الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموضع الثامن تأويل صفة الساق
في التعليق على "صحيح ابن حبان" و"رياض الصالحين" و"شرح السُّنَّة"
* لمَّا أسند ابن حبان في "صحيحه" عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قلنا يا رسول الله، أنرى ربَّنا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"هل تُضَارُّونَ في رؤية الشمس إذا كان يومَ صحوٍ"؟ قلنا: لا، قال:"هل تُضَارُّون في رؤية القمر ليلة البدر إذا كان صحوًا"؟ قلنا: لا، قال:"فإنكم لا ئضَارُّون في رؤية ربكم إلا كما تضارون في رؤيتهما، ينادي منادٍ فيقول: "ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، قال: فيذهب أهل الصليب مع صليبهم، وأهل الأوثان مع أوثانهم، وأصحاب كل آلهةٍ مع آلهتهم، ويبقى من يعبد الله من بَرٍّ وفاجر، وغُبَّرَاتٌ (1) من أهل الكتاب.
(1) أي بقايا من أهل الكتاب. ينظر: "المفهم"(1/ 445) للقرطبي رحمه الله. ط دار ابن كثير ودار الكلم الطيب، الأولى =
ثم يؤتى بجهنم تعرض كأنها سراب فيقال لليهود: ما كنت تعبدون؟ فيقولون: كُنَّا نعبد عزيرًا ابنَ الله، فيقال: كذبتم ما اتخذ الله صاحبةً ولا ولدًا، ما تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، ثم يقال للنصارى: ما كنتم تعبدون؟ فيقولون: كنا نعبد المسيح ابن الله، فيقال: كذبتم، لم يكن له صاحبةٌ ولا ولد، ماذا تريدون؟ قالوا: نريد أن تسقينا، فيقال: اشربوا، فيتساقطون في جهنم، حتى يبقى من يعبد الله من بَرٍّ وفاجر، فيقال لهم: ما يحبسكم وقد ذهب الناس؟ فيقولون: قد فارقناهم، وإنما سمعنا مناديًا ينادي: ليلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، وإنا ننتظر ربَّنا.
قال: فيأتيهم الجبار لا إله إلا هو، فيقول أنا ربكم، فلا يكلمه إلا نبي، فيقال: هي بينكم وبينه آية تعرفونها؟ فيقولون: الساق، فيُكْشَف عن ساق، فيسجد له كل مؤمن، ويبقى من كان يسجد له رياءً وسمعة، فيذهب فيسجد، فيعود ظهره طبقًا واحدًا، ثم يؤتى بالجِسْر، فيجعل بين ظهراني جهنم".
= 1417هـ، بيروت، بتحقيق: محيي الدين مستو ويوسف علي بديوي وأحمد محمَّد السيد ومحمود إبراهيم بَزَّال.
فقلنا: يا رسول الله، وما الجسر؟ قال: "مدحضة مزلة، عليه خطاطيف وكلاليب وحسكة مفلطحة لها شوك عقيفاء، تكون بنجدٍ يقال لها: السعدان، يجوز المؤمن كالطَّرْف، وكالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل، وكالركاب، فناجٍ مُسَلَّم، ومخدوش مُسَلَّم، ومكدوس في جهنم حتى يمر آخرهم يسحب سحبًا، والحق قد تبين من المؤمنين إذا رأوا أنهم قد نجوا، وبقي إخوانهم، يقولون: يا ربنا إخواننا كانوا يصلون معنا، ويصومون معنا، فيقول الرب -جل وعلا-: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من إيمان فأخرجوه، ويحرم الله صورهم على النار، فيأتونهم وبعضهم قد غاب في النار إلى قدميه، وإلى أنصاف ساقيه، فيخرجون من النار، ثم يعودون ثانية، فيقول: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من إيمان فأخرجوه، فيخرجون من النار، ثم يعودون الثالثة، فيقال: اذهبوا فمن وجدتم في قلبه حبَّة إيمان، فأخرجوه، فيخرجون.
قال أبو سعيد: وإن لم تصدقوني فاقرأوا قول الله:
{إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40)} [سورة النساء، الآية: 40].
"فتشفع الملائكة والنبيون والصديقون، فيقول الجبار
-تبارك وتعالى لا إله إلا هو-: بقيت شفاعتي، فيقبض الجبار قبضة من النار، فيخرج أقوامًا، قد امتحشوا، فيلقون في نهر، يقال له: الحياة، فينبتون فيه كما تنبت الحبة في حَمِيلِ السَّيل، هل رأيتموها إلى جانب الصخرة، أو جانب الشجرة، فما كان إلى الشمس منها كان أخضر، وما كان إلى الظل كان أبيض، فيخرجون مثل اللؤلؤ، فيجعل في رقابهم الخواتيم، فيدخلون الجنة، فيقول أهل الجنة: هؤلاء عتقاء الرحمن، أدخلهم الله بغير عمل عملوه ولا قَدَمٍ قَدَّموه، فيقال لهم: لكم ما رأيتموه ومثله معه".
قال أبو سعيد: بلغني أن الجسر أَدَقَّ من الشَّعر، وأَحَدُّ من السيف (1).
قال أبو حاتم: الساق: الشدة.
• علَّق على هذا الشيخ شعيب الأرنؤوط فقال:
قلت: وقد جاء عن ابن عباس في قوله تعالى:
(1)"الإحسان"(7377). ورواه البخاري (7439) في التوحيد: باب قول الله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)} [سورة القيامة، الآيتان: 22، 23]. ورواه مسلم (183) في الإيمان: باب معرفة طريق الرؤية.
{يَومَ يُكشَفُ عَن سَاقٍ} [سورة القلم، الآية: 42]، قال: عن شدة في الأمر، والعرب تقول: قامت الحرب على ساق، إذا اشتدت، ومنه:
قد سَنَّ أصحابُك ضَرْبَ الأعناق
وقَامَتِ الحربُ بِنَا على سَاق
وأسند البيهقي في "الأسماء والصفات"(ص 345) الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كُلٌّ منهما حسن، وزاد: إذا خفي عليكم شيء من القرآن، فابتغوه من الشعر فإنه ديوان العرب، ثم أنشد الرجز المتقدم.
وأسند البيهقي (ص 346) من وجه آخر صحيح عن ابن عباس قال: يريد القيامة والساعة لشدتها.
وأنشد الإِمام الخطابي في "الأسماء والصفات" في إطلاق الساعة (1) على الأمر الشديد:
عجبت من نفسي ومن إشفاقها
ومن طرادي الطير عن أرزاقها
في سَنَةٍ قد كشفت عن ساقها
(1) كذا قال. ولعله يريد (الساق).
وفي "جامع البيان"(29/ 38) للطبري: قال جماعة من الصحابة والتابعين من أهل التأويل: يبدو عن أمرٍ شديد.
وقال الألوسي في "تفسيره"(29/ 34 - 35): المراد بذلك اليوم عند الجمهور يوم القيامة، والساق: ما فوق القدم، وكشفها والتشمير عنها مَثَلٌ في شدة الأمر، وصعوبة الخطب، حتى إنه يستعمل بحيث لا يتصور ساق بوجه، كما في قول حاتم:
أخو الحرب إن عَضَّتْ به الحربُ عضَّها
وإن شَمَّرَتْ عن ساقها الحربُ شَمَّرَا
وقال الراجز:
عجبتُ من نفسي وإشفاقها
..........................
وأصله تشمير المُخَدَّرات عن سوقهن في الهرب، فإنهن لا يفعلن ذلك إلَاّ إذا عَظُمَ الخطب، واشتدَّ الأمر، فيذهلن عن الستر بذيل الصيانة، وإلى نحو هذا ذهب مجاهد وإبراهيم النخعي وعكرمة وجماعة، وقد روي -أيضًا- عن ابن عباس أخرج عَبْدُ بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم
وصححه، والبيهقي في "الأسماء والصفات" من طريق عكرمة عنه أنه سئل عن ذلك فقال: إذا خفي عليكم شيء من القرآن فابتغوه في الشعر فإنه ديوان العرب، أَمَا سمعتم قول الشاعر:
صبرًا عناق إنه شرّ باق
قد سَنَّ لي قومُك ضرب الأعناق
وقامت الحربُ بنا على ساق
انتهى تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط.
وقال في حاشية "رياض الصالحين"(1) عن قوله- صلى الله عليه وسلم: "وذلك يوم يكشف عن ساق" قال: "أي يكشف عن شدة وهول عظيم" ا. هـ.
وفي تعليق الشيخ شعيب الأرنؤوط على "شرح السنة"(2) للإمام البغوي رحمه الله جنح أيضًا إلى تأويل صفة الساق لله -تعالى وتقدس- وأورد بعض النقول في ذلك بنحو ما تقدم.
(1)(ص 677)، حديث رقم (1809). ط مؤسسة الرسالة، بيروت، 1408 هـ.
(2)
(15/ 141 - 142) حديث رقم (4326). ط المكتب الإِسلامي، بيروت، 1403 هـ.
*قلت:
وهذا الذي جنح له الشيخ الأرنؤوط موافق لعقيدة الأشاعرة، والصواب ما قرره السلف رحمهم الله كما قال الترمذي في صفة القدم لله تعالى ونحوها من الصفات قال:"والمذهب في هذا عند أهل العلم من الأئمة مثل سفيان الثوري ومالك ابن أنس وابن المبارك وابن عيينة ووكيع وغيرهم أنهم رووا هذه الأشياء، ثم قالوا: نروي هذه الأحاديث ونؤمن بها، ولا يقال: كيف، وهذا الذي اختاره أهل الحديث أن تُروى هذه الأشياء كما جاءت ويُؤمن بها ولا تفسر ولا تتوهم ولا يقال كيف وهذا أمر أهل العلم الذي اختاروه وذهبوا إليه"(1) ا. هـ.
وقرر العلامة ابن القيم رحمه الله أن صفة الساق لله تعالى ثابتة بالكتاب والسنة أما الآية فهي قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ} [القلم الآية: 42]، وأما السُّنَّة فحديث أبي سعيد المخرج في "الصحيحين" وغيرهما (2).
(1)"جامع الترمذي"(4/ 692).
(2)
ينظر: "مختصر الصواعق"(1/ 38). والحديث هو ما صدَّرنا به =
نعم الآية لم تُضفْ الساق فيها إليه تعالى وإنما ذُكرتْ مجردةً عن الإضافة مُنكَّرة فصار فيها احتمال الوجهين، وهذا هو الموضع الوحيد من آيات الصفات الذي تنازع فيه الصحابة وفي إثبات الصفة بظاهر القرآن (1).
لكن ذلك فصَّله حديث أبي سعيد المذكور ودلَّ على الصفة لله -تعالى- بما يليق به -سبحانه- ولذا قال العلامة الشوكاني في تمام بحثه عند هذه الآية في "تفسيره"(2):
"وقد أغنانا الله -سبحانه- في تفسير هذه الآية بما صح عن رسول الله- صلى الله عليه وسلم كما عرفت، وذلك لا يستلزم تجسيمًا ولا تشبيهًا، فليس كمثله شيء.
دعوا كل قول عند قول محمَّد
فما آمِنٌ في دينه كمخاطر" (3)
= هذا الاستدراك.
(1)
ينظر: "مجموع الفتاوى"(6/ 394).
(2)
"فتح القدير"(5/ 278).
(3)
وبما ذكره العلَاّمة ابن القيم والشوكاني - رحمهما الله - يتضح للقاريء أن الحق في تفسير الآية المذكورة: أن الله -سبحانه- =
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
= يكشف عن ساقه يوم القيامة، فيعرفه المؤمنون بذلك، كما صرَّح ذلك الحديث المذكور، أعني حديث أبي سعيد وما جاء في معناه.
فالواجب إثبات ذلك لله -سبحانه- على الوجه اللائق بجلاله، بلا كيف، كسائر الصفات. وهو قول أهل السنة والجماعة من الصحابة رضي الله عنهم وأتباعهم بإحسان. والله الموفق.
(عبد العزيز بن عبد الله بن باز).
الموضع التاسع تأويل بعض صفات الأفعال الاختيارية
في التعليق على "رياض الصالحين" و"المسند"