الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بطريق الأولى. مع أنه لابد أن يسمع من الناس ما يعرف ذاك بدون طريقهم.
وهم معترفون بأن الشكل الأول من الحمليات يغني عن جميع صور القياس. وتصويره بطرق لا تحتاج إلى تعلمه منهم، مع أن الاستدلال لا يحتاج إلى تصوره على الوجه الذي يزعمونه.
[مقدمتا القياس]
فصل: وأما قولهم: الاستدلال لابد فيه من مقتدمين بلا زيادة، قول باطل طردًا وعكسًا، وذلك أن احتياج المستدل إلى المقدمات مما يختلف فيه حال الناس؛ فمن الناس من لا يحتاج إلا إلى مقدمة واحدة لعلمه بما سوى ذلك، كما أن منهم من لا يحتاج في علمه بذلك إلى استدلال، بل قد يعلمه بالضرورة (ومنهم من يحتاج إلى مقدمتين)، ومنهم من يحتاج إلى ثلاث، ومنهم من يحتاج إلى أربع وأكثر، فمن أراد أن يعرف أن هذا المسكر المعين محرم، فإن كان يعرف أن كل مسكر محرم، ولكن لا يعرف هل هذا المسكر المعين يسكر أم لا، لم يحتج إلا إلى مقدمة واحدة. وهو أن يعلم أن هذا مسكر؛ فإذا قيل له هذا حرام فقال: ما الدليل عليه؟ فقال المستدل: الدليل على ذلك أنه مسكر، تم المطلوب.
وكذلك لو تنازع ثنان في بعض أنواع الأشربة: هل هو مسكر أم لا، كما يسأل الناس كثيرًا عن بعض الأشربة، ولا يكون السائل ممن يعلم أنها تسكر، أو لا تسكر، ولكن قد علم أن كل مسكر حرام، فإذا ثبت عنده بخبر من يصدقه أو بغير ذلك من الأدلة أنه مسكر، علم تحريمه،
وكذلك سائر ما يقع الشك في اندراجه تحت قضية كلية من الأنواع والأعيان. مع العلم بحكم تلك القضية كتنازع الناس في النرد والشطرنج: هل هما من الميسر أم لا، وتنازعهم في النبيذ المتنازع فيه، هل هو من الحرام، وتنازعهم في الحلف بالنذر والطلاق والعتاق هل هو داخل في قوله {قد فرض الله لكم تحلة أيمانكم} أم لا وتنازعهم في قوله {أو يعفو الذي بيده عدة النكاح} - هل هو الزوج أو الولي المستقل وأمثال ذلك.
وقد يحتاج الاستدلال إلى مقدمتين، لمن لم يعلم أن النبيذ المسكر المتنازع فيه محرم، ولم يعلم أن هذا المعين محرم ومسكر، فهو لا يعلم أنه محرم، حتى يعلم أنه مسكر، ويعلم أن كل مسكر حرام. وقد يعلم أن هذا مسكر، ويعلم أن كل مسكر خمر، لكن لم يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم، حرم الخمر لقرب عهده بالإسلام، أو لنشأته بين جهال أو زنادقة يشكون في ذلك أو يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: كل مسكر حرام، أو يعلم أن هذا خمر، وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم الخمر، لكن لم يعلم أن محمدًا رسول الله، أو لم يعلم أنه حرمها على جميع المؤمنين، بل ظن أنه أباحها لبعض الناس، فظن أنه منهم، كمن ظن أنه أباح شربها للتداوي أو غير ذلك فهذا لا يكفيه في العلم بتحريم هذا النبيذ المسكر تحريمًا عامًا، إلا أن يعلم أنه مسكر وأنه خمر. وأن النبي صلى الله عليه وسلم حرم كل مسكر وأنه رسول الله حقًا؛ فما حرمه، حرمه الله، وأنه حرمه تحريمًا عامًا، لم يبحه للتداوي أو للتلذذ.
ومما يبين أن تخصيص الاستدلال بمقدمتين باطل، أنهم قالوا في حد القياس الذي يشمل البرهاني والخطابي والجدلي والشعري والسوفسطائي إنه
قول مؤلف من أقوال، أو عبارة عما ألف من أقوال، إذا سلمت، لزم عنها لذاتها قول آخر.
قالوا: واحترزنا بقولنا من أقوال عن القضية الواحدة التي تستلزم لذاتها صدق عكسها وعكس نقيضها وكذب نقيضها وليست قياسًا قالوا: ولم نقل مؤلف من مقدمات لأنا (لا) يمكننا تعريف المقدمة من حيث هي مقدمة، إلا بكونها جزء القياس، فلو أخذناها في حد القياس كان دورًا.
والقضية الخبرية إذا كانت جزء القياس، سموها مقدمة، وإن كانت مستفادة بالقياس سموها نتيجة، وإن كانت مجردة عن ذلك، سموها قضية، وتسمى أيضًا قضية مع تسميتها نتيجة ومقدمة. وهي الخبر وليست هي المبتدأ والخبر في اصطلاح النحاة. بل أعم منه. فإن المبتدأ والخبر لا يكون إلا جملة اسمية وفعلية، كما لو قيل قد كذب زيد، ومن كذب استحق التعذير.
والمقصود هنا أنهم أرادوا بالقول في قولهم القياس قول مؤلف من أقوال، القضية التي هي جملة تامة خبرية، لم يريدوا بذلك المفرد الذي هو الحد، فإن القياس مشتمل على ثلاثة حدود: أصغر، أوسط، أكبر، كما إذا قيل: النبيذ المتنازع فيه مسكر وكل مسكر حرام. فالنبيذ والمسكر والحرام كل منها مفرد، وهي الحدود في القياس. فليس مرادهم بالقول هذا، بل مرادهم أن كل قضية قول. كما فسروا مرادهم بذلك.
ولهذا قالوا: القياس قول مؤلف من أقوال؛ إذا سلمت لزم عنها لذاتها ول آخر. واللازم إنما هي النتيجة، وهي قضية وخبر وجملة تامة وليست
مفردًا. ولذلك قالوا: القياس قول مؤلف، فسموا مجموع القضيتين قولًا. وإذا كانوا قد جعلوا القياس مؤلفًا من أقوال وهي القضايا امتنع أن يراد بذلك قولان فقط. لأن لفظ الجمع إما أن يكون متناولًا للاثنين فصاعدًا كوله تعالى:{فإن كان له أخوة فلأمه السدس} . وإما أن يراد به الثلاثة فصاعدًا وهو الأصل عند الجمهور، ولكن قد يراد به جنس العدد، فيتناول الاثنين فصاعدًا، ولا يكون الجمع مختصًا باثنين، فإذا قالوا هو مؤلف من أقوال، إن أرادوا جنس العدد كان هذا المعنى من اثنين فصاعدًا، فيجوز أن يكون مؤلفًا من ثلاث مقدمات وأربع مقدمات، فلا يختص بالاثنين. وإن أرادوا الجمع الحقيقي. لم يكن مؤلفًا إلا من ثلاث فصاعدًا، وهم قطعًا ما أرادوا هذا. لم يبق إلا الأول، فإذا قيل هم يلتزمون ذلك ويقولون نحن نقول: أقل ما يكون القياس من مقدمتين، وقد يكون من مقدمات، فيقال أولًا: هذا خلاف ما في كتبكم، فإنكم لا تلتزمون إلا مقدمتين فقط.
وقد صرحوا أن القياس الموصل إلى المطلوب، سواء كان اقترانيًا أو استثنائيًا، لا ينقص عن مقدمتين، ولا يزيد عليهما وعللوا ذلك بأن المطلوب المتحد لا يزيد على جزئين مبتدأ وخبر. فإن كان القياس اقترانيًا، فكل واحد من جزئي المطلوب، لابد وأن يناسب مقدمة منه: أي يكون فيها إما مبتدأ وإما خبرًا، ولا يكون هو نفس المقدمة. قالوا: وليس المطلوب أكثر من جزئين، فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين.
وإن كان القياس استثنائيًا، فلابد فيه من مقدمة شرطية متصلة أو منفصلة تكون مناسبة لكل المطلوب أو نقيضه، فلابد من مقدمة استثنائية فلا
حاجة إلى ثالثة. قالوا: لكن ربما أدرج في القياس قول زائد على مقدمتي القياس، إما غير متعلق بالقياس، أو متعلق به والمتعلق بالقياس: إما لترويج الكلام وتحسينه، أو لبيان المقدمتين أو إحداهما ويسمون هذا القياس المركب. قالوا: وحاصله يرجع إلى أقيسة متعددة سيقت لبيان مطلوب واحد، إلا أن القياس المبين للمطلوب بالذات منها ليس إلا واحدًا والباقي لبيان مقدمات القياس.
قالوا: ربما حذف بعض مقدمات القياس: إما تعويلًا على فهم الذهن لها، أو لترويج المغلطة حتى لا يطلع على كذبها عند التصريح بها.
قالوا: ثم إن كانت الأقيسة لبيان المقدمات، د صرح فيها بنتائجها، فيسمى القياس مفصولًا، وإلا فموصول. ومثلوا الموصول بقول القائل: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، وكل جسم جوهر، فكل إنسان جوهر. والمقصود بقولهم: كل إنسان حيوان، وكل حيوان جسم، فكل إنسان (جسم وكل جسم جوهر) فيلزم منها أن كل إنسان جوهر.
فيقال لهم: أما المطلوب الذي لا يزيد على جزئين فذاك في النطق به. والمطلوب في العقل إنما هو شيء واحد لا اثنان، وهو ثبوت النسبة الحكمية أو انتفاؤها: وإن شئت قلت: اتصاف الموصوف بالصفة نفيًا أو إثباتًا، وإن شئت قلت نسبة المحمول إلى الموضوع والخبر إلى المبتدأ نفيًا أو إثباتًا، وأمثال ذلك من العبارات الدالة على المعنى الواحد المقصود بالقضية. فإذا كانت النتيجة أن النبيذ حرام، أو ليس بحرام أو الإنسان حساس أو ليس
بحساس ونحو ذلك، فالمطلوب ثبوت التحريم للنبيذ أو انتفاؤه، وكذلك ثبوت الحس للإنسان أو انتفاؤه. والمقدمة الواحدة إذا ناسبت ذلك المطلوب حصل بها المقصود. وقولنا النبيذ خمر يناسب المطلوب، وكذلك قولنا الإنسان حيوان، فإذا كان الإنسان يعلم أن كل خمر حرام، ولكن يشك في النبيذ المتنازع فيه، هل يسمى في لغة الشارع خمرًا؟ فقيل النبيذ حرام لأنه قد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال ((كل مسكر خمر))، كانت (هذه) القضية وهي قولنا قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: إن كل مسكر خمر)) يفيد تحريم النبيذ، وإن كان نفس قوله قد تضمن قضية أخرى. والاستدلال بذلك مشروط بتقديم مقدمات معلومة عند المستمع، وهي أن ما صححه أهل العلم بالحديث، فقد وجب التصديق بأن النبي صلى الله عليه وسلم قاله، وأن ما حرمه الرسول فهو حرام ونحو ذلك.
فلو لزم أن نذكر كل ما يتوقف عليه العلم وإن كان معلومًا، كانت المقدمات أكثر من اثنتين، بل قد تكون أكثر من عشر. وعلى ما قالوه فينبغي لكل من استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم أن يقول: النبي حرم ذلك وما حرمه فهو حرام. فهذا حرام وكذلك يقول النبي أوجبه، وما أوجبه النبي فقد وجب، فإذا احتج على تحريم الأمهات والبنات ونحو ذلك، يحتاج أن يقول إن الله حرم هذا في القرآن وما حرمه الله فهو حرام. وإذا احتج على وجوب الصلاة والزكاة والحج بمثل قول الله تعالى:{ولله على الناس حج البيت} يقول إن الله أوجب الحج في كتابه وما أوجبه الله، فهو واجب. وأمثال ذلك مما
يعده العقلاء لكنه وعيًا وإيضاحًا للواضح وزيادة قول لا حاجة إليها. وهذا التطويل الذي لا يفيد قياسهم نظير تطويلهم في حدودهم، كقولهم في حد الشمس إنها كوكب تطلع نهارًا. وأمثال ذلك من الكلام الذي لا يفيد إلا تضبيع الزمان وإتعاب الأذهان وكثرة الهذيان. ثم إن الذين يتبعونهم في حدودهم وبراهينهم لا يزالون في تحديد الأمور المعروفة بدون تحديدهم.
ويتنازعون في البرهان على أمور مستغنية عن براهينهم. وقولهم: ليس للمطلوب أكثر من جزئين فلا يفتقر إلى أكثر من مقدمتين فيقال: إن أردتم ليس له إلا اسمان مفردان فليس الأمر كذلك، بل قد يكون التعبير عنه بأسماء متعددة، مثل من شك في النبيذ هل هو حرام بالنص أم ليس بنص ولا قياس. فإذا قال المجيب النبيذ حرام بالنص كان المطلوب ثلاثة أجزاء.
وكذلك لو سأل هل الإجماع دليل قطعي، فقال: الإجماع دليل قطعي، كان المطلوب ثلاثة أجزاء. وإذا قال: هل الإنسان جسم حساس تام متحرك بالإرادة ناطق أم لا؟ فالمطلوب هنا ستة أجزاء. وفي الجملة فالموضوع والمحمول الذي هو مبتدأ وخبر وهو جملة خبرية قد تكون جملة مركبة من لفظين، وقد تكون من ألفاظ متعددة إذا كان مضمونها مقيدًا بقيود كثيرة مثل قوله تعالى:
{والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه} وقوله تعالى:
{إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} وقوله تعالى: {والذين آمنوا من بعد وهاجروا وجاهدوا معكم فأولئك منكم} وأمثال ذلك من الأمثال التي يسميها النحاة الصفات والعطف والأحوال وظرف المكان وظرف الزمان ونحو ذلك.
وإذا كانت القضية مقيدة بقيود كثيرة لم تكن مؤلفة من لفظين، بل من ألفاظ متعددة ومعاني متعددة وإن أريد أن المطلوب ليس إلا معنيان سواء عبر عنهما بلفظين أو ألفاظ متعددة، قيل وليس الأمر كذلك: بل قد يكون المطلوب معنى واحدًا، وقد يكون معنيين، وقد يكون معان متعددة، فإن المطلوب بحسب طلب الطالب. وهو الناظر المستدل، والسائل المتعلم المناظر وكل منهما قد يطلب معنى واحدًا، وقد يطلب معنيين، وقد تطلب معان. والعبارة عن مطلوبه قد تكون بلفظ واحد، وقد تكون بلفظين. وقد تكون بأكثر. فإذا قال: النبيذ حرام، فقيل: له نعم. كان هذا اللفظ وحده كافيًا في جوابه، كما لو قيل له هو حرام فإن قالوا: القضية الواحدة قد تكون في تقدير قضايا، كما ذكرتموه من التمثيل بالإنسان فإن. هذه القضية الواحدة في تقدير خمس قضايا، وهي خمس مطالب، والتقدير هل هو جسم أم لا، وهل هو حساس أم لا، وهل هو نام أم لا، وهل هو متحرك أم لا. وهل هو ناطق أم لا. وكذلك فيما تقدم هل النبيذ حرام أم لا، وإذا كان حرامًا فهل تحريمه بالنص أو بالقياس. فيقال إذا رضيتم بمثل هذا، وهو أن يجعلوا الواحد في تقدير عدد، فالمفرد قد يكون في معنى قضية. فإذا قال النبيذ المسكر حرام: فقال المجيب نعم، فلفظ نعم في تقدير قوله هو حرام.
وإن قال ما الدليل عليه: فقال: تحريم كل مسكر (أصله أن كل مسكر حرام أو قول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام ونحو ذلك من العبارات التي جعل الدليل فيها اسمًا مفردًا، وهو جزء واحد، لم يحصل قضية مؤلفة من اسمين مبتدأ وخبر. فإن قوله: تحريم كل مسكر اسم مضاف. وقوله: إن كل مسكر حرام بالفتح مفرد أيضًا. فإن أن وما في حيزها في تقدير المصدر المفرد، وإن المكسورة وما حيزها جملة تامة.
ولذلك إذا قلت الدليل عليه قوله النبي صلى الله عليه وسلم، أو الدليل عليه النص أو إجماع الصحابة، أو الدليل عليه الآية الفلانية أو الحديث الفلاني أو الدليل قيام المقتضي التحريم السالم عن المعارض المقاوم، أو الدليل عليه أنه مشارك لخمر العنب فيم يستلزم التحريم؛ وأمثال ذلك فيما يعبر فيه عن الدليل باسم مفرد لا بالقضية التي هي تامة. ثم هذا الدليل الذي عبر عنه باسم مفرد هو إذا فصل عبر عنه بألفاظ متعددة (والمقصود) أن قولكم إن الدليل الذي هو القياس لا يكون إلا جزئين فقط، إن أردتم لفظين فقط، وأن ما زاد عن لفظين فهو أدلة لا دليل واحد، لأن ذلك اللفظ الموصوف بصفات تحتاج كل صفة إلى دليل قيل لكم:
وكذلك يمكن أن يقال في اللفظين هما دليلان لا دليل واحد، فإن كل مقدمة تحتاج إلى دليل، وحينئذ فتخصيص العدد باثنين دون ما زاد تحكم لا معنى له؛ فإنه إذا كان المقصود قد يحصل بلفظ مفرد وقد لا يحصل إلا بلفظ وقد لا يحصل إلا بثلاث أو بأربعة أو أكثر، فجعل اللفظين هما الأصل
الواجب دون ما زاد وما نقص، وأن الزائد إن كان في المطلوب جعل مطالب متعددة، وإن كان في الدليل، يذكر مقدمات، جعل ذلك في تقدير أقيسة متعددة تحكم محض، ليس هو أولى من أن يقال، بل الأصل في المطلوب أن يكون واحد ودليله جزء واحد فإذا زاد المطلوب على ذلك، جعل مطلوبين أو ثلاثة أو أربعة بحسب دلالته، وهذا إذا قيل فهو أحسن من قولهم، لأن اسم الدليل مفرد فيجعل معناه مفردًا، والقياس هو الدليل.
ولفظ القياس يقتضي التقدير، كما يقال قست هذا بهذا، والتقدير يحصل بواحد وإذا قدر باثنين وثلاثة يكون تقديرين وثلاثة لا تقديرًا واحدًا، فتكون تلك التقديرات أقيسة لا قياسًا واحدًا. فجعلهم ما زاد على الاثنتين من المقدمات في معنى أقيسة متعددة، وما نقص عن الاثنين نصف قياس لا قياس تامة، اصطلاح محض لا يرجع إلى معنى معقول، كما فرقوا بين الصفات الذاتية والعرضية اللازمة للماهية والوجود بمثل هذا التحكم.
وحينئذ فيعلم أن القول لم يرجعوا فيما سموه حدًا وبرهانًا إلى حقيقة موجودة ولا أمر معقول، بل إلى اصطلاح مجرد كتنازع الناس في العلة: هل هي اسم لما يستلزم المعلول، بحيث لا يتخلف عنها بحال فلا يقبل النقض والتخصيص، أو اسم لما يكون مقتضيًا للمعلول، وقد يتخلف عنه المعلول لفوات شرط أو وجود مانع، كاصطلاح بعض أهل النظر والجدل في تسمية أحدهم الدليل، لما هو مستلزم للمدلول مطلقًا، حتى يدخل في ذلك عدم المعارض والآخر يسمى الدليل لما كان من شأنه أن يستلزم
المدلول، وإنما يتخلف استلزامه لفوات شرط أو وجود مانع. وتنازع أهل الجدل على المستدل أن يتعرض في ذكر الدليل لتبيين المعارض جملة أو تفصيلًا حيث يمكن التفصيل، أو لا يتعرض لا جملة ولا تفصيلًا، أو يتعرض لتبيينه جملة لا تفصيلًا.
وهذه أمور وضعية اصطلاحية بمنزلة الألفاظ التي يصطلع عليها الناس للتعبير عما في أنفسهم ليست حقائق ثابتة في أنفسها معقولة يتفق فيها الأمم كما يدعيه هؤلاء في منطقهم. بل هؤلاء (الذين) يجعلون العلة والدليل يراد به هذا أو هذا (وهذا) أقرب إلى المعقول من جعل هؤلاء الدليل لا يكون إلا من مقدمتين فإن هذا هو تخصيص لعدد دون غيره بلا موجب وأولئك لحظوا صفات ثابتة في العلة والدليل وهو وصف التمام أو مجرد الاقتضاء، فكان ما اعتبره هؤلاء أولى بالحق والعقل مما اعتبره هؤلاء الذين لم يرجعوا إلا إلى مجرد التحكم.
ولهذا كان العافون يصفون منطقهم، بأنه اصطلاحي، وضعه رجل من اليونان لا يحتاج إليه العقلاء ولا طلب العقلاء للعلم موقوفًا عليه كما ليس موقوفًا على التعبير بلغاتهم مثل: فيلا سوفيا وسوفيتبقا وأنولوطيقا وأثولوجيا وقاطيغورياس، ونحو ذلك من لغاتهم التي يعبرون بها عن معانيهم فلا يقول أحد: إن سائر العقلاء محتاجون إلى اللغة، لاسيما من كرمه الله بأشرف اللغات الجامعة لأكمل مراتب البيان المبينة لما تصوره الأذهان بأوجز لفظ وأكمل تعريف وهذا مما احتج به أبو سعيد السيرافي في مناظرته المشهورة لمتى الفيلسوف، لما أخذ متى يمدح المنطق ويزعم احتياج
العقلاء إليه. ورد عليه أبو سعيد بعد الحاجة إليه، وأن الحاجة إنما تدعو إلى تعليم العربية، لأن المعاني فطرية عقلية لا تحتاج إلى اصطلاح خاص بخلاف اللغة المتقدمة التي يحتاج إليها في معرفة ما يجب معرفته من المعاني، فإنه لابد فيها من التعلم، ولهذا كان تعلم العربية التي يتوقف فهم القرآن والحديث عليها فرضًا على الكفاية بخلاف المنطق. ومن قال من المتأخرين: إن تعلم المنطق فرض على الكفاية، أو إنه من شروط الاجتهاد، فإنه يدل على جهله بالشرع وجهله بفائدة المنطق وفساد هذا القول معلوم بالاضطرار من دين الإسلام. فإن أفضل هذه الأمة من الصحابة والتابعين لهم بإحساس وأئمة المسلمين عرفوا ما يجب عليهم ويكمل علمهم وإيمانهم قبل أن يعرف المنطق اليوناني. فكيف يقال إنه لا يوثق بالعلم، وإن يوزن به، أو يقال إن فطر بني آدم في الغالب لم تستقم إلا به.
فإن قالوا نحن لا نقول إن الناس يحتاجون إلى اصطلاح المنطقيين، بل إلى المعاني التي توزن بها العلوم. قيل: لا ريب أن المجهول لا يعرف بالمعلومات. والناس يحتاجون إلى أن يزنوا ما جهلوه بما علموه، وهو الميزان أن أنزلها الله حيث قال:{الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان} وقال: {لقد أرسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان} . وهذا موجود عند أمتنا وغير أمتنا، ممن لم يسمع قط بمنطق اليونان، فعلم أن الأمم غير محتاجة إلى المعاني المنطقية التي عبرا عنها بلسانهم، وهو كلامهم في المعقولات الثانية فإن موضوع المنطق هو المعقولات الثانية من حيث
يتوصل (بها) إلى علم ما لم يعلم، فإنه ينظر في أحوال المعقولات الثانية الماهيات من حيث منطلقة عرض لها إن كانت موصلة إلى تحصيل ما ليس بحاصل، أو معينة في ذلك لا على وجه جزئي بل قانوني كلي. ويدعون أن صاحب المنطق ينظر في جنس الدليل، كما أن صاحب أصول الفقه ينظر في الدليل الشرعي ومرتبته فيميز، ما هو دليل شرعي وما ليس بدليل شرعي. وينظر في مراتب الأدلة حتى يقدم الراجح على المرجوح عند التعارض.
وهم يزعمون أن صاحب المنطق ينظر في الدليل المطلق الذي هو أهم من الشرعي، ويميز بين ما هو دليل وما ليس بدليل، ويدعون أن نسبة منطقهم إلى المعاني، كنسبة العروض إلى الشعر وموازين الأقوال وموازين الأوقات إلى الأوقات ونسبة الذراع إلى المذرعات. وهذا هو الذي قال جمهور علماء المسلمين وغيرهم من العقلاء إنه باطل، فإن منطقهم لا يميز بين الدليل وغير الدليل، لا في صورة الدليل ولا في مادته، ولا يحتاج أن توزن به المعاني بل ولا يصح وزن المعاني به، بل هذه الدعوى من أكذب الدعاوي. والكلام معهم إنما هو في المعاني التي وضعوها في المنطق، وزعموا أن التصورات المطلوبة لا تنال إلا بها والتصديقات المطلوبة لا تنال إلا بها. فذكروا لمنطقهم أربع دعاوى دعوتان سالبتان ودعوتان موجبتان. ادعوا أنه لا تنال التصورات بغير ما ذكروه فيه من الطريق، يحصل به تصور الحقائق التي لم تكن متصوره وهذا أيضًا باطل.
وقد تقدم التنبيه على هذه الدعاوى الثلاثة: وسيأتي الكلام على دعواهم الرابعة التي هي أمثل من غيرها وهي دعواهم أن برهانهم يفيد العلم التصديقي. وإن قالوا إن العلم التصديقي والتصوري أيضًا لا ينال بدونه. فهم ادعوا أن طرق العلم على عقلاء بني آدم مسدودة، إلا من الطريقتين اللتين ذكروهما من الحد وما ذكروه من القياس. وادعوا أن ما ذكروه من الطريقتين توصلان إلى العلوم التي ينالها بنو آدم بعقولهم. بمعنى أن ما يوصل، لابد وأن يكون على الطريق الذي ذكروه آلة قانونية بها توزن الطرق العلمية، ويميز بها الطريق الفاسد. فمراعاة هذا القانون تعصم الذهن أن يزل في الفكر الذي ينال به تصور أو تصديق.
هذا ملخص ما قالوه: وكل هذه الدعاوى كذب في النفي والإثبات، فلا ما نفوه من طرق غيرهم كلها باطلة، ولا ما أثبتوه من طرقهم كلها حق على الوجه الذي أدعوا فيه وإن كان في طرقهم ما هو حق. كما أن في طرق غيرهم ما هو باطل فما من أحد منهم ولا من غيرهم يصنف كلامًا إلا ولابد أن يتضمن ما هو حق فمع اليهود والنصارى من الحق بالنسبة إلى مجموع ما معهم أكثر مما مع هؤلاء من الحق، بل ومع المشركين عباد الأصنام من العرب ونحوهم من الحق أكثر مما مع هؤلاء بالنسبة إلى ما معهم في مجموع فلسفتهم النظرية والعلمية للأخلاق والمنازل والمدائن. ولهذا كان اليونان مشركين كفارًا يعبدون الكواكب والأصنام، شرًا من اليهود والنصارى بعد النسخ والتبديل بكثير، ولولا أن الله من عليهم بدخول دين المسيح إليهم فحصل لهم من
الهدى والتوحيد ما استفادوه من دين المسيح، ماد داموا متمسكين بشريعته قبل النسخ والتبديل، لكانوا من جنس أمثالهم من المشركين. ثم لما غيرت ملة المسيح صاروا في دين مركب من حنيفية وشرك، بعضه حق وبعضه باطل وهو خير من الدين الذي كان عليه أسلافهم.
وكلامنا هنا في بيان ضلال هؤلاء المتفلسفة الذين يبنون ضلالهم بضلال غيرهم فيتعلقون بالكذب في المنقولات وبالجهل في المعقولات، كقولهم: إن أرسطو وزير ذي القرنين يقال (له) الإسكندر. وهذا من جهلهم فإن الإسكندر الذي له أرسطو بن فيلبس المقدوني الذي يؤرخ له تاريخ الروم عند اليهود والنصارى، وهو إنما ذهب إلى أرض الفرس، لم يصل إلى السد عند من يعرف أخباره، وكان مشركًا يعبد الأصنام وكذلك أرسطو وقومه كانوا مشركين يعبدون الأصنام، وذو القرنين [كان] موحدًا مؤمنًا بالله، وكان متقدمًا على هذا، ومن يسميه الأسكندر يقول: هو الأسكندر ابن دارا.
ولهذا كان هؤلاء المتفلسفة إنما راجوا على أبعد الناس عن العقل والدين كالقرامطة والباطنية الذين ركبوا مذهبهم من فلسفة اليونان ودين المجوس وأظهروا الرفض، وكجهال المتصوفة وأهل الكلام وإنما ينفقون في دولة جاهلية بعيدة عن العلم والإيمان إما كفارًا وإما منافقين، كما نفق من نفق
منهم على المنافقين الملاحدة. ثم نفق على المشركين الترك؛ ولذلك إنما ينفقون دائمًا على أعداء الله ورسوله من الكفار والمنافقين.
وكلامنا الآن فيما احتجوا به على أنه لابد في الدليل من مقدمتين لا أكثر ولا أقل، وقد عرف ضعفه. ثم إنهم لما علموا أن الدليل قد يحتاج إلى مقدمات وقد يكفي فيه مقدمة واحدة، قالوا إنه ربما أدرج في القياس قول زائد أي مقدمة ثالثة زائدة على مقدمتين لغرض فاسد أو صحيح، كبيان المقدمتين، ويسمونه المركب، قالوا ومضمونه أقيسة متعددة- سيقت لبيان أكثر من مطلوب واحد إلا أن المطلوب منها- بالذات ليس إلا واحدًا قالوا: وربما حذفت إحدى المقدمات إما للعلم بها أو لغرض فاسد، وقسموا المركب إلى مفصول وموصول.
فيقال: هذا اعتراف منكم بأن من المطالب ما يحتاج إلى مقدمات، وما يكفي فيه مقدمة واحدة. ثم قلتم: إن ذلك الذي يحتاج إلى مقدمات هو في معنى أقيسة متعددة، فيقال لكم: إذا جعلتم أن الذي لابد منه إنما هو قياس واحد، مشتمل على المقدمتين، وأن ما زاد على ذلك هو في معنى أقيسة كل قياس لبيان مقدمة من المقدمات. فيقولون: إن الذي لابد منه هو مقدمة واحدة، وإن ما زاد على تلك المقدمة من المقدمات، فإنما هو لبيان تلك المقدمة.
وهذا أقرب إلى المعقول فإنه إذا لم يعلم ثبوت الصفة للموصوف وهو
ثبوت الحكم المحكوم عليه، وهو ثبوت الخبر للمبتدأ، أو المحمول للموضوع إلا بوسط بينهما هو الدليل، فالذي لابد منه هو مقدمة واحدة وما زاد على ذلك فهو محتاج إليه وقد لا يحتاج إليه.
وأما دعوى الحاجة إلى القياس، الذي هو المقدمتان للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، فهو كدعوى الاحتياج في بعضها إلى ثلاث مقدمات وأربع وخمس، للاحتياج إلى ذلك في بعض المطالب، وليس تقدير عدد بأولى من عدد، وما يذكرونه من حذف إحدى المقدمتين لوضوحها أو للتغليط يوجد مثله في حذف الثالثة والرابعة. ومن احتج على مسألة بمقدمة لا تكفي وحدها لبيان المطلوب، أو مقدمتين أو ثلاثة لا تكفي، طولب بالتمام الذي يحصل به الكفاية. وإذا ذكرت المقدمات منع منها ما يقبل المنع وعورض منها ما يقبل المعارضة، حتى يتم الاستدلال، كمن طلب منه الدليل على تحريم شراب خاص قال هذا حرام، فقيل له: لم؟ قال ((لأنه نبيذ مسكر)) فهذه المقدمة كافية إن كان المستمع يعلم أن ((كل مسكر حرام)) إذا سلم له تلك المقدمة.
وإن نازعه إياها وقال: ((لا نسلم أن هذا مسكر)) احتاج إلى بيانها بخبر من يوثق بخبره، أو التجربة في نظيرها. وهذا قياس تمثيل. وهو مفيد لليقين. فإن الشراب الكثير إذا جرب بعضه وعلم أنه مسكر علم أن الباقي منه مسكر، لأن حكم بعضه مثل بعضه. وكذلك سائر القضايا التجريبية كالعلم بأن الخبز يشبع، والماء يروي، وأمثال ذلك، إنما مبناها على قياس التمثيل))، بل وكذلك سائر الحسيات التي علم أنها كلية إنما هو بواسطة قياس التمثيل.
وإن كان ممن ينازعه في ((أن النبيذ المسكر حرام)). احتاج إلى مقدمتين: إلى إثبات أن هذا مسكر، وإلى أن كل مسكر حرام، فثبتت الثانية بأدلة متعددة، كقول النبي صلى الله عليه وسلم كل مسكر حرام، وكل شراب اسكر فهو حرام. وبأنه سئل عن شراب يصنع من العسل. يقال له ((البتع)) وشراب يصنع من الذرة يقال له ((المزر)) وكان قد أوتي جوامع الكلم فقال:((كل مسكر حرام)). وهذه الأحاديث في الصحيح. وهي وأضعافها معروفة عن النبي صلى الله عليه وسلم تدل على أنه حرم كل شراب أسكر.
فإن قال: أنا أعلم أنه خمر، لكن لا أسلم أن الخمر حرام، أو لا أسلم أنه حرام مطلقًا، أثبت هذه المقدمة الثالثة وهلم جرا.
وما يبين لك أن المقدمة الواحدة قد تكفي في حصول المطلوب، أن الدليل هو ما يستلزم الحكم المدلول عليه، كما تقدم بيانه، ولما كان الحد الأول مستلزمًا للأوسط، والأوسط للثالث، فإن ملزم الملزوم ملزوم، ولازم اللازم لازم، فإن الحكم لازم من لوازم الدليل، لكن لم يعرف لزومه إياه إلا بوسط بينهما فالوسط ما يقرن بقولك ((لأنه)).
وهذا مما المنطقيون وابن سينا وغيره، وذكروا الصفات اللازمة للموصوف- وأنها ما تكون بينة اللزوم-. وردوا بذلك على من فرق من أصحابهم بين ((الذاتي)) و ((اللازم)) للماهية بأن ((اللازم)) ما افتقر إلى ((وسط)) بخلاف ((الذاتي)). فقالوا له: كثير من الصفات اللازمة لا تفتقر إلى ((وسط))، وهو البينة اللزوم ((والوسط)) عند هؤلاء هو ((الدليل)).
وأما ما ظنه بعض الناس أن ((الوسط)) هو ما يكون متوسطًا في نفس الأمر بين اللازم القريب واللازم البعيد، فهذا خطأ ((ومع هذا يستبين حصول المراد على للتقديرين، فيقول: إذا كانت اللوازم منها ما لزومه للملزوم بين بنفسه لا يحتاج إلى ((دليل)) يتوسط بينهما، فهذا نفس تصوره وتصور الملزوم يكفي في العلم بثبوته له، وإن كان بينهما ((وسط)) فذلك الوسط إن كان لزومه للملزوم الأول، ولزوم الثاني له بينًا، لم يفتقر إلى ((وسط)) ثان.
وإن كان أحد الملزومين غير بين بنفسه، احتاج إلى ((وسط))، وإن لم يكن واحد منهما بينًا، احتاج إلى ((وسطين))، وهذا الوسط هو حد يكفي فيه مقدمة واحدة.
فإذا طلب الدليل على تحريم النبيذ المسكر، فقيل له: لأنه قد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((كل مسكر خمر)) أو ((كل مسكر حرام)) فهذا الأوسط وهو قول النبي صلى الله عليه وسلم لا يفتقر عند المؤمن لزوم تحريم المسكر إلى وسط، ولا يفتقر لزوم تحريم النبيذ المتنازع فيه لتحريم المسكر إلى وسط؛ فإن كل أحد يعلم أنه إذا حرم كل مسكر حرم النبيذ المسكر المتنازع فيه، وكل مؤمن يعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم إذا حرم شيئًا حرم.
ولو قال: ((الدليل على تحريمه أنه مسكر))، فالمخاطب إن كان يعرف أن ذلك مسكر، والمسكر محرم، سلم له التحريم، ولكنه كان غافل عن كونه مسكرًا، أو جاهل بكونه مسكرًا.
كذلك إذا قال: ((لأنه خمر)) فإن أقر أنه خمر ثبت التحريم، وإذا
أقر بعد إنكاره، فقد يكون جاهلًا فعلم أو غافلًا فذكر، فليس كل من علم شيئًا كان ذاكرًا له.
ولهذا تنازع هؤلاء المنطقيون في العلم بالمقدمتين، هل هو كاف في العلم بالنتيجة، أم لابد من التفطن لأمر ثالث. وهذا الثاني هو قول ابن سينا وغيره، وقالوا: لأن الإنسان قد يكون عالمًا ((بأن البغلة لا تلد))، ثم يغفل عن ذلك، ويرى بغلة منتفخة البطن، فيقول ((أهذه حامل أم لا))؟ فيقال له:((أما تعلم أنها بغلة)) فيقول: ((بلى))، ويقال له:((أما تعلم أن البغلة لا تلد)). فيقول: ((بلى)) قال: فحينئذ يتفطن لكونها لا تلد.
ونازعه الرازي وغيره وقالوا: هذا ضعيف، لأن اندراج إحدى المقدمتين تحت الأخرى إن كان مغايرًا للمقدمتين كان ذلك مقدمة أخرى لابد فيها من الإنتاج، ويكون الكلام في كيفية التئامها مع الأوليين كالكلام في كيفية التئام الأوليين ويفضي ذلك إلى اعتبار ما لا نهاية له من المقدمات. وإن لم يكن ذلك معلومًا مغايرًا للمقدمتين. استحال أن يكون شرطًا في الإنتاج لأن الشرط مغاير للشروط وهنا لا مغايرة، فلا يكون شرطًا. وأما حديث البغلة فذلك إنما يمكن إذا كان الحاضر في الذهن إحدى المقدمتين فقط، إما الصغرى وإما الكبرى، أما عند اجتماعها في الذهن، فلا نسلم أمه يمكن الشك أصلًا في النتيجة.
قلت: وحقيقة الأمر أن هذا النزاع، لزمهم في ظنهم الحاجة إلى مقدمتين فقط، لا في الإنتاج لأن الشرط مغاير للمشروط. وليس الأمر كذلك بل المحتاج إليه ما به يعلم المطلوب سواء كان مقدمة أو اثنين أو
ثلاثًا والمغفول عنه ليس بمعلوم حالة الغفلة، فإذا تذكر صار معلومًا بالفعل وهنا الدليل هو العلم بأن البغلة لا تلد، وهذه كان ذاهلًا عنها فلم يكن عالمًا بها العلم الذي تحصل به الدلالة، فإن المغفول عنه لا يدل حينما يكون مغفولًا عنه، بل إنما يدل حال كونه مذكورًا، إذ هو بذلك يكون معلومًا علمًا حاضرًا. والرب تعالى منزه عن الغفلة والنسيان، لأن ذلك يناقض حقيقة العلم، كما أنه منزه عن السنة والنوم، لأن ذلك يناقض الحياة والقومية، فإن النوم أخو الموت ولهذا كان أهل الجنة لا ينامون كما لا يموتون. ويلهمون التسبيح، كما يلهم أحدنا النفس.
والمقصود هنا أن وجه الدليل ((العلم بلزوم المدلول له))، سواء سمي ((استحضارًا)) أو ((تفطنًا)) أو غير ذلك، فمتى استحضر في ذهنه لزوم المدلول لع علم أنه دال عليه. وهذا اللزوم إذا كان بيناله، وإلا فقد يحتاج في بيانه إلى مقدمة أو اثنتين أو ثلاث أو أكثر.
والأوساط تتنوع يتنوع الناس، فليس ما كان وسطًا مستلزمًا للحكم في حق هذا، هو الدليل الذي يجب أن يكون وسطًا في حق الآخر، بل قد يحصل له وسط آخر، ((فالوسط)) هو الدليل، وهو الواسطة في العلم بين اللازم والملزوم، وهما المحكوم (به) والمحكوم عليه فإن الحكم لازم للمحكوم عليه ما دام حكمًا له، والأوسط الذي هو الأدلة مما يتنوع ويتعدد بحسب ما يفتحه الله للناس من الهداية كما إذا كان ((الوسط)) خبرًا صادقًا، فقد يكون الخبر لهذا غير الخبر لهذا.
وإذا رؤي الهلام، وثبت عند دار السلطان وتفرق الناس، فأشعوا ذلك في البلد فكل قوم يحصل لهم العلم غير المخبرين الذين أخبروا غيرهم.
والقرآن والسنة الذي بلغه الناس عن الرسول بلغ كل قوم بوسائط غير وسائط غيرهم، لاسيما في القرن الثاني والثالث وهؤلاء لهم مقرئون ومعلمون ولهؤلاء مقرئون معلمون وهؤلاء كلهم وسائط وهم الأوساط بينهم وبين معرفة ما قاله الرسول وفعله، وهم الذين دلوهم على ذلك بأخبارهم وتعليمهم.
وكذلك المعلومات التي تنال بالعقل أو الحس إذا نبه عليها منبه، أو أرشد إليها (مرشد ومن جعل الوسط في اللوازم هو الوسط في نفس ثبوتها للموصوف. فهذا باطل من وجوه كما قد بسط في موضعه، وتقدير صحته، فالوسط الذهني أعم من الخارج كما أن الدليل أعم من العلة، فكل علة يمكن الاستدلال بها. فالوسط الذي يلزمه الملزوم اللازم البعيد هو مستلزم لذلك اللازم فيمكن الاستدلال به.
فتبين أنه على كل تقدير يمكن الاستدلال على المطلوب بمقدمة واحدة إذا لم يحتج إلى غيرها. ولا يمكن إلا بمقدمات فيحتاج إلى معرفتهن، فإن تخصيص الحاجة بمقدمتين دون ما زاد وما نقص تحكم محض.
ولهذا لا تجد في سائر طوائف العقلاء ومصنفي العلوم من يلتزم في استدلاله البيان بمقدمتين لا أكثر ولا أقل ويجتهد في رد الزيادة إلى شيئين وفي
تكميل النقص بجعله مقدمتين إلا أهل منطق اليونان، ومن سلك سبيلهم دون من كان باقيًا على فطرته السليمة أو سلك مسلك غيرهم كالمهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان. وسائر أئمة المسلمين وعلمائهم ونظارهم وسائر طوائف الملل.
وكذلك أهل النحو والطب والهندسة لا يدخل في هذا الباب إلا من اتبع في ذلك هؤلاء المنطقيين، كما قلدوهم في الحدود المركبة من الجنس والفصل، وما استفادوا بما تلقوه عنهم علمًا يستغنى عن باطل كلامهم أو ما يضر ولا ينفع من الجهل أو التطويل الكثير.
ولهذا لما كان الاستدلال تارة يقف على مقدمة وتارة على مقدمتين، وتارة على مقدمات، كانت طريقة نظار المسلمين أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا من الأدلة على المقدمات ما يحتاجون إليه ولا يلتزمون في كل استدلال أن يذكروا مقدمتين كما يفعله من يسلك سبيل المنطقيين بل كتب نظار المسلمين وخطبائهم وسلوكهم في نظرهم لأنفسهم ومناظرتهم لغيرهم تعليمًا وإرشادًا ومجادلة على ما ذكرت وكذلك سائر أصناف العقلاء من أهل الملل وغيرهم إلا من سلك طريق هؤلاء.
وما زال نظار المسلمين يعيبون طريقة أهل المنطق ويثبتون ما فيها من العي واللكنة وقصور العقل وعجز النطق، ويثبتون أنها إلى إفساد المنطق العقلي واللساني أقرب منها إلى تقويم ذلك. ولا يرضون أن يسلكوها في نظرهم ومناظرتهم، لا مع من يوالونه ولا مع من يعادونه.
الإمام الغزالي وعلم المنطق:
وإنما أكثر استعمالها من زمن أبي حامد، فإنه أدخل مقدمة من المنطق اليوناني في أول كتابه ((المستصفى))، وزعم أنه لا يثق بعلمه إلا من عرف هذا المنطق وصنف فيه معيار العلم ومحك النظر وصنف كتابًا سماه ((القسطاس المستقيم، ذكر فيه خمسة موازين الثلاث الحمليات والشرطى المتصل والشرطى المنفصل، وغير عباراتها إلى أمثلة أخذها من كلام المسلمين، وذكر أنه خاطب بذلك بعض أهل التعليم وصنف كتابًا في تهافتهم، وبين كفرهم بسبب مسألة قدم العالم وإنكار العلم بالجزئيات والمعاد، وذمها أكثر مما ذم طريقة المتكلمين. وكان أولًا يذكر في كتبه كثيرًا من كلامهم إما بعباراتهم وإما بعبارة أخرى، ثم في آخر أمره بالغ في ذمهم، وبين أن طريقهم متضمنة من الجهل والكفر ما يوجب ذمها وفسادها أعظم من طريق المتكلمين ومات وهو مشتغل بالبخاري ومسلم.
والمنطق الذي كان يقول فيه ما يقول، ما حصل له مقصوده، ولا أزال عنه ما كان فه من الشك والحيرة ولم يغن عنه المنطق شيئًا. ولكن بسبب ما وقع منه في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلا هذا، وأن ما أدعوه من الحد والبرهان هو أمر صحيح عند العقلاء، ولا يعلم أنه ما زال العقلاء والفضلاء من المسلمين وغيرهم يعيبون ذلك ويطعنون فيه.
وقد صنف نظار المسلمين في ذلك مصنفات متعددة، وجمهور المسلمين يعيبونه عيبًا مجملًا لما يرونه من آثاره ولوازمه الدالة على ما في أهله مما يناقض العلم والإيمان، ويفضي بهم الحال إلى أنواع من الجهل والكفر والضلال.
والمقصود هنا أن ما يدعون من توقف كل مطلوب نظري على مقدمتين لا أكثر ليس كذلك.
وهم يسمون (القياس المضمر) القياس الذي حذفت إحدى (مقدمتيه) ويقولون إنها قد تحذف إما للعلم بها، وإما غلطًا أو تغليطًا.
فيقال إذا كانت معلومة، كانت كغيرها من المقدمات المعلومة، وحينئذ فليس إضمار مقدمة بأولى من إضمار ثنتين وثلاث وأربع، فإن جاز أن يدعى في الدليل الذي لا يحتاج إلى مقدمة، أن الأخرى تضمر محذوفة، جاز أن يدعى فيما يحتاج إلى ثنتين أن الثالثة محذوفة، وكذلك فيما يحتاج إلى ثلاث، وليس لذلك حد، ومن تدبر هذا وجد الأمر كذلك.
ولهذا لا يوجد في كلام البلغاء أهل البيان الذين يقيمون البراهين والحجج واليقينية بأبين العبارات من استعمال المقدمتين في كلامهم، وما يوجد في كلام أهل المنطق، بل من سلك طريقهم كان من المتفيقيهين لطريق العلم عقولًا وألسنة، ومعانيهم من جنس ألفاظهم تجد فيها من الركة والعي ما يرضاه عاقل.
وكان يعقوب بن اسحق الكندي فيلسوف الإسلام في وقته- أعني الفيلسوف الذي في الإسلم، وإلا فليس الفلاسفة من المسلمين، كما قالوا لبعض أعيان القضاة الذين كانوا في زمان ابن سينا من فلاسفة الإسلام؟ فقال: ليس للإسلام فلاسفة- كان يعقوب يقول في أثناء كلامه العدم فقد وجود كذا وأنواع هذه الإضافات.
ومن وجد في بعض كلامه فصاحة أو بلاغة كما يوجد في بعض كلام ابن سينا وغيره، فلما استفاده من المسلمين من عقولهم وألسنتهم، وإلا فلو مشى على طريقة سلفه وأعرض عما تعلمه من المسلمين لكان عقله ولسانه يشبه عقولهم وألسنتهم.
وهم أكثر ما ينفقون على من لم يفهم ما يقولونه ويعظهم بالجهل والوهم، أو يفهم بعض ما يقولونه، أو أكثره، أو كله مع عدم تصوره في تلك الحال لحقيقة ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم وما يعرف بالعقول السليمة، وما قاله له سائر العقلاء مناقضًا لما قالوه، وهو إنما وصل إلى منتهى أمرهم بعد كلفة ومشقة، واقترن بها حسن ظن فتورط من ضلالهم فيما لا يعلمه إلا الله ثم إن تداركه الله بعد ذلك كما أصاب كثيرًا من الفضلاء الذين أحسنوا بهم الظن ابتداء، ثم انكشف لهم من ضلالهم، ما أوجب رجوعهم عنهم، وتبرأهم منهم وردهم عليهم.
وضلالهم في الإلهيات ظاهر لأكثر الناس، ولهذا كفرهم فيها نظار