الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(صاحب أبي تمام) كيفما كان الأمر لا تستطيعون أن تدفعوا ما أجمع عليه الرواة والعلماء أن جيد أبي تمام لا يتعلق به جيد أمثاله وإذا كان جيده بهذه المكانة وكان من الممكن إغفال رديئته واطراحه كأنه لم يقل فلا يبقى ريب في أنه أشعر شعراء عصره والبحتري واحد منهم.
(صاحب البحتري) إنما صار جيد أبي تمام موصوفاً ومذكوراً لندرته ووقوعه في تضاعيف الرديء فيكون له رونق وماء عند المقابلة بينه وبين ما يليه: وجيد البحتري كجيد أبي تمام إلا أنه يقع في جيد مثله أو متوسط فلا يفاجئ النفس منه ما يفاجئها من جيد صاحبه.
"
مناظرة السفينة والوابور للمرحوم السيد عبد الله النديم المتوفى سنة 1314ه
ـ"
شمرت "السفينة" عن الذراع وسحبت طرفها ونشرت الشراع واعتدلت ومالت وابتدأت وقالت:
حمداً لمن أسبغ على عباده جزيل الإنعام وسخر لهم من فضله السفن والأنعام وجعلهما مطيتين لحمل الأرزاق والأثقال وحافظين للذخائر عند السفر والانتقال وامتن بهما على عباده وهو عليم بما يصنعون فقال تعالى: (وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ)[المؤمنون: 22] وصلاةً وسلاماً على من أسفرت أسفاره عن عظيم أخلاقه فانفتح بتوجهاته الشريفة باب السياحة بعد إغلاقه وآله وأصحابه الذين تحملوا في الغزوات مشاق البرد والحر واقتحموا في نضر دينه عقبات البحر والبر "وبعد" فإن المخترعات في الدنيا كثيرة وقد صارت سهلة بعد أن كانت خطيرة ولكن من المعلوم لكل عاقل عارف بأحوال الأوائل ناقل أن شكلي أول غريب ابتدع وأحسن عظيم اختراع ما تقدمني سوى الحيوان والكواكب وضروريات الزرع وبعض آلات المعاطب وكان البحر قبلي ظلمة ما طلع له فجر وانشرح لها صدر بل غرضاً ما أصابه سهم ومعنى ما ترقى لهم وهم حتى أمر الله نبيه نوحاً بصنعي وعلمه تركيب ضلوعي عند جمعي فبذل في جهده وباشر عملي وحده وكلما مر عليه ملأٌ من قومه سخروا منه قال: (إِن تَسْخَرُواْ مِنّا فَإِنّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ)[هود: 38] فقال تعالى: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الّذِينَ ظَلَمُوَاْ إِنّهُمْ مّغْرَقُونَ)[هود: 37] فاستمر حتى أتم عمله وحقق رجاءه وأمله وأنزلني البحر عروساً وأطاب بي نفوساً فتلقاني البحر على رأسه وجريت بين روحه وأنفاسه وصار كل غريب حاضر لدي وكلما تلاطم البحر ضربته بيدي لا ترهبني منه الأمواج ولا تردني عنه الأبراج أحمل الذخائر والأرزاق وأجمع الأحباب والعشاق ومع ذلك فإن أصلي معدن الثمر ونزهة الأرقاء عند السمر فمن له أب كأبي ومن قبلي صنعه نبي فمجدي شامخ ومجد غيري متهدم والفضل كل الفضل للمتقدم.
فالتهبت أحشاء (الوابور) بفحم الحجر وصعدت أنفاسه مشوبة بشرر وزمجر وكفر وصاح وصفر وجرى حتى خرج عن "الشريط" وقال السكوت على هذا من التفريط ثم كر بعجله وجال وابتدأ رداً عليه فقال:
الحمد لله خالق كل شيء موجود الذي يشرفني بالذكر قبل الوجود حيث امتن على عباده بخلق عليها يحملون ثم قال: (وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ)[النحل: 8] ويستأنس لي بقوله: (وَخَلَقْنَا لَهُمْ مّن مّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ)[يس: 42] ولا يغفل عن ذكري إلا الجاهلون والصلاة والسلام على من تكلم بالمغيبات من غير شك ولا التباس المنزل عليه (وَأَنزْلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنّاسِ)[الحديد: 25] وأصحابه الذين اتخذوا من معدني دروعاً وتيجاناً وقاتلوا بها حتى أظهروا ديناً وأرضوا ديّاناً "وبعد" فالوقوف عند حد النفس إنصاف والخروج عنه قبيح الأوصاف: الفخر لا يكون إلا عن كبر أو غباوة وهو أول داع للحرب والعداوة فكم أثار حرباً وأضرم ناراً وكم هدم قصراً وأباد داراً ولكن شر أهر ذا ناب وكوة فتحت بها أبواب فإني ما كنت أظن أن السفينة الحقيرة المسكينة تخرج من الأجراف وهي ترفع في وجهي المجداف ولكن قد يلقى الإنسان ضد أمله والمرء مجزي بعمله ومن سل سيف البغي قتل به وأهم أمريك الذي أنت به فانتبه فقابل أعداءك بأرداء الحجارة وإياك أعني فاسمعي بإجارة فإنك وإن كنت أول عمل للخلق وصناعة نبي بوحي الحق إلا أنك حمالة الحطب قريبة العطب إن هبت عليك نسمات هلك من فيك ومات وإن كتبت لك سلامة فلا حباً ولا كرامة وإن كسر ضلعك فار علا فيك الماء وفار: بم تفتخرين وأنت مكتفة بالحبال وخدمتك ينادون بالوبال إن سلكت طرق الأمن ارتجفت القلوب وإن ساعدتك الصبا أهلكتك الجنوب تغرقين إن زاد عليك "طرد" وتهلكين إن نزل عليك "شرد" فإن أبيت السير سحبوك على وجهك وإن كلوا تركوك وباتوا على قلبك ما أقبح أصوات الأوباش حين يصعدون لسحب القماش وما أفظع تلك الضجة إذا "شحطت" وسط اللجة كم عقت محباً عن حبيبه وأحرمت تاجراً من نصيبه وكم جعلوك مطية للفساد وآلة لهلاك العباد فإن كنت ذكرت في الكتاب صراحة فقد ذكرت ضمناً وإن ظهرت قبلي لفظاً فقد كنت معنى ما تأخر لتاجر عندي سبب ولا حرم من صاحبني بلوغ أرب طريقك معوج وطريقي مستقيم لا يملني صحيح ولا يسأمني سقيم فسحبت السفينة "المداري" وقالت له "باري باري" كم تعرض وتصرح "وأصفح وأصلح" ولكن مهلاً يا أبا لهب فقد خرجت عن الأدب ولابد ما "أرسي" على برّك وأحرقك بلهيب جمرك حصرت بين "عجل وقضيب" ووقفت في جحيم ولهيب وتغذّيت "بالخشب والفحم" وتفكهت "بالزيت والشحم" وتولعت "بالمشاقة والكهنه" وتحليت "بالهباب والدهنة" وتمكن الغيظ فيك وانحبس حتى صار فيك "نفس" وجئت تقول إني حمالة الحطب وأنت حمال النار واللهب وإني قريبة العطب وأنت أبو البلايا والكرب إن جريت فضحت عرضك وإن وقفت تأكل بعضك وإن صدمك شيء هلكت ووقفت وما سلكت وإن كسر "ذراعك" وقعت وقليل إن طلعت وإن دخن أنفك تعمى صورتك وإن ظمئت يوماً طقت "ما سورتك" تجري في الخلاء والقفار وتقول النار ولا العار ما أوسخ رجالك وأضيق مجالك يا مفرق الأحباب ومفزع الركاب غريقي أرجى من غريقك وبحري أنجا من طريقك كم هرست من إنسان وطحنت من حيوان وخلفت راكباً وتركته حيران وكم جعل رجالك الناس مسخرة إذا لم يجدوا معهم "تذكرة" وكم أضعت على تاجر فلوسه إذا فقدت منه "بوليسة" أعلى غير "الشريط" تجري فضلاً عن لجي وبحري أدخل نفسك في "مخزن الوفر"(وفضك من النفخ والصفر) تفتخر على أغصان الطعوم "وأنت حديد يا مشوم" ولئن سرت على "عجل" فقلوب أهلك في وجل أما علمت أن العجلة من الشيطان وأن الباغي جزاؤه النيران شغلت بالأكل والتمشي ففاتك الرفق والتأني.
وبالجملة فإني سابقة هذا الميدان ولا ينتطح في ذلك عنزان.
فتحرك الوابور تحرك ناقد وتنهّد تنهد حاقد وقطع (قطره) وأبا (شحناً) وقال أسمع جعجعة ولا أرى طحناً أبعوض تطن في أذن فيل وصورة تعد في التماثيل ولكني أبيت مخاطبتك وعفت وكرهت وجهك المدهون "بالزفت" فإن حالك حال الحيران وصباحك صباح "القطران" وكيف أفاخر امرأة عقلها في "مؤخرتها" وهلاكها في تمزيق مئزرها تقاد بحبل طويل وتنقاد لأدنى "عويل" يديرها (شاغول) وفكرها مشغول تتبع هواها في السير ولها جناح كالطير أمية فيها (قارية) ويد عاجزة لها (باريه) ثالثة العيزين في ذل (الوتد)(وَامْرَأَتُهُ حَمّالَةَ الْحَطَبِ {4} فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مّن مّسَدٍ)[المسد: 4 5] .
"
مناظرة بين الليل والنهار لمحمد أفندي المبارك الجزائري
"
لما أسفر النهار عن بياض الغرة قابله الليل بسواد الطرة ثم صار الهزل جداً واشتد النزاع بينهما جداً فاستنجد كل منهما أميره وأفشى له سره وضميره وإذا بالليل حمل على النهار فصبغ حمرة وردته بصفرة البهار وخطر يجر ذيول تيهه وعجبه مرصعاً تيجان مفاخره بدرر شهبه. ثم قال: (وَالْلّيْلِ إِذَا يَغْشَىَ)[الليل: 1](إِنّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لّمَن يَخْشَىَ)[النازعات: 26] ففتح باب المناقشة في هذا الفصل وعقد أسباب المنافسة بقول الفصل (فإن الحرب أولها كلام) ثم تنجلي عن قتيل أو أسير بكلام ولما بلغ الليل غايته بزغ الفجر ورفع رايته وقال إذ جال في معترك المنايا (أنا ابن جلا وطلاع الثنايا) فتقدم في ذلك الميدان وجلي تالياً قوله تعالى: (وَالنّهَارِ إِذَا تَجَلّىَ)[الليل: 2] ثم استوى على عرش السنا والسناء وأطلع شموس طلعته في الأرض والسماء فأعرب عن غوامض الرقائق والحقائق وأغرب في نشر ما انطوى من الأسرار والدقائق وما انحدر من منبره حتى أيد دعوى
خبره بشاهد مخبره فانتدب إليه "الليل" ومال عليه كل الميل وقال أحمد من جعلني خلوة للأحباب وجلوة لعرائس العرفان ونفائس الأدباء وخلقني مثوى لراحة العباد ومأوى لخاصة النساك والعباد: ولله در من قال فأجاد:
أيها الليل طل بغير جناح
…
ليس للعين راحة في الصباح
كيف لا أبغض الصباح وفيه
…
بان عني نور الوجوه الصباح
أتردد على أرباب المجاهدة بفنون الغرائب وأتودد إلى أصحاب المشاهدة بعيون الرغائب تدور في ساحتهم بدور الحسن والبهاء وتدار من راحتهم كؤوس الأنس والهناء فتحييهم نغمات السمر وتحييهم نسمات السحر فأحيان وصلي بالتهاني مقمرة وأفنان فضلي بالأماني مثمرة وحسبي كرامة أني للناس خير لباس أقيهم بلطف الإيناس من كل باس ومن واصل الإدلاج وهجر طيب الكرى قيل له "عند الصباح يحمد القوم السرى".
وما الليل إلا للمجد مطيته
…
وميدان سبق فاستبق تبلغ المنى
ففتن بمعاني بيانه البديع وتفنن في أفانين التصريع والترصيع ثم أتم خطبته بالتماس المغفرة والعفو واستعاذ بالله من دواهي الغفلة ودواعي اللهو فوثب إليه (النهار) وصال عليه صولة ملك قهار وصعد على منبره ثانياً وقد أضحى التيه لعطفه ثانياً فأثنى على من جلى ظلمة الحجاب وتحلى له باسمه النور وتوجه بسورة من الكتاب وزانه بأبهى سراج وهاج فأوضح بسناه السبيل والمنهاج ثم صاح أيها الليل هلا قصرت من إعجابك الذيل ولئن دارت رحى الحرب واستعرت نار الطعن والضرب فلا سبين مخدراتك وهي عن الوجوه حاسرة وأنت تتلو يومئذ (تِلْكَ إِذاً كَرّةٌ خَاسِرَةٌ)[النازعات: 12] فما دعاك إلى حلبة المفاضلة وما دهاك حتى عرضت بنفسك للمناضلة وهل دأبك إلا الخداع والمكر وترقب الفرصة وأنت داخل الوكر أما حض القرآن على التعوذ (بِرَبّ الْفَلَقِ)[الفلق: 1] وندب (مِن شَرّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرّ غَاسِقٍ إِذَا
وَقَبَ) [الفلق: 2 3] فبربي يستعاذ من شرك ويستعان على صنوف صروف غدرك وهب أنك تجمع المحب بالحبيب إذا جار عليه الهوى وحار الطبيب فكم يقاسي منك في هاجرة الهجر ويئن أنين الثكلى حتى مطلع الفجر.
يبيت كما بات السليم مسهداً
…
وفي قلبه نار يشب وقد
فيساهر النجوم ويساور الوجوم وقد هاجت لواعج غرامه وتحركت سواكن وجده وهيامه: فأنشد وزفيره يتصعد:
أقضي نهاري بالحديث وبالمنى
…
ويجمعني والهم بالليل جامع
نهاري نهار الناس حتى إذا بدا
…
لي الليل هزتني إليك المضاجع
على أن العاشق الواله يشكو منك في جميع أحواله فكم قطع آناءك بمواصلة أنينه متململاً من فرط شوقه وحنينه فلما أن حظي بالوصال تمثل بقول من قال:
الليل إن واصلت كالليل إن هجرت
…
أشكو من الطول ما أشكو من القصر
ولئن افتخرت ببدرك الباهي فإما تباري ببعض أنواري وتباهي وهل للبدر عند إشراق الشمس من نور أو لطلعة حسنه من خدور البطون ظهور ومن أدعى أنك تساويني في الفضل والقدر أو زعم أن الشمس تقتبس من مشكاة البدر ومتى استمدت الأصول من الفروع "وما أغنى الشموس عن الشموع" فبي تنجلي محاسن المظاهر الكونية وتتحلى بجواهر الأعراض اللونية وأنى يخفى حسني وجمالي على مشاهد أو يفتقر فضلي وكمالي إلى شاهد وعرضي عارٍ عن العار وجميع الحسن من ضيائي مستعار.
وليس يصح في الأذهان شيء
…
إذا احتاج النهار إلى دليل
أما كفاك بينةً وزادك ذكرى وتبصرة قوله تعالى: (فَمَحَوْنَآ آيَةَ الْلّيْلِ وَجَعَلْنَآ آيَةَ النّهَارِ مُبْصِرَةً)[الإسراء: 12] و (هَلْ يَسْتَوِي الأعْمَىَ وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي
الظّلُمَاتُ وَالنّورُ) [الرعد: 16] وأين منزل أهل الغفلة من منزل أهل اليقظة والحضور وإن كنت مغنى الأنس والأفراح تفعل بعقول الناس فعل الراح فهل حسبت أن السكون خير من الحركة وقد أجمع العالم على أن "الحركة بركة" فإن لي بكل خطوة حظوة وليس لجوادي كبوة ولا لصارمي نبوة وإن صرحت بالذين يبيتون لربهم سجداً وقياماً معرضاً بكل غافل لاه في كل مجال (رِجَالٌ لاّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللهِ)[النور: 37] وأين من احتجب بظلمات بعضها فوق بعض ممن أضحى ينظر بعين الاعتبار في ملكوت السموات والأرض وقد أتحفني الله بالصلاة الوسطى فأوتر بها صلواتي وشرع فيها الإسرار لأسرار اختصت بها أهل جلوتي وكفاني شرفاً (شَهْرُ رَمَضَانَ الّذِيَ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)[البقرة: 185] فمآثري مأثورة في القديم والحديث ومفاخري منثورة في الكتاب والحديث ومحاسني واضحة لأولي الأبصار وهل تخفى الشمس في رائعة النهار فاكفف عن الجدال وأمسك ولا تجعل يومك مثل أمسك وسالم من ليس لك عليه قدرة فقد قيل: (ما هلك امرؤ عرف قدره) أقول قولي هذا واستغفر الله من آفة العجب والكبرياء ولما انهار ركن النهار ابهارّ (الليل) وتبرقع بالاكفهرار فسد ما بين الخافقين بسواده وطفق يرمي بسهام جداله في جلاده وقدم بين نجواه سورة القدر آية على ما حازه من كمال الرفعة والقدر وثني بقوله تعالى: (سُبْحَانَ الّذِي أَسْرَىَ بِعَبْدِهِ لَيْلاً)[الإسراء: 1] فأشار إلى الحبيب حين تجلت له قرة عينه ليلاً ثم قال سحقاً لك أيها النهار فقد أسست بنيانك على شفا جرف هارٍ تناضلني ومني كان انسلاخك وظهورك وتفاضلني وبي أرحت أعوامك وشهورك ألم يأن لك أن تخشع للذكر فتعترف لي برتبة التقديم في الذكر وكيف تعيرني بلون السواد وهل يقبح السواد إلا في الفؤاد أم كيف تعيبني
بالخداع "والحرب خدعة" وليس الشيء في موطنه بغريب ولا بدعة أما تشهد العوالم من هيبتي حيارى (وَتَرَى النّاسَ سُكَارَىَ وَمَا هُم بِسُكَارَىَ)[الحج: 2] فكم أرقت ملوكاً أكاسرة وأرقت دماء أسودٍ كاسرة وكم أرويت نار الوغى تحت العجاج وقد ازورت اللحاظ واغبرت الفجاج فأنا البطل الذي لا يصطلى بناره ولا يأخذ منه الموتور بثأره وافتخارك علي بالصلاة الوسطى ليس إنصافاً منك ولا قسطاً وهب أنك انفردت بتلك الصلاة الجليلة فأين أنت مما أوتيته من الصلات الجزيلة أما كان افتراض الصلاة في ليلة العروج فما بالك تدعي الارتقاء إلى هذه البروج.
وما أعجبتني قط دعوى عريضة
…
ولو قام في تصديقها ألف شاهد
وأما افتخارك علي بشهر رمضان وما نزل فيه من السبع المثاني والقرآن فهل صح لك صيامه إلا بي بدأ وختاماً وقد تميزت عليك بفضيلة إحيائه تهجداً وقياماً على أني محل النية "ونية المرء خير من عمله" لأنها بمثابة الروح له وبها يحظى الراجي ببلوغ أمله هذا وإني أتكفل للصائم بمد يد الراحة ووافر الأجر حتى يتبين له الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر وكيف تفتخر بالكتاب المنزه في مزاياه عن المشاركة والله تعالى يقول فيه: (إِنّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مّبَارَكَةٍ)[الدخان: 3] وهل في مطالع سعودك أشرقت بدور العيدين أم على جناح جنحك أسرى بنور طلعة الكونين ثم عرج به عليه الصلاة والسلام إلى منزلة قاب قوسين وهل في تجليات أسحارك يقول الرب هل من سائل فيناجيه العبد متضرعاً إليه بقلب خاشع ودمع سائل ومما اختصصت به من الفضائل أنه في دولتي سيد الأوائل والأواخر وناهيك بليالي شهر الله رجب وكيف لا وفي طالعها السعيد حملت آمنة سيد العجم والعرب
"فطلع النهار" طلوع الأسد من غابه وكسر جيوش الدجى حين كشر عن نابع وشمر للحرب العوان غيرنا كل ولا وان ناشراً في الأفق رايته البيضاء وأسنته لامعة بين الخضراء والغبراء وقال والذي كساني حلل الملاحة وأطلق لساني بالبلاغة والفصاحة لأمحون سطور الدجى من طروس الوجود ولأثبتن حسن أحوالي في مقامات أهل الشهود فإني معروف بالوفاء وصدق الخبر موصوف بالصفاء الذي لا يشوب صفوه كدر كيف يباهيني الليل بمكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وأنا أتحدث بنعم الله وهو موسوم بكفران النعم ألست مظهر الهداية والدلالة وهو مظهر الغواية والضلالة فكم أرشدت من أضله وأعززت من أهانه وأذله وكم أظهرت منه عيباً كان غبياً فابيضت عينه حزناً (وَاشْتَعَلَ الرّأْسُ شَيْباً)[مريم: 4] .
ومن جهلت نفسه قدره
…
رأى غيره منه ما لا يرى
وكيف يزعم هذا العبد الأبق أنه لسيده في حلبة الشرف سابق وقد قال الواحد القهار (وَلَا الْلّيْلُ سَابِقُ النّهَارِ)[يس: 40] إن هو وايم الله إلا كافر وبشموس أنوار الشهادة غير ظافر لو كان من السعداء لفاز بدار النعيم ولولا شقاؤه لما شابه سواد طبقات الجحيم وماذا يؤمله من الجزاء ويرجوه (يَوْمَ تَبْيَضّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدّ وُجُوهٌ)[آل عمران: 106] أما دري أن صحيفته سوداء مظلمة وصحيفتي تفصح عن نفس مؤمنة بالله مسلمة وأنى يرقى كتابه إلى عليين وهي من ظلمات الحجاب في سجين ثم أقبل عيه وأنشد مشيراً إليه:
يا مشبا في فعله لونه
…
لم تعد ما أوجبت القسمة
خلقك من خلقك مستخرج
…
والظلم مشتق من الظلمة
وقال كيف تدعي فوق حالك وأي فضل لمن منظره أسود حالك أما علمت أن الظاهر للباطن عنوان كما أن اللسان عن الجنان ترجمان: قال أفضل الخلق "ابتغوا الخير عند حسان الوجوه" وقال الشاعر:
لا تسأل المرء عن خلائقه
…
في وجهه شاهد من الخبر
فأنا مفتاح خزائن الأرزاق وبي يستفتح باب الكريم الرزاق وكفاني دليلاً على الفضل والكمال "إن الله تعالى جميل يحب الجمال" لقد سمعت أقاويلك التي قدمها بين يديك وزعمت أنها حجة عليك ولا جرم أن "لسان الجاهل مفتاح حتفه وكم من باغ قتل بصارم بغيه وحيفه أما انسلاخي منك فمن أملح الملح لي والغرر وهل تحق لأصناف الأصداف أن تنافس الدرر أليست (تلد الأمة ربتها حرة نجيبة) وقد قالوا (إن الليالي حبالى يلدن كل عجيبة) وما تقدمك علي فمن العادة تقدم الخدم بين يدي السادة:
أو ما ترى أن النبيّ محمداً
…
فاقَ البريّةَ وهو آخرُ مرسل
على أنه (أو ما خلق الله النور) كما ورد عن جابر في خبره المأثور.
وأما تحلي صفوتك بتجلي الحق تعالى في السحر فليس إلا لمن أحيا أحيانك بالمجاهدة والسهر وأما زهوك بقصة ظهور سيد ولد آدم الذي هو نتيجة مقدمات الكون وزبدة العالم فهل وقع اتفاق الرواة على ذلك وأنى لك هذا وصبح طلعته يمحو سوادك الحالك وأما خبر الإسراء فعني روته الأمة ثم بلغه الشاهد للغائب بعد أمة فما لاحت أسراره إلا بمطالعي ولا زاحت أستاره إلا بطوالعي وما أشرت إليه من بقية معانيك التي أضاءت بها في الخافقين نجوم معاليك فأنت أين من يوم عرفه الذي عرفه بأبهى الخصائص من عرفه وأين أنت من يوم عاشوراء الذي يعظم فيه الشكر والصبر على السراء والضراء وناهيك بسمو شأن العيدين فما أجلها من موسمين سعيدين وكيف تفاخرني بساعة تبدو منك مرة في كل عام ولي في كل
أسبوع أمد تمتد فيه موائد الجود والإنعام فأخبار أخياري سارت بها الركبان وماست بنسيم رقتها معاطف البان وقدري فوق ما تصفه الألسن وعندي (مَا تَشْتَهِيهِ الأنْفُسُ وَتَلَذّ الأعْيُنُ)[الزخرف: 71] فدع عنك قول الزور والمين (فقد بين الصبح لذي عينين) ولما أفاض النهار في حديث يفضح الأزهار أبدع في كنايته وتلويحه وأعرب في تعريضه وتصريحه (ابتدر له الليل) وأجلب عليه بالرجل والخيل وامتطى جواده الأدهم واعتم بعمامة سوداء وتلثم فأنسى بفتكاته عنترة بني عبس حين أمسى يتعود عمارة بالقتل والرمس ثم نشر في الأفق ذوائبه السود وعبس وبسر فأسر بسطوته الأسود وقال: (فَلَا أُقْسِمُ بِالشّفَقِ {16} وَاللّيْلِ وَمَا وَسَقَ {17} وَالْقَمَرِ إِذَا اتّسَقَ)[الانشقاق: 16 18] لأسبينّ رومي النهار ولأجعلنّه عبرة لذوي الاعتبار لقد تزيا المملوك بزي الملوك وادعى مقام الوصول إلى صاحب السير والسلوك أما كفاه ازدرائي وتحقيري حتى حكم بتضليلي وتكفيري كم أسبلت على عوراته ذيل ستري وهو لا يبالي بهتك أستاري وكم أودعت مكنون سره في خزانة سري وهو يبوح بمصون أسراري أفّ له من فاضح أما يكفيه ما فيه من المفاضح.
أنمُّ بما استودعتهُ من زجاجةٍ
…
يرى الشيءُ فيها ظاهراً وهو باطنُ
كيف احتجَّ لتقدمه بحديث جابر مع أن ما رواه لكسرى أعظم جابر فإنه برهن على تقدمي عليه لو أدرك سر ما أومأ إليه وعلام جعل السواد على النقص علامة وهو مشتق من السؤدد لدى كل علامة أما درى أني حزت من الكمال الحظ الأوفر حتى تحلى ببديع وصفي العنبر والمسك الأذفر.
إن كنتُ عبداً فنفسي حرةٌ كرماً
…
أو أسود الخلق إني أبيض الخلق
وهل يزري بالخال سواده البارع أو يغري بالبرص بياضه الناصع وفي بياض المشيب عبرة وأي عبرة فكم أجرى من الآماق أعظم عبرة.
له منظرٌ في العين أبيض ناصع
…
ولكنه في القلب أسود أسفعُ
ومن عاب نعت الشباب وفضل وصف الشيب فقد غاب عن شهود العيب وعالم الغيب (فما كل بيضاء شحمة ولا كل حمراء لحمة) ولما أنهى مقاله ومل مقامه شمر للرحلة أذياله وقوض خيامه فتهلل وجه الصباح وهلل بذكره (فَالِقُ الإِصْبَاحِ)[الأنعام: 96] وازدهاه السرور والابتهاج كأنه رب السرير والتاج.
فكأنّ الصبح لمّا
…
لاحَ من تحت الثريا
ملكٌ أقبل في التا
…
ج يفدّى ويحيّا
وبرز إلى المبارزة من بابها إذ كان من فرسانها وأربابها فسلب الليل لباسه وأذاقه شدته وبأسه وقال له أيها المعجب بنفسه المغرب في نقشه صحيفة زوره بنقسه (ما كل سوداء تمرة ولا كل صهباء خمرة) ألم تعلم أينا أبهى محيا وشتان ما بين الثرى والثريا أين سوادك من بياضي وما زهر نجمك إن تلألأ زهر رياضي وكم أطلعت بدوراً في مواكب السيارة فأضحت تزهو بجمالها على الكواكب السيارة وهل لك مثل الغزالة التي انفردت في الملاحة لا محالة فأنا الذي ضاء صباح الصباحة من محياه وضاع عبير العنبر من نشر أنفاسه وطيب رياه ولولاي ما عرف الحسن والجمال على وجه الأرض بدر الكمال: فوجم (الليل) لبراعة تلك العبارة وبلاغة ما لاح له من الرمز والإشارة ثم وثب للمقال كأنما أنشط من عقال وقال (رب ملوم لا ذنب له) ومظلوم خبيث الدهر أمله فإلى متى يسوءني النهار وحتى ما يسومني عذاب النار طالما أعرته أذناً صماء وعيناً عمياء وهو لا ينثني عن المقابلة ولا يرعوي عن المحاربة والمقاتلة أما تعلم أيها المغتر ببياضك أن السواد حلية أهل الزهد والصلاح وهل يسترق الأسود إلا سود أحداق الملاح بيد أن الحر لا يبالي بالجمال الظاهر وإنما يباهي بالفعل
الجميل القلب الطاهر فإن تفاؤت المراتب بحسن تفاؤت المناقب.
وما الحسن في وجه الفتى شرفٌ له
…
إذا لم يكن في فعله والخلائق
وكم أعددت للأنس مقاعد وفي الأمثال (ربّ ساعٍ لقاعد) فإن ظلي ظليل ونسيمي عليلٌ بليل تهدأ بي الأنفاس وتسكن الأعضاء والحواس.
(فقام النهار) يعثر في ذيله وقد كفكف واكف سيله فما لبث أن تنفس الصباح وأظهر من سناه ما أخفى ضوء المصباح ورفرف بجناحه الأبيض على الدجى فاقتنصه من وكره بعدما سكن وسجا.
فكأنّ الصباح في الأفق بازٌ
…
والدجى بين مخلبيه غرابُ
وقال تبا لك أيها (الليل) فلقد أوتيت من المين أوفر نيل أي حديث لك صحيح وضعته وأي حق لك صريح أضعته.
عليك بالصدق ولو أنه
…
أحرقك الصدقُ بنار الوعيد
وأبغ رضا الله فأبغى الورى
…
من أسخط المولى وأرضى العبد
نعم لك في السمر خبرٌ مرفوع بيد أنه مكروه في السنة موضوع قد اشتهرت لكن بأقبح الأوصاف وعدلت لكن عن سبيل العدل والإنصاف تكتم عن المرء ما يرديه (وَتُخْفِي فِي نِفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ)[الأحزاب: 37] وفي المثل (الليل أخفى للويل) فما أصعب مراسك قبل افترار سهيل وهل يترنم بذكرك إلا غافل وأنى يغتر بك عاقل ونجمك آفل وكيف تفتخر علي وأنت تفتقر إلي ولما سلب النهار بأساليب بيانه العقول "سكت الليل" ملياً ثم أنشأ يقول:
فعين الرضا عن كلّ عيب كليلةً
…
كما أن عين السخط تبدي المساويا
كيف أتصدى للكذب وأتردى باللهو واللعب وأنا المنعوت باللطف والظرف والموسوم بالصمت وغض الطرف كيف أورث الغرور وأوثر الغفلة على الحضور وأنا الداعي إلى ذكر الله وحده والساعي في رد الكثرة الوهمية إلى عين
الوحدة وأنا الموصوف بالستر الجميل والمعروف بشكر المعروف والجميل وهل أحجب البصر عن شهود عالم الكثافة إلا لأكشف لعين البصيرة عن عالم اللطافة وبذلك يتحقق العبد بفنائه عن وجوده فيمده الرب تعالى بسر بقائه من خزائن جوده ثم قال: (النهار لليل) وقد هجم عليه هجوم السيل أيها المدعي مقام الدعوة إلى الله وهو في خال الغفلة عن مولاه لاه كيف تسنمت ذروة هذا المنبر كأنك تكتب بالمسك وتختم بالعنبر لقد أطلت فيما (لا طائل تحته) ولا معنى فكم ذا (أسمع جعجعة ولا أرى طحناً) فلو كنت ممن انتخب غرر الشيم وانتقى لاتعظت بقوله تعالى: (فَلَا تُزَكّوَاْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتّقَىَ)[النجم: 32] فتنبه من غفلتك أيها "الليل" قبل أن تدعو بالثبور والويل وإلا فرقت طلائع سوادك أي تفريق ومزقت سوابغ ظلمك أي تمزيق (فما كل مرة تسلم الجرة) فاسود وجه الليل وانقلب (بحشف وسوء كيل) وندم على مناضلة النهار ندامة الفرزدق حين فارق النوار (ولما سقط في يده) ورزئ في عدة وعدده ترى بالسواد ولبس ثياب الحداد ثم لاح هلاله للعين كمنجل صنع من لجين.
انظرْ إلى حسنِ هلالٍ بدا
…
يجلو سنا طلعتهِ الحندسا
كمنجل قد صيغ من فضةٍ
…
يحصد من زهر الدجى نرجسا