الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المجلد الثاني
الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم
الفصل الأول: بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل
المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا
…
تمهيد:
إن من الأهمية بمكان- قبل الشروع في توضيح الحق الواجب للنبي صلى الله عليه وسلم في شأن تعظيمه وتوقيره- عقد هذا الفصل في بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل وذلك لاستعراض- جملة طيبة من المكارم والخصائص التي امتن الله بها على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، والتي تدلل على تشريف الله عز وجل وتكريمه لنبيه صلى الله عليه وسلم، وتظهر تفضيل الله له على العالمين من الجن والناس أجمعين، بل والملائكة المقربين.
فلابد لكل مسلم صادق في إسلامه من أن يتعرف على تلك الخصائص والفضائل، إذ إن هذه المعرفه تنير القلوب وتبصرها وتزيدها إيمانا وحبا وتعظيما للنبي المصطفي صلى الله عليه وسلم.
ولهذه الزيادة- بلا شك- ثمرتها في شحذ الهمم ودفعها لاتباعه والإقتداء به والسير على نهجه والتمسك بسنته واقتفاء أثره، ولزوم هديه.
والمتأمل في آيات الكتاب العزيز ونصوص السنة النبوية الصحيحة يجد الكثير من الأدلة التي تبين مكانة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم وعظم قدره عند ربه عز وجل، فقد حباه الله وامتن عليه وأكرمه بخصائص في الدنيا والآخرة دلت على علو قدره، ورفعة مكانته، وسمو منزلته عند الخالق تبارك وتعالى.
فقد قال تعالى في محكم التنزيل {وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً} 1 ففي هذه الآية يمتن الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بما أسبغ عليه من الفضائل التي هي المناقب والمراتب
1 الآية (113) من سورة النساء.
التي أعطاه الله إياها وميزه بها عن بقية أنبيائه ورسله وسائر خلقه.
فالله سبحانه فضل بعض الرسل على بعض فقال تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ} 1.
فكان لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم النصيب الأوفر من هذا الفضل فقد خصه الله وميزه بخصائص ومناقب دنيوية وأخروية فضل بها على سائر الأنبياء ومن سواهم من البشر. وسأتعرض لبعض هذه الخصائص على وجه الاختصار وذلك حتى يتبين للقارئ عظم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه عز وجل.
1 الآية (253) من سورة البقرة.
المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله، بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا
أ- أخذ العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام.
من الأمور التي تدل على عظيم قدره صلى الله عليه وسلم عند ربه ما أخذه الله من العهد له صلى الله عليه وسلم على جميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام على أنهه لو بعث صلى الله عليه وسلم وهم أحياء أو أحد منهم فإنه يجب عليهم أن يؤمنوا به ويتبعوه وينصروه. قال تعالى {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ} 1
وقد روي عن علي بن أبي طالب وابن-عباس رضي الله عنهما في تفسير هذه الآية قولهما: "ما بعث الله نبيا من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمدا وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه"2.
فهو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس3.
ولهذا فقد كان عند أهل الكتاب علم تام به صلى الله عليه وسلم وبمبعثه ومكان بعثته
1 الآية (81) من سورة آل عمران.
2 أخرجهما ابن جرير في تفسيره (3/ 332) وأوردهما ابن كثير في تفسيره (1/ 378) .
3 تفسير ابن كثير (1/ 378) .
ومهاجره، كما ورد وصفه في كتبهم حتى إنهم ليعرفونه كما يعرفون أبناءهم قال تعالى {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} 1
وفي الحديث عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما حينما سئل عن وصف النبي صلى الله عليه وسلم قال: "أجل والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن: يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وحرزا للأميين، فأنت ت عبدي ورسولي سميتك المتوكل، ليس بفظ ولا غليظ، ولا سخاب في الأسواق ولا يدفع السيئة بالسيئة، ولكن يعفو ويغفر، ولن يقبضه الله حتى، يقيم به الملة العوجاء، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح، به أعينا عميا، وآذانا صما وقلوبا غلفا
…
"3
2-
أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الأنبياء تبعا.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "ما من نبي إلا أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحاه الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"4.
1 الآية (146) من سورة البقرة.
2 الآية (157) من سورة الأعراف.
3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب البيوع، باب كراهية السخب في الأسواق. انظر: فتح الباري (4/ 342) ح 2125
4 تقدم تخريجه ص 74
وعن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا أكثر الأنبياء تبعا يوم القيامة"1.
وعنه رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لم يصدق نبي من الأنبياء ما صدقت، وإن من الأنبياء نبيا ما يصدقه من أمته إلا رجل واحد"2.
وعن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "عرضت علي الأم، فرأيت النبي ومعه الرهيط، والنبي ومعه الرجل والرجلان، والنبي ليس معه أحد، إذ رفع لي سواد عظيم، فطنت أنهم أمتي فقيل لي: هذا موسى صلى الله عليه وسلم وقومه، ولكن أنظر إلى الأفق الآخر، فإذا سواد عظيم فقيل لي هذه أمتك، ومعهم سبعون ألفا يدخلون الجنة بغير حساب، ولا عذاب
…
" الحديث3.
وفي هذا الأمر فضل عظيم وخصيصة كبيرة لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم فالله تعالى يكتب لكل نبي من الأنبياء من الأجر بقدر أعمال أمته وأحوالها وأقوالها فقد قال صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا " الحديث4.
فما من معرفة ولا حالة ولا عبادة ولا مقالة ولا شيء مما يتقرب به إلى الله عز
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة" 1/130
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب في قول النبي صلى الله عليه وسلم:"أنا أول الناس يشفع في الجنة وأنا أكثر الأنبياء تبعا"(/130) .
3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب من اكتوى أو كوى غيره فتح الباري (10/ 155) ح 5705، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 138) .
4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب من سن سنة حسنة أو سيئة ومن دعا إلى هدى أو ضلالة. انظر (8/62)
وجل مما دل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعا إليه إلا وله أجر من عمل به إلى يوم القيامة، ولا يبلغ أحد من الأنبياء إلى هذه المرتبة ذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجتة فقد ثبت في الحديث أن أمته شطر أهل الجنة قال صلى الله عليه وسلم:"أترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: أترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة؟ قلنا: نعم. قال: والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكونوا شطر أهل الجنة" الحديث1.
فإذا كان صلى الله عليه وسلم قد نفع شطر أهل الجنة، وغيره من الأنبياء إنما نفع جزءا من أجزاء الشطر، كانت منزلته في القرب على قدر منزلته في النفع، فما من عارف من أمته إلا وله مثل أجر معرفته مضافا إلى معارفه صلى الله عليه وسلم، وما من ذي حال من أمته إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجره على- حاله مضموما إلى أحواله صلى الله عليه وسلم، وما من ذى مقال يتقرب به إلى الله عز وجل إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر ذلك القول مضموما إلى مقالته وتبليغ رسالته، وما من عمل من الأعمال المقربة إلى الله عز وجل من صلاة وزكاة وعتق وجهاد وبر ومعروف وذكر وصبر وعفو وصفح إلا وله صلى الله عليه وسلم مثل أجر عامله مضموما إلى أجره على أعماله، وما من درجة علية، ومرتبة سنية، نالها أحد من أمته بإرشاده ودلالته إلا وله مئل أجرها مضموما إلى درجته صلى الله عليه وسلم مرتبته، ويتضاعف ذلك بأن من دعا من أمته إلى هدى أو سن سنة حسنة كان له أجر من عمل بذلك على عدد العاملين، ثم يكون هذا المضاعف لنبينا صلى الله عليه وسلم لأنه دل عليه، وأرشد إليه.
1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الرقاق، باب الحشر. فتح الباري (11/ 378) ح 6528، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب كون هذه الأمة نصف أهل الجنة (1/138-139)
ولأجل هذا بكى موسى عليه السلام ليلة الإسراء بكاء غبطة غبط بها النبي صلى الله عليه وسلم إذ يدخل من أمته الجنة أكثر مما يدخل من أمة موسى عليه السلام، ولم يبك حسدا كما يتوهمه بعض الجهال، وانما بكا أسفا على ما فاته من مثل مرتبته1.
ففي قصة المعراج من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه مرفوعا وفيه "
…
ثم صعد بي حتى أتى السماء السادسة
…
فلما خلصت فإذا موسى، قال (جبريل) هذا موسى فسلم عليه، فسلمت عليه، فرد ثم قال: مرحبا بالأخ الصالح والنبي الصالح، فلما تجاوزت بكى.
قيل له: ما يبكيك؟ قال أبكى لأن غلاما بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر ممن يدخلها من أمتي
…
" الحديث2.
3-
أن قرنه صلى الله عليه وسلم خير قرون بني آدم كما أنه خير قرون أمته والقرون التي تلي قرنه صلى الله عليه وسلم.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "بعثت من خير قرون بني آدم قرنا فقرنا حتى كنت من القرن الذي كنت منه"3.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم
…
" الحديث4.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رجل النبي صلى الله عليه وسلم أي الناس خير قال
1 بداية السول في تفضيل الرسول (ص 44، 46) .
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار، باب المعراج، انظر: فنح الباري (7/ 201- 202) . وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السموات وفرض الصلوات 11/ 104)
3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: فتح الباري (6/ 566) ح 3557
4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الشهادات، باب لا يشهد على شهادة جور إذا أشهد. انظر: فتح الباري (6/ 259) ح 2652، وأخرجه مسلم في صحيحه، كثاب فضائل الصحابة، باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 184) .
: "القرن الذي أنا فيه ثم الثاني ثم الثالث"1
والأحاديث في هذا الأمر كئيرة:
4-
أن الله تعالى أخبره بأنه غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وهو حي صحيح يمشي على الأرض. قال الله تعالى {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُسْتَقِيماً وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً} 2
وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي في الشفاعة- وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "
…
فيأتوني فيقولون: يا محمد أنت رسول الله، وخاتم الأنبياء، وقد غفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، اشفع لنا إلى ربك
…
" 3.
وفي حديث أنس رضي الله عنه الذي في الشفاعة أيضا وفيه قوله صلى الله عليه وسلم: "ولكن ائتوا محمدا عبدا قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر
…
" 4.
قال العز بن عبد السلام5: "ولم ينقل أنه أخبر أحدا من الأنبياء بمثل ذلك
1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب فضائل الصحابة باب فضل الصحابة ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم (7/ 186)
2 الآيات (1، 2، 3) من سورة الفتح.
3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، باب قول الله عز وجل:{ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً} . انظر: فتح الباري (8/ 395) ح 4712، وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/ 127، 128) .
4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب أدنى أهل الجنة منزلة (1/133-134) .
5 عبد العزيز بن عبد السلام السلمي الدمشقي الملقب بسلطان العلماء فقيه شافعي بلغ رتبة الاجتهاد وله مؤلفات توفي سنة 660هـ. الأعلام (4/21) .
بل الظاهر أنه لم يخبرهم، لأن كل واحد. منهم إذا طلبت منهم الشفاعة في الموقف ذكر خطيئته التي أصابها وقال:"نفسي نفسي" ولو علم كل واحد منهم بغفران خطيئته لم يوجل منها في ذلك المقام واذا استشفعت الحلائق بالنبي صلىالله عليه وسلم في ذلك المقام قال: "أنا لها"1.
5-
أن الله رفع له ذكره،
قال تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} 2 فلا يذكر الله سبحانه إلا ذكر معه، ولا تصح للأمة خطبة ولا تشهد حتى يشهدوا أنه عبده ورسوله، وأوجب ذكره في كل خطبة، وفي الشهادتين اللتين هما أساس الإسلام وفي الأذان الذي هو شعار الإسلام وفي الصلاة التي هي عماد الدين إلى غير ذلك من المواضع.
6-
أن الله أقسم بحياته صلى الله عليه وسلم
فقال تعالى: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} 3 والإقسام بحياة المقسم بحياته يدل على شرف حياته وعزتها عند المقسم بها، وأن حياته صلى الله عليه وسلم لجديرة أن يقسم بها لما فيها من البركة العامة والخاصة ولم يثبت هذا لغيره صلى الله عليه وسلم4.
7-
أن الله وقره في ندائه، فناداه بأحب أسمائه وأسنى أوصافه
فقال: {يَا أَيُّهَا النَّبِيّ
…
} 5 و {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ} 6 وهذه الخصيصة لم تثبت لغيره، بل ثبت أن كلا منهم نودي باسمه فقال تعالى:
1 بداية السول (ص 35- 36) .
2 الآية (4) من سورة الشرح.
3 الآية 721) من سورة الحجر.
4 بداية السرل (ص 37) .
5 الآيات (64، 65، 70) من سورة الأنفال ومواضع أخرى.
6 الآية (41، 67) من سورة المائدة
{يَا آدَمُ اسْكُنْ} 1 {إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} 2 {يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ} 3 {قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ} 4 {يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ} 5 {يَا إِبْرَاهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} 6 {يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ} 7 {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ} 8 {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ} 9.
ولا يخفي على أحد أن السيد إذا دعي أحد عبيده بأفضل ما وجد فيه من الأوصاف العلية والأخلاق السنية، ودعا الآخرين بأسمائهم الأعلام التي لا تشعر بوصف من الأوصاف ولا بخلق من الأخلاق، دل ذلك على أن منزلة من دعاه بأفضل الأسماء والأوصاف أعز عليه وأقرب إليه ممن دعاه باسمه العلم. وهذا معلوم بالعرف أن من دعي بأفضل أوصافه وأخلاقه كان ذلك مبالغة في تعظيمه واحترامه "10
8-
أن الله أمر الأمة بأن لا ينادونه باسمه بل ينادونه: يارسول الله يا نبي الله
فقال الله تعالى: {لا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ
1 الآية (35) من سورة البقرة.
2 الآية (110) من سورة المائدة
3 الآية (30) من سورة القصص
4 الآية (48) من سورة هود.
5 الآية (26) من سورة ص.
6 الآية (105) من سورة الصافات
7 الآية (81) من سورة هود.
8 الآية (7) من سورة مريم.
9الآية (12) من سورة مريم.
10 (10) غاية السول (ص 38) .
تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} 1
قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير2 عند تفسيرها، كانوا يقولون: يا محمد، يا أبا القاسم؟ فنهاهم الله عز وجل عن ذلك إعظاما لنبيه صلى الله عليه وسلم، وأمرهم أن يقولوا يا نبي الله يارسول الله"3.
9-
أن الله نهي الأمة أن يرفعوا أصواتهم فوق صوته صلى الله عليه وسلم ولا يجهروا له بالقول - كما هو الحال بين الناس- حتى لا تحبط أعمالهم فقال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ} 4 الآيات.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس5 فقال رجل يارسول الله أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالسا في بيته منكسا رأسه فقال له ما شأنك؟ فقال: شر. كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله وهو من أهل النار. فأتى الرجل، النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال كذا وكذا فقال موسى6: فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة، فقال: اذهب
1 الآية (63) من سورة النور.
2 سعيد بن جبير الأسدي، بالولاء، الكوفي، تابعي، أخذ العلم من ابن عباس وابن عمر، ثقة، ثبت، فقيه، إمام حجة، قتل بين يدي الحجاج سنة خمس وتسعين. تهذيب التهذيب (4/ 11- 14)
3 تفسير ابن كثير (3/ 306) .
4 الآية (2) من سورة الحجرات.
5 هو ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري الخزرجي،، خطيب الأنصار شهد له النبي صلى الله عليه وسلم بالجنة، شهد أحدا وما بعدها، قتل يوم اليمامة. الإصابة (1/ 197) .
6 موسى بن أنس بن مالك الأنصاري، قاضي البصرة.، تابعي، ثقة قليل الحديث.
إليه فقل له: إنك ليست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة"1.
وقال ابن الزبير2: "ما كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه"3
10-
أن الله أمر الأمة بأنهم إذا أرادوا أن يناجوه صلى الله عليه وسلم بأن يقدموا بين يدى نجواهم صدقة، ثم نسخ ذلك، وأمرهم بالطاعة فقال تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} 4
11-
ما وهبه الله له من المعجزات التي تميزت، على معجزات من قبله من الأنبياء.
فمعجزة سيد الأولين والآخرين وهي القرآن العظيم الباقي إلى يوم الدين، الذي لا تنضب معانيه، ولا تفنى عجائبه، ولا تنقطع فوائده، وهو المحفوظ بحفظ الله له- من التغيير والتبديل والتحريف- فيه دواء وشفاء، ومواعظ وأحكام، فيه خبر من سبقنا، وأحوال من بعدنا، وهو حبل الله المتين، من
1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التفسير، باب "لا ترفعوا أصواتهم فوق صوت النبي". انظر فتح الباري (8/ 590) 4846
2 هو عبد الله بن الزبير بن العوام، ولد عام الهجرة، وحنكه النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وكان أول مولود في الإسلام بالمدينة وكان شهما فصيحا، رقد بويع له بالخلافة بعد موت-يزيد بن معاوية فبقى ثمان سنوات حتى قتل في أيام عبد الملك سنة ثلاث وسبعين للهجرة. الإصابة (2/ 301-- 303) .
3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسبر، باب "لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي". فتح الباري (8/ 590) ح 4845
4 الآيتان (12، 13) من سورة المجادلة.
آمن به واتبعه رشد ومن تركه وضل عنه غوى وهلك، وخاب وخسر. فهو المعجزة الخالده الباقية ما بقى الإنسان في هذه الدنيا، بينما تصرمت وانقرضت معجزات من قبله من الأنبياء.
فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من نبي إلا أعطى من الآيات ما مثله آمن عليه البشر، وإنما كان الذي أوتيته وحيا أوحى الله إلي، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعا يوم القيامة"1.
وكذلك فقد وجد في معجزاته ما هو أظهر في الإعجاز من معجزات غيره كتفجير الماء بين أصابعه2 فهو أبلغ في خرق العادة من تفجيره من الحجر، لأن جنس الأحجار مما يتفجر منه الماء، وكانت معجزته بانفجار الماء من بين أصابعه أبلغ من انفجار الحجر لموسى عليه السلام3.
وعيسى عليه السلام أبرأ الأكمه مع بقاء عينه في مقرها ورسول الله صلى الله عيه وسلم رد العين بعد أن سالت على الخد ففيه معجزة من وجهين:
إحداهما: التئامها بعد سيلانها والأخرى: رد البصر إليها بعد فقده منها4. فعن عاصم بن عمر بن قتادة5 عن أبيه6 عن جده قتادة7 أنه أصيبت عينه يوم
1 تقدم تخريجه ص 74
2 تقدم تخريجه ص 80.
3 بداية السول في تفضيل الرسول (ص 41) .
4 المصدر السابق (ص 41- 42)
5 عاصم بن عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري، تابعي ثقة، كثير الحديث، وكان له علم بالمغازي والسيرة، توفي سنة عشرين ومائة تهذيب التهذيب (5/ 53- 34) .
6 عمر بن قتادة بن النعمان الأنصاري، روى عن أبيه وله صحبة تهذيب التهذيب (7/489)
7 قتادة بن النعمان بن زيد الأوسي ثم الظفري الأنصاري، صحابي جليل شهد بدرا وما بعدها ومات في خلافة عمر فصلى عليه ونزل في قبره وعاش خمسا وستين سنة. الإصابة 31/ 217- 218) .
أحد فسالت حدقته على وجنته فأرادوا أن يقطعوها، فسألوا النبي صلى الله عليه وسلم فقال:"لا فدعا به فغمز عينه براحته فكان لا يدرى أي عينيه أصيبت" 1 (1) .
والأمثلة في هذا الباب كثيرة وقد تطرق إليها من كتب في الدلائل والخصائص2.
قال الشافعي رحمه الله تعالى: "ما أعطى الله نبيا ما أعطى محمدا صلى الله عليه وسلم" 3
وقال السيوطي: "قال العلماء ما أوتى نبي معجزة ولا فضيلة إلا ولنبينا صلى الله عليه وسلم نظيرها أو أعظم منها"4.
1 أخرجه أبو نعيم في دلائل النبرة (ص 418) وأخرجه البيهقي في دلائل النبرة أيضا (3/ 251- 252) . وأورده الهيثمي في مجمع الزوائد (8/ 297، 298) وعزاه لأبى يعلى وقال في إسناده يحى بن عبد الحميد الحماني وهو ضعيف وقال الألباني في حاشية كتاب بداية السول (ص 42) ولكنه عند أبي نعيم من طريقين آخرين فهو يتقوى بهما". والحديث أورده ابن كثير في البداية (4/ 33، 34) . والسيوطي في الخصائص الكبرى (1/ 359) وعزاه لابن سعد والبيهقي وأبي نعيم.
2 انظر: دلائل النبوة لأبي نعيم الأصبهاني (ص 512- 550) ودلائل النبوة للبيهقي الجزء السادس، والخصائص الكبرى للسيوطي (2/ 304- 314) .
3 آداب الشافعي ومناقبه لابن أبي حاتم (ص 83) .
4 الخصائص الكبرى (2/ 304) .