الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه
الغلو في الشرع: هو مجاوزة حدود ما شرع الله سواء كان ذلك التجاوز في جانب الاعتقاد أو القول أو العمل.
وقد جاء ذكر لفظ الغلو في القرآن الكريم في موضعين وكان الخطاب فيهما للنصارى باعتبارهم أكثر غلوا في الاعتقادات والأعمال من سائر الطوائف وأما الموضعان:
وا! لوضع الثافي: قوله تعالى {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} 2.
قال ابن جرير الطري:
" يعني جل ثناؤه بقوله {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} : يا أهل الإنجيل من النصارى {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول: " لا تتجاوزوا الحق في دينكم فتفرطوا فيه،
1 الآية (171) من سورة النساء.
2 الآية (77) من سورة المائدة.
ولا تقولوا في عيسى غير الحق فإن قيلكم في عيسى إنه ابن الله قول منكم على الله غير الحق، لأن الله لم يتخذ ولدًا، فيكون عيسى أو غيره من خلقه ابنا {وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَاّ الْحَقَّ} .
وأصل الغلو في كل شيء: مجاوزة حده الذي حده، ويقال منه في الدين قد غلا فهو يغلو غلؤا "1.
وقال في تفسير آية المائدة: وهذا خطاب من الله تعالى ذكره، لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم، يقول تعالى ذكره: قل يا محمد لهؤلاء الغالية من النصارى في المسيح {يَا أَهْلَ الْكِتَابِ} يعني بالكتاب الإنجيل {لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ} يقول لا تفرطوا في القول فيما تدينون به في أمر المسيح، فتجاوزوا فيه الحق إلى الباطل فتقولوا فيه: هو الله أو هو ابنه، ولكن قولوا: هو عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه {وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً} يقول لا تتبعوا أيضا في المسيح أهواء اليهود الذين قد ضلوا قبلكم عن سبيل الهدى في القول فيه كما قالوا وتبهتوا أمه كما يبهتونها بالفرية
…
"2.
وقال ابن كثير في تفسيره للآية الواردة في سورة النساء: " ينهي تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلها من دون الله يعبدونه كما يعبدونه، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقا أو باطلا، أو ضلالا أو رشادا، أو صحيحا أو كذبا ولهذا قال الله
1 تفسير الطري (6/34) .
2 تفسير الطري (6/316) .
تعالى {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ} 1 2.
وقال عند تفسير آية سورة المائدة: أي لا تتجاوزوا الحد في إتباع الحق ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء فجعلتموه إلها من دون الله وما ذاك إلا لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديما
…
"3.
والمتأمل للنصوص القرآنية يجد أن النصارى لم يكتفوا بالغلو في المسيح ورفعه إلى درجة الألوهية بل غلوا أيضا في حق أحبارهم ورهبانهم فأعطوهم حق التشريع والطاعة المطلقة والإتباع حتى فيما يخالف شرع الله وأحكامه. فكان الأحبار والرهبان يحرمون ما أحل الله ويحلون ما حرم الله ويقررون شرائع وأحكامًا ما أنزل الله بها من سلطان فتلقى النصارى ذلك كله بالقبول والطاعة.
قال تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} فهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا، ولهذا قال تعالى:{وَمَا أُمِرُوا إِلَاّ لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً} أي الذي إذا حرم شيئا فهو الحرام وما حلله فهو الحلال وما شرعه اتبع، وما حكم به نفذ {لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأنداد
1 الآية (31) من سورة التوبة.
2 تفسير ابن كثبر (1/ 589) .
3 تفسير ابن كثير (2/ 82) .
والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه"1.
ولم يقتصر غلو النصارى عند الحد، بل قدسوهم أمواتًا كما قدسوهم أحياءً فأقاموا على قبورهم الأضرحة وقدموا لهم القرابين فكان ذلك سببا في لعنهم قال صلى الله عليه وسلم "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2. يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:"والنصارى أشد غلوا في ذلك من اليهود كما في الصحيحين: " أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت له أم حبيبة وأم سلمة رضي الله عنهما كنيسة بأرض الحبشة، وذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فقال: إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح، فمات بنو على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك التصاوير، أولئك شرار الخلق عند الله يوم القيامة"3.
والنصارى كثيرا ما يعظمون آثار القديسين منهم، فلا يستبعد أنهم ألقوا إلى بعض جهال المسلمين أن هذا قبر بعض من يعظمه المسلمون ليوافقوهم على تعظيمه.
فالذين يعظمون القبور والمشاهد لهم شبه شديد بالنصارى4.
فالنصارى أمة ضلت وهلكت وكان سبب ضلالها وهلاكها غلوها وقد تجلى غلوها في عدة أمور منها:
1-
غلوهم في نبي الله عيسى ورفعه إلى مكانة الألوهية.
2-
غلوهم في رهبانهم وصالحيهم وذلك بإعطائهم حق التشريع في التحليل
1 تفسير ابن كثير (2/349) .
2 تقدم تخريجه ص 588.
3 تقدم تخريجه ص 588.
4 مجموع الفتاوى (27/460،461) .
والتحريم، والعكوف على قبورهم وتقديسها بعد موتهم.
3-
ابتداعهم الرهبانية.
والله سبحانه وتعالى بذكره لأحوالهم في كتابه العزيز يحذرنا من الوقوع فيما وقعوا فيه، وفي هذا دعوة للاعتبار بالأم السابقة ومعرفة سبب هلاكها وضرورة اجتنابه قال تعالى:{لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَاب} 1. والغلو عند النصارى هدم أصلي الدين: 1- التوحيد، 2- الإتباع.
فهم هدموا الأصل الأول بجعلهم عيسى في مقام الألوهية. وهدموا الأصل الثاني بأن جعلوا لرهبانهم حق التشريع والتحليل والتحريم.
فانظر كيف كان الغلو سبيا لهدم الدين.
فإن المسيح قال لهم {اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُم} وقال {إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ} 2 فلو امتثلوا أمره كانوا مطعين لرسول الله موحدين لله، ونالوا بذلك السعادة من الله في الدنيا والآخرة، ولكنهم غلوا فيه واتخذوه وأمه إلهين من دون الله، يستغيثون به وبغيره من الأنبياء والصالحين ويطلبون منهم ويشركون بهم، وكذبوا بالرسول الذي بشر به، وحرفوا التوراة التي صدق بها وظنوا في ذلك أنهم معظمون للمسيح وكان هذا من جهلهم وضلالهم، فإنهم لو أطاعوه فيما دعاهم إليه لكان له مثل أجورهم، وكانت طاعتهم له والإقرار بعبوديته وبما بشر به فيه له ولهم من الأجر ما لا يحصيه إلا الله،
1 الآية (111) من سورة الصف.
2 الآية (6) من سورة الصف.
ففوتوا هذا الأجر والثواب عليهم وعليه وله ولهم فيه الخير المستطاب واعتاضوا عن ذلك بما ضرهم في الدنيا والآخرة.
وإذا بين لهم قدر المسيح فقيل لهم {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَاّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلانِ الطَّعَامَ} 1.
قالوا: إن هذا تنقص بالمسيح وسب له واستخفاف بدرجته وسوء أدب معه، بل قالوا هذا كفر وجحد لحقه، وسلب لصفات الكمال الثابتة له.
وهذا في الحقيقة إنما هو نقص لما في نفوسهم من الغلو فيه لا نقص لنفس المسيح الموجود في نفس الأمر.
وفي ذلك من الحمد له والمدح وإعظامه والإيمان به وإعطائه الدرجة العلية ما ليس في الغلو فيه.
لأن في تقرير كمال عبوديته التي هي كمال الخلوق، وهذا هو الكمال فأما الغلو فيه إلى حد الربوبية فذاك خيال باطل لا كمال حاصل وفي إثبات العبودية له، إيمان به وموافقة لخبره وأمره، فيحصل له بذلك من الخير والرحمة ما لا يحصل له بالغلو فيه، الذي هو كذب فيه مكذوب عليه ومعصية له وإشراك بالله، وليس في ذلك ما ينفعه ولا ما يرفعه بل في ذلك ضرر على المشركين المفترين "2.
ولم يقتصر الغلو على النصارى وحدهم بل كان واقعا في الأمم قبلهم فالغلو كان أول خطوات الإنحراف عن الدين القويم والوقوع في الشرك.
فقد روى الطبري بسنده عن عكرمة قال: "كان بين آدم ونوح عشرة قرون
1 الآية (75) من سورة المائدة.
2 الرد على البكري (ص 104- 105) .
كلهم على الإسلام "1.
فكان مبدأ الشرك في قوم نوح، وكان سببه غلوهم في الصالحين فقد روى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه باب قوله تعالى {وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً} عن ابن عباس أنه قال:" أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابًا وسموها بأسمائهم ففعلوا، فلم تعبد، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت "2.
فالغلو في الصالحين هو الطامة الكبرى والبلية العظمى التي جنحت بالبشرية عن جادة الحق والصواب إلى ظلمات الشرك والضلال باتخاذ أنداد لله من خلقه واعتقاد أنها تملك شيئا من خصائص الإلهية.
قال ابن القيم: " ومن أسباب عبادة الأصنام الغلو في الخلوق وإعطائه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه.
وهذا التشبيه الواقع في الأم هو الذي أبطله الله سبحانه وبحث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله3.
ولهذا نهي الشارع الحكيم عن الغلو بشتى صوره وأشكاله وحذر منه وذلك لما له من آثار سيئة على الدين ولما فيه من منافاة لعقيدة التوحيد وهدم لأصليّ الدين: التوحيد، والإتباع.
ولقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الغلو في الدين وأخبر أنه سببا لهلاك من قبلنا
1 تفسير الطري (29/ 99) .
2 انظر فتح الباري (8/ 667) .
3 إغاثة اللهفان (2/ 226) .
من الأم.
فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إياكم والغلو في الدين فإنما هلك من كان قبلكم بالغلو في الدين"1.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وقوله "إياكم والغلو في الدين عام في جميع أنواع الغلو في الاعتقادات والأعمال"2.
وسبب قول النبي صلى الله عليه وسلم لهذه العبارة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لابن عباس غداة العقبة وهو على ناقته "القط لي حصى، فلقطت له سبع حصيات مثل حصى الخذف، فجعل ينفضهن في كفه ويقول أمثال هؤلاء فارموا، ثم قال: أيها الناس إياكم والغلو في الدين
…
" الحديث.
فسبب ورود الحديث ينبهنا إلى أمر هام جدا وهو أن الغلو قد يبدأ بشيء صغير ثم تتسع دائرته فتهلك بذلك أمم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وسبب هذا اللفظ العام رمي الجمار وهو داخل فيه فالغلو فيه: مثل رمي الحجارة ونحو ذلك، بناء على أنه بالغ في الحصى الصغار، ثم علل ذلك بأن ما أهلك. كان قبلنا إلا الغلو في الدين كما تراه
1 أخرجه الأمام أحمد في المسند (1/ 215، 347) . والنسائي في السنن (5/ 8 ا. 2) كتاب مناسك الحج، باب
التقاط الحصى. وابن ماجه في سننه، أبراب المناسك، باب قدر حصى الرمي (2/ 183) ح 3064.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: رواه أحمد والنسائي وابن ماجة من حديث عوف بن ألي جميلة عن زيادة بن حصين عن ألي العالية عنه وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم. اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106) . وذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/ 278) ح 1283 وقال في تخريج السنة لابن ألي عاصم (1/46) إسناده صحيح. وقد صححه ابن خزيمة والحاكم (1/466) والذهبي والنووي وابن تيمية.
2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 156) .
في النصارى1.
ولو لم يرد في السنة إلا هذا الحديث لكفى به زاجرا ورادعا للأمة عن الوقوع في الغلو، كيف والسنة مليئة بالأحاديث التي تحذر من الغلو وتبين خطره وهلاكه.
فعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "هلك المتنطعون": قالها ثلاثًا2.
قال النووي: "هلك المتنطعون": أي المتعمقون الغالون المجاوزون الحدود في أقوالهم وأفعالهم3.
وقال أيضا: "المتنطعون: المتعمقون المشددون في غير موضع التشديد"4، فهذا الحديث موافق لما جاء في الحديث السابق من الإخبار بهلاك أصحاب الغلو. وهناك أحاديث كثيرة نهي فيها النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه رضوان الله عليهم عن الغلو في جوانب معينة من الدين نذكر اثنين منها على سبيل المثال لا على سبيل الحصر.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: " جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا كأنهم تقالوها. فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟ قال أحدهم: أما أنا فأنا أصلي الليل أبدا.
1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 106) .
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب العلم، باب هلك المتنطعون (8/58)
3 شرح النووي (16/220) .
4 رياض الصالحين باب الاقتصاد في الطاعة (ص 88) .
وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله ال فقال: " أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني "1.
فسمى النبي صلى الله عليه وسلم الغلو في جانب العبادات والسنن التي سنها لهم رغبة عن الشرع الذي جاء به، وتبرأ ممن هذه حاله، حتى وإن كان الدافع لذلك التقرب إلى الله تعالى ذلك لأن هذا الغلو فيه هدم للأصل الثاني من أصول هذا الدين ألا وهو الإتباع فنحن مأمورون بالاقتداء به صلى الله عليه وسلم والأخذ بسنته. والغلو في هذا الجانب مناقض تماما لهذا الأصل، ولذلك فلا غرابة أن يتبرأ النبي صلى الله عليه وسلم ممن غلا في جانب ما سنه وشرعه للأمة.
لأنه لو فتح هذا الباب وولجته الأمة لأصبحت عبادة الله مجالا لأهواء الناس وعقولهم وبذلك يتلاشى دينها وتنطمس معالمه فتستحق بذلك غضب الله ومقته فتهلك كما هلكت الأم السابقة.
وعن أنس رضي الله عنه قال: دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد فإذا حبل ممدود بين الساريتين فقال " ما هذا الحبل؟ " قالوا: هذا حبل زينب فإذا فترت تعلقت به. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " حلوه ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليرقد" 2 وعند مسلم " حبل لزينب تصلي ".
1 تقدم تخريجه.
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب التهجد، باب ما يكره من التشديد في العبادة. انظر: فتح الباري (3613) ح 1150. وأخرجه مسلم في صحيحه كتاب المساجد ومراجع الصلاة، باب أمر من نعس في صلاته
…
(2/189) .
قال ابن حجر: "وفيه الحث على الاقتصاد في العبادة والنهي عن التعمق فيها
…
"1.
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم أمته كذلك من الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم.
وذلك لما ينطوي عليه الغلو من الشر العظيم، ولما يعلمه صلى الله عليه وسلم من منزلته في قلوب المؤمنين.
فقد خشي صلى الله عليه وسلم أن يدفعهم حبهم وتعظيمهم له إلى رفعه فوق منزلته التي جعلها الله له وتشريكه مع الله في بعض ما هو حق لله.
فحذرهم من الغلو في شخصه بأساليب مختلفة وذلك حماية منه لجناب التوحيد وقطعا لذريعة الشرك.
وقد جاء تحذره تارة بأسلوب النهي الصريح.
وتارة بالتجائه إلى ربه ودعائه بأن لا يتحول قبره إلى وثن يعبد.
وتارة بلعنة الغلاة الذين اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد.
فمما ورد عنه قوله صلى الله عليه وسلم: "لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم، فانما أنا عبده، فقولوا عبد الله ورسوله"2.
قال ابن حجر: "الإطراء: المدح بالباطل تقول أطربت فلانًا: مدحته فأفرطت في مدحه"3.
فمعنى الحديث: أي لا تمدحوني فتغلوا في مدحي كما غلت النصارى في عيسى فادعوا فيه الربوبية، وإنما أنا عبد الله فصفوني بذلك كما وصفني به
1 فتح الباري (3/ 37) .
2 تقدم تخريجه ص 626.
3 فتح الباري (6/ 490) .
ربى، وقولوا عبد الله ورسوله.
فأبى عباد القبور إلا مخالفة لأمره، وارتكابا لنهيه، وناقضوه أعظم المناقضة وظنوا أنهم إذا وصفوه بأنه عبد الله ورسوله، وأنه لا يدعى ولا يستغاث به، ولا ينذر له، ولا يطاف بحجرته، وأنه ليس له من الأمر شيء، ولا يعلم من الغيب إلا ما علمه الله، أن في ذلك هضما لجنابه وغضا من قدره، فرفعوه فوق منزلته، وادعوا فيه ما ادعت النصارى في عيسى أو قريبا منه، فسألوه مغفرة الذنوب، وتفريج الكروب وغير ذلك من الأمور1.
وقد ذكر شيخ الإسلام في كتاب تلخيص الاستغاثة2 عن بعض أهل زمانه أنه جوز الاستغاثة بالرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يستغاث فيه بالله، وصنف فيه مصنفا. وكان يقول أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم مفاتيح الغيب التي لا يعلمها إلا الله. وحكي عن آخر من جنسه يباشر التدريس وينسب إلى الفتيا أنه كان يقول إن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ما يعلمه الله ويقدر على ما يقدر الله عليه.
ومن هؤلاء من يقول في قول الله تعالى {وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو الذي يسبح بكرة وأصيلا.
ومنهم من يقول: نحن نعبد الله ورسوله فيجعلون الرسول معبودًا ويقول قائلهم:
فإن من جودك الدنيا وضرتها ومن علومك علم اللوح والقلم
فجعل الدنيا والآخرة من جوده، وجزم بأنه يعلم ما في اللوح المحفوظ3.
1 تيسير العزيز الحميد (272- 273) .
2 الرد على البكري (ص 218) .
3 تيسير العزيز الحميد (273) .
فانظر إلى ما أدى إليه هذا الإطراء من صرف أمور قد اختص بها الرب عز وجل فصرفت للنبي صلى الله عليه وسلم.
ولكن ما على الرسول إلا البلاغ فقد سد النبي صلى الله عليه وسلم كل ذريعة مؤدية إلى الغلو والشرك حتى يبقى هذا الدين وسطا صافيًا لا كدر فيه، وتبقى عقيدة التوحيد نقية قوية خالدة.
فلقد نهي الرسول الكريم عن المبالغة في مدحه لعلمه بأن هذه المبالغة بريد إلى الغلو ومدعاة للشرك والانحراف عن الطريق السوي.
وهذا من الحرص الكامل للرسول صلى الله عليه وسلم على حماية التوحيد، فبهذا النهي الشديد سد الرسول صلى الله عليه وسلم طريق الغلو.
والنهي عن المبالغة في الإطراء لا يعني التقليل من قدره وتوقيره فإن للتوقير والتعظيم وسائله المشروعة والتي سبق ذكرها.
ولكن هناك أناس شق عليهم التوقير المشروع فلجأوا إلى التوقير الممنوع فنسجوا قصائد مطولة أغرقوا فيها بالمديح المجاوز للحد والمنافي لقواعد التوحيد والذي لا يرضى به الله ورسوله بل جاء التحذير منه بنص القرآن والسنة المطهرة.
"ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أحرص الخلق على تجريد التوحيد حتى قطع أسباب الشرك ووسائله من جميع الجهات، حتى قال له رجل: ما شاء الله وشئت، قال: "اجعلتني لله ندا؟ بل ما شاء الله وحده "1.
ونهى أن يحلف بغير الله، وأخبر أن ذلك شرك.
ونهي أن يصلى إلى القبر أو يتخذ مسجدا أو عيدا أو يوقد عليه سراج،
1 أخرجه الإمام أحمد (1/ 214، 224، 283، 347) ، وأخرجه النسائي في عمل اليوم والليلة ص 545 ح 987.
بل مدار دينه على هذا الأصل-أي تجريد التوحيد- الذي هو قطب رحا النجاة، ولم يقرر أحد ما قرره صلى الله عليه وسلم بقوله وفعله وسد الذرائع المنافية له، فتعظيمه صلى الله عليه وسلم بموافقته على ذلك لا مناقضته فيه1.
والغلو بشتى صوره وأشكاله مناف لأصلي التوحيد ويكفيك أن تعلم أن سبب عبادة الأصنام هو الغلو في المخلوق، وإعطاؤه فوق منزلته، حتى جعل فيه حظ من الإلهية، وشبهوه بالله سبحانه، وهذا هو التشبيه الواقع في الأم الذي أبطه الله سبحانه، وبعث رسله وأنزل كتبه بإنكاره والرد على أهله. فهو سبحانه ينفي، وينهي، أن يجعل غيره مثلا له، وندا له وشبها له. لا أن يشبه هو بغيره إذ ليس في الأمم المعروفة أمة جعلته سبحانه مثلا لشيء من مخلوقاته، فجعلت المخلوق أصلا وشبهت به الخالق، فهذا لا يعرف في طائفة من طوائف بني آدم.
وإنما الأول هو المعروف في طوائف أهل الشرك، غلوا فيمن يعظمونه، ويحبونه، حتى شبهوه بالخالق وأعطوه خصائص الإلهية، بل صرحوا أنه إله، وأنكروا جعل الألهة إلها واحدا وقالوا:{وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ} وصرحوا بأنه إله معبود، يرجى، ويخاف، ويعظم، ويسجد له ويحلف باسمه، وتقرب له القرابين إلى غير ذلك من خصائص العبادة التي لا تنبغي إلا لله تعالى. فكل مشرك فهو مشبه لإلهه ومعبوده بالله سبحانه، وإن لم يشبه من كل وجه2.
فحقيقة الشرك هو التشبه بالخالق أو التشبيه للمخلوق به فالمشرك مشبه
1 تيسير العزيز الحميد ص 274.
2 إغاثة اللهفان (2/ 226) .
للمخلوق بالخالق في خصائص الإلهية.
فإن من خصائص الإلهية التفرد بملك الضر والنفع والعطاء والمنع، وذلك يوجب تعليق الدعاء والخوف والرجاء والتوكل به وحده.
فمن علق ذلك بمخلوق فقد شبهه بالخالق، وجعل ما لا يملك لنفسه ضرًا ولا نفعًا ولا موتًا ولا حياة ولا نشورًا -فضلا عن غيره- شبيها لمن له الأمر كله، فأزمة الأمور كلها بيديه، ومرجعها إليه فما شاء كان وما لم يشاء لم يكن، لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع، بل إذا فتح لعبده باب رحمته لم يمسكها أحد، وإن أمسكها عنه لم يرسلها إليه أحد.
فمن أقبح التشبيه: تشبيه هذا العاجز الفقير بالذات بالقادر الغني بالذات. ومن خصائص الإلهية: الكمال المطلق من جميع الوجوه الذي لا نقص فيه بوجه من الوجوه.
وذلك يوجب أن تكون العبادة كلها له وحده، والتعظيم والإجلال والخشية والدعاء والرجاء والإنابة والتوكل والاستعانة وغاية الذل مع غاية الحب، كل ذلك عقلا وشرعا وفطرة أن يكون له وحده، ويمنع عقلا وشرعا وفطرة أن يكون لغيره. فمن جعل شيئا من ذلك لغيره فقد شبه ذلك الغير بمن لا شبيه له ولا مثيل له ولا ند له، وذلك أقبح التشبيه وأبطله.
ولشدة قبحه وتضمنه غاية الظلم أخبر سبحانه عباده أنه لا يغفره مع أنه كتب على نفسه الرحمة.
ومن خصائص الإلهية: العبودية التي قامت على ساقين لا قوام لها بدونهما: غاية الحب، مع غاية الذل، هذا تمام العبودية، وتفاوت منازل الخلق فيها بحسب تفاوتهم في هذين الأصلين.
فمن أعطى حبه وذله وخضوعه لغير الله فقد شبهه في خالص حقه وهذا من المحال أن تجئ به شريعة من الشرائع، وقبحه مستقر في كل فطرة وعقل، ولكن غيرت الشياطين فطر أكثر الخلق وعقولهم، وأفسدتها عليهم واجتالتهم عنها. ومضى على الفطرة الأولى من سبقت له من الله الحسنى فأرسل إليهم رسله وأنزل عليهم كتبه بما يوفق فطرهم وعقولهم فازدادوا بذلك نورًا على نور {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ} 1.
إذا عرف هذا فمن خصائص الإلهية السجود، فمن سجد لغيره فقد شبه المخلوق به.
ومنها المتوكل، فمن توكل على غيره فقد شبهه به.
ومنها التوبة، فمن تاب لغيره فقد شبهه به.
ومنها الحلف باسمه تعظيما وإجلالا له، فمن حلف بغيره فقد شبهه به. هذا في جانب التشبيه.
وأما في جانب التشبه به: فمن تعاظم وتكبر ودعا الناس إلى إطرائه في المدح والتعظيم والخضوع والرجاء، وتعليق القلب به خوفا ورجاء والتجاء واستعانة فقد تشبه بالله ونازعه في ربوبيته وإلهيته، وهو حقيق بأن يهينه الله غاية الهوان، ويذله غاية الذل، ويجعله تحت أقدام خلقه.
وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم قال: "يقول الله عز وجل: العظمة إزاري، والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته"2.
وإذا كان المصور الذي يصنع الصورة بيده من أشد الناس عذابا يوم القيامة
1 الآية (35) من سورة النور.
2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب البر والصلة، باب تحريم الكبر (8/36) .
لتشبهه بالله في مجرد الصنعة، فما الظن بالتشبه بالله في الربوبية والإلهية؟ ففي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال:" قال الله عز وجل: ومن أظلم ممن ذهب يخلق خلقا كخلقي، فليخلقوا ذرة، فليخلقوا شعيرة"1. فنبه بالذرة والشعيرة على ما هو أعظم منها وأكبر وقال صلى الله عليه وسلم: "أشد الناس عذابا ئرم القيامة المصورون يقال لهم أحيوا ما خلقتم" 2 3.
1 أخرجه البخاري في صحيحه كتاب التوحيد باب قول الله تعالى {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} فتح الباري (13/ 528) ح 7559. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولا صورة (6/ 162) .
2 أخرجه البخاري في صحيحه، كناب اللباس، باب عذاب المصورين يوم القيامة.
فتح الباري (10/82-83) ح 4950-4951، وأخرجه مسلم في صحيحه، كثاب اللباس والزينة، باب لا تدخل الملائكة بيتا فيه كلب ولاصورة (16116) .
3 الجواب الكافي (ص 159- 161) .