الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كان حقًا فالعلم بالأعيان المعينة وبأنواع الكليات يحصل أيضًا في النفس بالبديهة والضرورة كما هو الواقع، فإن جزم العقلاء بالشخصيات من الحسيات، أعظم من جزمهم بكلية الأنواع أعظم من جزمهم بكلية الأجناس، والعلم بالجزئيات أسبق إلى الفطرة. فجزم الفطرة بها أقوى. ثم كلما قوي العقل، اتسعت الكليات وحينئذ فلا يجوز أن يقال: إن العلم بالأشخاص، وقوف على العلم بالأنواع والأجناس، ولا أن العلم بأنواع موقوف على العلم بالأجناس، بل قد يعلم الإنسان أنه حساس متحرك بالإرادة قبل أن يعلم أم كل إنسان كذلك ويعلم أن الإنسان كذلك قبل أن يعلم أن كل حيوان كذلك فلم يبق علمه بأن غيره من الحيوان حساس متحرك بالإرادة، موقوفًا على البرهان وإذا علم حكم سائر الناس وسائر الحيوان، فالنفس تحكم بذلك بواسطة علمها أن ذلك الغائب مثل هذا الشاهد، أو أنه يساويه في السبب الموجب لكونه (حساسًا) متحركًا بالإرادة ونحو ذلك من قياس التمثيل والتعليل الذي يحتج به الفقهاء في إثبات الأحكام الشرعية.
[مادة الأقيسة]
وهؤلاء يزعمون أن ذلك القياس إنما يفيد الظن، وقياسهم هو الذي يفيد اليقين، وقد بينا في غير هذا الموضع أن قولهم هذا من أفسد الأقوال، وأن قياس التمثيل وقياس الشمول سواء وإنما يختلفان بالمادة المعينة فإن كانت
يقينية (في أحدهما كانت يقينية) في الآخر وإن كانت ظنية في أحدهما كانت ظنية في الآخر. وذلك أن قياس الشمول مؤلف من الحدود الثلاثة، الأصغر والأوسط والأكبر، والحد الأوسط فيه هو الذي يسمى في قياس التمثيل علة ومناطًا وجامعًا [ومشتركًا ووصفًا ومقتضيًا]. فإذا قال في مسألة النبيذ: كل نبيذ مسكر وكل مسكر حرام، فلابد له من إثبات المقدمة الكبرى، وحينئذ يتم البرهان، وحينئذ فيمكنه أن يقول النبيذ مسكر، فيكون حرامًا قياسًا على خمر العنب، بجامع ما يشتركان فيه من الإسكار، هو مناط التحريم في الأصل، وهو موجود في الفرع فيما به (يقرر) أن كل مسكر حرام، به يقرر أن السكر مناط التحريم بطريق الأولى، بل التفريق في قياس التمثيل أسهل عليه لشهادة الأصل له بالتحريم، فيكون الحكم قد علم ثبوته في بعض الجزئيات. ولا يكفي في قياس التمثيل إثباته في أحد الجزأين لثبوته في الجزء الآخر، لاشتراكهما في أمر لم يقم دليل على استلزامه للحكم، كما يظنه بعض للطالبين، بل لابد أن يعلم أن المشترك بينهما مستلزم للحكم والمشترك بينهما هو الحد الأوسط. وهذا ما يسميه الفقهاء وأهل أصول الفقه المطالبة بتأثير الوصف في الحكم؛ وهذا السؤال أعظم سؤال يرد على القياس وجوابه هو الذي يحتاج إليه غالبًا في تقدير صحة القياس، فإن المعترض قد يمنع الوصف في الأصل، وقد يمنع الحكم في الأصل، وقد يمنع الوصف في الفرع، وقد يمنع كون الوصف علة في الحكم ويقول: لا نسلم أن ما ذكرته في الوصف المشترك هو العلة أو دليل
العلة، فلابد من دليل بدل على ذلك من نص أو اجتماع أو سبر وتقسيم أو المناسبة أو الدوران عند من يستدل بذلك، فما دل على أن الوصف المشترك مستلزم للحكم إما علة، وإما دليل العلة: هو الذي يدل على أن الحد الأوسط مستلزم الأكبر، وهو الدال على صحة المقدمة الكبرى، فإن أثبت العلة كان برهان علة، وإن أثبت دليلها، كان برهان دلالة. وإن لم يفيد العلم بل أفاد الظن، فكذلك المقدمة الكبرى في ذلك القياس لا تكون إلا ظنية، وهذا أمر بين. ولهذا صار كثير من الفقهاء يستعملون في الفقه القياس الشمولي، كما يستعمل في العقليات القياس التمثيلي، وحقيقة أحدهما هو حقيقة الآخر.
ومن قال من متأخري أهل الكلام والرأي كأبي المعالي وأبي حامد والرازي وأبي محمد المقدسي وغيرهم من أن العقليات ليس فيها قياس وإنما القياس في الشرعيات، ولكن الاعتماد في العقليات على الدليل الدال على ذلك مطلقًا، فقولهم مخالف لقول نظار المسلمين، بل وسائر العقلاء، فإن القياس يستدل به في العليات كما يستدل به في الشرعيات، فإنه إذا ثبت أن الوصف المشترك مستلزم للحكم كان هذا دليلًا في جميع العلوم. وكذلك إذا ثبت أنه ليس بين الفرع والأصل فرق مؤثر كان هذا دليلًا في جميع العلوم، وحيث لا يستدل بالقياس التمثيلي، لا يستدل بالقياس الشمولي.
وأبو المعالي ومن قبله من النظار لا يسلكون طريقة المنطقيين ولا يرضونها بل يستدلون بالأدلة المستلزمة عندهم لمدلولاتها من غير اعتبار ذلك بميزان المنطقيين ((لكن جمهور النظار يقيسون الغائب على الشاهد إذا كان المشترك مستلزمًا للحكم، كما يمثلون به في الجمع بالحد والعلة والشرط والدليل، ومنازعهم