الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[اليقين والظن]
هذا كلامهم. فيقال: تفريقهم بين ((قياس الشمول)) ((وقياس التمثيل)) بأن الأول قد يفيد اليقين والثاني لا يفيد إلا الظن، فرق باطل. بل من حيث أفاد أحدهما اليقين أفاد الآخر اليقين، وحيث لا يفيد أحدهما إلا الظن لا يفيد الآخر إلا الظن. فإن إفادة ((الدليل)) لليقين أو الظن ليس لكونه على صورة أحدهما دون الآخر، بل باعتبار تضمن أحدهما لما يفيد اليقين. فإن كان أحدهما اشتمل على أمر مستلزم للحكم يقينًا يحصل به اليقين، وإن لم يشتمل إلا على ما يفيد الحكم ظنًا لم يفد إلا الظن والذي يسمى في أحدهما ((حدًا أوسط)) هو في الآخر ((الوصف المشترك)).
والقضية الكبرى المتضمنة لزوم الحد الأكبر للأوسط هو بيان تأثير الوصف المشترك بين الأصل والفرع. فما به يتبين صدق القضية الكبرى به يتبين أن الجامع المشترك مستلزم للحكم، فلزوم الأكبر الأوسط هو لزوم الحكم للمشترك.
فإذا قلت: ((النبيذ حرام قياسًا على الخمر))، لأن ((الخمر إنما حرمت لكونها مسكرة)). وهذا الوصف موجود في النبيذ. كان بمنزلة قولك:((كل نبيذ مسكر: ((وكل مسكر حرام)). فالنتيجة: ((قولك النبيذ حرام))، ((والنبيذ)) هو موضوعها وهو الحد الأصغر ((والحرام)) محمولها وهو الحد الأكبر، ((والمسكر)) هو المتوسط بين الموضوع والمحمول وهو الحد الأوسط، المحمول في الصغرى الموضوع في الكبرى. فإذا قلت:((النبيذ حرام قياسًا على خمر العنب))، ((لأن العلة في الأصل هو الإسكار وهو
موجود في الفرع))، فتبت التحريم لوجود علته فإنما استدللت على تحريم ((النبيذ بالسكر)) وهو الحد الأوسط، لكن زدت في ((قياس التمثيل)) ذكر الأصل الذي يثبت به الفرع، وهذا لأن شعور النفس بنظر الفرع، أقوى في المعرفة من مجرد دخوله في الجامع الكلي. وإذا قام الدليل على تأثير الوصف المشترك لم يكن ذكر الأصل محتاجًا إليه.
((والقياس)) لا يحلو إما أن يكون ((بإبداء الجامع)). أو ((بإلغاء الفارق)) (و) هو ((الحد الأوسط)). فإذا قيل: ((هذا مساوى لهذا، ومساوى المساوى مساو))، كانت ((المساواة هي الحد الأوسط))، وإلغاء الفارق عبارة عن ((المساواة)). فإذا قيل:((لا فرق بين الفرع والأصل إلا كذا وهو متعذر))، فهو بمنزلة قولك. ((هذا مساو لهذا، وحكم المساوى حكم مساويه)).
وأما قولهم: ((كل ما يدل على (أن) ما به الاشتراك علة للحكم فظني)) فيقال: لا نسلم فإن هذه دعوى كلية ولم تقيموا عليها دليلًا. ثم نقول: الذي يدل به على علية المشترك هو الذي يدل به على صدق القضية الكبرى، وكل ما يدل به على صدق الكبرى في ((قياس الشمول)) يدل به على علية المشترك في ((قياس التمثيل)) سواء كان علميًا أو ظنيًا. فإن الجامع المشترك في ((التمثيل)) هو الحد الأوسط، ولزوم الحكم له هو لزوم الأكبر للأوسط. ولزوم الأوسط للأصغر هو لزوم الجامع المشترك للأصغر، وثبوت العلة في الفرع.
فإذا كان الوصف المشترك وهي المسمى ((بالجامع)) ((والعلة)) أو ((دليل
العلة)) أو ((المناط)) أو ما كان من الأسماء إذا كان ذلك الوصف ثابتًا في الفرع، لازمًا له، كان ذلك موجبًا لصدق المقدمة الصغرى وإذا كان الحكم ثابتًا للوصف مستلزمًا له، كان ذلك موجبًا لصدق الكبرى. وذكر الأصل ليتوصل به إلى إثبات إحدى المقدمتين.
فإن كان ((القياس)) بإلغاء ((الفارق))، وهو الحد الأوسط (أو) إن كان ((القياس)) ((بإبداء العلة))، فقد يستغنى عن ذكر الأصل إذ كان الاستدلال على علية الوصف لا يفتقر إليه. وأما إذا احتاج إثبات علية الوصف إليه، فيذكر الأصل لأنه من تمام ما يدل على علية المشترك، وهو الحد الأكبر.
وهؤلاء الذين فرقوا بين ((قياس التمثيل)) ((وقياس الشمول)) أخذوا يظهرون كون أحدهما ظنيًا في مواد معينة، وتلك المواد التي لا تفيد إلا الظن في ((قياس التمثيل)) لا تفيد إلا الظن في ((قياس الشمول))، وإلا فإذا أخذوه فيما يستفاد به اليقين من ((قياس الشمول))، أفاد اليقين في ((قياس التمثيل)) أيضًا وكان ظهور اليقين به هناك أتم.
فإذا قيل في ((قياس الشمول)): ((كل إنسان حيوان))، ((وكل حيوان جسم))، فكل إنسان جسم))، كان ((الحيوان)) هو الحد الأوسط وهو المشترك في ((قياس التمثيل))، بأن يقال ((الإنسان جسم)) قياس على الفرس وغيره من الحيوانات))، فإن كون تلك الحيوانات حيوانًا، هو مستلزم لكونه جسمًا
إذا نوزع في علية الحكم في الأصل، فقيل:((له لا نسلم أن الحيوانية تستلزم الجسمية))، كان هذا نزاعً في قوله:((كل حيوان جسم. وذلك أن المشترك بين الأصل والفرع إذا سمي ((علة))، إنما يراد به ((ما يستلزم أن الحكم)) سواء كان هو ((العلة الموجبة لوجوده في الخارج)) أو كان ((مستلزمًا لذلك.)) ومن الماس من يسمي الجميع ((علة)) لاسيما من يقول:((إن العلة إنما يراد بها المعرف وهو الأمارة والعلامة والدليل. لا يراد بها ((الباعث والداعي))، ومن قال: إنه يراد بها ((الداعي)) وهو ((الباعث)) فإنه يقول ذلك في علل الأفعال. وأما غير الأفعال فقد تفسر ((العلة)) فيها ((بالوصف المستلزم)) كاستلزام ((الإنسانية والحيوانية للجسمية)) وإن لم يكن أحد الوصفين هو المؤثر في الآخر.
على أنا قد بينا في غير هذا الموضع، إن ما به يعلم ((كون الحيوان جسمًا))، به يعلم أن الإنسان جسم))، حيث بنيا أن ((قياس الشمول)) الذي يذكرونه قليل الفائدة أو عديمها، وأن ما به يعلم صدق الكبرى في العقليات به يعلم صدق أفرادها التي منها الصغرى، بل وبذلك يعلم صدق النتيجة. ثم قال: وتناقضهم فساد قولهم أكثر من أن يذكر، والمقصود هنا الكلام على المنطق وما ذكروه من ((البرهان)) وأنهم يعظمون ((قياس الشمول))، ويستخفون ((بقياس التمثيل)) ويزعمون أنه إنما يفيد الظن، وأن العلم لا يحصل إلا بذاك وليس الأمر كذلك، بل هما في الحقيقة من جنس واحد، ((وقياس التمثيل)) الصحيح أولى بإفادة المطلوب- علمًا كان لأو ظنًا- من مجرد (قياس الشمول، ولهذا كان سائر
العقلاء يستدلون ((بقياس التمثيل)) أكثر مما يستدلون ((بقياس الشمول))، بل لا يصح ((قياس الشمول)) في الأمر العام إلا توسط ((قياس التمثيل)). وكل ما يحتج به على صحة ((قياس التمثيل)) في تلك الصورة ومثلنا هذا بقولهم:((الواحد (لا يصدر عنه) إلا واحد)).
فإنه من أشهر أقوالهم الإلهية الفاسدة.
وأما الأقوال الصحيحة. فهذا أيضًا ظاهر فيها. فإن ((قياس الشمول)) لابد فيه من قضية كلية موجبة، فلا إنتاج عن سالبتين ولا عن جزئيتين باتفاقهم.
والكلي لا يكون كليًا إلا في الذهن فإذا عرف تحقيق بعض أفراده في الخارج، كان ذلك مما يعين على العلم بكونه كليًا موجبًا، فإنه إذا أحس الإنسان ببعض الأفراد الخارجية، انتزع منه وصفًا كليًا لاسيما إذا كثرت أفراده، والعلم بثبوت الوصف المشترك الأصل في الخارج هو أصل العلم بالقضية الكلية. وحينئذ ((فالقياس التمثيل أصل، للقياس الشمولي)). إما أن يكون سببًا في حصوله، وإما أن يقال لا يوجد بدونه، فكيف يكون وحده أقوى منه؟
وهم يمثلون الكليات بمثل قول القائل: الكل أعظم من الجزء، والنقيضان لا يجتمعان ولا يرتفعان، والأشياء والمساوية لشيء واحد متساوية ونحو ذلك وما من كلي من هذه الكليات إلا وقد علم من أفراده أمور كثيرة، إذا أريد تحقيق هذه الكلية في النفس ضرب لها المثل لفرد من
أفرادها وبين انتفاء الفارق بينه وبين غيره أو ثبوت الجامع، وحينئذ يحكم العقل بثبوت الحكم لذلك المشترك الكلي وهذا حقيقة (قياس التمثيل).
ولو قدرنا أن (قياس الشمول) لا يفتقر إلى (التمثيل) وإلى العلم بمعين أصلًا فلا يمكن أن يقال: (إذا علم الكلي مع العلم بثبوت أفراداه في الخارج. كان أكمل منه أن يعلمه بدون العلم بذلك المعين) فإن العلم بالمعين ما زاده إلا كمالًا، فتبين أن ما نفوه من صورة (القياس) أكمل مما أثبتوه.
واعلم أنهم في المنطق الإلهي بل والطبيعي غيروا بعض ما ذكره أرسطو، لكن ما زادوه في الإلهي هو خير من كلام أرسطو، فإني قد رأيت الكلامين وأرسطو وأتباعه في الألهيات أجهل من اليهود والنصارى بكثير كثير. وأما في الطبيعات فغالب كلامه جيد، وأما المنطق فكلامه فيه خير من كلامه في الإلهي.
وأظن ما ذكره في تضعيف ((قياس التمثيل)) إنما هو من كلام متأخريهم لما رأوا استعمال الفقهاء له غالبًا، والفقهاء يستعملونه كثيرًا في المواد الظنية، وهناك الظن حصل من المادة لا من صور القياس، فلو صوروا تلك المادة (بقياس الشمول) لم يفد أيضًا إلا الظن لكن هؤلاء لهؤلاء ظنوا أن الضعف من جهة الصورة فجعلوا صورة قياسهم يقينًا وصورة قياس الفقهاء ظنيًا.
ومثلوه بأمثلة كلامية ليقرروا أن المتكلمين يحتجون علينا بالأقيسة الظنية، كما مثلوه من الاحتجاج عليهم بأن الفلك جسم أو مؤلف فكان محدثًا قياسيًا على الإنسان وغيره من المولدات، ثم أخذوا يضعفون هذا القياس
لكن إنما ضعفوه بضعف مادته، فإن هذا الدليل الذي ذكره الجهمية والقدرية ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم على حدوث الأجسام أدلة ضعيفة لأجل مادتها لا تكون صورتها ظنية. ولهذا لا فرق بين أن يصوروها بصورة ((التمثيل)) أو ((الشمول)).