المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة - جـ ٢

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل

- ‌المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا

- ‌المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

- ‌المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته

- ‌المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم

- ‌المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك

- ‌المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته

- ‌المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

- ‌المطلب الأول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح

- ‌المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين

- ‌المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم

- ‌المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية

- ‌الفصل الثالث: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة الصلاة

- ‌المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

- ‌الباب الرابع: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: تعريف الغلو وسد الشارع لطرق الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: تعريف الغلو وموقف الشرع منه

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي

- ‌المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

- ‌المبجث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

- ‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الكلام على مسألة التوسل

- ‌المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة

- ‌المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة

- ‌المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة

- ‌المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده

- ‌المطلب الأول: حكم فعل المولد

- ‌المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات

- ‌المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

المبحث الثاني: الفرق بين ها هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

بعث الله جميع الرسل وأنزل جميع الكتب بالدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له، والنهي عن دعاء ما سواه -لا دعاء عبادة ولا دعاء مسألة-. قال تعالى:{وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.

وقال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} 2.

وقال تعالى: {وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ} 3.

وقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 4.

فدين الحق دين الإسلام هو عبادة الله وحده لا شريك له وتصديق رسله كما يدل عليه قولنا: "أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله".

1 الآية (25) من سورة الأنبياء.

2 الآية (36) من سورة النحل.

3 الآية (45) من سورة الزخرف.

4 الآيتان (79، 80) من سورة آل عمران.

ص: 660

فهذان الأصلان:

1-

توحيد الرب بالعبادة، 2- الإيمان برسله.

لابد منهما، ولهذا لا يدخل أحد في الإسلام حتى يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله.

ذلك لأن دين الإسلام مبني على هذين الأصلين ومن خرج عن واحد منهما فلا عمل له ولا دين.

فلا إله إلا الله معناها أن نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئا.

فإن الإله: هو الذي تألهه القلوب عبادة واستعانة ومحبة وتعظيمًا وخوفًا ورجاءً وإجلالاً وإكرامًا.

وهو سبحانه له حق لا يشركه فيه غيره، فلا يعبد إلا الله ولا يدعى إلا الله ولا يخاف إلا الله ولا يطاع إلا الله.

وأما شهادة أن محمدًا رسول الله فهي تعني ألا نعبد الله إلا بما شرعه على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو المبلغ عن الله طاعته وأمره ونهيه وتحليله وتحريمه، فهو الواسطة بين الله وبين خلقه في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده.

وليس للرسول واسطة في إجابة الدعاء، وكشف البلاء، والهداية، والإغناء ونحو ذلك.

فالله تعالى هو المتفرد بذلك فهو سبحانه الذي يسمع ويرى ويعلم السر والنجوى وهو القادر على إنزال النعم وإزالة الضر من غير احتياج منه إلى أن يعرفه أحد أحوال عباده أو يعينه على قضاء حوائجهم.

والأسباب التي بها يحصل ذلك هو خلقها ويسرها، فهو مسبب الأسباب التي يحصل بها ذلك ولهذا فرض سبحانه على المصلى أن يقول في صلاته

ص: 661

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.

فالله سبحانه أجل وأعظم وأغني وأعلى من أن يفتقر إلى شيء، بل هو الأحد الصمد وكل ما سواه مفتقر إليه، وهو مستغن عن كل ما سواه. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم فذكر الغلول وعظم أمره قال: " لا ألفين أحدكم يوم القيامة على رقبته فرس له حمحمة، يقول: يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا قد أبلغتك، وعلى رقبته بعير له ركاء، يقول يارسول الله أغثني فأقول: لا أملك لك شيئا، قد أبلغتك" الحديث2.

فهؤلاء الذين بلغهم أخبر أنهم إذا استغاثوا به يوم القيامة وسألوه الشفاعة يقول لهم لا أملك لكم من الله شيئا قد أبلغتكم3.

فعلى المسلم أن يفرق لأن ما هو حق لله وحده وبين ما هو حق لرسله.

فالله أمرنا أن نؤمن بالأنبياء وما جاؤا به وفرض علينا طاعة الرسول الذي بعث إلينا ومحبته وتعزيره وتوقيره والتسليم لحكمه.

وأمرنا أيضا أن لا نعبد إلا الله وحده لا نشرك به شيئا ولا نتخذ الملائكة والنبيين أربابًا.

وفرق بين حقه الذي يختص به الذي لا يشركه فيه لا ملك ولا نبي.

وبين الحق الذي أوجبه علينا لملائكته وأنبيائه عمومًا ولمحمد صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل

1 الآية (5) من سورة الفاتحة.

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب الغلول.

انظر: فتح الباري (6/185) ح 3073.

وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإمارة، باب غلظ تحريم الغلول (6/10) .

3 انظر: الرد على البكري (ص 52- 54) بتصرف.

ص: 662

وخير مرسل الذي جاءه بالوحي خصوصا، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلا ومن الناس، فاصطفي من الملائكة جبريل لرسالته واصطفي من البشر محمدا صلى الله عليه وسلم، وأخبر أن هذا القرآن الذي نزل به هذا الرسول إلى هذا الرسول مبلغا له عن الله قال تعالى {قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ} 1، وقال تعالى {وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ} 2.

فالله أوجب علينا الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم خصوصا وبالملك الذي جاءه بالقرآن. وأمرنا بالإيمان بالأنبياء كلهم وبجميع ما أوتوا كما قال تعالى {قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} 3.

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} 4.

وقال تعالى {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ} 5.

1 الآية (97) من سورة البقرة.

2 الآيات (192 إلى 195) من سورة الشعراء.

3 الآية (136) من سورة البقرة.

4 الآية (177) من سورة البقرة.

5 الآية (285) من سورة البقرة.

ص: 663

وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيداً} 1.

فالأنبياء وسائط بين الله عز وجل وبين عباده في تبليغ أمره ونهيه ووعده ووعيده، وما أخبر به عن نفسه وملائكته وغير ذلك مما كان وسيكون. وسائر الأنبياء علينا أن نؤمن بهم، مجملا وذلك بأن كل ما أخبروا به عن الله فهو حق وأن طاعتهم فرض على من أرسلوا إليهم.

أما محمد صلى الله عليه وسلم فهو الذي أرسل إلينا وإلى جميع الخلق وقد ختم الله به الأنبياء وآتاه من الفضائل ما فضله به على غيره وجعله سيد ولد آدم وخصائصه وفضائله كثيرة وعظيمة لا يسعها هذا الموضع.

وقد أوجب الله علينا أن نطيعه في كل ما أوجبه وأمر به وأن نصدقه في كل ما أخبر به، كما سبق ذكر ذلك في الباب الأول من هذه الرسالة.

وهو سبحانه مع هذا كله نهانا عن الشرك بهم والغلو فيهم، وميز بين حقه تعالى وحقهم.

فقال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَاداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 2 فهذا بيان أن اتخاذ الملائكة والنبيين أربابا كفر مع وجوب الإيمان بهم ما لم يحصل بعبادة الأوثان، فإن الأوثان

1 الآية (136) من سورة النساء.

2 الآيتان (79، 85) من سورة آل عمران.

ص: 664

تستحق الإهانة وأن تكسر كما كسر إبراهيم الأصنام وكما حرق موسى العجل ونسفه وكما كان نبينا صلى الله عليه وسلم يكسر الأصنام ويهدم صوتها وقد قال تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} 1 فإهانتها من تمام التوحيد والإيمان.

والملائكة والأنبياء بل الصالحون يستحقون المحبة والموالاة والتكريم والثناء. مع أنه يحرم الغلو فيهم والشرك بهم، فلهذا صار بعض الناس يزيد في التعظيم على ما يستحقونه فيصير شركا، وبعضهم يقصر عما يجب لهم من الحق فيصير فيه نوع من الكفر.

والصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وهو القيام بما أمر الله به ورسله في هذا وهذا.

والله تعالى يميز حقه من حق غيره ففي الصحيحين عن معاذ بن جبل أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له: "يا معاذ أتدرى ما حق الله على العباد"

قلت: الله ورسوله أعلم.

قال: "أن يعبدوه ولا شركوا به شيئا، أتدرى يا معاذ ما حقهم عليه إذا فعلوا ذلك؟ " قلت: الله ورسوله أعلم. قال: "أن لا يعذبهم"2. وقد قال تعالى: {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كَانُوا يَفْتَرُونَ} 3.

1 الآية (98) من سورة الأنبياء.

2 تقدم تخريجه.

3 الآيتان (74-75) من سورة القصص.

ص: 665

فالرسل كلهم نوح وهود وصالح وشعيب وغيرهم يبينون أن العبادة والتقوى حق لله وحده، وحق الرسل طاعتهم.

قال نوح عليه السلام {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} 1.

وكذلك قال هود وصالح وشعيب وغيرهم {يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ} 2.

وقال تعالى {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلا تَتَّقُونَ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 3.

وكذلك قال سائر الرسل هود وصالح وشعيب كل يقول {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} 4.

وكذلك في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 5.

فجعل الطاعة لله والرسول. وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقال تعالى: {لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 6.

فالإيمان بالله والرسول، والتعزير والتوقير للرسول، وتعزيره، نصره ومنعه.

1 الآيتان (2- 3) من سورة نوح.

2 الآيات (65- 73- 85) من سورة الأعراف.

3 الآيات (من 105 إلى 108) من سورة الشعراء.

4 الآيات (126- 131- 144- 163- 179) من سورة الشعراء.

5 الآية (52) من سورة النور.

6 الآية (9) من سورة الفتح.

ص: 666

والتسبيح بكرة وأصيلا لله وحده، فإن ذلك من العبادة لله وحده والعبادة هي لله وحده.

وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 1 فأنكر سبحانه أن يتقى غيره كما أمر أن لا يرهب إلا إياه.

وقال تعالى: {لِئَلَاّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَاّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي} 2.

وقال تعالى: {إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَاّ اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ} 3. فقد أمر الله تعالى في غير موضع بأن يخشى ويخاف ولا يخشى ويخاف غيره. وقال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 4.

ففي الإيتاء قال {مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} كما قال: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} لأن الحلال ما حلله الله ورسوله، والحرام ما حرمه الله ورسوله.

فما أعطاه الرسول للناس فهو حقهم بالقول والعمل كالفرائض التي قسمها الله وأعطى كل ذي حق حقه وكذلك من الفيء والصدقات ما أعطى فهو

1 الآيتان (51، 52) من سورة النحل.

2 الآية (150) من سورة البقرة.

3 الآية (18) من سورة التربة.

4 الآية (59) س سورة التوبة.

ص: 667

حقه، وما أباحه له فهو مباح، وما نهاه عنه فهو حرام عليه فلهذا قال تعالى {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل هنا ورسوله لأن الله تعالى وحده حسب عبده أي كافيه. لا يحتاج الرب في كفايته إلى أحد لا رسول ولا نبي، ولهذا لا تجئ هذه الكلمة إلا الله وحده كقوله:{الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 1.

وقال تعالى: {فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} 2.

وقال تعالى {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ} 3 إلى قوله {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} 4 أي حسبك وحسب من اتبعك من المؤمنين كما قاله جمهور أهل العلم. ومن قال إن الله ومن اتبعك حسبك فقد غلط، ولم يجعل الله وحده حسبه بل جعله وبعض المخلوقين حسبه، وهذا مخالف لسائر آيات القرآن.

وقال تعالى {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ} 5 فهو وحده كاف عبده، وقال تعالى {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} 6.

1 الآية (173) من سورة آل عمران.

2 الآية (129) من سورة التوبة.

3 الآية (62) من سورة الأنفال.

4 الآية (64) من سورة الأنفال.

5 الآية (36) من سورة الزمر.

6 الآية (3) من سورة الطلاق.

ص: 668

فلهذا قال تعالى {وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ} ولم يقل ورسوله ثم قال {إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} ولم يقل ورسوله بل جعل الرغبة إلى الله وحده كما قال {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 1.

فالرغبة تتضمن التوكل وقد أمر أن لا نتوكل إلا عليه كقوله {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا} 2 وقوله {إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 3.

فالتوكل على الله وحده، والرغبة إليه وحده، والرهبة منه وحده.

ليس لمخلوق لا الملائكة ولا الأنبياء في هذا حق كما ليس لهم حق في العبادة ولا يجوز أن نعبد إلا الله وحده ولا نخشى ولا نتقى إلا الله وحده كما قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} 4.

فإذا قال القائل لا يجوز التوكل إلا على الله وحده، ولا العبادة إلا لله وحده ولا يتقى ولا يخشى إلا الله وحده لا الملائك ولا الأنبياء ولا غيرهم كان هذا تحقيقا للتوحيد.

ولم يكن، هذا سبًا لهم ولا تنقصًا بهم ولا عيبًا لهم وإن كان فيه بيان نقص درجتهم عن درجة الربوبية فنقص المخلوق عن الخالق من لوازم كل مخلوق. ويمتنع أن يكون المخلوق مثل الخالق.

1 الآيتان (7- 8) من سورة الشرح.

2 الآية (23) من سورة المائدة.

3 الآية (99) من سورة النحل.

4 الآية (2) من سورة الأنفال.

ص: 669

والملائكة والأنبياء كلهم عباد الله يعبدونه كما قال تعالى {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ} 1.

وقال تصالى {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَاّ لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} 2.

فإذا نفي عن مخلوق ملك أو نبي أو غيرهما ما كان من خصائص الربوبية وبين أنه عبد الله كان هذا حقا واجب القبول، وكان إثباته إطراء للمخلوق فإن دفعه عن ذلك كان عاصيا بل مشركا.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم فإنما أنا عبد الله فقولوا عبد الله ورسوله ".

فالله تعالى قد وصفه بالعبودية حين أرسله، وحين تحدى، وحين أسرى به فقال تعالى {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ} 3.

وقال تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} 4.

وقال تعالى {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ} 5.

وأهل الباطل يقولون لمن وصفهم بالعبودية إنه عابهم وسبهم ونحو ذلك.

1 الآية (172) من سورة النساء.

2 الآيات (26، 27، 28، 29) من سورة الأنبياء.

3 الآية (19) من سورة الجن.

4 الآية (23) من سورة البقرة.

5 الآية (1) من سورة الإسراء.

ص: 670

ولهذا لما سأل النجاشي1 جعفر بن أبي طالب2 رضي لله عنه ما تقول في المسيح عيسى؟ فقال: هو عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه رفع النجاشي عودًا وقال: ما زاد المسيح على ما قلت هذا العود فنخرت بطارقته3. فقال: وإن نخرتم"4.

فهم يجعلون قول الحق في المخلوق سبًا له، وهم يسبون الله ويصفونه بالنقائص والعيوب كما في الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله: كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ولم يكن له ذلك. أما تكذبه إياي أن يقول: إني لن أعيده كما بدأته، وأما شتمه إياي أن يقول: اتخذ الله ولذا، وأنا الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي

1 أصحمة بن أبحر النجاشي -ملك الحبشة- واسمه بالعربية عطية والنجاشى لقب، أسلم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يهاجر إليه، وكان ردءا للمسلمين نافعا، وقصته مشهورة في المغازى في إحسانه للمسلمين الذين هاجروا إليه في صدر الإسلام، توفي في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وصلى عليه صلاة الغائب. الإصابة (1/ 117) .

2 جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأحد السابقين للإسلام، هاجر إلى الحبشة، فأسلم النجاشى ومن تبعه على يديه، ئم قدم المدينة والنبي صلى الله عليه وسلم بخيبر، واستشهد في مؤتة سنة ثمان من الهجرة. الإصابة (1/239-240) .

3 أي تكلمت، وكأنه كلام مع غضب ونفور. النهاية (5/32) .

4 أخرجه الإمام أحمد في المسند (1/201-203)(5/290-292) .

قال الهيثمي في مجمع الزوائد (6/24-27) رواه أحمد ورجاله رجال الصحيح. وأخرجه البيهقي في دلائل النبوة (2/ 293-295) .

وهو في سيرة ابن هشام (1/289-291) .

ص: 671

كفوا أحد " 1.

فقد أخبر سبحانه أن هؤلاء يسبونه، وقد كان معاذ بن جبل يقول عن النصارى: لا ترحموهم فقد سبوا الله سبة ما سبه إياها أحد من البشر. وهذا نظير ما ذكره الله تعالى عن المشركين بقوله {وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَاّ هُزُواً أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ} 2.

فكانوا ينكرون على محمد عليه السلام أن يذكر آلهتهم بما تستحقه وهم يكفرون بذكر الرحمن ولا ينكرون ذلك كما قال تعالى {وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} 3.

وهكذا من فيه شبهه من اليهود والنصارى والمشركين تجده يغلو في بعض المخلوقين من المشايخ والأئمة والأنبياء وغيرهم وإذا ذكروا بما يستحقونه أنكر ذلك ونفر منه وعادى من فعل ذلك وهو وأصحابه يستخفون بعبادة الله وحده وبحقه وبحرماته وشعائره ولا ينكر ذلك. ويحلف أحدهم بالله ويكذب ويحلف بمن يعظمه ويصدق ولا يستجيز الكذب إذا حلف به. وهؤلاء من جنس النصارى والمشركين وكذلك قد يعيبون من نهي عن شركهم كالحج إلى القبور التي يحجون إليها عادة وهم يستخفون بحرمة الحج إلى بيت الله

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى {وَهُوَ الَّذِي يَبْدأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ

} الآية (6/287) ح 3193 وكذلك في كتاب التفسير، تفسير سورة الإخلاص. انظر فتح الباري (8/739) ح 4974، 4975.

2 الآية (36) من سورة الأنبياء.

3 الآية (108) من سورة الأنعام.

ص: 672

ويجعلون الحج إلى القبور أفضل منه. وقد ينهون عن الحج اعتياضا إلى القبور ويقولون هذا الحج الأكبر.

ويرون النهي عن الحج إلى قبور الأنبياء والصالحين إخلالا بحقهم ومعاداة لهم ونحو ذلك.

وهم لا يرون الشرك بالله ودعاء غيره واتخاذ عباده من دونه أولياء إخلالا بحقه ومعاداة له.

ومعلوم أن المشركين من أعظم أعداء الله عز وجل قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} 1 فأمر بالتأسي بإبراهيم ومن معه لما تبرءوا من المشركين وما يعبده المشركون، وأظهروا لهم العداوة والبغضاء حتى يؤمنوا بالله وحده. فالمشرك والآمر بالشرك والراضي به معاد لله، ومن عادى الله فقد عادى أنبياءه وأولياءه.

1 الآيات (1-4) من سورة الممتحنة.

ص: 673

وأما من أمر بما جاءت به الرسل فلم يعادهم ولم يعاندهم قال تعالى {قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ وَلا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ} 1.

وهنا موضع يشكل على بعض الناس وذلك أنه قال عليه السلام في الحديث الصحيح: " أصدق كلمة قد قالها شاعر كلمة لبيد

ألا كل شيء ما خلا الله باطل2.

وذلك مثل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} 3.

فالمراد بالباطل: ما لا ينفع، وكل ما سوى الله لا تنفع عبادته، وهذا يدخل فيه كل ما عبد من دون الله من الملائكة والأنبياء وهؤلاء قد سبقت لهم من الله الحسني فكيف يدخلون في الباطل؟.

وكذلك قوله: {فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَاّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} 4.

فيقال: إن المراد عبادتهم والعمل لهم باطل، وقد يقال عن الشيء أنه لا شيء لانتفاء المقصود منه ليس بشيء وكما قال صلى الله عليه وسلم عن الكهان لما سئل عنهم فقال:"ليسوا بشيء" فقالوا إنهم يحدثون أحيانًا الشيء يكون حقا، فقال

1 سورة الكافرون.

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب مناقب الأنصار باب أيام الجاهلية فتح الباري (7/149) ح 3841. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الشعر (7/49) .

3 الآية (62) من سورة الحج.

4 الآية (32) من سورة يونس.

ص: 674

رسول الله صلى الله عليه وسلم: "تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرها في أذن وليه قر الدجاجة فيخلطون فيها أكثر من مائة كذبة"1. فهم ليسوا بشيء: أي لا ينتفع بهم فيما يقصد منهم، وهو الاستخبار عن الأمور الغائبة لأنهم يكذبون كثيرًا فلا يدرى ما قالوه أهو صدق أم كذب. وهم مع ذلك موجودون يضلون ويضلون.

فقوله: "ليس بشيء" مثل قوله: "ألا كل شيء ما خلا الله باطل" وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِل} فهو من جهة كونه معبودًا باطل لا ينتفع به ولا يحصل لعابده مقصود العبادة وإن كان من جهة أخرى هو شمس وقمر ينتفع بضيائه ونوره وهو يسجد لله ويسبحه. وكذلك الملائكة والأنبياء إذا نفي عنهم كونهم آلهة معبودين وتبين أن عبادتهم عمل باطل لا ينتفع به، لم ينف ذلك ما يستحقونه من الإجلال والإكرام وعلو قدرهم عند الله تعالى.

والتبري من عبادتهم وكونهم معبودين، لا من موالاتهم والإيمان بهم وقولهم {إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي ومن عبادتهم ومن كونهم معبودين كما قال الخليل عليه السلام:{يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ} 2 فهو بريء من كل شريك لله من جهة كونه جعل شريكا وندًا لله ولم يبرأ منه من جهات أخرى.

فإبراهيم لم يبرأ من الشمس والقمر والكواكب من جهة كونها مسخرة لمنافع العباد وكونها تسجد لله وتسبحه وكونها من آياته العظيمة بل من جهة كونها

1 أخرجه مسلم في صحيحه، كناب السلام، باب تحريم الكهانة وإتيان الكهان (7/36) .

2 الآية (78) من سورة الأنعام.

ص: 675

شركاء لله. أما الأوثان ونحوها فتعادى مطلقا. والشمس والقمر والملائكة والكواكب تعادى عبادتها وكونها آلهة معبودة فتبغض من هذه الجهات وتعادى، مع وجوب الإيمان بالملائكة وإذا قيل للنصارى نحن براء من شرككم ومما تعبدون من دون الله. وقد قال تعالى:{قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا نَفْعاً وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} 1 هذا بعد قوله: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 2.

فالبراءة من كل معبود سوى الله كالبراءة من كل إله سوى الله، وذلك براءة من الشرك ومن كل ما سوى الله معبودا، وليس هو براءة من المسيح من جهة كونه رسولاً كريما وجيها عند الله، بل براءة مما قيل فيه من الباطل لا من الحق. والمسيح والملائكة وغيرهم يتبرؤن ممن عبدوهم ويعادونهم ولا يوالونهم قال الله تعالى {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَهَؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ} 3.

وقال تعالى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً} 4.

1 الآية (76) من سورة المائدة.

2 الآية (75) من سورة المائدة.

3 الآيتان (45-41) من سورة سبأ.

4 الآية (17-18) من سورة الفرقان.

ص: 676

وقال تعالى {أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي} 1 وقال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} 2.

وقال تعالى {قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً} 3.

وهو سبحانه لم ينه عن موالاتهم فمن أحبهم ووالاهم فهو موحد ومن جعلهم أندادًا أحبهم كما يحب الله نهو مش يث.

فالحب لله توحيد وإيمان. والحب كما يص جا الله شرك وكفر.

وكذلك الشفاعة قال تعالى: {مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} 4. وقال تعالى {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَاّ بِإِذْنِهِ} 5.

فتبين أنه لا تنفع شفاعة الملائكة والأنبياء ولا غيرهم إلا لمن أذن له حتى "إذا قضى بالأمر ضربت الملائكة بأجنحتها خضعازا لقوله تعالى كأنه سلسلة على صفوان"6 وصعقوا فلا يعلمون ما قال: {حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} 7.

1 الآية (102) من سورة الكهف.

2 الآية (9) من سورة الشورى.

3 الآية (14) من سورة الأنعام.

4 الآية (4) من سورة السجدة.

5 الآية (255) من سورة البقرة.

6 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التفسير، تفسير سورة سبأ، باب (حتى إذا فزع عن قلوبهم قالوا ماذا قال ربكم قالوا الحق وهو العلى الكبير) .

فتح الباري (8/ 537-538) ح 4800

7 الآية (23) من سررة سبأ.

ص: 677

فحينئذ يعلمون ما قضى به، فكيف يضفعون بدودت إذنه؟

قال الله تعالى: {بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} 1 وقال تعالى {أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَلا يَعْقِلُونَ} 2.

وأوجه الشفعاء وأول شافع يوم القيامة محمد صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أحاديث الشفاعة أن الناس يوم القيامة إذا ذهبوا إلى آدم ليشفع لهم يردهم إلى نوح ونوح إلى إبراهيم وإبراهيم إلى موسى وموسى إلى المسيح والمسيح إلى محمد صلى الله عليهم وسلم أجمعين فيقول اذهبوا إلى محمد فإنه عبد غفر له الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال صلى الله عليه وسلم "فيأتوني فأذهب إلى ربي فإذا رأيت ربي خررت ساجدا وأحمد ربي بمحامد يفتحها عليَّ لا أحسنها الآن وحينئذ فيقول الله تعالى "أي محمد ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه واشفع تشفع" قال فأقول: أي رب أمتى فيحد لي حدا فأدخلهم الجنة" وكذلك ذكر في الثانية والئالثة3.

وفي صحيح البخاري عن أدي هريرة رضي الله عنه قلت: يارسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ " الحديث إلى أن قال صلى الله عليه وسلم: "أسعد الناس بشفاعتى من قال لا إله إلا الله خالصا من قلبه" 4.

فقد بين أوجه الشفعاء أنه إذا أتى يبدأ بالسجود لله والحمد لله لا يبدأ

1 الآيتان (26،27) من سورة الأنبياء.

2 الآية (43) مت سورة الزمر.

3 تقدم تخريجه ص 458.

4 تقدم تخريجه ص 49.

ص: 678

بالشفاعة حتى يؤذن له فإن أذن له فحينئذ يشفع، فإذا شفع حد له حدًا فيدخلهم الجنة، وبين أن أولى الناس بشفاعته من كان أعظم إخلاصا وتوحيدًا لا من كان سائلا وطالبا منه أو من غيره. فالأمر كله لله وحده لا شريك له هو الذي يأذن في الشفاعة وهو الذي يقبل شفاعة الشفيع فيمن يختار قال تعالى {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} 1.

فالذين يخالفون شريعة الأنبياء ويغلون فيهم ويقولون إنهم يحبونهم ويوالونهم ويعظمونهم بذلك، فالأنبياء يتبرءون منهم، ومحمد صلى الله عليه وسلم بريء من عمل يخالف أمره وسنته قال الله تعالى {فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} 2.

ولا ينفع من عصى الرسول أن يقول قصدي تعظيمهم فإنه إنما أمر بطاعتهم ولم يأمر أن يعبد الله بالظن وما تهوى الأنفس، قال الله تعالى {وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَاّمُ الْغُيُوبِ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَاّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ} 3.

فقد أخبر أنه لم يقل لهم إلا ما أمره الله به أن يعبدوا الله وحده وكذلك سائر الانبياء قال الله تعالى {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَاّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ

1 الآية (68) من سورة القصص.

2 الآية (216) من سورة الشعراء.

3 الآيتان (116، 117) من سورة المائدة.

ص: 679

لا إِلَهَ إِلَاّ أَنَا فَاعْبُدُونِ} 1.

وهو سبحانه انما يعبد بما شرع من الدين، لا يعبد بما شرع من الدين بغير إذنه فإن ذلك شرك قال الله تعالى {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} 2.

وقال تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ} 3 والدين الذي شرعه اما واجب أو مستحب فكل من عبد عبادة ليست واجبة في شرع الرسول ولا مستحبة كانخا من الشرك والبدع، وكلما تدبر الإنسان ما أمر به وشرعه تبين له أنه جمع في شرعه بين كمال توحيد الرب واخلاص الدفى له.

وبين كمال طاعة الرسل وتعزيرهم ومحبتهم وموالاتهم ومتابعتهم فأسعد الناس في الدنيا والآخرة أتبعهم للرسول باطنا وظاهرًا صلى الله عليه وسلم تسليما4.

فهذا هو صراط الله المستقيم قال تعالى {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} 5.

ولما أمرنا الله أن نسأله في كل صلاة أن يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين المغايرين للمغضوب

1 الآية (25) من سورة الأنبياء.

2 الآية (21) من سورة الشورى.

3 الآية (13) من سورة الشورى.

4 الرد على الأخنائي (333- 388) بتصرف.

5 الآية (153) من سورة الأنعام.

ص: 680

عليهم وللضالين. كان ذلك مما لحين أن العبد يخاف عليه أن ينحرف إلى هذين الطريقين1. والمغضوب عليهم هم اليهود والضالون هم النصارى2.

وقد افترق اليهود والنصارى في شأن الأنبياء، فاليهود جفوا عنهم فكذبوهم وقتلوهم كما أخبر الله عنهم بقوله {أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ} 3، والنصارى غلوا فيهم فأشركوا بهم حتى كفروا بالله تعالى قال تعالى {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً} 4.

فبالإيمان بهم وتصديقهم وطاعتهم يخرج المسلم عن مشابهة اليهود وبعبادة الله وحده والاعتراف بأنهم عباد الله لا يجوز اتخاذهم أربابا إلا اك ك بهم والغلو فيهم يخرج عن مشابهة النصارى.

فإن اتخاذهم أربابا كفر تال الله تعالى {وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} 5 والنصارى يشركون

1 مجموع الفتاوى (1/ 65) .

2 كتاب الله يدل على ذلك فقد قال الله في حق اليهود {فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ} .

وقال النصارى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} .

3 الآية (87) من سورة البقرة.

4 الآية (171) من سورة النساء.

5 الآية (80) من سورة آل عمران.

ص: 681

بمن دون المسيح من الأحبار والرهبان قال تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 فمن غلا فيهم واتخذهم أربابا فهو كافر.

ومن كذب شيئا مما جاؤا به أو سبهم أو عابهم أو عاداهم فهو كافر.

فلابد من رعاية هذا الأصل2.

وكان السلف يرون أن من انحرف من العلماء عن الصراط المستقيم ففيه شبه من اليهود كما ئرى في أحوال منحرفة أهل العلم من تحريف الكلم عن مواضعه، وقسوة القلوب، والبخل بالعلم وغير ذلك.

ومن انحرف من العباد ففيه شبه من النصارى كما ئرى في منحرفة أهل العبادة من الغلو في الأنبياء والصالحين وغير ذلك3.

والغلو في هذه الأمة وقع في طائفتين:

الطائفة الأولى: طائفة من ضلال الشيعة الذين يعتقدون في الأنبياء والأئمة من أهل البيت الألوهية.

الطائفة الثانية: طائفة من جهال المتصوفة يعتقدون نحو ذلك في الأنبياء والصالحين4.

فمن توهم في نبينا أو غيره من الأنبياء شيئا من الألوهية والربوبية فهو من جنس النصارى.

وإنما حقوق الأنبياء ما جاء به الكتاب والسنة عنهم قال تعالى في خطابه لبني

1 الآية (31) من سورة التوبة.

2 الرد على الأخنائي (324-325) .

3 مجموع الفتاوى (1/65) بتصرف.

4 انظر الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (1/92) والرد على البكري (ص 105، 106)

ص: 682

إسرائيل {وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} 1.

والتعزير: النصر والتوقير والتأييد.

وقال تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ} 2 فهذا في حق الرسول، ثم قال في حق الله تعالى {وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3.

وقال تعالى {فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 4.

وقال تعالى {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} 5.

وقال تعالى {قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ} 6 وذكر طاعة الرسول في أكثر من ثلاثين موضعا.

وقال تعالى {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} 7.

وقال تعالى {قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ

1 الآية (12) من سورة المائدة.

2 الآية (8، 9) من سورة الفتح.

3 الآية (9) من سورة الفتح.

4 الآية (157) من سورة الأعراف.

5 الآية (31) من سورة آل عمران.

6 الآية (32) من سورة آل عمران.

7 الآية (56) من سورة الأحزاب.

ص: 683

اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا} 1 فقد بين الله في كتابه حقوق الرسول من الطاعة له، ومحبته، وتعزيره، وتوقيره، ونصره، وتحكيمه، والرضى بحكمه، والتسليم له واتباعه والصلاة والتسليم عليه، وتقديمه على النفس والأهل والمال، ورد ما يتنازع فيه إليه وغير ذلك من الحقوق.

وأخبر أن طاعته طاعته فقال: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} 2 ومبايعته مبايعته فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ} 3.

وقرن بين اسمه واسمه في المحبة فقال {أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} 4 وفي الأذى فقال {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 5 وفي الطاعة والمعصية فقال {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} 67. وفي الرضا فقال {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} 8.

فهذا ونحوه هو الذي يستحقه رسول الله بأبي هو وأمي.

فأما العبادة والاستعانة فلله وحده لا شريك له كما قال {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً} 9.

1 الآية (24) من سورة التوبة.

2 الآية (80) من سورة النساء.

3 الآية (10) من سورة الفتح.

4 الآية (24) من سورة التوبة.

5 الآية (57) من سورة الأحزاب.

6 الآية (13) من سورة النساء.

7 الآية (14) من سورة النساء.

8 الآية (62) من سورة التوبة.

9 الآية (36) من سورة النساء.

ص: 684

{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 1.

{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ} 2.

وقد جمع منهما في مواضع كقوله {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 3.

وقوله {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ} 4.

والدعاء لله وحده سواء كان دعاء عبادة أو دعاء المسألة والاستعانة كما قال تعالى {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً} 5.

وتوحيد الله وإخلاص الدين له في عبادته واستعانته في القرآن كثير جدًا، بل هو قلب الإيمان، وأول الإسلام وآخره.

كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله"6.

وقال صلى الله عليه وسلم "من كان آخر كلامه لا إلى إلا الله دخل الجنة"7.

1 الآية (5) من سورة الفاتحة.

2 الآية (5) من سورة البينة.

3 الآية (123) من سورة هود.

4 الآية (58) من سورة الفرقان.

5 الآيات (من 18 إلى 20) من سورة الجن.

6 تقدم تخريجه ص 45.

7 أخرجه الإمام أحمد في المسند (5/233) .

وأخرجه أبر داود في السنن، كتاب الجنائز، باب في التلقين (3/486) ح 3116 وأخرجه الحاكم في المستدرك (1/351) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ووافقه الذهبي. وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار -كما في الفتوحات الربانية (4/109-110) وذكر له شواهد.

ص: 685

وهو قلب الدين والإيمان، وسائر الأعمال كالجوارح له.

فالعبادة والإستعانة وما يدخل في ذلك من الدعاء والاستغاثة والخشية والرجاء والإنابة والتوكل والتوبة والاستغفار كل، هذا لله وحده لا شريك له. فالعبادة متعلقة بألوهيته، والاستعانة متعلقة بربوبيته، والله رب العالمين لا إله إلا هو، ولا رب لنا غيره، لا ملك ولا نبي ولا غيره، بل أكبر الكبائر الإشراك بالله وأن تجعل له ندا وهو خلقك، والشرك أن تجعل لغيره شركا أى نصيئا في عبادتك، وتوكلك، واستعانتك كما قال من قال {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَاّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} 1

وأصناف العبادات: الصلاة بأجزائها مجتمعة، وكذلك أجزاؤها التي هي عبادة بنفسها من السجود والركوع والتسبيح والدعاء والقراءة والقيام لا يصلح إلا لله وحده.

ولا يجوز أن يتنفل عن طريق العبادة إلا لله وحده، لا الشمس ولا القمر ولا الملك ولا لنبي ولا صالح ولا قبر نبي ولا صالح، وهذا في جميع ملل الأنبياء وقد ذكر في شريعتنا حتى نهي أن يتنفل على وجه التحية والإكرام للمخلوقات، ولهذا نهي النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا أن يسجد له وقال:"لو كنت آمرًا أن يُسجد لأحد لأمرت الزوجة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها"2.

1 الآية (3) من سورة الزمر.

2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (4/381) من حديث عبد الله بن أبي أوفى (5/227-228) من حديث معاذ (6/76) من حديث عائشة. وأخرجه أبو داود في السنن، كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (2/604-605) ح 2140 من حديث قيس بن سعد وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب الرضاع، باب ما جاء في حق الزوج على المرأة (46513) ح 1159 من حديث أبى هريرة وقال: وفي الباب عن معاذ بن جبل وسراقة بن مالك وعائشة وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى وطلق بن على وأم سلمة وأنس وابن عمر. انتهي كلامه. وأخرجه ابن ماجه فى السنن كتاب النكاح، باب حق الزوج على المرأة (1/341-342) ح 1857 من حديث عائشة، و 1858 من حديث عبد الله بن أبي أوفى. وأخرجه ابن حبان فى صحيحه. انظر موارد الظمآن (ح 1290) من حديث عبد الله بن أبي أوفى.

ص: 686

وكذلك الزكاة العامة من الصدقات كلها والخاصة لا يتصدق إلا لله كما قال تعالى {وَمَا لأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى إِلَاّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى} 1.

فلا يجوز فعل ذلك عن طريق الدين لا لملك ولا لشمس ولا لقمر ولا لنبي ولا لصالح، كما يفعل بعض السوال والمعظمين كرامة لفلان وفلان، يقسمون بأشياء إما من الأنبياء وإما من الصحابة وإما من الصالحين.

وكذلك الحج لا يحج إلا إلى بيت الله، فلا يطاف إلا به، ولا يحلق الرأس إلا به، ولا يوقف إلا بفنائه، ولا يفعل ذلك بنبي ولا صالح ولا بقبر نبي ولا صالح، ولا بوثن.

وكذلك الصيام لا يصام إلا عبادة لله، فلا يصام لأجل الكواكب والشمس والقمر، ولا لقبور الأنبياء والصالحين ونحو ذلك.

وهذا كله تفصيل الشهادتين: اللتين هما أصل الدين "شهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدًا عبده ورسوله".

والإله: من يستحق أن يألهه العباد ويدخل فيه حبه وخوفه.

فما كان من توابع الألوهية فهو حق محض لله.

1 الآية (9) من سورة الإنسان.

ص: 687

وما كان من أمور الرسالة فهو حق الرسول1.

ونصوص القرآن والسنة مليئة بتقريرهذا الأمر {لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ} 2.

1 مجموع الفتاوى (1/ 66، 76) بتصرف يسير.

2 الآية (42) من سورة الأنفال.

ص: 688