الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فيها صاحبها مناهج الاسترسال والمخاطبات البليغة وقد أفردنا لها كتابنا "أسلوب الحكيم في منهم الإنشاء القويم" فارجع إليه إن شئت.
الفن الثاني في المناظرات
للمناظرة ثلاثة شروط: الأول: أن يجمع بين خضمين متضادين أو متباينين في صفاتهما بحيث تظهر خواصهما بالمقابلة كالربيع والخريف والصيف والشتاء، والثاني: أن يأتي كل من الخصمين في نصرته لنفسه وتفنيد مزاعم قرنه بأدلة من شأنها أن ترفع من قدره وحط من مقام الخصم بحيث ميل بالسامع عنه إليه، والثالث: أن تصاغ المعاني والمراجعات صوغاً حسناً وترتب على سياق محكم ليزيد بذلك نشاط السامع وتنمي فيه الرغبة في حل المشاكل.
ولنذكر لك عليها شذرات من أقوال الكتاب فنقول:
"
مناظرة العثمان بن المنذر وكسرى وأنوشروان في شأن العرب
"
روى بن القطامي عن الكلبي قال: قدم النعمان بن المنذر على كسرى وعند وفود الروم والهند والصين فذكروا من ملوكهم وبلادهم: فافتخر النعمان بالعرب وفضلهم على جمع الأمم لا يستثنى فارس ولا غيرها: فقال كسرى وأخذته عزة الملك يا نعمان لقد فكرت في أمر العرب وغيرهم من الأم ونظرت في حالة من يقدم عليّ من وفود الأمم، فوجدت للروم حظاً في اجتماع ألفتها وعظم سلطانها وكثرة مدائنها ووثيق بنيانها وإن لها دينا يبين خلالها وحرامها ويرد سفيهها ويقيم جاهلها ورأيت الهند نحوا من ذلك في حكمتها وطبها وكثرة أنهار بلادها وثمارها وعجيب صناعتها وطيب أشجارها ودقيق حسابها وكثرة عددها ووكذلك الصين في اجتماعها وكثرة صناعات أيديها وفروسيتها وهمتها في آلة الحرب وصناعة الحديد وإن لها ملكاً
يجمعها، والترك والخزر على ما بهم من سوء الحال في المعاش وقلة الريف والثمار والحصون وما هو رأس عمارة الدنيا من المساكن والملابس لهم ملوك تضم قواصيهم وتدبر أمرهم، ولم أر للعرب شيئاً من خصال الخير في أمر ودين ولا دنيا لا حزم ولا قوة: ومع أن مما يدل على مهانتها وذلها وصغر همتها محلتهم التي هم بها مع الوحوش النافرة والطير الحائرة يقتلون أولادهم من الفاقة ويأكل بعضهم بعضاً من الحاجة قد خرجوا من مطاعم الدنيا وملابسها ومشربها ولهوها ولذاتها، فأفضل طعام ظفر به ناعمهم لحوم الإبل التي يعافها كثير من السباع لثقلها وسوء طعمها وخوف دائها، وإن قوى أحدهم ضيفاً عدها مكرمة وإن أطعم أكلة عدها غنيمة تنطق بذلك إشعارهم وتفتخر بذلك رجالهم (ما خلا هذه التنوخية التي أسس جدي اجتماعها وشد مملكتها ومنعها من عدوها فجرى لها ذلك إلى يومنا هذا وإن لها مع ذلك آثاراً ولبوساً وقرى وحصوناً وأموراً تشبه بعض أمور الناس يعني اليمن) ثم لا أراكم تستكبنون على ما بكم من الذلة والقلة والفاقة والبؤس حتى تفتخروا وتريدوا أن تنزلوا فوق مراتب الناس، قال النعمان أصلح الله الملك: حق لأمة الملك منها أن يسمو فضلها ويعظم خطبها وتعلوا درجتها إلا أن عندي جواباً في كل ما ينطق به الملك في غير رد عليه ولا تكذيب له فإن أمنني من غضبه نطقت به: قال كسرى: قل فأنت آمن: قال النعمان: أما أمتك أيها الملك فليست تنازع في الفضل لموضعها الذي هي به من عقولها وأحلامها وبسطة محلها وبحبوحة عزها وما أكرمه الله به من ولاية آبائك وولايتك وأما الأمم التي ذكرت فأي أمة تقرنها بالعرب إلا فضلتها: قال كسرى بماذا: قال النعمان بعزها ومنعتها وحسن وجوهها وبأسها وسخائها وحكمة ألسنتها وشدة عقولها وأنفتها ووفائها.
فأما عزها ومنعتها فإنها لم تزل مجاورة لآبائك الذين دخلوا البلاد
ووطدوا الملك وقادوا الجند لم يطمع فيهم طامع ولم ينلهم نائل حصونهم ظهور خيلهم ومهادهم الأرض وسقوفهم السماء وجنتهم السيوف وعدتهم الصبر، إذا غيرها من لأمم إنما عزها الحجارة والطين وجزائر البحور.
وأما أحسن وجوهها وألوانها فقد يعرف فضلهم في ذلك على غيرهم من الهند المنحرفة والصين المنحفة والتك المشوهة والروم المقسرة.
وأما أنسابها وأحسابها فليست أمة من الأمم إلا وقد جهلت آباءها وأصولها وكثيراً من أولها حتى أن أحدهم ليسأل عمن وراء أبيه دنيا فلا ينسبه ولا يعرفه، وليس أحد من العرب إلا ويسمى آباءه أبا فأبا حاطوا بذلك أحسابهم وحفظوا به أنسابهم فلا يدخل رجل في غير قومه ولا ينتسب إلى غير نسبه ولا يدعي إلى غير أبيه.
وأما سخاؤها فإن أذناهم رجلا الذي تكون عند البكرة والنا عليها بلاغة في حموله وشبعه وريه فيطرقه الطارق الذي يكتفي بالفلذة ويجتري بالشربة فيعقرها وله ويرضى أن يخرج عن دنياه كلها فيما يكسبه حسن الأحدوثة وطيب الذكر.
وأما حكمة ألسنتهم فإن الله تعالى أعطاهم في أشعارهم ورونق كلامهم وحسنة وزنه وقوافيه مع معرفتهم بالأشياء وضربهم للأمثال وإبلاغهم في الصفات وما ليس لشيء من ألسنة الأجناس، ثم خيلهم أفضل الخيل ونساؤهم أعف النساء ولباسهم أفضل اللباس ومعدنهم الذهب والفضة وحجارة جبالهم الجزع ومطاياهم التي لا يبلغ على مثلها سفر ولا يقطع بمثلها بلد قفرٌ.
وأما دينها وشريعتها لأنهم متمسكون به حتى يبلغ أحدهم من نسكه بدينه أن لهم أشهراً حرماً وبلجاً محرماً وبيتاً محجوجاً ينسكون فيه مناسكهم ويذبحون فيه ذبائحهم فيلقى الرجل قاتل أبيه أو أخيه وه قادر على أخذ ثأره وإدراك رغمه منه فيحجزه كرمه ويمنعه دينه عن تناوله بالأذى.
وأما وفاؤها فإن أحدهم يلحظ اللحظة ويومئ الإيماء فهي ولت (أي عهد) وعقدة ولا يحلها إلا خروج نفسه وإن أحدهم يرفع عوداً من الأرض فيكون رهناً بدينه فلا يغلق رهنه ولا تحفز ذمته وإن أحدهم ليبلغه أن رجلاً استجار به وعسى أن يكون نائياً عن داره فيصاب فلا يرضى حتى يفنى تلك القبيلة التي أصابته أو تفنى لما أحفز من جواره وأنه ليلجأ إليهم المجرم المحدث من غير معرفة ولا قرابة فتكون أنفسهم دون نفسه وأموالهم دون ماله.
وأما قولك أيها الملك يئدون أولادهم فإنما يفعله من يفعله منهم بالإناث أنفة من العار وغيرة من الأزواج.
وأما قولك إن أفضل طعامهم لحوم الإبل على ما وصفت منها فما تركوا ما دونها إلا احتقاراً ل فعمدوا إلى أجلها وأفضلها فكانت مراكبهم وطعامهم مع أنها أكثر البهائم شحوماً وأطيبها لحوماً وأرقها ألباناً وأقلعها غائلة وأحلاها ومضغة وإنه لا شيء من اللحمان يعالج ما يعالج به لحمها إلا استبان فضلها عليه.
وأما تجاربهم وأكل بعضهم بعضاً وتركهم الانقياد لرجل يسوسهم ويجمعهم فإنما يفعل ذلك من يفعله من الأمم إذا أنست من نفسها ضعفاً وتخوفت نهوض عدوها بالزحف وإنه إنما يكون في المملكة العظيمة أهل بيت واحد يعرف فضلهم على سائر غيرهم فيقولون إليهم أمورهم وينقادون لهم بأزمتهم.
وأما العرب فإن ذلك كثير فيهم حتى لقد حاولوا ن يكونوا ملوكاً أجمعين مع آنفتهم من أداء الخراج والوطث (أي الضرب الشديد بالرجل على الأرض) بالعسف.
وأما اليمن التي وصفها الملك فإنما أتى جد الملك إليها الذي أتاه عند غلبة الجيش له على ملك وأمرٍ مجتمع فأتاه مسلوباً طريداً مستصرخاً ولولا