المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة - جـ ٢

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل

- ‌المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا

- ‌المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

- ‌المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته

- ‌المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم

- ‌المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك

- ‌المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته

- ‌المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

- ‌المطلب الأول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح

- ‌المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين

- ‌المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم

- ‌المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية

- ‌الفصل الثالث: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة الصلاة

- ‌المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

- ‌الباب الرابع: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: تعريف الغلو وسد الشارع لطرق الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: تعريف الغلو وموقف الشرع منه

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي

- ‌المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

- ‌المبجث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

- ‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الكلام على مسألة التوسل

- ‌المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة

- ‌المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة

- ‌المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة

- ‌المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده

- ‌المطلب الأول: حكم فعل المولد

- ‌المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات

- ‌المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

وهذه المسألة أشكلت على كثير من الناس، ولكن الذي ينبغي على من أراد أن يعرف الحق ودين الإسلام، أن يتأمل في النصوص النبوية الواردة في جوانب هذه المسألة، وأن يعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين، ليعرف ما هو المشروع وما هو المبتدع وما هو مجمع عليه وما هو متنازع فيه.

وسيرا على هذا الأساس فسأعرض هذه المسألة بشيء من التوسع متناولا في ذلك عددا من الجوانب التي جاءت بها النصوص الشرعية بغرض إبراز أمور هامة قد تخفى على كثير من الناس ويغفلون عنها، وهي أمور على درجة كبيرة من الأهمية إذ على أساسها ينبني اللهم الصحيح الموافق لنصوص الشرع في هذه المسألة.

وقد قسمت هذا المطلب إلى نقاط ختمتها بذكر خلاصة لأقوال العلماء في عدد من المسائل الواردة في هذا الشأن.

النقطة الأولى: لم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم نص صحيح صريح يأمر فيه أمته بالسلام عليه عند قبره فالمتأمل للنصوص الواردة في شأن السلام عليه صلى الله عليه وسلم والتي سبق إيرادها- لا يجد فيها أن النبي صلى الله عليه وسلم قد خص قبره بالسلام، كما قد ورد تخصيص التشهد بالسلام عليه وكذا الدخول إلى المسجد والخروج منه.

وهنا يحسن توضيح الأمور الهامة التالية:

ص: 579

1-

أن عدم التخصيص للقبر بالسلام فيه إظهار لخاصية اختص بها النبي صلى الله عليه وسلم لا يماثله فيها أحد من الخلق.

فالمقصود عند قبر غيره من الدعاء له هو مأمور له في حق الرسول صلى الله عليه وسلم في الصلوات الخمس وعند دخول المساجد والخروج منها. فالله عز وجل فضله بهذا الأمر على غيره، وأغناه بذلك عما يفعل عند قبور غيره1.

2-

أن الذي تدل عليه نصوص السلام عليه صلى الله عليه وسلم أن هذا السلام يستوى فيه القريب والبعيد، وهذا أمر اختص به النبي صلى الله عليه وسلم.

ولهذا قال الحسن بن الحسن بن على بن أبي طالب2 لذلك الرجل الذي رآه يختلف إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويدعو عنده. فقال له: يا هذا إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم حيثما كنتم تبلغني"3 فما أحط ورجل بالأندلس منه إلا سواء.

فالحسن بن الحسن- شيخ أهل بيته- وغيره لا يفرقون بين أهل المدينة والغرباء ولا بين المسافر وغيره ولا يرون في السلام عليه عند قبره مزية4 فالسلام يصل إليه من مشارق الأرض ومغاربها.

1 الصارم المنكي (ص 54) .

2 الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب الهاشمي، المدني الامام أبو محمد، وهو قليل الرواية مع صدقه وجلالته، توفي سنة تسع وتسعين وقيل سبع وتسعين للهجرة. سير أعلام النبلاء (4/ 483، 487) .

3 أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (7626) . وأخرجه إسماعيل القاضي في فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13- 14) ح30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح. وابن عساكر (4/ 217/ أ) . وأورده الذهبي في سير أعلام النبلاء (4/ 483- 484) . وعزاه الألباني في تحذير الساجد (ص 141) إلى ابن خزيمة في حديث علي بن حجر (4/ رقم 48) .

4 الرد على الأخنائي (ص 146) .

ص: 580

وهذا من فضل الله على هذه الأمة فالمسلم في أي بقعة من الأرض له أن يقوم بهذا الحق للنبي صلى الله عليه وسلم.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ثبت بالسنة واتفاق الأمة أن كل ما يفعل من الأعمال الصالحة في المسجد عند حجرته من صلاة عليه وسلام وثناء وإصام وذكر محاسن وفضائل، ممكن فعله في سائر الأماكن، ويكون لصاحبه من الأجر ما يستحقه، كما قال: "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيث كنتم". ولو كان للأعمال عند القبر فضيلة لفتح للمسلمين باب الحجرة، ولما منعوا من الوصول إلى القبر"1.

"فالله سبحانه خص رسوله صلى الله عليه وسلم بما خصه به تفضيلا له وتكريما لما يجب من حقه على كل مسلم في كل موضع، فإن الله أوجب الإيمان به ومحبته وموالاته ونصره وطاعته واتباعه على كل أحد في كل مكان، وأمر من الصلاة عليه والسلام عليه في كل مكان ومن سؤال الوسيلة له عند كل أذان ومن ذكر فضائله ومناقبه وما يعرف به قدر نعمة الله به على أهل الأرض، وأن الله لم ينعم على أهل الأرض نعمة أعظم من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم، وأنه هو أولى بالمؤمبن من أنفسهم، وأنه لا يؤمن العبد حتى يكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، بل حتى يكون أحب إليه من نفسه إلى غير ذلك من حقوقه، وكل هذه مشروعة فى جميع البقاع ليس منها شىء يختص بالقبر ولا بما هو قريب من القبر. ولا شرع للناس أن يكون قيامهم بهذه الحقوق عند القبر أفضل من قيامهم بها في بلادهم. بل المشروع أن يقوموا بها في كل مكان. ومن قام بها عند القبر وفتر عن القيام بها في بلده كما يوجد في بعض

1 الجامع الفريد (ص 396) .

ص: 581

الناس يوجد من محبته وتعظيمه وثنائه ودعائه للرسول عند قبره أعظم مما يوجد في بلده وطريقه، فهذه حالة منقوصة غير محمودة، وصاحبها منحوس الحظ ناقص النصيب وهو ناقص الدين والإيمان إما بترك واجب يأثم بتركه وإما بترك مستحب تنقص درجته بتركه بخلاف من من الله عليه فجعل محبته وثناءه وتعظيمه ودعاءه للرسول في بلده مثل ما إذا كان بالمدينة عند قبره أو أعظم. فهذه هي الحالة المحمودة المشروعة وهي حال الصحابة والتابعين لهم ياحسان إلى يوم القيامة، لا يعرف عن أحد منهم أنه كان يزيد حبه وتعظيمه ودعاؤه وثناؤه عند القبر، ولهذا لم يكونوا يأتونه لأن قيامهم بما يجب من حقوق الرسول في جميع الأمكنة سواء.

وقد نهى عن تخصيص القبر بذلك وأن يتخذوه عيدا ومسجدا لأنه مظنة أن يتخذ وثنا ويفضي إلى الشرك ومظة أن ينقص قيامهم بحقه في سائر البقاع إذا خصوا تلك البقعة بمزيد القيام، كما أن المشاعر لما خصت بالعبادات فالمؤمن تجد إيمانه فيها أعظم من إيمانه في غيرها، والرسول صلى الله عليه وسلم حقه في جميع البقاع سواء ولكن تتنوع حقوقه بحسب الأحوال، ولهذا إذا اعتبرت أحوال الناس كان من يعظم النبي صلى الله عليه وسلم كند قبره مقصرا في حقوقه التي أمر بها في سائر البقاع بحسب ما زاد عند القبر. وهذا أمر مطرد معروف من جميع أحوال الناس.

ولما كان السابقون الأولون أقوم بحقوقه في جميع المواضع كانوا أبعد الناس عن، تخصيص القبر بشيء، والخلفاء الراشدون ونحوهم لما كانوا أقوم بحقوقه من غيرهم لم يفعلم ما فعله ابن عمر ونحوه، فأبوه عمر كان أقوم بحقه صلى الله عليه وسلم منه وكان ينهي أن يقصد الصلاة في موضع صلي فيه النبي صلى الله عليه وسلم خلاف ما

ص: 582

فعله ابنه عبد الله مع فضله ودينه رضي الله عنهم أجمعين"1.

فمن يجد قلبه عند قبر الرسول أكثر محبة له وتعظيما، ولسانه أكثر صلاة عليه وتسليما مما لايجده في سائر المواضع، كان ذلك دليلا على أنه ناقص الحظ منحوس النصيب من كمال المحبة والتعظيم وكان فيه من نقص الإيمان وانخفاض الدرجة بحسب هذا التفاوت، بل المأمور به أن تكون محبته وتعظيمه وصلاته وتسليمه عند غير القبر أعظم فإن القبر قد حيل بين الناس وبينه.

فمن لم يجد إيمانه به ومحبته له وتعظيمه له وصلاته عليه وتسليمه عليه إذا كان في بلده أعظم مما يكون لو كان في نفس الحجرة من داخل، فهو ناقص الحظ من الدين وكمال الإيمان واليقين، فكيف إذا لم يكن من داخل بل من خارج؟ هذا والله أعلم2.

3-

أن عدم تخصيص النبي صلى الله عليه وسلم للقبر بالسلام ولا بغيره من العبادات هو لما في ذلك من مظنة اتخاذه وثنا أو عيدا فيفضي ذلك إلى الشرك، والمعروف عنه صلى الله عليه وسلم أنه حريص على سد كل ذريعة قد توصل إلى الشرك.

وسيأتي توضيح هذه المسألة في النقطة الثالثة بإذن الله.

النقطة الثانية: الأحاديث الواردة في زيارة قبره كلها موضوعة.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث واحد في زيارة قبر مخصوص، ولا روى أحد في ذلك شيئا، لا أهل الصحاح ولا السنن ولا الأئمة المصنفون في المسانيد كالإمام أحمد وغيره، وإنما روى هذه

1 الرد على الأخنائي (ص 74- 76) .

2 الرد على الأخنائي (ص 97- 98) .

ص: 583

الأحاديث من جمع الموضوع وغيره"1.

وقال أيضا: "وأما قوله: "من زار قبري فقد وجبت له شفاعتي". وأمثال هذا الحديث مما روي في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم فليس منها شيء صحيح2 ولم يروها أحد من أهل الكتب المعتمدة لا أصحاب الصحيح كالبخاري ومسلم. ولا أصحاب السنن كأبي داود والنسائي ولا الأئمة من أهل المسانيد: كالإمام أحمد وأمثاله، ولا اعتمد على ذلك أحد من أئمة الفقه كمالك والشافعي وأحمد، وإسحاق بن راهويه، وأبي حنيفة، والثوري، والأوزاعي وأمثالهم.

بل عامة هذه الأحاديث مما يعلم أنها كذب موضوعة، كقوله "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" وقوله "من حج ولم يزرني فقد جفاني" فإن هذه الأحاديث ونحوها كذب.

وقال أيضا: وما ذكروه من الأحاديث في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم فكلها ضعيفة باتفاق أهل العلم بالحديث، بل هي موضوعة لم يرو أحد من أهل السنن العتمدة شيئا منها ولم يحتج أحد من الأئمة بشيء منها، بل مالك- إمام أهل المدينة النبوية الذين هم أعلم الناس بحكم هذه المسألة- كره أن يقول الرجل زرت قبره صلى الله عليه وسلم ولو كان هذا اللفظ معروفا عندهم، أو مشروعا، أو مأثورا

1 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 400) .

2 جمع الإمام الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادى في كتابه الصارم المنفي في الرد على السبكي، الأحاديث التي وردت في زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم وبين درجتها ورد على من احتج بها وكذلك الشيخ حماد الأنصاري في رسالة له سماها كشف الستر عما ودد في السفر إلى القبر الأحاديث الواردة في هذه المسألة ويين حكمها.

ص: 584

عن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكرهه عالم المدينة1.

ومما يوضح هذا أنه لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم باسم زيارة قبره لا ترغيبا في ذلك ولا غير ترغيب، فعلم أن مسمى هذا الاسم لم يكن له حقيقة عندهم2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ولا أعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بلفظ زيارة قبره ألبتة، فلم يكن هذا اللفظ معروفا عندهم3.

ولهذا كره من كره من العلماء إطلاق هذا الاسم.

"والذين أطلقوا هذا الاسم من العلماء إنما أرادوا به إتيان مسجده والصلاة فيه والسلام عليه فيه إما قرنا من الحجرة وإما بعيدا عنها إما مستقبلا للقبلة وإما مستقبلا للحجرة.

وليطر في أئمة المسلمين لا الأربعة ولا غيرهم من احتج على ذلك بلفظ روى في زيارة قبره.

بل إنما يحتجون بفعل ابن عمر مثلا وهو أنه "كان يسلم" أو بما روي عنه من قوله صلى الله عليه وسلم "ما من رجل يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" وذلك احتجاج بلفظ السلام لا بلفظ الزيارة.

وليس في شىء من مصنفات المسلمين التي يعتمدون عليها في الحديث والفقه أصل عن الرسول صلى الله عليه وسلم ولا عن أصحابه في زيارة قبره.

أما أكثر مصنفات جمهور العلماء فليس فيها استحباب شيء من ذلك بل

1 الجامع الفريد- كتاب الزيارة (ص 395، 396) .

2 الرد على الأخنائي (ص 137) .

3 الرد على الأخنائي (ص 137) .

ص: 585

يذكرون المدينة وفضائلها وأنها حرم ويذكرون مسجده وفضله وفضل الصلاة فيه والسفر إليه وإلى المسجد الحرام ونذر ذلك ونحو ذلك من المسائل ولا يذكرون اسستحباب زيارة قبره لا بهذا اللفظ ولا بغيره فليس في الصحيحين وأمثالهما شيء من ذلك ولا في عامة السنن مثل النسائي والترمذي وغيرهما ولا في مسند الشافعي وأحمد وإسحاق ونحوهبم من الأئمة.

وطائفة أخرى ذكروا ما يتعلق بالقبر لكن بغير لفظ زيارة قبره، كما روى مالك في الموطأ عن ابن عمر أنه كان يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر كما قال أبو داود في سننه، "باب ما جاء في زيارة القبور" وذكرقوله صلى الله عليه وسلم:"ما من أحد يسلم علي إلا رد الله على روحي حتى أرد عليه السلام".

ولهذا أكثر كتب الفقه المختصرة التي تحفظ ليس فيها استحباب زيارة قبره مع ما يذكرون من أحكام المدينة.

وإنما يذكر ذلك قليل منهم، والذين يذكرون ذلك يفسرونه باتيان المسجد كما تقدم.

ومعلوم أنه لو كان هذا من سنته المعروفة عند أمته المعمول بها من زمن الصحابة والتابعين لكان ذكر ذلك مشهورا عند علماء الإسلام في كل زمان كما اشتهر ذكر الصلاة عليه والسلام عليه، وكما اشتهر عندهم ذكر مسجده وفضل الصلاة فيه، فلا يكاد يعرف مصنف للمسلمين في الحديث والفقه إلا وفيه ذكر الصلاة والسلام عليه وذكر فضل مدينته والصلاة في مسجده1. فالمعنى الذي أراده العلماء بقولهم "يستحب زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم "أو قولهم

1 الرد على الأخنائي (ص 172- 173) .

ص: 586

يستحب السفر لزيارة قبره"- كما هو موجود في كلام كثير منهم عند ذكرهم للحج- هو السفر إلى مسجده إذ كان المصلون والزوار لا يصلون إلا إلى مسجده، ولا يصل أحد إلى قبره ولا يدخل أحد إلى حجرته.

ولكن قد يقال هذا في الحقيقة ليس زيارة لقبره؟ ولهذا كره من كره من العلماء أن يقال زرت قبره. ومنهم من لم يكره. والطائفتان متفقون على أنه لا يزار قبره كما تزار القبور بل إنما يدخل إلى مسجده.

وأيضا فالنية في السفر إلى مسجده وزيارة قبره مختلفة.

فمن قصد السفر إلى مسجده للصلاة فيه فهذا مشروع بالنص والإجماع. وإن كان لم يقصد إلا القبر ولم يقصد المسجد فمالك والأكثرون يحرمون هذا السفر وكثير من الذين يحرمونه لا يجوزون قصر الصلاة فيه.

وآخرون يجعلونه سفرا جائزا وإن كان غير مستحب ولا واجب بالنذر. وأما إن كان قصده السفر إلى مسجده وقبره معا فهذا قد قصد مستحبا مشروعا بالإجماع1 أي السفر إلى المسجد لا السفر إلى القبر.

النقطة الثالثة: استفاضت الأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم التي ينهي فيها عن الصلاة إلى القبور أو اتخاذها مساجد، ولعن من اتخذ تلك القبور من الأم السابقة مساجد. وقد جاء هذا التحذير منه حتى وهو في آخر أيام حياته كما جاءت بذلك بعض روايات تلك الأحاديث.

فعن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في مرضه الذي لم

1 الرد على الأخنائي (ص 21) بتصرف.

ص: 587

يقم منه "لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" قالت: فلولا ذاك أبرز قبره غير أنه خشى أن يتخذ مسجدا"1.

وعنها رضي الله عنها وعن ابن عباس رضي الله عنهما قالا: "لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم طفق يطرح خميصة له على وجهه فإذا اغتم كشفها عن وجهه فقال وهو كذلك "لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد" يحذر مثل ما صنعوا"2.

وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "لما اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت بعض نسائه كنيسة رأينها بأرض الحبشة يقال لها مارية وكانت أم سلمة وأم حبيبة رضي الله عنهما أتتا أرض الحبشة فذكرتا من حسنها وتصاوير فيها. فرفع رأسه فقال: "أولئك إذا مات منهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ثم صوروا فيه تلك الصورة، أولئك شرار الخلق عند الله"3. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن حكمة الله أن عائشة أم المؤمنين صاحبة الحجرة التي دفن فيها صلى الله عليه وسلم تروي هذه الأحاديث وقد سمعتها منه، وإن كان

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يكره من اتخاذ المساجد على القبور. فتح الباري (3/ 250) ح 1330. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) .

2 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو أليمان فتح الباري (1/ 532) ح 435، 436، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) .

3 أخرجه البخاري " واللفظ له كثاب الجنائز، باب بناء المسجد على القبر.

فتح الباري (3/ 08 2) ح 1341، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/66) .

ص: 588

غيرها من الصحابة أيضا يرويها كابن عباس، وأبي هريرة، وجندب بن عبد الله1 وابن مسعود رضي الله عنهم"، انتهي كلامه2.

وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " لعن الله إليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"3.

وعنه أيضا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قاتل الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"4.

وعن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن يموت بخمس وهو يقول: "إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا ولو كنت متخذا من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك"5. وعن أبي مرثد الغنوي6 قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تجلسوا إلى القبور

1 جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي، صحابي، سكن الكوفة ثم البصرة، ومات زمن فتنة ابن الزبير. الإصابة (1/ 250) .

2 مجمرع الفتاوى (27/404) .

3 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد وباب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67) .

4 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الصلاة، باب حدثنا أبو اليمان فتح الباري (1/ 532) ح 437، وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور

5 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب المساجد، باب النهي عن بناء المساجد على القبور (2/ 67- 68) .

6 أبو مرثد الغنوى كناز بن حصين ويقال حصين كناز، وقيل غير ذلك، صحابي، ذكره ابن اسحاق فيمن شهد بدرا، سكن الشام وتوفي سنة 12 من الهجرة. الإصابة (4/ 177) وتهذيب التهذيب (8 / 448) .

ص: 589

ولا تصلوا إليها" 1.

فهذه النصوص النبوية وردت لحماية جناب التوحيد، ولسد كل ذريعة إلى الشرك فقد لعن فيها من يتخذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد وجل هذه الأحاديث قالها النبي صلى الله عليه وسلم في مرض موته، نصيحة للأمة وحرصا منه على هداها.

وقد ثبت عنه صلى الله عليه وسلم نهيه لهذه الأمة عن اتخاذ قبره عيدا أو وثنا وهذا أبلغ في بيان مراده في سد كل ذريعة إلى الشرك بالله.

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لاتتخذوا قبري عيدا ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وحيثما كنتم فصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني"2.

1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب النهي عن الجلوس على القبر والصلاة إليه (3/61)

2 أخرجه الإمام أحمد في المسند (2/ 367) 1 واللفظ له. وأخرجه أبو داود في سننه، كتاب المناسك، باب زيارة القبور (2/ 534) ح 2042. والبيهقي في حياة الأنبياء (ص 12) . كلهم من طريق عبد الله بن نافع الصائغ عن ابن أبي ذئب عن سعيد المقبري عن أبي هريرة مرفرعا قال الشيخ ربيع المدخلي في تعليقه على كتاب قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 144) :"عبد الله بن نافع، ثقة صحيح الكتاب في حفظه لين، فالحديث حسن على أقل الأحوال وصححه النووي في الأذكار (ص 93) وقال شيخ الاسلام في الاقتضاء إسناده حسن" وحسنه الحافظ في تخريج الأذكار- كما في الفتوحات الربانية وله شواهد تقويه.

وقال الألباني في تحذير الساجد (ص، 2) رواه أحمد (رقم 7352) وابن سعد (2/ 241- 242) والمفضل الجندي في فضائل المدينة (66/ 1) وأبو يعلى في مسنده (312/ 1) ، والحميدي (25 0 1) وأبو نعيم في الحلية (6/ 283 و 7/ 317) بسند صحيح.

وله شاهد مرسل رواه عبد الرزاق في المصنف (1/ 456) ح 1587 وكذا ابن أبي شيبة (4/ 141) عن زيد بن أسلم وإسناده قوي. وآخرأخرجه مالك في الموطأ (1/ 185) وعنه ابن سعد (2/ 240، 241) عن عطاء بن يسار مرفوعا وسنده صحيح، وقد وصله البزار عن أبي سعيد الخدري وصححه ابن عبد البر مرسلا وموصولا

".

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا حديث حسن ورواته ثقات، مشاهير، لكن عبد الله بن نافع الصائغ فيه لين لا يمنع الاحتجاج به قال يحمى بن معين، هو ثقة، وحسبك بابن معين موثقا. وقال أبو زرعة: لابأس به، وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالحافظ هو لين تعرف وتنكر.

قلت: ومثل هذا يخاف أن يغلط أحيانا، فإذا كان لحديثه شواهد علم أنه محفوظ، وهذا له شواهد متعددة. الرد على الأخنائي (ص 145) .

ص: 590

وعن عطاء بن يسار1 أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم لا تجعل قبري وثنا يعبد، اشتد غضب الله على قوم اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد"2.

قال أبو عمر بن عبد البر "الوثن: الصنم، وهو الصورة من ذهب كان أو من فضة أو غير ذلك من التمثال، وكل ما يعبد من دون الله فهو وثن صنما كان أو غير صنم، وكان العرب تصلي إلى الأصنام وتعبدها فخشي رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته أن تصنع كما صنع بعض من مضى من الأمم، كان إذا مات نبي عكفوا حول قبره كما يصنع بالصنم، فقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم لا تجعل قبرى وثنا يصلى إليه ويسجد نحوه ويعبد، فقد اشتد غضب الله على من فعل ذلك"، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحذر أصحابه وسائر أمته من سوء صنيع الأمم قبله الذين صلوا إلى قبور أنبيائهم واتخذوها قبلة ومسجدا كما

1 عطاء بن يسار الهلالي أبو محمد المدني القاص مولى ميمونة زوج النبي صلى الله عليه وسلم كان مولده سنة 19هـ، ثقة، فاضل، صاحب مواعظ وعبادة، مات سنة 94 وقيل بعد ذلك. تهذيب التهذيب (7/ 217- 218) .

2 أخرجه الإمام مالك في الموطأ (ص 119) ح رقم،414، كتاب جامع الصلاة عن عطاء بن يسار مرسلا. وأخرجه عبد الرزاق في المصنف (1/ 406) باب الصلاة على القبور برقم (1587) عن معمر عن زيد بن أسلم. وابن سعد في الطبقات (2/ 241) وابن أبي شيبة (3/ 345) . قال الشيخ ربيع المدخلي: "فهو معضل عند هؤلاء، لكنه جاء موصولا عن أبي هريرة

" انظر قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 34) ، وقد تقدم تخريج حديث أبي هريرة.

ص: 591

صنعت الوثنية بالأوثان التي كانوا يسجدون إليها ويعظمونها، وذلك الشرك الأكبر، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخبرهم بما في ذلك من سخط الله وغضبه، وأنه مما لا يرضاه خشية عليهم امتثال طرقهم، وكان صلى الله عليه وسلم يحب مخالفة أهل الكتاب وسائر الكفار، وكان يخاف على أمته أتباعهم"1. والعيد إذا جعل اسما للمكان: فهو المكان الذي يقصد للاجتماع فيه وإتيانه للعبادة عنده، أو لغير العبادة2.

وقد استجاب الله دعوة نبيه صلى الله عليه وسلم فلم يتخذ قبره- ولله الحمد والمنة- عيدا ولا وثنا كما اتخذ قبر غيره بل ولا يتمكن أحد من الدخول إلى حجرته بعد أن بنيت الحجرة. وقبل ذلك ما كانوا يمكنون أحدا من أن يدخل إليه ليدعو عنده ولا يصلي عنده، ولا غير ذلك مما يفعل عند قبر غيره.

ولكن من الجهال من يصلي إلى حجرته، أو يرفع صوته أو يتكلم بكلام منهي عنه، وهذا إنما يفعل خارجا عن حجرته لا عند قبره.

وإلا فهو ولله الحمد استجاب الله دعوته فلم يمكن أحد قط- أن يدخل إلى قبره فيصلي عنده أو يدعو أو يشرك به كما فعل بغيره اتخذ قبره وثنا فإنه في حياة عائشة رضي الله عنها ما كان أحد يدخل إلا لأجلها، ولم تمكن أحدا أن يفعل عند قبره شيئا مما نهي عنه، وبعدها كانت مغلقة إلى أن أدخلت في المسجد فسد بابها وبني عليها حائط آخر.

كل ذلك صيانة له صلى الله عليه وسلم أن يتخذ بيته عيدا وقبره وثنا.

وإلا فمعلوم أن أهل المدينة كلهم مسلمون، ولا يأتي إلى هناك إلا مسلم،

1 التمهيد (5/45) .

2 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

ص: 592

وكلهم معظمون للرسول صلى الله عليه وسلم، وقبور آحاد أمته في البلاد معظمة.

فما فعلوا ذلك ليستهان بالقبر المكرم، بل فعلوه لئلا يتخذ وثنا يعبد، ولا يتخذ بيته عيدا.

ولئلا يفعل به كما فعل أهل الكتاب بقبور أنبيائهم.

والقبر المكرم في الحجرة إنما عليه بطحاء- وهو الرمل الغليظ- ليس عليه حجارة ولا خشب، ولا هو مطين كما فعل بقبور غيره.

وهو صلى الله عليه وسلم إنه نهى عن ذلك سدا للذريعة، كما نهي عن الصلاة وقت طلوع الشمس ووقت غروبها، لئلا يفضي ذلك إلى الشرك.

ودعا الله أن لا يتخذ قبره وثنا يعبد، فاستجاب الله دعاءه صلى الله عليه وسلم، فلم يكن مثل الذين اتخذت قبورهم مساجد فإن أحدا لا يدخل إلى قبره ألبتة، فإن من كان قبله من الأنبياء إذا ابتدع أممهم بدعة بعث الله نبيا ينهي عنها.

وهو صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء لا نبي بعده، فعصم الله أمته أن تجتمع على ضلالة، وعصم قبره المكرم أن يتخذ وثنا، فإن ذلك والعياذ بالله لو فعل لم يكن بعده نبي ينهى عن ذلك، وكان الذين يفعلون ذلك قد غلبوا الأمة، وهو صلى الله عليه وسلم قد أخبر أنه لا تزال طائفة من أمته ظاهرين على الحق لا يضرهم من خالفهم ولا من خذلهم إلى يوم القيامة، فلم يكن لأهل البدع سبيل أن يفعلوا بقبره المكرم كما فعل بقبورغيره صلى الله عليه وسلم.

فالدخول عند قبره للصلاة والسلام عليه هناك، أو الصلاة والدعاء مما لم يشرعه لهم، بل نهاهم فقال:"لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم، فإن صلاتكم تبلغني" فبين أن الصلاة تصل إليه من البعيد، وكذلك السلام، ومن صلى عليه مرة صلى الله عليه بها عشرا ومن سلم عليه مرة سلم

ص: 593

الله عليه عشرا، كما قد جاء في بعض الأحاديث.

وتخصيص الحجرة بالصلاة والسلام جعل لها عيدا، وهو قد نهاهم عن ذلك، ونهاهم أن يتخذوا قبره أو قبر غيره مسجدا، ولعن من فعل ذلك ليحذروا أن يصيبهم مثل ما أصاب غيرهم من اللعنة.

وكان أصحابه خير القرون، وهم أعلم بسنته، وأطوع الأمة لأمره، وكانوا إذا دخلوا إلى مسجده لا يذهب أحد منهم إلى قبره صلى الله عليه وسلم من داخل الحجرة ولا من خارجها.

وكانت الحجرة في زمانهم يدخل إليها من الباب إذ كانت عائشة رضي الله عنها فيها، وبعد ذلك إلى أن بني الحائط الآخر.

وهم مع ذلك التمكن من الوصول إلى قبره لا يدخلون إليه: لا لسلام ولا لصلاة عليه، ولا لدعاء لأنفسهم، ولا لسؤال عن حديث أو علم، ولا كان الشيطان يطمع فيهم حتى يسمعهم كلاما أو سلاما فيظنون أنه هو كلمهم وأفتاهم وبين لهم الأحاديث، أو أنه قد رد عليهم السلام بصوت يسمع من خارج، كما طمع الشيطان مع غيرهم، فأضلهم عند قبره، وقبر غيره حتى ظنوا أن صاحب القبر ويحدثهم ويفتيهم ويأمرهم وينهاهم في الظاهر، وأنه يخرج من القبر ويرونه خارجا من القبر، ويظنون أن نفس أبدان الموتى خرجت من القبر تكلمهم، وأن روح الميت تجسدت لهم فرأوها كما رآهم النبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج يقظة لا مناما.

فإن الصحابة رضوان الله عليهم خير قرون هذه الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس.

وهم تلقوا الدين عن النبي، صلى الله عليه وسلم بلا واسطة، ففهموا من مقاصده صلى الله عليه وسلم

ص: 594

وعاينوا من أفعاله وسمعوا منه شفاها ما لم يحصل لمن بعدهم

ولهذا لم يطمع الشيطان أن ينال منهم من الإضلال والإغواء ما ناله ممن بعدهم من أهل البدع. فلم يكن أحد من الصحابة رضوان الله عليهم يأتيه فيسأله عند القبر عن بعض ما تنازعوا فيه وأشكل عليهم من العلم، لا خلفاؤه الأربعة ولا غيرهم، مع أنهم أخص الناس به صلى الله عليه وسلم.

والمقصود هنا أن الصحابة رضوان الله عليهم تركوا البدع المتعلقة بالقبور كقبره المكرم وقبر غيره، لنهيه صلى الله عليه وسلم لهم عن ذلك، ولئلا يتشبهوا بأهل الكتاب الذين اتخذوا قبور أنبيائهم أوثانا.

والصحابة رضوان الله عليهم خير القرون وأفضل الخلق بعد الأنبياء بل إن خير الناس بعدهم أتبعهم لهم.

قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد أبر هذه الأمة قلوبا وأعمقها علما وأقلها تكلفا قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم حقهم، وتمسكوا بهديهم فإنهم كانوا علي الهدي المستقيم"1.

"ثم إن أفضل التابعين من أهل بيته على بن الحسين2 رضى الله عنه نهي ذلك الرجل أن يتحرى الدعاء عند قبره صلى الله عليه وسلم"3.

1 مجموع الفتاوى (27/ 387- 395) بتصرف.

2 هو علي بن الحسين بن علي بن أبي طاب الهاشمي، المدني زين العابدين من أجل التابعين علما ودينا، حتى قال عنه الزهري: ما رأيت هاشميا مثله وكان ثقة، مأمونا، كثير الحديث عاليا رفيعا ورعا، توفي سنة 94 هـ8هـ. سير أعلام النبلاء (4/ 386- 401) .

3 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

ص: 595

فقد روى إسماعيل بن إسحاق بسنده عن علي بن الحسين بن علي أن رجلا كان يأتي كل غداة فيزور قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي عليه ويصنع من ذلك ما اشتهره عليه علي بن الحسين، فقال له علي بن الحسين ما يحملك على هذا؟ قال: أحب التسليم على النبي صلى الله عليه وسلم.

قال له علي بن الحسين: هل لك أن أحدثك حديثا عن أبي؟

قال: نعم، فقال له علي بن الحسين أخبرني أبي عن جدي أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تحعلوا قبري عيدا، ولا تجعلوا بيوتكم قبورا وصلوا علي وسلموا حيثما كنتم، فسيبلغني سلامكم وصلاتكم"1.

فاستدل رضي الله عنه بالحديث، وهو راوي الحديث الذي سمعه من أبيه الحسين عن جده علي وهو أعلم بمعناه من غيره.

وهذا يقتضي أنه لا مزية للسلام عليه عند قبره كما لا مزية للصلاة عليه عند قبره بل قد نهي عن تخصيص القبر بهذا2

فتبين أن قصد قبره للدعاء ونحوه: اتخاذ له عيدا3.

وكذلك ابن عمه حسن بن حسن شيخ أهل بيته: كره أن يقصد القبر

1 أخرجه في كتابه فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10) رقم 20.

قال الألباني: أخرجه ابن أبي شيبة (2/ 83/ 2) . وعنه أبو يعلى في مسنده، ورواه الضياء في المختارة (1/ 154) من طريق أبي يعلى والخطيب في الموضح (2/ 30) . وسنده مسلسل بأهل البيت رضي الله عنهم إلا أن أحدهم وهو علي بن عمر مستور كما قال الحافظ في التقريب. تحذير الساجد (ص 140) . وقال أيضا:"حديث صحيح بطرقه وشواهده" انظر هامش كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 10) .

2 الرد على الأخنائي (ص 144) .

3 اقتضاء الصراط المستقيم (ص 324) .

ص: 596

للسلام ونحوه غير دخول المسجد، ورأى أن ذلك من اتخاذه عيدا.

فعن سهيل بن أبي سهيل1 عن الحسن بن الحسن قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تتخذوا قبري عيدا ولابيوتكم قبورا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني"2.

وفي رواية عند إسماعيل بن إسحاق القاضي عن سهيل قال: جئت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وحسن بن حسن يتعشى في بيت عند النبي صلى الله عليه وسلم، فدعاني فجئته فقال: أدن فتعش، قال: قلت: لا أريده.

قال: مالي رأيتك وقفت؟ قال: وقفت أسلم على النبي صلى الله عليه وسلم

قال: إذا دخلت المسجد فسلم عليه، ثم قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صلوا في ييوتكم ولا تجعلوا بيوتكم مقابر، لعن الله إليهود اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد، وصلوا علي فإن صلاتكم تبلغني حيثما كنتم"3.

فهذا فيه أنه أمره أن يسلم عند دخول المسجد وهو السلام المشروع الذي روي عن النبي صلى الله عليه وسلم4.

1 سهيل هذا أورده ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (4/ 249) ولم يذكر فيه جرحا ولا تعديلا، وذكر له عنه راويين:

أحدهما: محمد بن عجلان وهو الراوي لهذا الحديث عن ابن أبي شيبة.

والآخر: سفيان الثوري. قال الألباني في تحذير الساجد (ص 141) وله راو ثالث وهو: إسماعيل بن علية الراوي لهذا الحديث عنه عند ابن خزيمة، فقد روى عنه ثلاثة من الثقات، فهو معروف غير مجهول، انتهي كلامه.

2 تقدم تخريجه ص 580.

3 كتاب فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم (ص 13- 14) .ح رقم 30 وقال الألباني بهامشه: حديث صحيح.

4 الرد على الأخنائي (ص 146) .

ص: 597

فانظر هذه السنة كيف مخرجها من أهل المدينة، وأهل البيت الذين لهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم النسب، وقرب الدار؟ لأنهم إلى ذلك أحوج من غيرهم فكانوا لها أضبط.

النقطة الرابعة: نظرا لتعلق المسألة بزيارة القبور فيحسن إعطاء نبذة موجزة عن أقوال العلماء في مسألة زيارة القبور:

اتفق العلماء على أن النبي صلى الله عليه وسلم كان قد نهي عن زيارة القبور.

ثم اختلفوا هل نسخ ذلك؟

فقالت طائفة: لم ينسخ ذلك.

وقد ذهب إلى ذلك طائفة من السلف فقد نقل ذلك عن إبراهيم النخعي1 والشعبي ومحمد بن سيرين وهؤلاء من أجل علماء المسلمين في زمن التابعين باتفاق المسلمين ويحكى قولا في مذهب مالك2.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وتنازع المسلمون في زيارة القبور، فقال طائفة من السلف إن ذلك كله منهي عنه لم ينسخ، فإن أحاديث النسخ لم يروها البخاري، ولم تشتهر، ولما ذكر البخاري زيارة القبور احتج بحديث المرأة التي بكت عند القبر"3.

وروي عن الشعبي أنه قال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن زيارة القبور

1 إبراهيم بن يزيد بن قيس النخعي الإمام الحافظ فقيه العراق أحد الأعلام، مات سنة ست وتسعين ولما بلغ الشعبي موته قال: والله ما ترك بعده مثله. سير أعلام النبلاء (4/ 520- 529)

2 مجمموع الفتاوى (27/ 343) والرد على الأخنائي (57، 58، 120) .

3 انظر صحيح البخاري، كتاب الجنائز، باب زيارة القبور. فتح الباري (3/ 48 1) ح 1283

ص: 598

لزرت قبر ابنتي"1.

وقال النخعي: "كانوا يكرهون زيارة القبور"2 وعن ابن سيرين مثله3 قال ابن بطال4: وقد سئل مالك عن زيارة القبور؟

فقال: "قد كان نهي عنها عليه السلام ثم أذن فيها، فلو فعل ذلك إنسان ولم يقل إلا خيرا لم أر بذلك بأسا، وليس من عمل الناس".

وروي عنه أنه كان يضعف زيارتها"5.

فهذا قول طائفة من السلف، ومالك في القول الذي رخص فية يقول:

"ليس من عمل الناس" وفي الآخر ضعفها، فلم يستحبها لا في هذا ولا في هذا6.

وقالت طائفة: بل نسخ ذلك وهم على قسمين:

القسم الأول: قالوا إنما نسخ إلى الإباحة، فزيارة القبور مباحة لا مستحبة وهذا قول في مذهب مالك وأحمد.

قالوا: لأن صيغة أفعل بعد الحظر إنما تفيد الإباحة كما قال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها، وكنت نهيتكم عن الانتباذ في الأوعية فانتبذوا ولا تشربوا مسكرا"7.

1 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) .

2 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) .

3 انظرر المصنفة لابن أبي شيبة، كتاب الجنائز، باب من كره زيارة القبور (3/ 345) .

4 علي بن خلف بن عبد الملك بن بطال، أبو الحسن، عالم بالحديث من أهل قرطبة له كتاب شرح البخاري، توفى سنة 449 هـ. الأعلام (4/ 285) .

5 مجموع الفتاوى (27/ 375) والرد على الأخنائي (120) .

6 الرد على الأخنائي (ص 120) .

7 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه عز وجل في زيارة قبر أمه (3/65) .

ص: 599

وروي "فزوروها ولا تقولوا هجرا" 1 وهذا يدل على أن النهي كان لما كان يقال عندها من الأقوال المنكرة سدا للذريعة، كالنهي عن الإنتباذ في الأوعية أولا لأن الشدة المطربة تدب فيها ولا يدري بذلك فيضرب الشارب الخمر وهو لا يدري.

القسم الثاني: قال الأكثرون زيارة قبور المؤمنين مستحبة للدعاء للموتى مع السلام عليهم، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع فيدعو لهم2 وكما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيحين "أنه خرج إلى شهداء أحد فصلى عليهم صلاته على الموتى كالمودع للأحياء والأموات"3.

وثبت عنه صلى الله عليه وسلم في الصحيح أنه كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقولوا: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين نسأل الله لنا ولكم العافية"4. وهذا في زيارة قبور المؤمنين.

وأما زيارة قبر الكافر فرخص فيها لأجل تذكار الآخرة، ولا يجوز الإستغفار لهم، وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه زار قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال: "استأذت ربي في أن أستغفر لها فلم يؤذن لي، واستأذنته في

1 أخرجه الحاكم في المستدرك، كتاب الجنائز (1/ 376) .

2 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 63- 64) .

3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة أحد، فتح الباري (7/ 348) ح4042 وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الفضائل، باب إثبات حرض نبينا صلى الله عليه وسلم (7/ 67)

4 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب ما يقال عند دخول القبور والدعاء لأهلها (3/ 64- 65) .

ص: 600

أن أزور قبرها فأذن لي فزوروا القبور فإنها تذكر الموت" 1.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والعلماء المتنازعون كل منهم يحتج بدليل شرعي ويكون عند بعضهم من العلم ما ليس عند الآخر- فإن العلماء ورثة الأنبياء- وقال تعالى: {وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلّاً آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً} 2.

والأقوال الثلاثة صحيحة باعتبار: فهناك زيارة محرمة، وزيارة مباحة وزيارة مستحبة، فالذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطلق من كلام العلماء على المقيد، ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع: منهي عنه، ومباح، ومستحب، وهو الصواب:

وأما النوع الأول: فإن الزيارة إذا تضمنت أمرا محرما من شرك، أو كذب أو ندب أو نياحة أو قول هجر: فهي محرمة بالإجماع،. كزيارة المشركين والساخطين لحكم الله، فإن هؤلاء زيارتهم محرمة، فإنه لا يقبل دين إلا دين الإسلام: وهو الاستسلام لخلقه وأمره. فيسلم لما قدره وقضاه.

ويسلم لما يأمر به ويحبه، وهذا نفعله وندعو إليه، وذاك نسلمه ونتوكل فيه عليه، فنرضى بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد نبيا ونقول في صلاتنا:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} 3 مثل قوله تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} 4.

1 أخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الجنائز، باب استئذان النبي صلى الله عليه وسلم ربه. عز وجل في زيارة قبر أمه (3/65)

2 الآيتان (78-79) من سورة الأنبياء.

3 الآية (5) من سورة الفاتحة.

4 الآية (123) من سورة هود.

ص: 601

والنوع الثاني: زيارة القبور لمجرد الحزن على الميت، لقرابته أو صداقته فهذه مباحة كما يباح البكاء على الميت بلا ندب ولا نياحة.

كما زار النبي صلى الله عليه وسلم قبر أمه فبكى وأبكى من حوله، وقال:"زوروا القبور فإنها تذكر الموت" فهذه الزيارة كان نهي عنها لما كانوا يفعلون من المنكر، فلما عرفوا الإسلام أذن فيها لأن فيها مصلحة، وهو تذكر الموت فكثير من الناس إذا رأى قريبه وهو مقبور، ذكر الموت، واستعد للآخرة، وقد يحصل منه جزع، فيتعارض الأمران، ونفس الحزن مباح، وإن قصد به طاعة كان طاعة وإن عمل معصية كان معصية.

وأما النوع الثالث: فهو زيارتها للدعاء لها كالصلاة على الجنازة فهذا هو المستحب الذي دلت السنة على استحبابه، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله، وكان يعلم أصحابه ما يقولون إذا زاروا القبور.

فيستحب عند الجمهور لمن أتى المدينة أن يأتي البقيع وشهداء أحد كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يفعل.

فزيارة القبور للدعاء للميت من جنس الصلاة على الجنائز يقصد فيها الدعاء لهم، لا يقصد فيها أن يدعو مخلوقا من دون الله، ولا يجوز أن تتخذ مساجد، ولا تقصد لكون الدعاء عندها أو بها أفضل من الدعاء في المساجد والبيوت، والصلاة على الجنائز أفضل باتفاق المسلمين من الدعاء للموتى عند قبورهم، وهذا مشروع بل فرض كفاية متواتر متفق عليه بين المسلمين1.

والذي يجب معرفته هنا أن زيارة القبور على وجهين:

1 مجموع الفتاوى (27/ 365- 381) بتصرف.

ص: 602

زيارة بدعية، وزيارة شرعية.

فالزيارة البدعية: هي التي نهي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم واتفق العلماء على أنها غير مشروعة وهي مثل اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد، والصلاة إلى القبر، واتخاذه وثنا أو عيدا فلا يجوز أن تقصد القبور للصلاة الشرعية، ولا أن تعبد كما تعبد الأوثان ولا أن تتخذ عيدا يجتمع إليها في وقت معين كما يجتمع المسلمون في عرفة ومنى.

فكل زيارة تتضمن فعل ما نهي عنه وترك ما أمر به- كالتي تتضمن الجزع وقول الهجر وترك الصبر، أو تتضمن الشرك ودعاء غير الله وترك إخلاص الدين لله فهي منهي عنها.

وأما الزيارة الشرعية: فهي السلام على الميت والدعاء له وهي مستحبة عند الأكثرين. وقيل: مباحة. وقيل: كلها منهي عنها كما تقدم.

والقول الراجح الذي تدل عليه الأدلة الشرعية أن نحمل المطق من كلام العلماء على المقيد ونفصل الزيارة إلى ثلاثة أنواع:

1-

منهي عنه.

2-

مباح.

3-

مستحب.

وهو الصواب، كما تقدم.

قال مالك وغيره: "لا نأتي إلا هذه الآثار: مسجد النبي صلى الله عليه وسلم، ومسجد قباء وأهل البقيع، وأحد. فإن النبى صلى الله عليه وسلم لم يكن يقصد إلا هذين المسجدين وهاتين المقبرتين "1. ولكن بعد هذا التوضيح هل يصح أن يقاس قبر النبي صلى الله عليه وسلم على قبور سائر المسلمين فيقال إذا كانت زيارة قبور المؤمنين مشروعة فزيارة قبره من باب أولى؟ هذا ما سيأتي تفصيله في النقطة التالية:

1 مجموع الفتاوى (27/ 380) بتصرف.

ص: 603

النقطة الخامسة: أقوال العلماء في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند قبره.

سبق وأن وضحت في النقطة الثانية من هذا المطلب أنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم نص ثابت صحيح في هذه المسألة، يأمر فيه الأمة بالإتيان إلى قبره للسلام عليه، كما ورد ذلك في شأن السلام عليه في التشهد وعند دخول المساجد والخروج منها، وكذلك فإن الذي كان عليه فعل جمهور الصحابة من بعده صلى الله عليه وسلم هو عدم الإتيان للقبر للسلام، ولا تخصيصه بأي عمل من الأعمال.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وجمهور الصحابة كانوا يدخلون المسجد ويصلون فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يسلمون عليه عند الخروج من المدينة وعند القدوم من السفر، بل يدخلون المسجد فيصلون فيه ويسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم ولا يأتون القبر، ومقصود بعضهم التحية"1

وعلى هذا سار كثير من السلف من بعدهم. روى ابن أبي شيبة2 في المصنف3 عن خالد بن الحارث4 قال سئل هشام5 أكان عروة6 يأتي قبر النبي

1 مجموع الفتاوى (27/ 414) .

2 عبد الله بن محمد بن ابراهيم بن أبي شيبة، أبو بكر، الكوفي، ثفة حافظ صاحب تصاينف، ومن أشهر كتبه المصنفة، توفى سنة 235 هـ. تهذيب التهذيب (6/ 2- 4) .

(3/ 341) .

4 خالد بن الحارث بن عبيد الهجيمي، أبو عثمان البصري، ثقة ثبت، من الثامنة، مات سنة ست وثمانين ومائة. تهذيب التهذيب (3/ 83- 84) .

5 هشام بن عروة بن الزبير بن العوام الأسدي، ثقة، فقيه ربما دلس من الخامسة، مات سنة خمس أو ست وأربعين ومائة. تهذيب التهذيب (11/48-51)

6 هو عروة بن الزبير وقد تقدم ترجمته ص 528.

ص: 604

صلى الله عليه وسلم فيسلم عليه؟ قال: لا.

وعن نوح بن يزيد قال: أخبرنا أبو إسحاق يعني إبراهيم بن سعد قال: ما رأيت أبي قط يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يكره إتيانه"1.

ولكن ابن عمر كان يأتيه فيسلم عليه وعلى صاحبيه عند قدومه من السفر

1 الرد على الأخنائي (ص 268) . وقال شيخ الإسلام بعد إيراده لهذا الأثر وعزوه الى أبي الحسن علي بن عمر القزويني في أماليه ما نصه: ونوح بن يزيد بن سيار المؤدب هذا الراوي عن ابراهيم ابن سعد هو ثقة معروف بصحبة ابراهيم وله اختصاص به روى عنه أحمد بن حنبل وأبو داود وغيرهما قال أبو بكر الأثرم: ذكر لي أبو عبد الله نوح بن يزيد المؤدب فقال هذا شيخ كبير أخرج أبي كتاب إبراهيم بن سعد فرأيت فيه ألفاظا وقال محمد بن المثنى: سألت أحمد بن حنبل عنه فقال: اكتب عنه فإنه ثقة حج مع إبراهيم بن سعد وكان يؤدب ولده. وذكره ابن حبان في الثقات. وأما إبراهيم بن سعد فهو من أكابر علماء المدينة وأكثرهم علما وأوثقهم وكان قد خرج الى بغداد روى عنه الناس: أحمد بن حنبل وطبقته، ومن سعة علمه روى عنه الليث بن سعد وهو أقدم وأجل منه. وأما أبوه سعد بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن عوف الزهري الذي ذكر عنه ابنه إبراهيم أنه قال: ما رأيت أبي قط أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم وكان يكره إتيانه وهو من أفضل أهل المدينة في زمن التابعين ومن أصلحهم وأعبدهم، وكان قاضي المدينة في زمن التابعين في زمن القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق وأمثاله

توفي سنة ست وعشرين ومائة

وقد أدرك بالمدينة جابر ابن عبد الله وسهل بن سعد الساعدى وغيرهما من الصحابة، ورأى كبار التابعين مثل سعيد بن المسيب وسائر الفقهاء السبعة، ومعلوم أنه لم يكن ليخالفهم فيما اتفقوا عليه، بل قد يخالف ابن عمر، فإن ما نقله عنه ابنه يقتضي أنه كان صلى الله عليه وسلم يأتيه لا عند السفر ولا غيره بل يكره إتيانه مطلقا كما كان جمهرر الصحابة على ذلك لما فهموا من نهيه صلى الله عليه وسلم عن ذلك وأنه أمر بالصلاة والسلام عليه في كل زمان ومكان

مع أن سعد بن إبراهيم هذا في دينه وعبادته وصيامه وتلاوته للقرآن بحيث كان يختم باليوم والليلة كثيرا.

وأبو الحسن علي بن عمر القزويني وغيره من أهل العلم والذين ذكروا هذه الآثار عن الصحابة والتابعين وتابعيهم ليبينوا للناس كيف كان السلف يفعلون في مثل ذلك.

الرد على الأخنائي (ص 268، 270) .

ص: 605

وقد يكون فعله غير ابن عمر أيضا1

فلهذا رأى من رأى من العلماء هذا جائزا اقتداء بمن فعل ذلك من الصحابة رضوان الله عليهم وابن عمر كان يسلم ثم ينصرف، ولا يقف، يقول: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت ثم ينصرف2. وكان يفعل ذلك إذا قدم من سفر أو أراده.

فعن عبد الله بن دينار3 قال رأوا ابن عمر إذا قدم من سفر دخل المسجد

1 لعل شيخ الإسلام يقصد هنا بقوله: وقد يكون فعله غيره "ما نقل عن أنس بن مالك رضي الذ عنه، وهذا ما صرح به شيخ الإسلام في كتابه قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 293) وكذلك أنس بن مالك وغيره نقل عنهم أنهم كانوا يسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فإذا أرادوا الدعاء استقبلوا القبلة يدعون الله تعالى.

وقال في اقتضاء الصراط المستقيم (ص 372) وذكر محمد بن الحسن بن زبالة في كتاب أخبار المدينة

قال حدثني عمر بن هارون عن سلمة بن وردان قال رأيت أنس بن مالك يسلم على النبي صلى الله عليه وسلم ثم يسند ظهره إلى جدار القبر ثم يدعو فهذا إن كان ثابتا عن أنس فإن أنسا لم يكن ساكنا بالمدينة، وإنما كان يقدم من البصرة، اما مع الحجيج أو نحوهم.

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ومحمد بن الحسن هذا صاحب أخبار، وهو مضعف عند أهل الحديث كالواقدي ونحوه، ولكن يستأنس بما يرويه ويعتبر به.

اقتضاء الصراط المستقبم (ص 371) .

وهذا يعني أنه لا يعول على أحاديثه وإنما تؤخذ شاهدا ومقويا هامش اقتضاء الصراط (ص 371) وهذا الأثر أورده السخاوي فى القول البديع (ص 212) وعزاه لابن أبي الدنيا البيهقى فى الشعب من حديث عبد الله بن أبي أمامة عن أبيه قال: "رأيت أنس بن مالك أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فوقف فرفع يديه حتى ظننت أنه افتتح الصلاة فسلم على النبي علته ثم انصرف"

2 مجموع الفتاوى (27/ 400) .

3 عبد الله بن دينار العدوي مولاهم أبو عبد الرحمن المدني، مولى ابن عمر، ثقة من الرابعة، مات سنة سبع وعشرين ومائة. تهذيب التهذيب (5/ 201- 203) .

ص: 606

فقال: السلام عليك يارسول الله، السلام على أبي بكر، السلام على أبي، ويصلى ركعتين1. وفي رواية عنه أنه قال:"رأيت عبد الله بن عمر يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم ويصلي على النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر رضي الله عنهما"2. وفي المصنف لابن أبي شيبة بسنده عن نافع عن ابن عمر أنه كان إذا أراد أن يخرج دخل المسجد فصلى ثم أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه ثم يأخذ وجهه، وكان إذا قدم من سفر يفعل ذلك قبل أن يدخل منزله3.

وفي المصنف لعبد الرزاق4 عن معمر5عن أيوب6 عن نافع7 قال: كان ابن عمر إذا قدم من سفر أتى قبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبتاه.

قال معمر: فذكرت ذلك لعبيد الله بن عمر8 فقال: "لا نعلم أحدا من

1 أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 99 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح.

2 أخرجه إسماعيل القاضي (ص 41) ح 98 وقال الألباني: إسناده موقوف صحيح وهو في الموطأح 397 برواية يحى بن يحيى الليثي بهذا اللفظ، ومن طريقه رواه البيهقي (5/ 245) .

3 المصنف (3/ 341) .

4 عبد الرزاق بن همام بن نافع الحميري، مولاهم، أبو بكر الصنعاني ثقة، حافظ، مصنف شهير مات سنة إحدى عشر ومائتين. تهذيب التهذيب (6/ 310- 315) .

5 معمر بن راشد الأزدي الحداني مولاهم، البصري، نزيل اليمن ثقة، ثبت فاضل، أخرج له الجماعة، مات سنة أربع وخمسين ومائة. تهذيب التهذيب (1/ 243- 246) .

6 هو أيوب السختياني وقد تقدم ترجمته.

7 هو نافع مولى ابن عمر وقد تقدم ترجمته.

8 عبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب، أبو عثمان القرشي العدوي ثم العمري المدني، إمام، مجود، حافظ، ثقة ثبت، من صغار التابعين، مات سنة بضع وأربعين ومائة. سير أعلام النبلاء (6/ 304- 307) .

ص: 607

أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعل ذلك1.

واستنادا لفعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أجاز الإمام مالك وأحمد وغيرهما2 من الأئمة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على الحال التي كان يفعلها ابن عمر رضي الله عنهما وهي حال القدوم من السفر أو إرادته، واقتصروا في مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند القبر على هذه الحال ولم يفتوا في غيرها.

وهم وإن استحب بعضهم وأجاز بعضهم السلام على النبي عند القبر للقادم

1 المصنف لعبد الرزاق (3/ 576) ح 6724

قال الشيخ ربيع بن هادي المدخلي بعد أن أورد هذا الأثر في تعليقه على كتاب شيخ الإسلام ابن تيمية قاعدة جليلة في التوسل والوسيلة (ص 128- 129) أقول: يستفاد من قول عبيد الله ابن عمر الإمام المدني، الثقة الثبت. أن الصحابة الكرام وفيهم الخلفاء الراشدون ما كانوا يأتون قبر النبي صلى الله عليه وسلم إلا ما كان من عبد الله بن عمر رضي الله عنهما إذا قدم من سفر. مع حبهم الشديد لرسول الله وإكرامهم إياه وطاعتهم وانقياد" فهلا آن للأمة الإسلامية أن تتوب إلى رشدها، فتتبع هؤلاء العظماء والفقهاء النبلاء، وإننا على ثقة أنهم ما وقفوا جميعا هذا الموقف إلا على أساس متين، وصراط مستقيم من العلم النبوي الصحيح، وعلى إدراك واع لمقاصد الشريعة وأهدافها.

إنه ما كان ذلك منهم مع حبهم الشديد الصادق لرسول الله صلى الله عليه وسلم تنفيذا لتوجيهاته الكريمة مثل قوله: "لا تتخذوا قبري عيدا" ومثل قوله: "اللهم لا تحعل قبري وثنا يعبد" ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: "لعنة الله على ليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد". تنفيذا لهذه التوجيهات العظيمة الهادفة إلى حماية التوحيد وصيانة العقيدة الاسلامية من شرائب الغلو، الضلال الذي وقع فيه أهل الكتاب كان ذلك الموقف الواعي الرشيد من الصحابة الكرام وعلى رأسهم الخلفاء الرشدون والفقهاء المبرزون مثل زيد ين ثابت وابن مسعود وابن عباس وأبي بن كعب وغيرهم من علماء الصحابة وعظمائها وساداتها

".

2 الرد على الأخنائي (ص 73) .

ص: 608

إلا أنهم لم يقولوا بوجوبه وتعيينه فالذي نقل عن الإمام مالك بن أنس إمام دار الهجرة من قول في هذه المسألة يدل على أنه استدل بفعل ابن عمر رضي الله عنهما، وأن فتواه لم تتجاوز ما فعله رضي الله عنه وهذا من دقة فقه الإمام مالك، ويتضح لك هذا من عبارته ففي الشفا للقاضي عياض: وقال ممالك في "المبسوط" وليس يلزم من دخل المسجد وخرج منه من أهل المدينة الوقوف بالقبر، وانما ذلك للغرباء.

وفال فيه أيضا: لا بأس لمن قدم من سفر أن يقف على قبر النبي صلى الله عليه وسلم، فيصلي عليه ويدعو له ولأبي بكر وعمر.

فقيل له: فإن ناسا من أهل المدينة لا يقدمون من سفر ولا يريدونه يفعلون ذلك في اليوم مرة أو أكثر، وربما وقفوا في الجمعة أو في الأيام المرة والمران أو أكثر عند القبر فيسلمون ويدعون ساعة؟

فقال: لم يبلغني هذا عن أحد من أهل الفقه ببلدنا وتركه واسع ولا يصلح آخر هذه الأمة الا ما أصلح أولها، ولم يبلغني عن أول هذه الأمة وصدرها أنهم كانوا يفعلون ذلك، ويكره الا لمن جاء من سفر أو أراده"1.

وقد ذكر الإمام مالك في موطئه فعل عبد الله بن عمر وأنه كان يأتي فيقول: "السلام عليك يارسول الله، السلام عليك يا أبا بكر، السلام عليك يا أبت"، ثم ينصرف.

وفي رواية: كان إذا قدم من سفر. رواه معمر عن نافع عنه.

وعلى هذا اعتمد مالك رحمه الله فيما يفعل عند الحجرة إذ لم يكن عنده إلا

1 الشفا (2/ 675، 676) .

ص: 609

أثر ابن عمر رضي الله عنهما.

وأما ما زاد على ذلك مثل الوقوف للدعاء للنبي صلى الله عليه وسلم وكثرة التردد على القبر للصلاة والسلام عليه فقد كرهه مالك، وقال هو بدعة لم يفعلها السلف ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها1.

وقد تقدم ذكر نص كلامه وإذا كان مالك رحمه الله يكره أن يطل الرجل الوقوف عنده صلى الله عليه وسلم للدعاء فكيف بمن لا يقصد لا السلام ولا الدعاء له، وإنما يقصد دعاءه وطلب حوائجه منه، ويرفع صوته عنده فيؤذي الرسول، ويشرك بالله ويظلم نفسه؟ 2

وقد كره الإمام مالك رحمه الله أن يقول القائل: زرت قبر النبي صلى الله عليه وسلم. كره هذا اللفظ لأن السنة لم تأت به في قبره3.

وقد ذكروا في تعليل ذلك وجوها، ورخص غيره في هذا اللفظ للأحاديث العامة في زيارة القبور.

ومالك يستحب ما يستحبه سائر العلماء من السفر إلى المدينة والصلاة في مسجده. وكذلك السلام عليه وعلى صاحبيه عند قبورهم اتباعا لابن عمر.

ومالك من أعلم الناس بهذا لأنه قد رأى التابعين الذين رأوا الصحابة بالمدينة ولهذا كان يستحب اتباع السلف في ذلك، ويكره أن يبتدع أحد هناك بدعة.

فكره أن يطل الرجل القيام والدعاء عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن الصحابة رضوان الله عليهم ما كانوا يفعلون ذلك.

1 مجموع الفتاوى (27/ 384) .

2 مجموع الفتاوى (27/ 385) .

3 فالسنة إنما وردت بزيارة مسجده والصلاة فيه.

ص: 610

وكره الإمام مالك لأهل المدينة كلما دخل انسان المسجد أن يأتي قبر النبي صلى الله عليه وسلم لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك.

وقال رحمة الله عليه: ولن يصلح آخر هذه الأمة الا ما أصلح أولها"1. وقد صرح مالك وغيره: بأن من نذر السفر إلى المدينة النبوية إن كان مقصوده الصلاة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وفى بنذره وإن كان مقصوده مجرد زيارة القبرى من غير صلاة في المسجد لم يف بنذره، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تعمل المطي إلا إلى ثلاثة مساجد" والمسألة ذكرها القاضي إسماعيل بن إسحاق في المبسوط"2.

وما أفتى به الإمام مالك من جواز السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها وذلك لمن قدم من سفر هو ما أفتي به باقي الأئمة الأربعة.

وقد احتجوا بفعل ابن عمر كما احتج به مالك3.

ومنهم من احتج بحديث "ما من أحد يسلم علي إلا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام"4.

فقد اعتمد الإمام أحمد في زيارة قبره المكرم على هذا الحديث. وعن أحمد

1 مجموع الفتاوى (27/ 386) .

2 مجموع الفتاوى (27/ 334) . والإمام مالك نظر إلى قصد المسافر ونيته ومسمى الزيارة في لغته، فقد يكون السائل من عرفه أن لفظ زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم يتناول من أتى المسجد وكان قصده القبر، ومن أتاه وقصده المسجد، وهذا عرف عامة الناس المتأخرين يسمون هذا كله زيارة، ولم يكن هذا لغة السلف من الصحابة والتابعين لهم بإحسان. الرد على الأخنائي (ص 23) بتصرف

3 الرد على الأخنائي (ص 137-138) .

4 تقدم تخريجه ص 576.

ص: 611

أخذ ذلك أبو داود1 فلم يذكر في زيادة قبره المكرم غير هذا الحديث وترجم عليه: "باب زيارة القبر"2.

فهذا الحديث هو عمدة الإمام أحمد وأبي داود وأمثالهم وهو غاية ما عندهم في هذا الباب عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن دلالة الحديث على المقصود فيها نزاع وتفصيل3.فليس في لفظ الحديث المعروف في السنن والمسند (عند قبري) مع أن الذين احتجوا بهذا الديث قالوا إن هذا هو المراد، ولم يرد على كل مسلم عليه في شرق الأرض وغربها مع أن المعنى أي أنه يرد على كل مسلم في شرق الأرض وغربها إن كان هو المراد بطل الاستدلال بالحديث من كل وجه على اختصاص تلك البقعة بالسلام.

وإن كان المراد بالسلام في الديث هو السلام عليه عند قبره كما فهمه عامة العلماء، فهل يدخل فيه من سلم من خارج الحجرة؟

1 سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شداد الأزدي، السجستاي أبو داود، مصنف السنن وغيرها، ثقة حافظ من بار العلماء وأئمة الحديث، مات سنة خمس وسبعين ومائتين. تهذيب التهذيب (4/169-173) .

2 مجموع الفتاوى (27/330) .

3 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ولو أريد إثبات سنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا الحديث لكان هذا مختلفا فيه، فالنزاع في إساده ودلالة متنه". الرد على الأخنائي (ص203) .

وقال ابن عبد الهادي: "وهذا الحديث لا يسلم من مقال في إسناده ونزاع في دلالته "وقد تقدم الكلام على إسناده (وأما نزاع في دلالة الحديث فمن جهة اتمال لفظه فإن قوله: "ما من أحد يسلم علي" يحتمل أن يكون المراد به عند قبره ما فهمه جماعة من الأئمة ويحتمل أن يكون معناه على العموم وأنه لا فرق في ذلك بين القريب والبعيد وهذا هو ظاهر الحديث وهو الموافق للأحاديث المشهورة. الرد على البسكي (ص259)

ص: 612

فهذا مما تنازع فيه الناس، وقد توزعوا في دلالته.

فمن الناس من يقول هذا إنما يتناول من سلم عليه عند قبره كما كانوا يدخلون الحجرة في زمن عائشة رضي الله عنها فيسلمون على النبي صلى الله عليه وسلم فكان يرد عليهم فأولئك سلموا عليه عند قبره وكان يرد عليهم1.

وهذا السلام عليه عند قبره كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة رضي الله عنها.

وقالوا: فأما من كان في المسجد فهؤلاء لم يسلموا عليه عند قبره بل سلامهم عليه كالسلام عليه إذا دخل المسلم المسجد وخرج منه.

والذين استدلوا بهذا الحديث على اختصاص تلك البقعة بالسلام جعلوه متناولا لمن سلم عليه من داخل الحجرة أو من خارجها.

وقد اعترض على من احتج بهذا الحديث "ما من أحد يسلم علي الا رد الله علي روحي حتى أرد عليه السلام" على استحباب السلام للقادم عند الحجرة. فقيل: إن هذا الحديث لو دل على استحباب السلام عليه من المسجد لما اتفق الصحابة على ترك ذلك، ولم يفرق في ذلك بين القادم من السفر وغيره؟

فقد اتفق الصحابة ابن عمر وغيره على أنه لا يستحب لأهل المدينة الوقوف عند القبر للسلام إذا دخلوا وخرجوا بل يكره ذلك، فلما اتفقوا على ترك ذلك مع تيسره علم أنه غير مستحب بل لو كان جائزا لفعله بعضهم وبهذا يتبين ضعف حجة من احتج بالحديث على استحباب السلام عليه من المسجد.

1 هذا على قول من خص الحديث على السلام القريب وقالوا إنما هو فيمن سلم عليه من قريب والقريب أن يكون في بيته، فإن لم يحد بذلك لم يبق له حد محدود من جهة الشرع. الرد على الأخنائي (ص 170)

ص: 613

ولهذا كان أكثر السلف لا يفرقون بين الغرباء وأهل المدينة ولا بين حال السفر وغيره فإن استحباب هذا لهؤلاء وكراهته لهؤلاء حكم شرعي يفتقر إلى دليل شرعي ولا يمكن لأحد أن ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه شرع لأهل المدينة الإتيان عند الوداع للقبر وشرع لهم ولغيرهم ذلك عند القدوم من سفر، وشرع للغرباء تكرر ذلك كلما دخلوا المسجد وخرجوا منه، ولم يشرع ذالك لأهل المدينة، فمثل هذه الشريعة ليس منقولا عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن خلفائه ولا هو معروف من عمل الصحابة وإنما نقل عن ابن عمر السلام عند القدوم من السفر، وليس هذا من عمل الخلفاء وأكابر الصحابة، كما كان ابن عمر يتحرى الصلاة والنزول والمرور حيث حل ونزل وعبر النبي صلى الله عليه وسلم في السفر، وجمهورالصحابة لم يكونوا يصنعون ذلك بل أبوه عمر كان ينهي عن مثل ذلك فعن المعرور بن سويد عن عمر قال: خرجنا معه في حجة حجها فقرأ بنا في صلاة الفجر ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل، ولإيلاف قريش في الثانية، فلما رجع من حجه رأى الناس ابتدروا المسجد فقال:"ما هذا؟ فقالوا مسجد صلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: وهذا ملة أهل الكتاب قبلكم اتخذوا آثار أنبيائهم بيعا، من عرضت له منكم فيه الصلاة فليصل ومن لم تعرض له فليمض"12. ومن استدل بهذا الحديث من العلماء ذكر أنه ود على القريب وخصوا الجواز للمسافر القادم أو المقيم المسافر.

وليس في الحديث ما يدل على التخصيص، ذلك أنه يمتنع أن يقال إنه يرد على هؤلاء ولا يرد على أحد من أهل المدينة المقيمين فيها، فيمتنع أن يكون

1 عزاه شيخ الإسلام إلى سنن سعيد بن منصور. انظر: الرد على الأخنائي (ص169،170)

2 الرد على الأخنائي (ص 169، 170) بتصرف

ص: 614

المعنى من سلم منكم يا أهل المدينة لم أرد عليه مادمتم مقيمين بها فإن المقام بها هو غالب أوقاتهم، وليس في الحديث تخصيص، ولا روي عن النبي صلى الله عليه وسلم ما يدل على ذلك.

يبين هذا: أن الحجرة لما كانت مفتوحة وكانوا يدخلون على عائشة لبعض الأمور ويسلمون عليه إنما كان يرد عليهم إذا سلموا.

فإن قيل: إنه لم يكن يرد عليهم فهذا تعطل للحديث.

وإن قيل: كان يرد عليهم من هناك، ولا يرد إذا سلموا من خارج فقد ظهر الفرق.

وإن قيل: بل هو يرد على الجميع فحينئذ إن كان رده لا يقتضي استحباب هذا السلام بطل الاستدلال به.

وإن كان رده يقتضي الاستحباب وهو من سلم من خارج، لزم أن يستحب لأهل المدينة السلام كلما دخلوا المسجد وخرجوا وهو خلاف ما أجمع عليه الصحابة والتابعون لهم بإحسان وخلاف قول المفرقين1 - أي بين أهل المدينة والغرباء - الذين استدلوا بهذا الحديث.

هذا ولم يعتمد الأئمة لا الأربعة ولا غير الأربعة على شيء من الأحاديث التي يرويها البعض في زيارة قبره صلى الله عليه وسلم كحديث "من زارني في مماتي فكأنما زارني في حياتي".

وحديث: "من زارني وزار أبي في عام واحد ضمنت له على الله الجنة" ونحر ذلك فإن هذه الأحاديث وأمثالها لم روها أحد من أئمة الإسلام ولم

1 الرد على الأخنائي (ص 176، 177) .

ص: 615

يعتمدوا عليها، ولميروها لا أهل الصحاح ولا أهل السنن التي يعتمد عليها كأبي داود والنسائي لأنها ضعيفة بل موضوعة كما قد بين العلماء الكلام عليها"1.

ولكن جاء لفظ زيارة القبور في غير هذه الأحاديث كما في قوله صلى الله عليه وسلم "كنت نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها، فإنها تذكر الموت"2. وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: "السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين.."3.

وكان صلى الله عليه وسلم يزور قبور أهل البقيع وشهداء أحد4.

بيان غلط من قاس قبره صلى الله عليه وسلم على قبر غيره في شأن الزيارة:

وقد استدل طائفة من الناس بهذه الأحاديث على مشروعية زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم حيث قالوا إنه اذا كانت زيارة قبور عموم المؤمنين مشروعة فزيارة قبره أولى. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "ومن هنا غلط طائفة من الناس يقولون إذا كانت زيارة قبر آحاد الناس مستحبة فكيف بقبر سيد الأولين والآخرين. وهؤلاء ظنوا أن زيارة قبر الميت مطلقا هو من باب الاكرام والتعظيم له والرسول أحق بالإكرام والتعظيم من كل أحد.

وظنوا أن ترك الزيارة له فيه تنقيص لكرامته، فغلطوا وخالفوا السنة وإجماع الأئمة سلفها وخلفها.

1 مجموع الفتاوى (27/ 385، 638) بتصرف

2 تقدم تخريجه ص 599.

3 تقدم تخريجه ص 600

4 تقدم تخريجهما ص 600.

ص: 616

فقولهم نظير قول من يقول: إذا كانت زيارة القبور يصل الزائر فيها إلى قبر المزور، فإن ذلك أبلغ في الدعاء له فالرسول أولى أن نصل إلى قبره إذا زرناه. وقد ثبت بالتواتر وإجماع الأمة أن الرسول لا يشرع الوصول الى قبره لا للدعاء له ولا لدعائه ولا لغير ذلك.

بل غيره من الناس يصلى على قبره عند أكثر السلف كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة، والصلاة على القبر- كالصلاة على الجنازة- تشرع مع القرب والمشاهدة.

أما للنبي صلى الله عليه وسلم فالإجماع لا يصلى على قبره سواء كان للصلاة حد محدود أو كان يصلى على القبر مطلقا.

ولم يعرف عن أحد من الصحابة الغائبين لما قدم صلى على قبره صلى الله عليه وسلم.

وزيارة القبور المشروعة هي مشروعة مع الوصول إلى القبر بمشاهدته وهذه الزيارة غير مشروعة في حقه بالنص والإجماع، ولا هي أيضا ممكنة فقبر النبي صلى الله عليه وسلم خص بالمنع شرعا وحسا فقد دفن في الحجرة ومنع الناس من زيارة قبره من داخل الحجرة كما تزار سائر القبور فيصل الزائر إلى عند القبر، وقبر النبي ليس كذلك، فلا تستحب هذه الزيارة في حقه ولا تمكن وهذا لعلو قدره وشرفه لا لكون أن غيره أفضل منه، فإن هذا لا يقوله أحد من المسلمين فضلا عن الصحابة والتابعين وعلماء المسلمين بالمدينة وغيرها.

وبهذا يتبين غلط هؤلاء الذين قاسوه على عموم المؤمنين، وهذا من باب القياس الفاسد.

ومن قاس قياس الأولى ولم يعلم ما اختص به كل واحد من المقيس والمقيس عليه كان قياسه من جنس قياس المشركين الذين يقيسون الميتة على المذكى

ص: 617

ويقولون للمسلمين أتأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله؟ 1

فأنزل الله تعالى {وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ} 2.

وكذلك لما أخبر الله أن الأصنام التي تعبد هي وعابدوها ححب جهنم. قاس ابن الزعبري3 - قبل أن يسلم- هو وغره من المشركيين - عيسى بها وقالوا فيجب أن يعذب عيسى؟ 4

قال تعالى: {وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَاّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} 5.

ثم قال: {إِنْ هُوَ إِلَاّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائيلَ} 6. وبين تعالى الفرق بقوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} 7 بين أن من كان صالحا نبيا أو غير نبي لم يعذب لأجل من أشرك به وعبده وهو بريء من إشراكهم به.

وأما الأصنام فهي حجارة تجعل حصبا للنار، وقد قيل إنها من الحجارة التي

1 انظر سبب نزول الآية في تفسير الطبري (8/ 15- 19) .

2 الآية (121) من سورة الأنعام.

3 عبد الله بن الزعبري- بكسر الزاي الموحدة وسكون المهملة بعدها راء مقصورة- ابن قيس القرشى السهمي، كان من أشهر قريش وكان شديدا على المسلمين ثم أسلم في الفتح ومدح النبي صلى الله عليه وسلم. الإصابة:(2/ 300) .

4 انظر: سبب النزول في تفسير ابن كثير (4/131) .

5 الآيتان (57- 58) من سورة الزخرف

6 الآية (59) من سورة الزخرف.

7 الآية (101) من سورة الأنبياء

ص: 618

قال الله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} 1 وقال تعالى: {وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً} 2

والمقصود هنا أن يعرف أن ما مضت به سنته وكان عليه خلفاؤه وأصحابه وأهل العلم والدين بالمدينة تركهم لزيارة قبره أكمل في القيام بحق الله وحق رسوله:

1-

فهو أكمل وأفضل وأحسن مما يفعل مع غيره.

2-

وهو أيضا في حق الله وتوحيده أكمل وأتم وأبلغ.

بيان ذلك:

أما كونه أتم في حق الله: فلأن حق الله على عباده أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا كما ثبت ذلك في الصحيحين عن معاذ بن جبل عن النبي ى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدري ما حق الله على العباد وما حق العباد على الله؟ حق الله على العباد: أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا

" الحديث3 ويدخل في العبادة جميع خصائص الرب: فلا يتقى غيره، ولا يخاف غيره ولا يتوكل على غيره، ولا يدعى غيره، ولايصلى لغيره، ولا يصام لغيره، ولا يتصدق إلا له، ولا يجج إلا إلى بيته. قال تعالى:{وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ} 4

1 الآية (6) من سورة التحريم.

2 الآية (15) من سورة الجن.

3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الجهاد، باب اسم الفرس والحمار فتح الباري (6/ 58) ح 2856. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الإيمان، باب من لقي الله بالإيمان وهو غير شاك فيه دخل الجنة وحرم على النار (1/ 43) .

4 الآية (52) من سورة النور.

ص: 619

فجعل الطاعة لله والرسول وجعل الخشية والتقوى لله وحده.

وقال تعالى: {وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ} 1.

فجعل الإيتاء لله والرسول كما قال تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا} 2.

وجعل التوكل والرغبة إلى الله وحده.

وقال تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} 3.

وقال تعالى: {وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ} 4.

وقال تعالى: {فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ} 5.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلا تَحْوِيلاً} 6.

وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ} 7.

وقال تعالى: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ

1 الآية (59) من سورة التوبة

2 الآية (7) من سورة الحشر

3 الآيتان (7- 8) من سورة الشرح

4 الآيتان (51- 52) من سورة النحل.

5 الآية (44) من سورة المائدة.

6 الآية (56) من سورة الأسراء.

7 الآية (4) من سورة الأحقاف

ص: 620

فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ} 1 وهذا باب واسع.

وقال النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس: "إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله"2.

وفي الصحيحين عن النبي النبي صلى الله عليه وسلم في صفة السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب قال: "أنهم الذين لا يتطيرون ولا يكتوون ولا يسترقون وعلى ربهم يتوكلون" 3 فهم لا يطلبون من غيرهم أن يرقيهم والرقية دعاء فكيف بما هو أبلغ من ذلك؟

ومعلوم أنه لو اتخذ قبره عيدا ومسجدا ووثنا، وصار الناس يدعونه ويتضرعون إليه ويسألونه ويتوكلون عليه ويستغيثون به، ويستجيرون به، وربما سجدوا له وطافوا به وصاروا يحجون إليه، وهذه كلها من حقوق الله وحده

1 الآية (22) من سورة سبأ.

2 أخرجه الإمام أحمد (1/ 293، 303، 357) . وأخرجه الترمذي في السنن، كتاب صفة القيامة، باب (59) (4/ 667) ح 2516 وقال: هذا حديث حسن صحيح. وأخرجه الحاكم في المستدرك (3/ 541- 542) .

قال الحافظ ابن رجب في جامع العلوم (ص 174) : "لهذا الحديث عن ابن عباس طرق كثيرة وأصح الطرق كلها طريق حنش الصنعاني التي خرجها الترمذي، كذا قال ابن منده وغيره، وقد روى أيضا من طرق عن علي بن أبي طالب وأبي سعيد الخدري وسهل بن سعد وعبد الله بن جعفر، وفي أسانيدها كلها ضعف، وبكل حال فطريق حنش التى خرجها الترمذي حسنة جيدة". انتهي باختصار يسير.

3 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب الطب، باب من لم يرق. فتح الباري (10/ 211) ح 5752 واللفظ له. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الأيمان، باب الدليل على دخول طوائف من المسلمين الجنة بغير حساب ولا عذاب (1/ 137) .

ص: 621

لا يشركه فيها مخلوق.

فكان من حكمة الله دفنه في حجرته ومنع الناس من مشاهدة قبره، والعكوف عليه، والزيارة له، ونحو ذلك لتحقيق توحيد الله وعبادته وحده لا شريك له لإخلاص الدين لله.

وأما قبور أهل البقيع ونحوهم من المؤمنين فلا يجعل ذلك عندها وإذا قدر أن ذلك فعل عندها منع من يفعل ذلك وهدم ما يتخذ عليها من المساجد، وإن لم تزل الفتنة إلا بتعفية قبره وتعميته فعل ذلك كما فعله الصحابة بأمر عمر بن الخطاب في قبر دانيال1.

وأما كون ذلك أعظم لقدره وأعلى لدرجته: فلأن المقصود المشروع بزيارة قبور المؤمنين كأهل البقيع وشهداء أحد هو الدعاء لهم كما كان هو يفعل ذلك إذا زارهم وكما سنه لأمته.

فلو سن للأمة أن يزوروا قبره للصلاة عليه والسلام عليه والدعاء له، كما كان بعض أهل المدينة يفعل ذلك أحيانا وبين مالك أنه بدعة لم يبلغه عن صدر هذه الأمة ولا عن أهل العلم بالمدينة، وأنها مكروهة فإنه لا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أولها لكن بعض الناس يزوره ثم لتعظيمه في القلوب وعلم الخلق بأنه أفضل الرسل وأعظمهم جاها وأنه أوجه الشفعاء إلى ربه، يدعو النفس إلى أن تطلب منه حاجاتها وأعراضها وتعرض عن حقه الذي هو له من الصلاة والسلام عليه والدعاء له.

فإن الناس مع ربهم كذلك إلا من أنعم الله عليه بحقيقة الإيمان، إنما

1 انظر: البداية لابن كثير (2/ 45- 42) .

ص: 622

يعظمون الله عند ضرورتهم إليه كما قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ} 1

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَاّ إِيَّاهُ} 2ز.

وقال تعالى: {وَإِذَا مَسَّ الأِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ} 3 ونظائر هذا في القرآن متعددة.

فإذا كانوا إلا ما شاء الله، إنما يعظمون ربهم ويوحدونه ويذكرونه عند ضرورتهم لأغراضهم ولا يعرفون حقه إذا خلصهم فلا يحبونه ويعبدونه ولا يشكرونه ولا يقومون بطاعته فكيف يكونون مع المخلوق؟

فهم يطلبون من الأنبياء والصالحين أغراضهم وذلك مقدم عندهم على حقوق الأنبياء والصالحين فإذا أيقنوا أن في زيارة قبر نبي أو صالح تحصيل أغراضهم بسؤاله ودعائه وجاهه وشفاعته أعرضوا عن حقه واشتغلوا بأغراضهم كما هو الموجود في عامة الذين يحجون إلى القبور المعظمة ويفصدونها لطلب الحوائج.

فلو أذن الرسول لهم في زيارة قبره ومكنهم من ذلك لأعرضوا عن:

1-

حق الله الذي يستحقه من عبادته.

2-

وعن حق الرسول الذي يستحقه من الصلاة والسلام عليه والدعاء له بل ومن جعله واسطة بينهم ويين الله في تبليغ أمره ونهيه وخبره.

فكانوا يهضمون حق الله وحق الرسول كما فعلت النصارى فإنهم بغلوهم

1 الآية (12) من سورة يونس

2 الآية (67) من سورة الإسراء.

3 الآية (8) من سورة الزمر.

ص: 623

في المسيح تركوا حق الله من عبادته وحده وتركوا حق المسيح، فهم لا يدعون له بل هو عندهم رب يدعى ولا يقومون بحق رسالته فينظرون ما أمر به وما أخبر به بل اشتغلوا بالشرك به وبغيره وطلب حوائجهم ممن يستضفعون به من الملائكة والأنبياء والصالحين عما يجب من حقوقهم.

وأيضا فلو جعلت الصلاة والسلام عليه والدعاء له عند قبره أفضل منها في غير تلك البقعة كما قد يكون الدعاء للميت عند قبره أفضل، لكانوا يخصون تلك البقعة بزيادة الدعاء له وإذا غابوا عنها تنقص صلاتهم وسلامهم ودعاؤهم له، فإن الإنسان لا يجتهد في الدعاء في المكان المفضول كما يجتهد في المكان الفاضل، وهم قد أمروا أن يقوموا بحق الرسول صلى الله عليه وسلم في كل مكان، وأن لا يكون البعيد عن قبره أنقص إيمانا وقياما بحقه من المجاور لقبره، وقال لهم صلى الله عليه وسلم "لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيث كنتم فإن صلاتكم تبلغني"1. وقد شرع لهم أن يصلوا عليه ويسألوا له الوسيلة إذا سمعوا المؤذن حيث كانوا، وأن يسلموا عليه في كل صلاة، ويصلوا عليه في الصلاة، وأن يسلموا عليه إذا دخلوا المسجد واذا خرجوا منه.

فهذا الذي أمروا به عام في كل مكان، وهو يوجب من القيام بحقه ورفع درجته وإعلاء منزلته ما لا يحصل لو جعل ذلك عند قبره أفضل، ولا إذا سوي بين قبره وقبر غيره.

بل إنما يحصل كمال حقه مع حق ربه، بفعل ما شرعه وسنه لأمته من واجب ومستحب: وهو أن يقوموا بحق الله، ثم بحق رسوله حيث كانوا من

1 تقدم تخريجه ص 580.

ص: 624

المحبة والمولاة والطاعة وغير ذلك من الصلاة والسلام والدعاء وغير ذلك. ولا يقصدون تخصيص القبر لما يفضي إليه ذلك من ترك حق الله وحق رسوله.

فهذا وغيره مما يبين أن ما نهي عنه الناس ومنعوا منه، وكان السلف لا يفعلونه من زيارة قبره، وإن كانا زيارة قبر غيره مستحبة، فهو أعظم لقدره وأرفع لدرجته وأعلى في منزلته، وأن ذلك أقوم بحق الله وأتم وأكمل في عبادته وحده لا شريك له وإخلاص الدين له، ففي ذلك تحقيق شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله.

وإن أهل البدع الذين فعلوا ما لم يشرعه الله بل ما نهي عنه وخالفوا الصحابة والتابعين لهم بإحسان فاستحبوا ما كان أولئك يكرهونه ويمنعون منه، هم مضاهؤون للنصارى، وإنهم نقصوا من تحقيق الإيمان بالله وبرسوله، والقيام بحق الله وحق رسوله بقدر ما دخلوا فيه من البدعة التي ضاهوا بها النصارى فهذا هذا، والله أعلم.

وأيضا فإنه إذا أطيع أمره وأتبعت سنته كان له من الأجر بقدر أجر من أطاعه واتبع سنته لقوله صلى الله عليه وسلم: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئا"1.

وأما البدع- التي لم يشرعها بل نهي عنها، وإن كانا متضمنة للغلو فيه والشرك به والإطراء له كما فعلت النصارى، فإنه لا يحصل بها أجر لمن عمل بها فلا يكون للرسول فيها منفعة، بل صاحبها إن عذر كان ضالا لا أجر له

1 تقدم تخريجه ص 397.

ص: 625

وإن قامت عليه الحجة استحق العذاب.

وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم إنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله"1.

فإن قال هؤلاء الذين قاسوا زيارة قبره على زيارة سائر القبور: إن الناس منعوا من الوصول إليه تعظيما لقدره، وجعل سلامهم وخطابهم له من الحجرة لأن ذلك أبلغ في الأدب والتعظيم.

قيل: فهذا يوجب الفرق فإن الزيارة المشروعة إن كان مقصودها الدعاء له فكون ذلك قريبا من الحجرة أفضل منه في سائر المساجد والبقاع، فالذي يدعو له من داخل الحجرة أقرب، وإن كان القرب مستحبا فكلما كان أقرب كان أفضل كسائر القبور.

وإن كان مقصودها أي الزيارة- ما يقوله أهل الشرك والضلال من فى عائه ودعاؤه من القرب أولى، فينبغي أن يكون من داخل الحجرة أولى.

ولما ثبت بالنص والإجماع أن هذا القرب من القبر ممنوع منه، وهو أيضا غير مقدور عليه، علم أن القرب من ذلك ليس بمستحب. بخلاف زيارة قبر غيره والصلاة على قبره- أي قبر ذلك الغير- فإن القرب منه مستحب إذا لم يفض إلى مفسدة من شرك أو بدعة أو نياحة فإن أفضى إلى ذلك منع من ذلك. ومما يوضح هذا: أن الشخص الذي يقصد أتباعه زيارة قبره يجعلون قبره بحيث يمكن زيارته فيكون له باب يدخل منه إلى القبر ويجعل عند القبر مكان للزائر إذا دخل بحيث يتمكن من القعود فيه بل يوسع المكان ليسع الزائرين.

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب أحاديث الأنبياء، باب قول الله:{وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا} فتح الباري (6/ 478) ح 3445.

ص: 626

ومن اتخذه مسجدا جعل عنده صورة محراب أو قريبا منه، وإذا كان الباب مغلقا جعل له شباكا على الطريق ليراه الناس فيه فيدعونه.

وقبر النبي صلى الله عليه وسلم بخلاف هذا كله لم يجعل للزوار طريق إليه بوجه من الوجوه ولا قبر في مكان كبير يسع الزوار، ولا جعل للمكان شباك يرى منه القبر بل منع الناس من الوصول إليه والمشاهدة له.

ومن أعظم ما من الله به على رسوله صلى الله عليه وسلم وعلى أمته واستجاب فيه دعاءه أن دفن في بيته بجانب مسجده.

فلا يقدر أحد أن يصل إلا إلى المسجد والعبادة المشروعة في المسجد معروفة بخلاف ما لو كان القبر منفردا عن المسجد.

والمسافر إليه إنما يسافر إلى المسجد وإذا سمى هذا زيارة لقبره فهو اسم لا مسمى له إنما هو إتيان إلى مسجده، ولهذا لم يطلق السلف هذا اللفظ"1

فالزيارة المعهودة من القبور ممتنعة فيه قبره فليست من العمل المقدور ولا المأمور، فامتنع أن يكون أحد من العلماء يقصد بزيارة قبره هذه الزيارة، وإنما أرادوا السفر إلى مسجده والصلاة والسلام عليه والثناء عليه هناك لكن سموا هذا زيارة لقبره كما اعتادوه، ولو سلكوا مسلك التحقيق الذي سلكه الصحابة ومن اتبعهم لم يسموا هذا زيارة لقبره وإنما هو زيارة لمسجده وصلاة وسلام عليه ودعاء له وثناء عليه في مسجده سواء كان هناك القبرأو لم يكن2.

فمجرد زيارة قبره كالزيارة المعروفة للقبور غير مشروعة ولا ممكنة ولو كان في زيارة قبره عبادة زائدة للأمة لفتح باب الحجرة ومكنوا من فعل تلك العبادة

1 الرد على الأخنائي (ص 151- 160) بتصرف.

2 الصارم المنكي (ص 85، 86) .

ص: 627

عند قبره، وهم لم يمكنوا إلا من الدخول إلى مسجده1

والله سبحانه قد فرق بين قبر رسوله صلى الله عليه وسلم وقبر غيره فإنهم دفنوه بالحجرة ولم يبرزوا قبره كما كانوا يزورون قبورهم خوفا أن يتخذ مسجدا.

ثم انهم منعوا الناس من زيارته كما يزورون القبور، فلم يكونوا يمكنون الناس من الدخول لزيارته. ثم إنهم سدوا باب الحجرة وبنوا عليها حائطا آخر فلم يبق أحد متمكنا من زيارته كما تزار القبور.

ولهذا لم يعرف عن أحد من الصحابة أنه تكلم بهذا الاسم في حقه فقال تستحب زيارة قبره أو لا تستحب أو نحو ذلك ولا علق بهذا الاسم حكما شرعيا وقد كره من كره من العلماء التكلم به، وذلك اسم لا مسمى له ولفظ لا حقيقة له وإنما تكلم به من تكلم من المتأخرين ومع هذا فلم يريدوا ما هو معروف من زيارة القبور"2.

فتبين أنه ليس في الشريعة عمل يسمى ((زيارة لقبره)) وأن هذا الاسم لا مسمى له، والذين أطلقوا هذا الاسم إن أرادوا به ما يشرع فالمعنى صحيح لكن عبروا عنه بلفظ لايدل عليه.

وإن أرادوا ما لا يشرع فذاك المعنى خطأ مفهوم ومع هذا فليس هو زيارة.

فخلاصة ما يمكن حصره من مسائل وأقوال في مسألة السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ما يلى:

1-

أن السلام عليه صلى الله عليه وسلم عند دخول مسجده وسائر المساجد في سائر البقاع مشروع بالكتاب والسنة والإجماع وقد تقدم ذكر الأدلة في ذلك.

1 الصارم المنكي (ص 112) .

2 الرد على الأخنائي (ص 25- 26) .

ص: 628

2-

أما السلام عليه عند قبره من داخل الحجرة فهذا كان مشروعا لما كان ممكنا بدخول من يدخل على عائشة.

3-

أما تخصيص هذا السلام أو الصلاة بالمكان القريب من الحجرة فهذا محل النزاع.

وللعلماء في ذلك ثلاثة أقوال:

القول الأول: منهم من ذكر استحباب السلام أو الصلاة والسلام عليه إذا دخل المسجد، ثم بعد أن يصلي في المسجد استحب أيضا أن يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم كما ذكر ذلك طائفة من أصحاب مالك والشافعي وأحمد.

القول الثاني: ومنهم من لم يذكر إلا النوع الثاني فقط أي أنه يأتي إلى الحجرة ويصلي ويسلم.

القول الثالث: ومنهم من لم يذكروا إلا النوع الأول فقط أي السلام أو الصلاة والسلام عليه عند دخول المسجد، وفي التشهد في الصلاة وهذا ما ذكره كثير من السلف1.

فهذا النوع الأول- أي السلام عند دخول المسجد- هو المشروع لأهل البلد وللغرباء في هذا المسجد وغير هذا المسجد

وأما النوع الثاني- أي السلإم عليه عند الحجرة- فهو الذي فرق من استحبه بين أهل البلد والغرباء سواء فعله مع الأول أو مجردا عنه فاستحبوه للغرباء دون أهل البلد، محتجين على ذلك بفعل ابن عمر رضي الله عنهما.

1 الرد على الأخنائي (ص 142) .

ص: 629

وفي هذا الاستحباب نظر "لأن الأمر إذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر، دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون هذا مانعا من دعوى الإجماع على خلافه، بل يكون كسائر المسائل التي يساغ فيها الاجتهاد، أما أن يجعل من سنة الرسول وشريعته وحكمه ما لم تدل عليه سنته لكون بعض السلف فعل ذلك فهذا لا يجوز1.

فالأولى في هذه المسألة أن يقال: إن فعل ابن عمر إنما يدل على التسويغ بحيث يكون فعل من فعل ذلك اقتداء بفعل بعض الصحابة لم يبتدع شيئا من عنده.

أما أن يقال إن فعل هذا عبادة وطاعة يشرع فعلها احتجاجا بفعل بعض الصحابة- ولا سيما إذا عرف أن جمهور الصحابة لم يكونوا يفعلون ذلك- فلا يكفي الإحتجاج بفعل بعض الصحابة على استحبابه بل الأمر يحتاج إلى دليل شرعي.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وأما أن يقال إن الرسول ندب إلى ذلك ورغب فيه وجعله عبادة وطاعة يشرع فعلها، فهذا يحتاج إلى دليل شرعي ولا يكفي في ذلك فعل بعض السلف.

ولا يجوز أن يقال إن الله ورسوله يحب ذلك أو يكرهه، وإنه سن ذلك وشرعه، أو نهي عن ذلك وكرهه، ونحو ذلك إلا بدليل يدل على ذلك لا سيما إذا عرف أن جمهور أصحابه لم يكونوا يفعلون ذلك.

فيقال: لو كان ندبهم إلى ذلك وأحبه لهم لفعلوه فإنهم كانوا أحرص الناس

1 الرد على الأخنائي (ص 177- 178) .

ص: 630

على الخير، ونظائر هذا متعددة والله أعلم"1.

وفي الوقت ذاته لا يقال: انعقد إجماعهم2 على تركه فيبدع من فعله مع أنه قد ثبت فعله من بعض الصحابة كما ثبت من فعل ابن عمر رضي الله عنهما.

هذا فيما يتعلق بالسلام عليه عند حجرته للقادم من السفر.

أما الشخص المقيم فلم يستحب أحد من علماء السلف أن يأتي أحد إلى الحجرة للسلام أو الصلاة، بل هو منهي عنه لأن في تخصيص الحجرة للصلاة والسلام بهذه الصورة جعلا لها عيدا، وكذلك فإن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان لم يكونوا يفعلون ذلك. وقد تقدم نقل كلام الإمام مالك في هذه المسألة بعينها وكيف أنه كره ذلك لأن السلف لم يكونوا يفعلون ذلك وقال رحمه الله:"لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح أولها".

فوقوف أهل المدينة بالقبر من البدع التي لم يفعلها الصحابة، وهذه الزيارة منهي عنها لقوله صلى الله عليه وسلم:"لا تتخذوا قبري عيدا وصلوا علي حيثما كنتم فإن صلاتكم تبلغني" وروي مثل ذلك في السلام عليه، فعلم أنه يكره تخصيص تلك البقعة بالصلاة والسلام بل يصلى ويسلم في جميع المواضع وذلك واصل إليه فمثل هذه الزيارة بدعة منهي عنها.

والذين أجازوا السلام عليه عند الحجرة للغرباء اختلفوا كيف يسلم عليه هل تستقبل الحجرة أم القبلة؟ على قولين:

1 الرد على الأخنائي (ص 179) .

2 قال شيخ الإسلام ابن تيمية وإذا فعله من الصحابة الواحد والاثنان والثلاثة وأكثر دون غيرهم كان غايته أن يثبت به التسويغ بحيث يكون مانما من دعوى الإجماع.

ص: 631

القول الأول: فالأكثرون يقولون يستقبل الحجرة كمالك والشافعي وأحمد.

القول الثاني: وأبو حنيفة يقول يستقبل القبلة ويجعل الحجرة عن يساره في قول وخلفه في قول.

لأن الحجرة النبوية لما كانت خارجة عن المسجد لم يكن يمكن أحدا أن يستقبل وجهه صلى الله عليه وسلم، ويستدبر القبله، كما صار ذلك ممكنا بعد دخولها في المسجد، بل كان إن استقبل القبلة صارت عن يساره، وحينئذ فإن كانوا يستقبلونه ويستدبرون الغرب فقول الأكثرين أرجح وإن كانوا يستقبلون القبلة حينئذ ويجعلون الحجرة عن يسارهم فقول أبي حنيفة أرجح"1. والسلف كلهم متفقون على أن الزائر لا يسأله شيئا ولا يطلب منه ما يطلب في حياته ويطلب منه يوم القيامة لا شفاعة ولا استغفار ولا غير ذلك

وإنما كان نزاعهم في الوقوف للدعاء له والسلام عليه2.

فقد تكلم السلف في الدعاء للرسول صلى الله عليه وسلم عند قبره

1-

فمنهم من نهي عن الوقوف للدعاء له دون السلام عليه.

2-

ومنهم من رخص في الدعاء له والسلام عليه.

3-

ومنهم من نهي عن الدعاء له والسلام عليه3 (أي عند قبره) .

ولا يجوز السجود للحجرة ولا الطواف بها بل هو كفر بإجماع المسلمين4 بل ولا الصلاة إليها لما ثبت في صحيح مسلم من أبي مرثد الغنوي أنه قال

1 مجموع الفتاوى (27/ 330) .

2 الرد على الأخنائي (ص 166) .

3 الرد على الأخنائي (ص 163) .

4 الرد على الأخنائي (ص 177، 215) .

ص: 632

صلى الله عليه وسلم: "لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها"1.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "والصلاة إلى الحجرة والتمسح بها وإلصاق البطن بها وغير ذلك مما يفعله الجهال منهي عنه باتفاق المسلمين"2.

قال أبو بكر الأثرم3 قلت لأبي عبد الله- يعني أحمد بن حنبل: قبر النبي صلى الله عليه وسلم يلمس ويتمسح به؟ فقال: ما أعرف هذا. قلت لأبي عبد الله: إنهم يلصقون بطونهم بجدار القبر. وقلت له: ورأيت أهل العلم من أهل المدينة لا يمسونه، ويقيمون ناحية فيسلمون. فقال أبو عبد الله: نعم، وهكذا كان ابن عمر يفعل. ثم قال أبو عبد الله: بأبي وأمي صلى الله عليه وسلم"4.

أما السفر إلى ((زيارة قبره)) فهذا اللفظ فيه إجمال5.

1 تقدم تخريجه ص 589.

2 الرد على الأخنائي (ص 229) .

3 أحمد بن محمد بن هانئ الطائي ويقال الكلبي، أبو بكر الأثرم ثقة حافظ، صاحب تصانيف، روى عن أحمد بن حنبل وتفقه عليه، وسأله عن المسائل والعلل، توفي سنة 261 هـ، وقيل بعدها. تهذيب التهذيب (1/ 78- 79) .

4 الرد على الأخنائي (ص 178) .

5 قال شيخ الإسلام ابن تيمية: هذا الموضع مما يشكل على كثير من الناس، فبنبغى لمن أراد أن يعرف دين الإسلام أن يتأمل النصوص النبوية ويعرف ما كان يفعله الصحابة والتابعون وما قاله أئمة المسلمين ليعرف المجمع عليه من المتنازع فيه. فإن في الزيارة مسائل متعددة تنازعوا فيها، لكن لم يتنازعوا في استحباب السفر الى مسجده واستحباب الصلاة والسلام عليه ونحو ذلك مما شرعه الله في مسجده، ولم يتنازع الأئمة الأربعة والجمهور في أن السفر إلى غير الثلاثة ليس بمستحب لا لقبور الأنبياء والصالحين ولا لغير ذلك، فإن قول النبي صلى الله عليه وسلم:"لا تشد الرحال" حديث متفق على صحته وعلى العمل به، عند الأئمة المشهوون وعلى أن السفر إلى القبور داخل فيه. الرد على الأخنائي (ص 270- 271) .

ص: 633

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: لفظ اتيان القبر، وزيارة القبر والسفر إلى القبر ونحو ذلك، يتناول من يقصد المسجد وهذا مشروع.

ويتناول من لم يقصد إلا القبر وهذا منهي عنه كما دلت عليه النصوص وأنه مالك وغيره. فمن نقل عن السلف أنهم استحبوا السفر لمجرد القبر دون المسجد ولا الصلاة فيه، بل إنما يقصد القبر كالصورة التي نهى عنها مالك فإذا لا يوجد في كلام أحد من علماء السلف استحباب ذلك فضلا عن إجماعهم عليه. وهذا الموضع يجب على المسلمين عامة وعلمائهم تحقيقه ومعرفة ما هو المشروع والمأمور به الذي هو عبادة الله وحده وطاعة له ولرسوله وبر وتقوى وقيام بحق الرسول.

وما هو شرك وبدعة وضلالة منهي عنها لئلا يلتبس هذا بهذا فإن السفر إلى مسجد المدينة مشروع باتفاق المسلمين لكن إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى.

وقد تقدم عن مالك وغيره أنه من نذر إتيان المدينة إن كان قصده الصلاة في المسجد يوفي بنذره، وإلا لم يوف بنذره.

وأما إذا نذر اتياه المسجد لزمه لأنه إنما يقصد الصلاة.

فلم يجعل إلى المدينة سفرا مأمورا به إلا سفر من قصد الصلاة في المسجد وهو الذي يؤمر به الناذر بخلاف غيره لقولى صلى الله عليه وسلم "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، ومسجدي هذا، والمسجد الأقصى"1.

1 أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة، باب فضل الصلاة في مسجد مكة والمدينة. فتح الباري (3/ 63) ح 1189. وأخرجه مسلم في صحيحه، كتاب الحج، باب لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد (4/ 126) .

ص: 634

وجعل من سافر إلى المدينة أو بيت المقدس لغير العبادة الشرعية في المسجدين سفرا منهيا عنه، لا يجوز أن يفعله وإن نذره، وهذا هو قول جمهورالعلماء.

فمن سافر إلى مدينة الرسول أو بيت المقدس لقصد زيارة ما هناك من القبور أو من آثار الأنبياء والصالحين كان سفره محرما عند مالك والأكثرين وقيل إنه سفر مباح ليس بقربة كما قاله طائفة من أصحاب الشافعي وأحمد، وهو قول ابن عبد البر.

وما علمنا أحدا من علماء المسلمين المجتهدين الذين تذكر أقوالهم في مسائل الإجماع والنزاع ذكر أن ذلك مستحب.

فدعوى من ادعى أن السفر إلى مجرد القبور مستحب عند جميع علماء المسلمين كذب ظاهر وكذلك ان ادعى أن هذا قول الأئمة الأربعة أو جمهور أصحابهم أو جمهور علماء المسلمين فهو كذب بلا رلمجا وكذلك ان ادعى أن هذا قول عالم معروف من الأئمة المجتهدين.

وإن قال ان هذا قول بعض المتأخرين أمكن أن يصدق في ذلك وهو بعد أن يعرف صحة نقله، نقل قولا شاذا مخالفا لإجماع السلف مخالفا لنصوص الرسول صلى الله عليه وسلم، فكفي بقول فسادا أن يكون قولا مبتدعا في الإسلام مخالفا للسنة والجماعة ولما سنه الرسول ولما اجتمع عليه سلف الأمة وأئمتها، والنقل عن علماء السلف يوافق ما قاله مالك، فمن نقل عنهم ضد ذلك فقد كذب"1.

1 الرد على الأخنائي (ص 219- 221) .

ص: 635