يحصل إلا بمقدمتين لا يزيد ولا ينقص قول لا دليل عليه بل هو باطل؛ واستدلالهم على الحصر بقولهم: إما أن يستدل بالكلي على الجزئي أو بالجزئي على الكلي أو بأحد الجزئين على الآخر، والأول: هو القياس، والثاني، هو الاستقراء، والثالث، هو التمثيل.
فيقال لم تقيموا دليلًا على انحصار الاستدلال في الثلاث، فإنكم إذا عنتم بالاستدلال بجزئي على جزئي، قياس التمثيل، لم يكن ما ذكرتموه حاصرًا. وقد بقى الاستدلال بالكلي على الكلي الملازم له، وهو المطابق له، في العموم والخصوص، وكذلك الاستدلال بالجزئي على الجزئي الملازم له، بحيث يلزم من وجود أحدهما وجود الآخر ومن عدمه عدمه. فإن هذا ليس ما سميتموه قياسًا ولا استقراء ولا تمثيلًا، وهذه هي الآيات، وهذا كالاستدلال بطلوع الشمس على النهار، وبالنهار على طلوع الشمس، فليس هذا استدلالًا بكلي على جزئي، بل الاستدلال بطلوع معين على نهار معين (استدلال) بجزئي على جزئي وبجنس النهار
على جنس الطلوع واستدلال بكلي على كلي وكذلك الاستدلال بالكواكب على جهة الكعبة استدلال بجزئي على جزئي كالاستدلال بالجدي وبنات نعش والكوكب الصغير القريب من القطب الذي يسميه بعض الناس القطب، وكذلك الاستدلال بظهور كوكب على ظهور نظيره في العرض والاستدلال بطلوعه على غروب آخر وتوسط آخر، ونحو ذلك من الأدلة التي اتفق عليها الناس. قال تعالى {وبالنجم هم يهتدون} والاستدلال على المواقيت والأمكنة أمر اتفق عليه العرب والعجم وأهل الملل والفلاسفة، فإذا استدل بظهور الثريا على ظهور ما قرب منها مشرقًا ومغربًا ويمينًا وشمالًا من الكواكب، كان استدلالًا بجزئي لتلازمها، وليس ذلك من قياس التمثيل. فإن قضى به قضاء كليًا، كان استدلالًا بكلي على كلي وليس استدلالًا بكلي على جزئي، بل بإحدى الكليتين المتلازمتين على الأخرى.
ومن عرف مقدار أبعاد الكواكب بعضها عن بعض، وعلم ما يقارن منها طلوع الفجر، استدل بما رآه منها على ما مضى من الليل، وما بقي منه، وهو استدلال بأحد المتلازمين على الآخر. ومن علم الجبال والأنهار والترب استدل بها على ما يلازمها من الأمكنة. ثم اللزوم إن كان دائمًا، لا يعرف له ابتداء، بل هو منذ خلق الله الأرض كوجود الجبال والأنهار العظيمة النيل والفرات وسيحان وجيحان والبحر، كان استدلال مطردًا. وإن كان اللزوم أقل من ذلك مدة مثل الكعبة، شرفها الله تعالى، فإن الخليل بناها، ولم تزل معظمة لم يصل عليها جبار قط، استدل بها بحسب ذلك. فيستدل