الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الثالث: تحريف التوراة
مما سبق ذكره وبيانه عن التوراة يتضح أن الكتاب الذي بين يدي اليهود والنصارى لا سند له يمكن أن يعتمد عليه في صحة المعلومات الواردة فيه فلهذا لا يمكن لليهود ولا للنصارى أن ينفوا إمكانية التحريف، والعبث فيه خاصة وأن الذين استؤمنوا عليه وهم اليهود قد انحرفوا انحرافات خطيرة في الدين، وكفر كثير منهم، وأعرضوا عن دين الله، وتركوه رغبة عنه، وحباً للدنيا، وإيثاراً لها وهذا ظاهر واضح لكل من طالع سجل تاريخهم وهو العهد القديم.
فمع هذا الإنحراف والفساد كيف يمكن أن تسلم التوراة من العبث والتحريف، هذا ما لا يقبله العقل السليم وواقع الإنسان. وسنذكر هنا ما يؤكد وقوع التحريف.
أولاً: أدلة التحريف من القرآن الكريم والتوراة
قد شهد الله عز وجل بتحريف اليهود لكتابهم وأبان عن هذا في القرآن الكريم في مواضع عديدة فمن ذلك قوله عز وجل: {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} البقرة آية (75) .
فهذا فيه دلالة على أنهم غيروا وبدلوا عن إصرار وعلم.
وقوله عز وجل: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ
عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ} البقرة آية (79) .
وقوله عز وجل: {وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} آل عمران الآية (78) .
فهذا فيه دلالة على أنهم أدخلوا في كلام الله ما ليس منه، وافتروا على الله الكذب بأن نسبوا إليه سبحانه ما لم يقله وهم يعلمون ذلك فجوراً منهم، وجرأة على الله تعالى وتقدس.
وقوله عز وجل: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ} الأنعام آية (91) .
فهذا فيه دلالة على أنهم قد أَخفَوا وكتموا ما عندهم من علم وما أنزل الله عليهم من كتاب حسب أهوائهم.
وقوله تعالى: {فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة الآية (13) .
وفي هذه الآية دلالة واضحة على التحريف وعلى أنهم نسوا حظاً أي نصيباً وجزءاً مما أنزل عليهم.
وهذا جزاء من الله عز وجل لهم بسبب كفرهم وفسادهم وسابق تحريفهم ونقضهم للميثاق.
كما ورد في كتابهم ما يتفق مع ما ذكره الله عز وجل عنهم فمن ذلك ما ورد
في سفر إرميا (8/8) مما ينسب إلى الله عز وجل القول "كيف تقولون نحن حكماء وشريعة الرب معنا، حقاً إنه إلى الكذب حولها قلم الكتبة الكاذب، خَزِىَ الحكماء إِرتاعو وأُخِذُوا هاقد رفضوا كلمة الرب".
فهذا النص من نبي من أنبيائهم الكبار على ما ذكروا وكان في عصر متأخر، قد عاصر إنحرافاتهم وذلك قبيل الغزو البابلي وسبى اليهود، وهو نص على تركهم لدين الله وتحريفهم لشريعته، وأن الكتبة الموكلون بالكتب المنزلة قد حولوها إلى الكذب والزور.
ثانياً: الأمثلة على وقوع التحريف في التوراة
الأمثلة على وقوع التحريف في التوراة كثيرة جداً نذكر بعضاً منها:
أولاً: الاختلاف في عدد الأسفار
مما هو معلوم أن بين يدي اليهود والنصارى ثلاث نسخ مشهورة من التوراة والعهد القديم. ومن هذه النسخ تتفرع سائر الترجمات تقريباً وهي:
1-
النسخة العبرية
وهي المقبولة والمعتبرة لدى اليهود وجمهور علماء البروتستانت النصارى وهي مأخوذة من الماسورية وما ترجم عنها.
2-
النسخة اليونانية
وهي المعتبرة لدى النصارى الكاثوليك والأرثوذكس وهي التي تسمى السبعينية وما ترجم عنها.
3-
النسخة السامرية
وهي المعتبرة والمقبولة لدى اليهود السامريين.
وإذا عقدنا مقارنة بين النسخ الثلاث من ناحية عدد الأسفار نجد أن النسخة العبرية تسعة وثلاثون سفراً فقط.
أما النسخة اليونانية فهي ستة وأربعون سفراً حيث تزيد سبعة أسفار عن النسخة العبرية ويعتبرها النصارى الكاثوليك والأرثوذكس مقدسة.
أما النسخة السامريه فلا تضم إلا أسفار موسى الخمسة فقط1 وقد يضمون إليها سفر يوشع فقط2 وما عداه فلا يعترفون به ولا يعدونه مقدساً.
فهذا الاختلاف الهائل بين النسخ لكتاب واحد، والكل يزعم أنه موحى به من قبل الله عز وجل، ويدعي أن كتابه هو الكتاب الحق وما عداه باطل مع عدم القدرة على تقديم الدليل القاطع على صحة ما يدعيه، فذلك دليل على التحريف من قبل المتقدمين، وأن المتأخرين استلموا ما وصل إليهم بدون نظر في ثبوته أو عدم ثبوته، أو أن المتأخرين وصلتهم كتب عديدة ومتنوعة فأدخلوا ما رأوا أنه مناسب وذو دلالات مهمة، وحذفوا ما رأوا عدم تناسبه مع ما يعتقدون أو يرون، بدون أن يكون لهم دليل صحيح على إضافة ما أضافوا من الأسفار أو حذف ما حذفوا منها.
ثانياً: الاختلاف والتباين بين النسخ في المعلومات المدونة:
إذا قارنا بين النسخ الثلاث فيما اتفقت في ذكره من أخبار وقصص نجد بينها تبايناً شديداً واختلافاً كبيراً ومن الأمثلة على ذلك:
1-
أن اليهود ذكروا تاريخ مواليد بني آدم إلى نوح عليه السلام ونصوا على عمر كل واحد منهم، وكذلك عمره حين ولد له أول مولود، وبعقد مقارنة بين أعمار من ذكروا حين ولد لهم أول مولود تتبين إختلافات واضحة بين
1 هذا حسب النسخة العربية التي ترجمها الكاهن السامري أبو الحسن اسحاق الصوري ونشرها د. أحمد حجازي السقا.
2 ذكر هذا الدكتور/ سيد فراج راشد في كتابه "السامريون واليهود" ص111.
النسخ الثلاث فمن ذلك:
الاسم
…
العبرانية
…
السامرية
…
اليونانية
آدم
…
130
…
130
…
230
شيث
…
105
…
105
…
205
آنوش
…
90
…
90
…
190
قينان
…
70
…
70
…
170
يارد
…
162
…
62
…
262
متوشالح
…
187
…
67
…
187
الزمان من خلق آدم إلى الطوفان.
…
1656
…
1307
…
2262
فهذه أمثلة تدل على تحريفهم وتبديلهم لكلام الله -إن ثبت أن ما سبق هو من كلام الله المنزل- حيث لا يمكن الجمع بين هذه الروايات المتناقضة.
ثالثاً: الاختلاف بالمقارنة مع ما ذكروه في مواضع أخرى من كتابهم:
1-
ذكروا في سفر التكوين أن سفينة نوح استقرت بعد الطوفان على جبال أراراط1 بعد سبعة أشهر وسبعة عشر يوماً ثم ذكروا أن رؤوس الجبال بعد الطوفان لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر.
وهذا نص كلامهم في سفر التكوين (8/4)"واستقر الفلك في الشهر السابع في اليوم السابع عشر من الشهر على جبال أراراط وكانت المياه تنقص نقصاً متوالياً إلى الشهر العاشر وفي العاشر في أول الشهر ظهرت رؤوس الجبال".
ففي هذا تناقض ظاهر فكيف رست السفينة على الجبال بعد سبعة أشهر مع
1 يقصدون بها جبال أرمينيه في آسيا الوسطى. أنظر قاموس الكتاب المقدس ص42.
أن رؤوس الجبال لم تظهر إلا في أول الشهر العاشر؟!
2-
ذكروا أن الله أمر نوحاً أن يحمل في الفلك من كل جنس إثنين، فقالوا في سفر التكوين (6/19)"ومن كل حي من كل ذي جسد اثنين من كل تدخل إلى الفلك لاستبقائها معك، تكون ذكراً وأنثى من الطيور كأجناسها، ومن البهائم كأجناسها، ومن كل دبابات الأرض كأجناسها".
وبعده مباشرة ذكروا أن الله أمره أن يأخذ من كل جنس سبعة سبعة ذكراً وأنثى ماعدا البهائم غير الطاهرة فيأخذ اثنين. ففي سفر التكوين (7/2) قالوا "من جميع البهائم الطاهرة تأخذ معك سبعة سبعة ذكراً وأنثى، ومن البهائم التي ليست بطاهرة إثنين ذكراً وأنثى، ومن طيور السماء أيضاً سبعة سبعة ذكراً وأنثى، لاستبقاء نسل على وجه كل الأرض".
3-
ذكروا في سفر الخروج (24/9) أن موسى وهارون وشيوخ إسرائيل رأو الله فقالوا: "ثم صعد موسى وهارون وناداب وأبيهو وسبعون من شيوخ إسرائيل. ورأو إله إسرائيل وتحت رجليه شبه صنعة من العقيق الأزرق الشفاف وكذات السماء في النقاوة، ولكنه لم يمد يده إلى أشراف إسرائيل. فرأو الله وأكلوا وشربوا".
هكذا زعموا في هذا الموضع وفي سفر التثنية (44/12) زعموا أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام ممتناً عليه وعلى بني إسرائيل "فكلمكم الرب من وسط النار وأنتم
سامعون صوت كلام ولكن لم ترو صورة بل صوتاً
…
فاحتفظوا جداً لأنفسكم. فإنكم لم ترو صورة ما
…
".
فهذا فيه أنهم لم يرو الله عز وجل وهذا الحق فهم لم يروا الله عز وجل إلا أن فيه بيان تناقض كلامهم.
4-
قالوا في سفر الخروج (33/11) في كلام الله لموسى "ويكلم الرب موسى وجهاً لوجه كما يكلم الرجل صاحبه".
ففي هذا يزعمون أن الكلام يتم مقابلة مما يوحي بأن موسى عليه السلام يرى وجه الله تعالى حين يكلمه.
وفي نص آخر بعد هذا يقولون إن الله قال لموسى لما طلب أن يراه سفر الخروج (33/20)"لا تقدر أن ترى وجهي لأن الإنسان لا يراني ويعيش".
فهنا ذكروا أن الله تعالى نفى أن يستطيع موسى أو أي إنسان رؤية وجهه عز وجل. وفي هذا تناقض واضح مع ما قبله ودليل على التحريف.
والحق أن موسى عليه السلام لم ير الله عز وجل، كما ذكر ذلك ربنا جل وعلا في القرآن الكريم حيث قال {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً} الأعراف آية (143) .
5-
أنهم ذكروا أن الله تعالى قال لإبراهيم عليه السلام كما في سفر التكوين (22/2)"خذ ابنك وحيدك الذي تحبه إسحاق واذهب إلى أرض المريا وأصعده هناك محرقة على أحد الجبال"
فلاشك أن هذا خطأٌ، لأن إسحاق عليه السلام لم يكن وحيد إبراهيم عليه
السلام بل الذي كان وحيده هو بكره إسماعيل عليه السلام حيث نص اليهود في كتابهم على أن إسماعيل عليه السلام ولد قبل إسحاق عليه السلام حيث ختّن وعمره ثلاث عشرة سنة ولم يكن إسحاق ولد بعد وفي هذا قالوا في سفر التكوين (17/25) ."وكان إسماعيل ابن ثلاث عشرة سنة حين ختن في لحم غرلته، في ذلك اليوم عينه ختن إبراهيم وإسماعيل ابنه "
ثم ذكروا بعد ذلك بشارة الملائكة بإسحاق حين ضافوا إبراهيم عليه السلام وهم في طريقهم إلى قوم لوط1 والذي يبدو أن اليهود حسدوا أبا العرب إسماعيل عليه السلام على هذه المنقبة العظيمة فغيروا وحرفوا لأجل ذلك.
رابعاً: الزيادة والإضافات:
توجد في التوراة العديد من الجمل التي لا يمكن أن يصح نسبتها إلى موسى عليه السلام ومن ذلك:
1-
أن الكتاب من أوله إلى آخره مليء بقولهم "وقال الرب لموسى""وقال موسى للرب""وحدَّث موسى الشعب" ونحو ذلك من العبارات التي تدل على الحكاية والرواية مما يقطع بأنها ليست من كلام موسى عليه السلام ولا من كلام الله عز وجل.
1 يلاحظ أن الله عز وجل بعد أن ذكر قصة الذبح قال: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِنَ الصَّالِحِينَ} الصافات الآية (112) ، وقال في بشارة الملائكة {وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ. فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ} هود آية (69-71) . فيستخلص من النص الوارد في القرآن الكريم والنص الذي ذكره اليهود تأكيد أن الذبيح إسماعيل عليه السلام، وليس إسحاق عليه السلام.
2-
جاء في سفر التكوين (36/31)"وهؤلاء هم الملوك الذين ملكوا في أرض أدوم قبلما مَلَك ملكٌ لبني اسرائيل" فهذه العبارة لا يمكن أيضا أن تكون من كلام موسى عليه السلام إذ أن ملوك بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام بزمن طويل.
3-
جاء في سفر التثنية في آخره (34/5) حكاية وفاة موسى ودفنه فقالوا: "فمات هناك موسى عبد الرب في أرض مؤاب حسب قول الرب ودفنه في الجواء في أرض مؤاب مقابل بيت فغور ولم يعرف إنسان قبره إلى هذا اليوم".
فهذا النص لاشك أنه أُدخل في الكتاب وليس منه، إذ ليس من المعقول أن يكتب موسى عليه السلام موته ودفنه، وأن إنساناً لا يعرف قبره إلى يوم كتابة ذلك الكلام.
وببعض ما ذكرنا يستدل اللبيب والعاقل على أن اليهود لم يحافظوا على كلام الله وكتبه بل ضيعوها وحرفوها وغيروا فيها وبدلوا وأضافوا وحذفوا حسب أهوائهم وشهواتهم وأغراضهم.