المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم - حقوق النبي صلى الله عليه وسلم على أمته في ضوء الكتاب والسنة - جـ ٢

[محمد بن خليفة التميمي]

فهرس الكتاب

- ‌الباب الثالث: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: بيان عظيم قدره صلى الله عليه وسلم ورفعة مكانته عند ربه عز وجل

- ‌المبحث الأول: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا

- ‌المبحث الثاني: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم في الآخرة

- ‌المبحث الثالث: بيان بعض الخصائص التي خص الله بها أمة محمد صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: وجوب تعزيره وتوقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم على أمته في حياته وبعد مماته

- ‌المبحث الأول: معنى التعزير والتوقير والتعظيم

- ‌المبحث الثاني: وجوب توقيره وتعظيمه صلى الله عليه وسلم والأدلة على ذلك

- ‌المبحث الثالث: تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم في حياته

- ‌المبحث الرابع: تعظيم الأمة للنبي صلى الله عليه وسلم بعد مماته

- ‌المطلب الأول: تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم محله القلب واللسان والجوارح

- ‌المطلب الثاني: توقير النبي صلى الله عليه وسلم في آله وأزواجه أمهات المؤمنين

- ‌المطلب الثالث: توقيره صلى الله عليه وسلم في أصحابه رضوان الله عليهم

- ‌المطلب الرابع: حفظ حرمة المدينة النبوية

- ‌الفصل الثالث: الصلاة والسلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: معنى الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي للفظة الصلاة

- ‌المطلب الثاني: المعني الشرعي لصلاة الله عز وجل على نبيه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم وكيفيتها ومواطنها وفضلها

- ‌المطلب الأول: الأدلة من القرآن والسنة على مشروعية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثالث: مواطن الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الرابع: فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثالث: السلام عليه صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الأدلة على مشروعية السلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الثاني: السلام على النبي صلى الله عليه وسلم عند حجرته التي دفن فيها

- ‌الباب الرابع: النهي عن الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الأول: تعريف الغلو وسد الشارع لطرق الغلو في حقه صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الأول: تعريف الغلو وموقف الشرع منه

- ‌المطلب الأول: المعنى اللغوي

- ‌المطلب الثاني: التعريف الشرعي للغلو وموقف الشرع منه

- ‌المبحث الثاني: الفرق بين ما هو حق لله وحده لا يشركه فيه غيره وبين ما هو حق للرسول

- ‌المبجث الثالث: بيان توسط السلف في حق النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

- ‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: حكم التوسل والاستغاثة والاستشفاع بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المطلب الأول: الكلام على مسألة التوسل

- ‌المطلب الثاني: الكلام على مسألة الشفاعة

- ‌المطلب الثالث: الكلام على مسألة الاستغاثة

- ‌المبحث الثالث: حكم ما يفعل عند حجرته التي دفن فيها من الأمور المبتدعة

- ‌المبحث الرابع: حكم الحلف بالنبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الخامس: حكم الاحتفال بمولده

- ‌المطلب الأول: حكم فعل المولد

- ‌المطلب الثاني: بيان ما يفعل في الموالد من الغلو والمنكرات

- ‌المبحث السادس: حكم القول بحضوره في مجالس المحتفلين ورؤيته بالعين الباصرة

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

‌الفصل الثاني: بيان الأمور التي حصل فيها غلو في حقه صلى الله عليه وسلم وحكم الشرع فيها

‌المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

تمهيد:

قال الله تعالى: {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} 1.

وقال تعالى: {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ} 2.

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} 3.

وقال تعالى: {لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ} 4.

وقال تعالى: {وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ} 5.

وقال تعالى: {وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَاّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} 6.

وقال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلا رَشَداً قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً إِلَاّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَرِسَالاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً} 7.

برغم هذه الآيات البينات والبراهين الواضحات التي تبين وتفصل بين ما هو

1 الآية (40) من سورة الرعد.

2 الآية (9) من سورة الأحقاف.

3 الآية (110) من سورة الكهف.

4 الآية (128) من سورة آل عمران.

5 الآية (31) من سورة هود.

6 الآية (188) من سورة الأعراف.

7 الآيات (20- 23) من سورة الجن.

ص: 709

حق للرسول وما ليس له بحق، وما يملكه الرسول وما لا يملكه وأمثالها في القرآن الكريم كثير جدا.

يأبى أناس إلا معصية الله ورسوله ومخالفة ما جاءت به النصوص؛ إتباعا لأهوائهم وسلوكا لسبيل الشيطان، فقد غلوا في حق النبي صلى الله عليه وسلم وتنوع غلوهم وتفاوت حتى وصل في كثير من أنواعه إلى درجة الإشراك بالله تعالى.

وسأذكر في هذا الفصل نماذج من هذا الغلو الحاصل مع الإشارة إلى وجه مخالفتها للنصوص الشرعية والرد عليها.

ص: 710

المبحث الأول: نماذج من الغلو الحاصل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم

أ- ما يسمى بـ (الحقيقة المحمدية) :

وهي أسطورة من أساطير الصوفية، نسجها خيالهم المريض، وأوهامهم الفاسدة، فهي كذبة ليس لها رصيد من الواقع، بل هي مناقضة تمامًا لما أخبر به الله تعالى وقرره في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم. أما عن فحوى هذه الأسطورة فيقول قائلهم:"اعلم أنه لما تعلقت إرادة الحق تعالى بإيجاد خلقه أبرز الحقيقة المحمدية من أنواره ثم سلخ منها العوالم كلها علوها وسفلها

ثم انبخست منه صلى الله عليه وسلم عيون الأرواح فهو الجنس العالي على جميع الأجناس والأب الأكبر لجميع الموجودات"1.

ويقول آخر: "اعلم أن أنوار المكونات كلها من عرش وفرش وسماوات وأراضين وجنات وحجبا وما فوقها وما تحتها إذا اجتمعت كلها وجدت بعضا من نور النبي، وأن مجموع نوره لو وضع على العرش لذاب، ولو وضع على الحجب السبعين التي فوق العرش لتهافتت، ولو جمعت المخلوقات كلها ووضع ذلك النور العظيم عليها لتهافتت وتساقطت"2.

وفي هذا يقول شاعرهم:

أنشاك نورا ساطعا قبل الورى

فردا لفرد، والبرية في عدم

ثم استمد جميع مخلوقاته

من نورك السامي، فيا عظم الكرم

1 الأنوار المحمدية (ص 9) .

2 هذه هي الصوفية (ص 87) .

ص: 711

فلذا إليك الخلق تفزع كلهم

في هذه الدنيا، وفي اليوم الأهم

وإذا دعتهم كربة فرجتها

حتى سوى العقلاء في ذاك انتظم1

وهذا الزعم الباطل تضمن ثلاث دعاوى كلها كذب وافتراء.

الدعوى الأولى: دعوى أن النبي صلى الله عليه وسلم خلق من نور رب العالمين.

الدعوى الثانية: أنه وجد قبل خلق آدم.

الدعوى الثالثة: أن الأشياء خلقت منه.

وكل دعوى من هذه الدعاوى هي أكذب من أختها، وقد قال بها جميعًا بعض الغلاة المنتسبين إلى الإسلام مضاهاة لقول النصارى في عيسى، ويروون في ذلك أحاديث، وكلها كذب، فمن هؤلاء الغلاة من يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:"من قال إني كلى بشر فقد كفر، ومن قال لست ببشر فقد كفر" وهذا الحديث كذب باتفاق أهل العلم بالحديث2.

ومنهم من يروى عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: "قلت يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شيء خلقه الله تعالى قبل الأشياء؟ قال: يا جابر إن الله تعالى خلق قبل الأشياء نور نبيك من نوره، فجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله تعالى ولم يكن في ذلك الوقت لوح ولا قلم ولا جنة ولا نار ولا ملك ولا سماء ولا أرض ولا شمس ولا قمر ولا جني ولا إنسي، فلما أراد أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأول القلم، ومن الثاني اللوح، ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق

1 الأبيات لأحمد بن عبد المنعم الحلواني من قصيدته المستجيرة (نقلا عن كتاب هذه الصوفية)(ص 87) .

2 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح (2/ 200- 201) بتصرف.

ص: 712

من الجزء الأول حملة العرش، ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء، فخلق من الأول السموات، ومن الثاني الأراضين ومن الثالث الجنة والنار، ثم قسم الرابع أربع أجزاء فخلق من الأول أبصار المؤمنين ومن الثاني نور قلوبهم وهي المعرفة بالله تعالى ومن الثالث نور أنسهم وهو التوحيد لا إله إلا الله محمد رسول الله"1.

وهذا الحديث باطل قال عنه السيوطي: "ليس له إسناد يعتمد عليه"2.

ولا يخفي على من له أدني معرفة بنصوص القرآن والسنة ما في هذا الخبر المكذوب من المخالفات والمغالطات، ولا يشك طالب علم في وضعه واختلاقه. وكذلك مما يرونه "كنت نبيًا ولا آدم ولا ماء ولا طين".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "هذا مما لا أصل له لا من نقل ولا من عقل فإن أحدًا من المحدثين لم يذكره، ومعناه باطل فإن آدم لم يكن بين الماء والطين قط فإن الطين ماء وتراب، وإنما كان بين الروح والجسد.

ثم هؤلاء الضلال يتوهمون أن النبي صلى الله عليه وسلم كان حينئذ موجودا وأن ذاته خلقت قبل الذوات، ويستشهدون على ذلك بأحاديث مفتراة مثل حديث فيه "أنه كان نورًا حول العرش، فقال: يا جبريل أنا كنت ذلك النور"3.

ومن العجيب أن كثيرا من الناس صاروا يتناقلون مثل هذه الأخبار المفتراة حتى أصبحت عندهم عقيدة راسخة في قلوبهم.

ومما يبين كذب هذه الدعاوى ويظهر زيفها مخالفتها لنصوص الكتاب

1 الأنوار المحمدية (ص 13) .

2 الحاوي للفتاوى (1/ 325) .

3 الرد على البكري (ص 8- 9) .

ص: 713

والسنة.

فقد أخبرنا عز وجل عن أصل ما خلق منه الإنس والجن فقال تعالى {خَلَقَ الأِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ} 1.

والنبي صلى الله عليه وسلم بشر خلق مما خلق منه باقي البشر فلا ميزة له في هذا الشأن عن باقي البشر قال تعالى {سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَاّ بَشَراً رَسُولاً} 2 وقال تعالى {قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ} 3.

والآيات في هذا الشأن، وفي شأن خلق السموات والأرض وكذا الأحاديث الثابتة كثيرة وكلها تخالف هذا الخبر المذكور وتبين زيفه وبطلانه4.

ب- دعوى أن الدنيا خلقت من أجل النبي صلى الله عليه وسلم:

وفي هذا يقول قائلهم

وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من لولاه لم تخرج الدنيا من العدم5

وقول الآخر ممن هو من نقطة وشكله

لولاه ما خلقت شمس ولا قمر ولا نجوم ولا لوح ولا قلم6

ويستند هؤلاء على أحاديث موضوعة وأخبار مكذوبة منها حدثا "لولاك

1 الآيتان (14- 15) من سورة الرحمن.

2 الآية (93) من سورة الإسراء.

3 الآية (9) من سورة الأحقاف.

4 انظر في هذا الشأن رسالة تنبيه الحذاق على بطلان ما شاع بين الأنام من حديث النور المنسوب لمصنف عبد الرزاق.

5 ديوان البوصيري (ص 240) . تنبيه الحذاق (ص 27) .

6 تنبيه الحذاق (ص 27) .

ص: 714

ما خلقت الأفلاك" وهو موضوع1.

وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: أوحى الله إلى عيسى يا عيسى آمن بمحمد وأمر من أدركه من أمتك أن يؤمنوا به فلولا محمد ما خلقت آدم ولولا محمد ما خلقت جنة ولا نار

"2.

وهذه الأحاديث الموضوعة وأمثالها لا يمكن أن يعول عليها في إثبات أمر شرعي كهذا.

أضف إلى ذلك مخالفتها للشرع فالذي تدل عليه النصوص الشرعية أن الله عز وجل إنما خلق الجن والإنس لغاية ذكرها في القرآن الكريم حيث قال عز وجل {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالأِنْسَ إِلَاّ لِيَعْبُدُونِ} 3.

قال ابن كثير: "ومعني الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه وحده لا شريك له فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ومن عصاه عذبه أشد العذاب"4. وقال تعالى {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ

1 قاله الصغاني في الأحاديث الموضوعة (ص 7) ، وانظر الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة للشوكاني (ص 326) وسلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني رقم 282.

2 لا أصل له مرفوعًا إنما أخرجه الحاكم في المستدرك (2/ 614، 615) من طريق عمرو بن أوس الأنصاري ثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن سعيد بن المسيب عن ابن عباس قال: فذكره موقوفا وقال: "صحيح الإسناد" وتعقبه الذهبي بقوله "أظنه موضوعًا على سعيد".

وقد قال الذهبي في الميزان (3/ 246) عند ترجمته لعمرو بن أوس الذي روى هذا الحديث عن سعيد ما نصه: "عمرو بن أوس يجهل حاله أتى بخبر منكر، أخرجه الحاكم في مستدركه، وأظنه موضوعًا من طريق جندل بن والق" ثم ذكر نص هذا الحديث. ووافقه ابن حجر في اللسان (4/ 354) .

3 الآية (56) من سورة الذاريات.

4 تفسير ابن كثير (4/ 238) .

ص: 715

عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 1.

وقال تعالى {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 2.

وقال تعالى {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} 3.

فصرح جل وعلا في هذه الآيات المذكورة بأن حكمة خلقه للخلق هي اختبارهم وابتلاؤهم ليجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته.

فهذه هي الحكمة من خلقهم أولاً وبعثهم ثانيًا4.

والنصوص من آيات وأحاديث كلها تؤكد هذا الأمر وتدل عليه، وفي الوقت نفسه تبطل ما زعمه الغلاة من أن الغاية من خلق الخلق هي من أجل محمد صلى الله عليه وسلم.

فهذه الدعاوى يعرف بطلانها من له أدني بصيرة في نصوص الشرع والنبي صلى الله عليه وسلم قد أعطاه الله خصائص وفضائل كثيرة تدل على فضله ومكانته، فليس هو بحاجة إلى أن ترفع مكانته ويبين شرفة بمثل هذه الأخبار الباطلة الموضوعة.

ج- دعوى الغلاة: جواز صرف بعض جوانب العبادة له صلى الله عليه وسلم:

وقد تفنن الغلاة في هذا

"فمن قائل يقول إنه يستغاث به في كل يستغاث فيه بالخالق بمعني أنه يطلب منه كما يطلب من الخالق.

فهؤلاء جعلوا الرسول صلى الله عليه وسلم يطلب منه الناس ما يطلبونه من الله تعالى.

فآذوا الرسول وأساؤا في حقه إذ سألوه ما لا يقدر عليه مخلوق وسووه برب

1 الآية (7) من سورة هود.

2 الآية (2) من سورة الملك.

3 الآية (7) من سورة الكهف.

4 انظر أضواء البيان (7/ 673- 677) .

ص: 716

العالمين وسلطوا عليه العامة، فهذا يطلب منه إنزال المطر، وهذا يطلب منه غفران الذنوب، وهذا يطب منه النصر على الأعداء، وهذا يطلب منه أن يتزوج، وهذا يطلب منه الولد.

وهذا يطلب منه المعيشة وهذا يطلب منه الملك، وهذا يطلب منه الولاية، وهذا يطلب منه قضاء دينه، وهذا يطلب منه شفاء مريضه إلى غير ذلك من الأمور فنزلوا المخلوق منزلة الإله وطلبوا منه من جلب المنافع ودفع المضار ما لا يقدر عليه إلا الله"1.

ومن نظم بعضهم في هذا قوله:

يا أكرم الرسل ما لي من ألوذ به

سواك عند حلول الحادث العمم

ولن يضيق رسول الله جاهك بي

إذا الكريم تجلى باسم منتقم

فإن لي ذمة منه بتسميتي

محمدًا وهو أوفى الخلق بالذم

إن لم يكن في معادى آخذا بيدي

فضلاً وإلا فقل يا زلة القدم 2

فنفى أن يكون له ملاذ إذا حلت به الحوادث، إلا النبي صلى الله عليه وسلم وليس ذلك إلا لله وحده لا شريك له، فهو الذي ليس للعباد ملاذ إلا إياه سبحانه وتعالى.

ودعاه وناداه بالتضرع وإظهار الفاقة والاضطرار إليه وسأل منه هذه المطالب التي لا تطلب إلا من الله، وذلك الشرك في الإلهية3.

ومن شعر بعضهم قوله:

ماذا تعامل يا شمس النبوة من

أضحى إليك من الأشواق في كبدي

1 الرد على البكري (ص 335، 336) بتصرف.

2 ديوان البوصيري (ص 248) .

3 تيسير العزيز الحميد (ص 187) .

ص: 717

فامنع جناب صريع لا صريخ له

نائي المزار غريب الدار مبتعدي

حليف ودك واه الصبر منتظر

لغارة منك يا ركني ويا عضدي

أسير ذنبي وزلاتي ولا عمل

أرجو النجاة به إن أما لم تجد

وجرى في شركه والى أن قال:

وحل عقدة كربي يا محمد من

هم على خطرات القلب مطرد

أرجوك في سكرات الموت تشهدني

كيما يهون إذ الأنفاس في صعد

وإن نزلت ضريحا لا أنيس به

فكن أنيس وحيد فيه منفرد

وارحم مؤلفها عبد الرحيم ومن

يليه من أجله وانعشه وافتقد

وإن دعا فأجبه واحم جانبه

من حاسد شامت أو ظالم نكد

وقوله من أخرى:

يا رسول الله يا ذا الفضل يا

بهجة الحشر جاها ومقاما

عد على عبد الرحيم الملتجى

بحمى عزك يا غوث اليتامى

وأقلني عثرتي يا سيدي

في اكتساب الذنب في خمسين عاما

وقوله:

يا سيدي يا رسول الله يا أملي

ويا موئلي يا ملاذي يوم يلقاني

هبني بجاهك ما قدت من زلل

جودا أو رجح بفضل منك ميزاني

واسمع دعائي واكشف ما يساورني

من الخطوب ونفسه كل أحزاني

فأنت أقرب من ترجى عواطفه

عندي وإن بعدت دارى وأوطاني

إني دعوتك من نيابتي برع

وأنت اسمع من يدعوه ذو شأن

فامنع جنابي وأكرمني وصل نسبى

برحمة وكرامات وغفران

لقد أنسانا هذا ما قبله، وهذا بعينه هو الذي ادعته النصارى في عيسى

ص: 718

عليه السلام، إلا أن أولئك أطلقوا عليه اسم الإله، وهذا لم يطقه ولكن أتى بلباب دعواهم وخلاصتها، وترك الاسم، إذ في الاسم نوع تمييز، فرأى الشيطان أن الإتيان بالمعني دون الاسم أقرب إلى ترويج الباطل، وقبوله عند ذوى العقول السخيفة، إذ كان من المتقرر عند الأمة المحمدية أن دعوى النصارى في عيسى عليه السلام كفر، فلو أتاهم بدعوى النصارى اسما ومعنى لردوه وأنكروه، فأخذ المعنى وأعطاه البرعى وإضرابه، وترك الاسم للنصارى وإلا فما ندرى ماذا أبقى هذا المتكلم الخبيث للخالق تعالى وتقدس من سؤال مطلب أو تحصيل مأرب، فالله المستعان1.

ويقول صاحب المواهب اللدنية: وينبغي للزائر -لقبره- أن يكثر من الدعاء والتضرع والاستغاثة والتشفع والتوسل والتوجه به لا فجدير بمن استشفع به أن يشفعه الله تعالى فيه فإن كلا من الاستغاثة والتوسل والتشفع والتوجه للنبي صلى الله عليه وسلم واقع في كل حال كل خلقه وبعده في مدة حياته في الدنيا وبعد موته في مدة البرزخ وبعد البعث في عرصات القيامة2.

ومن هؤلاء من يرى أن زيارة قبر النبي صلى الله عليه وسلم أفضل من الحج إلى الكعبة وأن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم والاستغاثة به أفضل من الاستغاثة بالله تعالى ودعائه3.

ومنهم من يظن أن الرسول يعلم ذنوبه وحوائجه وإن لم يذكرها وأنه يقدر على غفرانها وقضاء حوائجه ويقدر على ما يقدر عليه الله ويعلم ما يعلمه الله"4.

1 تيسير العزيز الحميد (189، 190) .

2 انظر الأنوار المحمدية (ص 604) .

3 الرد على البكري (ص 349) .

4 الرد على البكري (ص 30) .

ص: 719

ومنهم من يقول "إن النبي صلى الله عليه وسلم لا يخلو منه زمان ولا مكان" يريدون بذلك أنه ما من زمان إلا وهو فيه موجود، ولا من مكان إلا هو فيه موجود1.

ومنهم من يقول: "إنه يحضر في كل مجلس أو مكان أراد بجسده وروحه وأنه يتصرف حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته"2.

ومنهم من يقول في قوله تعالى {إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً} 3.

يقول: إن الرسول هو الذي يصبح بكرة وأصيلا.

ومنهم من يقول: اسقط الربوبية وقل في الرسول ما شئت.

دع ما ادعته النصارى في نبيهم

واحكم بما شئت مدحا فيه واحتكم

وانسب إلى ذاته ما شئت من شرف

وانسب إلى قدره ما شئت من عظم

فإن فضل رسول الله ليس له

حد فيعرب عنه ناطق بفم

لو ناسبت قدره آياته عظما

أحيا اسمه حين يدعى دارس الرم4.

ومنهم من يقول نحن نعبد لله ورسوله فيجعلون الرسول معبودا5.

بل لم يكتف غلاة الصوفية بهذا القدر حتى اعتقدوا أنه هو الله سبحانه ذاتًا وصفة6.

1 غاية الأماني (1/ 48) .

2 هذه هي الصوفية (ص 81) .

3 الآيتان (8، 9) من سورة الفتح.

4 ديوان البوصيري (ص 241) .

5 الرد على البكري (ص 219) .

6 هذه هي الصرفية (ص 74- 75) .

ص: 720

وكتب أصحاب البدع وعباد القبور مملؤة بالكثير من أنواع هذا الغلو وألوانه والذي لا يشك الموحد بكذبه وبطلانه.

وسأتطرق في المباحث القادمة للرد على أشهر تلك الأنواع، فنسأل الله الإعانة على ذلك.

ص: 721