الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
المطلب الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة
تمهيد:-
الإنجيل كلمة يونانية تعني الخبر الطيب1 (البشارة) .
والإنجيل عند المسلمين: هو الكتاب الذي أنزله الله تعالى على
عيسى عليه السلام فيه هدى ونور. قال تعالى: {وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْأِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ} المائدة آية (46) .
وقد دعا المسيح عليه السلام بني إسرائيل للأخذ بالإنجيل والإيمان به، فقد جاء في إنجيل مرقص (1/14) :"وبعدما أُسلم يوحنا جاء يسوع إلى الجليل يكرز ببشارة ملكوت الله، ويقول: قد كمل الزمان واقترب ملكوت الله فتوبوا وآمنوا بالإنجيل".
وقد ذكر هذا الإنجيل أوائل النصارى ودعوا إلى الإيمان به، وفي هذا يقول سفر أعمال الرسل 8/25 عن بطرس ويوحنا في دعوتهما للسامريين من اليهود "وكما شهدا وتكلما بكلمة الرب رجعا إلى أورشليم وبشرا بالإنجيل في قرى كثيرة للسامريين"2
1 قاموس الكتاب المقدس ص 120.
2 هذا النص مأخوذ من نسخة الكتاب المقدس المطبوعة في لبنان عام 1992م بعناية اغناطيوس زيادة/ دار الكتاب المقدس في الشرق الأوسط، أما النسخة المعربة عن العبرانية التي استخدمها في العادة والمكتوب عليها "دار الكتاب المقدس في القاهرة" وهي النسخة البروتستانتية لا يوجد فيها كلمة الإنجيل في هذا الموضع.
وذكره بولس أيضاً في رسائله، مثل قوله في رسالته الأولى إلى أهل تسالونيكي (2/2) "جاهرنا في إلهنا أن نكلمكم بإنجيل الله في جهاد كثير لأن وعظنا ليس عن ضلال ولا عن دنس ولا بمكر، بل كما اسْتُحْسِنا من الله أن نؤتمن على الإنجيل هكذا نتكلم
…
ثم يقول -:
…
فإنكم أيها الأخوة تذكرون تعبنا وكدنا إذ كنا نكرز لكم بإنجيل الله.." 1.
فإذاً الإنجيل كان كتاباً موجوداً ومعروفاً لدى النصارى الأوائل بأنه إنجيل الله أو إنجيل المسيح، إلا أن هذا الإنجيل لا نجده بين الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى اليوم: فأين هو؟ 2
1 وانظر أيضاً ذكره للإنجيل في رسالته إلى أهل روميه (1/1،9،16) ورسالته الأولى إلى تيموثاوس (1/11) .
2 يزعم بعض النصارى أن المسيح لم ينزل عليه شيء ولم يترك كتاباً مكتوباً، وذكروا أن الأناجيل كان مبدؤها من الأجيال اللاحقة للمسيح، وذكروا أن المراد بالإنجيل في كتبهم هو إعلان مجد الله الذي هو في زعمهم تجسد المسيح - انظر المدخل إلى العهد الجديد ص 76-78، أديان العالم ص257. وهذا منهم ذر للرماد في العيون من أن تبصر الحقيقة، وهي أن النصارى ضيعوا الإنجيل الأصلي، واستبدلوه بأناجيل فيها شيء من الحق وكثير من الباطل، فهل من المعقول أن يترك المسيح أتباعه بدون أن يسلمهم تعاليم يهتدون بها وهم في وسط ذلك الوضع الذي كانوا فيه بين اليهود الحاقدين المعاندين وبين الرومان وغيرهم من الوثنيين الجاهلين، ثم إن ما تدعيه النصرانية في المسيح عليه السلام من الدعاوى يحتاج إلى أدلة كتابية من صاحب الدعوى نفسه لا من غيره، لأن المؤمنين إنما يؤمنون بكلام النبي الذي يثقون به لا كلام غيره من الناس، إذ أن غيره قد يفهم عنه خطأً أو يهم أو ينسى أو غير ذلك من العوارض البشرية، كما أن معنى ذلك أن تلاميذ المسيح أو تلاميذ تلاميذه أصح من المسيح رأياً وانصح منه للخلق إذ كتبوا ودونوا واهتموا بالكتابة حتى يمكن لتعاليمه أن تنتشر لأنه بدون الكتابة لا يمكن لديانة أن تنتشر وتظهر، فهل يليق أن يقال ذلك عن المسيح الذي هو في زعمهم رب وإله؟!
على النصارى أن يجيبوا على هذا السؤال، أو يعترفوا بأنهم فقدوه في زمن مبكر من تاريخهم، ولعل هذا هو الأرجح. إذ يقول الله عز وجل:{وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} المائدة آية (14) .
وقد صار عند النصارى بدل الإنجيل الواحد أربعة أناجيل يجعلونها في مقدمة كتابهم العهد الجديد، ولا ينسبون أياً منها إلى المسيح عليه السلام، وإنما هي منسوبة إلى متى ومرقص ولوقا ويوحنا - الذي يزعم النصارى أن اثنين منهم من الحواريين وهما متى ويوحنا، والآخران أحدهما مرقص تلميذ بطرس، والآخر لوقا تلميذ بولس في زعمهم.
وهذه الأناجيل تحوي شيئاً من تأريخ عيسى عليه السلام حيث ذُكِرَ فيها ولادته، ثم تنقلاته في الدعوة، ثم نهايته بصلبه وقيامته في زعمهم، ثم صعوده إلى السماء.
كما تحتوي على مواعظ منسوبة إليه وخطب ومجادلات مع اليهود ومعجزات كان يظهرها للناس دليلاً على صدقه في أنه مرسل من الله، فهذه الأناجيل أشبه ما تكون بكتب السيرة، إلا أن بينها إختلافات ليست قليلة، وبعضها إختلافات جوهرية لا يمكن التوفيق بينها إلا بالتعسف كما سيتبين.
والقارئ لهذه الأناجيل الأربعة يستطيع بسهولة أن يدرك أن ما ورد فيها من دعوة وخطب ومواعظ ومجادلات تعود إلى مطلبين أساسيين، هما:
1-
الدعوة إلى التوبة والعمل بما جاء في الشريعة التي أنزلت على موسى عليه السلام.
2-
التبشير بقرب قيام مملكة الله التي يتحقق فيها العدل والمساواة1.
1 انظر: المسيحية نشأتها وتطورها: شارل جنيبر ص 49، النصرانية والإسلام محمد عزت الطهطاوي ص 14.
أولاً: تاريخ الأناجيل الأربعة إجمالاً:
قبل الحديث عن تاريخ الأناجيل الأربعة لدى النصارى لابد من بيان: أن الكتب الدينية لها مكانة عظيمة لدى أتباعها، ولها دور خطير في الحياة، إذ يعتمد عليها في توضيح الطريق إلى سعادة الدنيا وفوز الآخرة. فلهذا يجب أن تكون الكتب ثابتة الإسناد إلى أصحابها الذين هم رسل الله والمبلغون عن الله عز وجل، فإذا لم تكن كذلك فإنها تفقد قيمتها، إذ تكون عرضة للتحريف والتبديل من قبل أصحاب الأهواء والمقاصد الخبيثة، أو من قبل العوارض البشرية كالنسيان، وقلة العلم، والوهم ونحو ذلك.
فصحة الإسناد بعدالة رواة الأخبار وضبطهم وعدم انقطاعه هو السبيل الذي يمكن به وصول هذه الكتب إلى الناس سليمة صحيحة كاملة، فيتعرف الناس على الحق من خلالها.
وإذا نظرنا في كتب الحديث عند أهل الإسلام والتي تتضمن أقوال نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وأفعاله وتقريرا ته وجميع ما يتعلق به، عرفنا الجهد العظيم الذي بذله أولئك الأئمة في المحافظة على حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سليماً صحيحاً، حيث يستطيع المسلم في القرن الخامس عشر الهجري أن يعرف صحة الحديث من عدمها.
وإذا بحثنا في التاريخ لدى النصارى عن إسناد لهذه الأناجيل إلى من تنسب إليه لا نجد من ذلك شيئاً البتة لا قليلاً ولا كثيراً. ورسائل بولس وكذلك الرسائل الأخرى وأعمال الرسل ليس في شيء منها إشارة إلى واحد من هذه الكتب الأربعة، الأمر الذي يترتب عليه أن هذه الكتب لم تكن معروفة
في ذلك الزمن ولم يطلع عليها أحد منهم، وفي هذا دلالة قوية على أن نشأة هذه الكتب وظهورها كان متأخراً عن هذه الرسائل، بخلاف إنجيل الله أو إنجيل المسيح فقد ورد ذكره في كلام بولس مراراً عديدة، كما ورد ذكره في إنجيل مرقص، وأعمال الرسل مما يدل على وجوده وأنه معروف معلوم1.
وقد حاول النصارى أن يجدوا لهذه الكتب إسناداً أو إخباراً عنها في كلام متقدميهم يتفق مع الزمن الذي يزعمون أنها كتبت فيه، وهو الربع الأخير من القرن الأول الميلادي على أكثر تقدير. إلا أن هذه المحاولات باءت بالفشل الذريع، مما اضطرهم إلى الاعتراف بأن هذه الكتب لم تعرف إلا بعد موت من تنسب إليه بعشرات السنين، فتكون نسبتها إلى أولئك الناس نسبة لا تقوم على أدنى دليل، وإليك بعض كلام النصارى في هذا الأمر:
يقول القس فهيم عزيز الأستاذ بكلية اللاهوت الإنجيلية: "لكن قانونية2 أسفار العهد الجديد لم تتم في وقت واحد ولم يكفها جيل أو جيلان بل استمرت مدة طويلة، ولم تقف الكنائس المختلفة موقفاً موحداً من الأسفار المختلفة، بل إختلفت آراؤها من جهة بعض الأسفار واستمرت في ذلك حقبة طويلة، فلهذا فيلزم تتبع هذا التاريخ الطويل لقانونية أسفار العهد الجديد.
الكنيسة الأولى: يوم الخمسين 3 -100م:
من المعلوم جيداً أنه لم تكن في تلك الفترة كتب مقدسة تسمى العهد
1 سبق ذكر ذلك ص 171.
2 ذكر الدكتور القس فهيم عزيز أن المراد بكلمة "القانون" هو الكتاب الذي اعترفت به الكنيسة، فقانونية العهد الجديد أي اعتراف الكنيسة بالعهد الجديد.
3 يوم الخمسين: هو من الأعياد اليهودية، ويزعم النصارى أن الروح القدس بعد رفع المسيح حل على الحواريين في يوم الخمسين فتكلموا بلغات كثيرة، ويتخذ النصارى ذلك اليوم عيداً يسمونه عيد العنصره. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 350.
الجديد1، ولكن الكنيسة لم تمكث بدون مصادر إلهية تستند عليها في كل شيء من وعظ وتعاليم وسلوك ومعاملات، وقد كان لها في هذا المجال ثلاثة مصادر".
ثم ذكر أن المصادر الثلاثة هي: العهد القديم، المسيح، الرسل، ثم قال:
" ثانياً: 100-170م ظهور الكتب القانونية في العهد الجديد:
كانت أول مجموعة عرفتها الكنيسة من العهد الجديد هي مجموعة رسائل بولس. فهي أول ما جمع من كل كتب العهد الجديد 2، ولقد كتب بولس رسائله إلى كنائس وأفراد لظروف خاصة ومواقف محدده..
ثم قال: أما المجموعة الثانية: فهي مجموعة الأناجيل الأربعة، وقد ظهرت هذه المجموعة متأخرة بعض الوقت عن مجموعة كتابات بولس. ومع أن تاريخ إعتبارها كتباً قانونية مقدسة متساوية في ذلك مع كتب العهد القديم لا يزال مجهولاً3، لكن الاقتباسات العديدة التي وجدت في كتابات آباء الكنيسة الرسوليين وشهاداتهم تلقى بعض الضوء على هذه الحقيقية الجوهرية في العصر المسيحي ويلاحظ الدارس الأمور الآتية:
1 مراده أنه إلى نهاية عام 100م ليس هناك ما يعرف بالعهد الجديد، أي أن الأناجيل والكتب الأخرى غير معروفة في ذلك الزمن، وإنما كتبت ودونت بعد ذلك.
2 إن انتشار رسائل بولس وتداولها قبل الأناجيل له معنى خطير، وهو أنه أملي على الناس ما يعتقدون من خلال رسائله، فتكون الأناجيل كتبت بعد أن تشبع أصحابها بالعقيدة البولسية.
3 يقصد أنه لا يعرف متى صارت هذه الأناجيل والرسائل مقدسة لدى النصارى.
1-
أن بولس لم يشر في كتاباته إلى أي من الأناجيل المكتوبة ولا إلى أي كتاب عن حياة المسيح أو أقواله.." 1
ثم ذكر المصنف سبع نقاط أخرى أورد في بعضها إقتباسات لمتقدمين من النصارى تتوافق في بعضها مع ما ورد في بعض الأناجيل بدون النص على اسم الإنجيل. 2
وأهم ما ذكره من الملاحظات هي قوله في الملاحظتين السابعة والثامنة:
7-
أما جاستن أو يوستينوس الشهيد3 الذي كان سامرياً يونانياً وتحول إلى المسيحية ودرس في روما واستشهد حوالي 165 م فيؤخذ من كتاباته أنه قد عرف الأناجيل الأربعة مرتبطة معاً، مع أنه لم يكشف النقاب عمن جمعها ولا في أي مكان جمعت، وهو يصفها عندما يذكرها في دفاعه ضد الوثنيين بأنها الذكريات، ولكنه عندما كان يكتب للمسيحين كان يقول عن الرسل4: "هم أولئك الذين كتبوا ذكرياتهم عن كل الأشياء
1 سبق بيان أن بولس ذكر مراراً إنجيل الله كما سبق التعليق على نحو كلام القسيس هنا انظر ص 171-172.
2 مراده بالإقتباسات هنا: ورود بعض العبارات في كتب المتقدمين تتفق مع ما يوجد في الأناجيل، إلا أن هذا ليس دليلاً على وجود تلك الأناجيل في تلك الفترة، واطلاع أولئك الكتاب الذين اقتبسوا تلك الجمل والعبارات عليها إلا باحتمال ضعيف، والإحتمال الأقوى هو أن الجميع كانوا يأخذون من مصدر واحد كان متوفراً ومبثوثاً في كتب عديدة، أو أن الروايات الشفوية كانت منتشرة يحفظ هذا منها قليلاً وذاك منها قليلاً. وهذا أمر آخر غير ما يدعي في الأناجيل.
3 سيأتي التعريف به في عوامل تحريف رسالة المسيح عليه السلام.
4 يلاحظ هنا أن النصارى يستخدمون كلمة الرسل يعبرون بها عن دعاة النصارى الأوائل باعتبار أنهم رسل ربهم المسيح أو رسل الروح القدس.
التي تختص بيسوع المسيح المخلص." ثم يقول مرة أخرى "الذكريات1 التي عملها الرسل التي تسمى الأناجيل "2.
8-
أما الشاهد الأخير فهو "الديا طسرن" الذي كتبه "تاتيان"3، وأراد أن يجمع فيه الأناجيل الأربعة معاً في إنجيل واحد، وقد أضاف تاتيان هذا بضعة كلمات للمسيح لا توجد في هذه الأناجيل، ولكنها أخذت من كتب أبوكريفيه4 أخرى، وهو بذلك يشهد أن الأربعة الأناجيل وجدت معاً، ولكن إضافاته مجرد إقتباسات لا تدل على أنه كان يعتبر أن هناك كتباً أخرى تضارعها في سلطانها وقداستها5"6.
وبعد هذا النقل عن أحد القسس المتعمقين والمتخصصين في دراسات العهد الجديد، ننقل كلام مجموعة من المتخصصين النصارى عن أناجيلهم وذلك
1 قوله هنا "الذكريات" لها دلالة واضحة في أن ما كتب كان قد مضى عليه زمناً طويلاً، فاحتمال النسيان والخطأ وعدم الدقة في نقل الألفاظ والأحداث، إلى غير ذلك وارد فيها
مما لا يجعلها أهلاً أن تكون كتباً مقدسه يهتدي بكل تشريع فيها ويصدق كل حدث ورد بها.
2 هذا الشهادة لا قيمة لها لأن جاستن لم ينص على اسم واحد من الأناجيل الأربعة، كما أن الفترة التي يتحدث عنها الكاتب كان فيها لدى النصارى عشرات الأناجيل التي تنسب إلى من يزعم النصارى أنهم تلاميذ المسيح، وقد رفضها النصارى فيما بعد عدا الأناجيل الأربعة، فإذاً احتمال أنه يشير إلى غير هذه الأربعة المعروفة احتمال قوي.
3 سيأتي التعريف به في فصل عوامل انحراف النصرانية.
4 أبوكر يفيه: أي غير قانونية ولا معترف بها. انظر قاموس الكتاب المقدس ص 18.
5 تناقض القسيس في كلامه هنا، فهو من قبل زعم أنه لا يعرف تاريخ اعتبار الأناجيل الأربعة قانونية ومقدسة، وهو هنا يزعم أن تاتيان كان يرى قداسة الأناجيل الأربعة وأن غيرها لا يضارعها في ذلك. وهذا تناقض واضح.
6 المدخل إلى العهد الجديد. دار الثقافة المسيحية. مطبعة دار الجيل مصر. ص 146-152.
في المدخل إلى العهد الجديد1 قالوا في التعريف بتأريخ وقانونية العهد الجديد ما يلي:
" لقد سيطرت على المسيحيين الأوائل فكرة، تناقلتها الألسن شفاهاً - تعلن إنتهاء هذا العالم سريعاً وعودة المسيح ثانية إلى الأرض ليدين الناس، وكان من بين نتائج هذا المعتقد أن توقف التفكير في تأليف كتابات مسيحية تسجل أخبار المسيح وتعاليمه، فتأخر لذلك تأليف الأناجيل، إذ لم يشرع في تأليف أقدمها - وهو إنجيل مرقس الذي لم يكن قط من تلاميذ المسيح - إلا بعد بضع عشرات من السنين، لقد كانوا يؤمنون بنهاية العالم وعودة المسيح سريعاً إلى الأرض: قبل أن يكمل رسله التبشير في مدن إسرائيل وهي عملية لا تستغرق أكثر من عدة أشهر أو بضع سنين على أكثر تقدير.....
"الحق أقول لكم: لا تكملون مدن إسرائيل حتى يأتي ابن الإنسان" متى 10/23".
- وقبل أن يموت عدد من الذين وقفوا أمامه يستمعون إلى تعاليمه ومواعظه. وهي فترة يمكن تقديرها دون خطأ يذكر في حدود خمسين عاماً على أقصى تقدير:
"الحق أقول لكم إن من القيام ههنا قوم لا يذوقون الموت حتى يروا ابن
1 هذا ليس هو الكتاب السابق وإنما هو توافق في المسمى، والمراد بـ "المدخل إلى العهد الجديد" هنا هو المقدمة التي يجعلها النصارى في بعض الأحيان مقدمة كتابهم المقدس للتعريف به، وهذه المعلومات مأخوذة من مدخل إلى العهد الجديد للكاثوليك وعنوانه " العهد الجديد" منشورات دار المشرق- بيروت 1985- الطبعة العاشرة اعتماد:"بولس باسيم" النائب الرسول للاتين" وقد نقلت النص بواسطة من الكتاب القيم "إختلافات في تراجم الكتاب المقدس" لأحمد عبد الوهاب. وذلك لعدم تمكين من الحصول على طبعة الكتاب المقدس التي تحتوي على تلك المعلومات.
الإنسان آتياً في ملكوته" متى (16/28)
- وهو يعود ثانية إلى الأرض قبل أن يفنى ذلك الجيل الذي عاصر المسيح، وهي فترة لا تتجاوز أقصى ما قدرناه، أي خمسين عاماً:
....... "الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا كله" متى (24/24) .
ومعلوم أن ذلك كله لم يحدث، إذ لا يزال الكون قائماً، وبنو آدم يعيشون في عالمهم الدنيوي حتى يأتي أمر الله، هذا - ولما بردت الحمية التي أثارتها فكرة عودة المسيح سريعاً إلى الأرض، ظهرت الحاجة ماسة إلى تدوين الذكريات عنه وعن تعاليمه، ومن هنا كانت النواة لتأليف أسفار – ما صار يعرف فيما بعد باسم - العهد الجديد، وهي الأسفار التي لم يعترف بشرعيتها إلا على مراحل وعلى امتداد أكثر من ثلاثة قرون.
إن كلمة "قانون" اليونانية مثل كلمة "قاعدة" في العربية قابلة لمعنى مجازي يراد به قاعدة للسلوك أو قاعدة للإيمان، وقد استعملت هنا للدلالة على جدول رسمي للأسفار التي تعدها الكنيسة ملزمة للحياة وللإيمان.
ولم تندرج هذه الكلمة بهذا المعنى في الأدب المسيحي إلا منذ القرن الرابع1، كانت السلطة العليا في أمور الدين تتمثل عند مسيحي الجيل الأول في مرجعين.
أولهما: العهد القديم، وكان الكتبة المسيحيون الأولون يستشهدون بجميع أجزائه على وجه التقريب إستشهادهم بوحي الله.
1 أي أن الأناجيل الأربعة لم يكن معترفاً بها إلا في القرن الرابع الميلادي.
وأما المرجع الآخر الذي نما نمواً سريعاً، فقد أجمعوا على تسميته: الرب1.
ولكن العهد القديم كان يتألف وحده من نصوص مكتوبة، وأما أقوال الرب وما كان يبشر به الرسل، فقد تناقلتها ألسنة الحفاظ2 مدة طويلة، ولم يشعر المسيحيون الأولون إلا بعد وفاة آخر الرسل بضرورة3 كل من: تدوين أهم ما علَّمه الرسل، وتولى حفظ ما كتبوه 4.
ويبدو أن المسيحيين حتى ما يقرب من السنة 150 م تدرجوا من حيث لم يشعروا بالأمر إلا قليلاً جداً إلى الشروع في إنشاء مجموعة جديدة من الأسفار المقدسة، وأغلب الظن أنهم جمعوا في بدء أمرهم رسائل بولس واستعملوها في حياتهم الكنسية، ولم تكن غايتهم قط أن يؤلفوا ملحقاً بالكتاب المقدس، بل كانوا يَدَعُون الأحداث توجههم، فقد كانت الوثائق البولسية مكتوبة، في حين أن التقليد الإنجيلي كان لا يزال في معظمه متناقلاً على ألسنة الحفاظ.
ولا يظهر شأن الأناجيل طوال هذه المدة ظهوراً واضحاً كما يظهر شأن رسائل بولس 5.
1 مرادهم بالرب هنا هو المسيح عليه السلام والمقصود أقواله المأثورة عنه.
2 قولهم الحفاظ هنا كلمة فيها تجوُّز شديد يتبين هذا من خلال النظر فيما دُوِّن وأنه مليء بالأخطاء والاختلافات، كما أنه لا يعرف في تاريخ النصارى الأوائل تدارس تلك الروايات المنقولة عن المسيح والاجتهاد في حفظها على الوجه الذي يكون مقبولاً ويحق معه إطلاق صفة الحفاظ عليهم.
3 هذا فيه اعتراف واضح بأن أياً من أتباع المسيح المباشرين لم يكتب إنجيلاً ولم يمله على تلاميذه.
4 ليس هناك في الواقع أي دليل يثبت أن تلاميذ المسيح المباشرين كتبوا شيئاً من الأناجيل الموجودة بين يدي النصارى اليوم.
5 هذا فيه دلالة على أن الأناجيل لم تكتب إلا بعد رسائل بولس، لأنها لو كانت موجودة لما أمكن أن يعرض الناس عنها ويهملونها، وهي الأصل، ويهتموا برسائل بولس.
أجل لم تخل مؤلفات الكتبة المسيحيين الأقدمين من شواهد مأخوذة من الأناجيل أو تلمح إليها، ولكنه يكاد أن يكون من العسير في كل مرة الجزم: هل الشواهد مأخوذة من نصوص مكتوبة كانت بين أيدي هؤلاء الكتبة، أم هل إكتفوا باستذكار أجزاء من التقليد الشفهي؟
ومهما يكن من أمر، فليس هناك قبل السنة 140م أي شهادة تثبت أن الناس عرفوا مجموعة من النصوص الإنجيلية المكتوبة، ولا يذكر أن لمؤلَفٍ من تلك المؤلفات صفة ما يلزم، فلم يظهر إلا في النصف الثاني من القرن الثاني شهادات ازدادت وضوحاً على مر الزمن بأن هناك مجموعة من الأناجيل وأن بها صفة ما يلزم، وقد جرى الاعتراف بتلك الصفة على نحو تدريجي.
فيمكن القول أن الأناجيل الأربعة حظيت نحو السنة 170م بمقام الأدب القانوني وإن لم تستعمل تلك اللفظة حتى ذلك الحين.
لم يوضع (لم يستقر) الجدول التام للمؤلفات العائدة إلى القانون إلا على نحو تدرجي وكلما تحقق شيء من الاتفاق، فهكذا بجدر بالذكر ما جرى بين السنة 150م والسنة 200م إذ حدد على نحو تدرجي أن سفر أعمال الرسل مؤلف قانوني، وقد حصل شيء من الإجماع على رسالة يوحنا الأولى.
ولكن مازال هناك شيء من التردد في بعض الأمور: فإلى جانب مؤلفات فيها من الوضوح الباطني ما جعل الكنيسة تتقبلها تقبلها لما لابد منه، هناك عدد كبير من المؤلفات الحائرة يذكرها بعض الآباء ذِكْرَهم لأسفار قانونية، في حين أن غيرهم ينظر إليها نظرته إلى مطالعة مفيدة ذلك شأن: الرسالة إلى العبرانيين، ورسالة بطرس الثانية، وكل من رسالة يعقوب ويهوذا.
وهناك أيضاً مؤلفات جرت العادة أن يستشهد بها في ذلك الوقت على أنها من الكتاب المقدس، ومن ثم جزء من القانون، لم تبق زمناً على تلك الحال، بل أخرجت آخر الأمر من القانون، ذلك ما جرى لمؤلَّف: هرماس، وعنوانه الراعي، وللديداكي ورسالة إكليمنضس الأولى، ورسالة برنابا، ورؤيا بطرس، وكانت الرسالة إلى العبرانيين، والرؤيا، موضوع أشد المنازعات، وقد أنكرت صحة نسبتها إلى الرسل إنكاراً شديداً مدة طويلة. ولم تقبل من جهة أخرى إلا ببطء: رسالتا يوحنا الثانية والثالثة ورسالة بطرس الثانية، ورسالة يهوذا.
ولا حاجة إلى أن نتتبع تتبعاً مفصلاً جميع مراحل هذا التطور الذي أدى خلال القرن الرابع إلى تأليف قانون هو في مجمله القانون الذي نعرفه اليوم"1.
من خلال هذا البيان والنقل المطول عن النصارى أنفسهم في حديثهم عن كتبهم يتلخص لنا ما يلي:
1-
أن الله أنزل كتاباً على المسيح سماه الإنجيل، ودعا المسيح عليه السلام الناس إلى الإيمان به وذكره أوائل النصارى، كما ذكره بولس في رسائله.
2-
أن النصارى لا يعرفون شيئاً عن مصير ذلك الإنجيل، ولا أين ذهب!!.
3-
أنه كانت هناك روايات شفوية ووثيقة مشتركة متداولة كان بتناقلها ودعاة النصارى الأوائل، ويعتقد أنها كانت المصدر الأساسي لأوجه
1 نقلاً عن كتاب"اختلافات في تراجم الكتاب المقدس" أحمد عبد الوهاب ص76-81.الناشر مكتبة وهبه - الطبعة الأولى 1407هـ. وانظر في تأييد المعلومات الواردة هنا كتاب "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" لموريس بوكاي من ص98-103.
الاتفاق بين الأناجيل1. وأرى أن تلك الروايات الشفوية لا يبعد أن يكون الإنجيل الأصلي من ضمنها إلا أن النصارى لم يدونوه مجموعة واحدة، كما أنهم لم يميزوه عن غيره من الروايات، مما جعله غير محدد ولا يستطيع أحد الجزم والاعتقاد بشيء من النصوص أنها منه وهذا تصديق قول الله عز وجل {وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} المائدة (14) .
4-
أن المتقدمين من النصارى لم يشيروا إلى الأناجيل الأربعة ولم يذكروها ألبته، فبولس -على كثرة رسائله- لم يذكرها في رسائله أبداً، وكذلك لم يذكرها سفر أعمال الرسل الذي ذكر دعاة النصارى الأوائل وهذا يدل على أن هذه الكتب لم تكن موجودة في ذلك الزمن وأنها ألفت وكتبت بعد ذلك.
5-
أن أول من ذكر مجموعة من الكتب المدونة ذكراً صريحا هو جاستن الذي قتل عام 165م، وهذا لا يدل صراحة على الأناجيل الأربعة نفسها، وأما أول محاولة للتعريف بها ونشرها فكانت عن طريق "تاتيان" الذي جمع الأناجيل الأربعة في كتاب واحد سماه "الدياطسرن" في الفترة من (166-170م) وهذا هو التاريخ الذي يمكن أن يعزى إليه وجود هذه الكتب، وهو تاريخ متأخر جداً عن وفاة من تعزى إليهم هذه الكتب إذ أنهم جميعاً ماتوا قبل نهاية القرن الأول، مما يدل على أنهم برءاء منها وأنها منحولة إليهم.
6-
أنه حتى بعد هذا التاريخ وهو 170م إلى القرن الرابع الميلادي لم تكن
1 انظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص94-95،98
الأناجيل الأربعة وحدها هي الموجودة، بل كانت هناك أناجيل كثيرة موجودة منتشرة ربما تبلغ مائة إنجيل1 ولم يكن لأي منها صفة الإلزام والقداسة، وذلك أمر تكون الأناجيل الأربعة معه عرضة للتحريف والتغيير خلال تلك الفترة أيضاً.
7-
أن النصارى لا يعرفون بالضبط تاريخ إعطاء هذه الكتب صفة الإلزام والقداسة، وإنما يرون أنه خلال القرن الرابع الميلادي أخذت كتبهم صفة القداسة بشكل متدرج، يعني: رويداً رويداً.
8-
أن النصارى لا يملكون السند لكتبهم، ولا يعرفون مصدرها الحقيقي، ولا تعدوا أن تكون كتباً وجدوها منحولة إلى أولئك الناس الذين نُسبت إليهم فنسبوها إليهم، واعتقدوا صحة ذلك بدون دليل، وهذا أمر لا يمكن أن يعطي النفس البشرية القناعة المناسبة لما تراد له هذه الكتب في الأصل من تجنب سخط الله وبلوغ رضوانه.
9-
أننا نعجب غاية العجب من زعم النصارى: أن هذه الكتب حقيقية وصادقة وتنقل بأمانه وإخلاص كلام المسيح وتروي أخباره2. كيف تجرؤا على مثل هذا الكلام، وكيف قبله أتباعهم مع أنهم لا يملكون الدليل على ذلك وكل دعوى عريت عن الدليل فهي باطله.
1 انظر القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم ص99
2 يقول النصارى في المجمع المسكوني الثاني للفاتيكان المنعقد في الفترة من 1962-1965م عن العهد الجديد.
"وآمنت أمناً الكنيسة المقدسة وتؤمن بكل قوة وثبات أن الأناجيل الأربعة المذكورة تنقل إلينا بكل أمانة ما صنعه حقاً يسوع ابن الله من أعمال وما أعلنه من تعاليم أثناء حياته بين البشر إلى يوم صعوده إلى السماء " الطبعة الثانية 1979م لوثائق المجمع ص 413. وانظر أيضاً "القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" لموريس بوكاي ص 78 حيث نقل النص المذكور.
قال الله عز وجل {قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ} الأنعام (148) .
وكل من تحدث في دين الله بلا علم فهو ضال مضل قال عز وجل {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ} الحج (3) .
ولأن دعاويهم عارية عن الدليل فهي نابعة من الهوى، فلهذا سمى الله عز وجل ما عند اليهود والنصارى من دين أهواءاً في قوله عز وجل لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ} البقرة (120) .
ولكن ذلك العجب يذهب وتلك الدهشة تزول إذا علمنا أن للآباء والكبراء والسادة من أهل الضلالة الذين يسعون إلى المحافظة على مكاسبهم الدنيوية الدور الأكبر في إضلال العوام والدهماء الذين لا يستخدمون ما وهبهم الله من عقل وسمع وإدراك وإنما يتابعون وينقادون إنقياد الأعمى، وفي هذا يقول الله عز وجل {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} المائدة (104) .
والواجب على الإنسان أن لا يخضع للتقليد فيما تتعلق به نجاته وسعادته أو هلاكه وشقاوته بل يتحقق من الأمر ويتأكد من صحته ويسأل الله الهداية والتسديد والرشد إلى أن يصل إلى الحق والنور الذي لن يخطئه بإذن الله تعالى إذا أخلص الطلب واجتهد في الدعاء وتحرر من الأهواء والتقليد والعصبية.
ثانياً: تاريخ الأناجيل الأربعة تفصيلاً:
سبق الحديث عن الأناجيل الأربعة من ناحية السند إجمالاً بقي أن نبين هنا ما يتعلق بكل إنجيل منها منفرداً:
أولاً: إنجيل متى:
يصدر النصارى كتابهم المقدس بهذا الإنجيل، فهو أول كتبهم في الترتيب، وهو أطولها إذ يحوى ثمانية وعشرين إصحاحاً.
ويزعم النصارى أن "متى" الذي ينسب الكتاب إليه هو أحد الحواريين وكان قبل إتباعه للمسيح عشاراً "جابي ضرائب".
إلا أن النصارى لم يستطيعوا أن يبرزوا لنا دليلاً يعتمد عليه في صحة نسبة هذا الكتاب إلى "متى"، وأقدم من يعتمدون على قوله في نسبة الكتاب إلى "متى" أحد كتابهم ويسمى "يوسابيوس القيصري" في كتابه "تاريخ الكنيسة" حيث نقل عن أسقف كان لهيرا بوليس سنة (130م) يدعى "بابياس" والذي كان أنه قال:"إن متى كتب الأقوال باللغة العبرانية"1.
وهذا القول ولدى جميع العقلاء لا يمكن أن يعتمد عليه في إثبات صحة نسبة الكتاب إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري.
وذلك لأن "بابياس" المذكور هنا لم يكن سمع تلك التعاليم وتلك الكتب من أصحابها، بل كان يسمعها بواسطة،
حيث يقول عن نفسه فيما ذكر عنه "يوسابيوس": "وكلما أتى
1 انظر: تاريخ الكنيسة ليوسابيوس 178، كتاب تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/152) ، وكتاب المدخل إلى العهد الجديد ص 243.
واحد ممن كان يتبع المشايخ سألته عن أقوالهم لأنني لا أعتقد أن ما تحصل عليه من الكتب يفيد بقدر ما يصل من الصوت الحي" 1.
فهو هنا لا يتحرى في النقل، ومما لاشك فيه أن أولئك الوسائط لابد أن تثبت عدالتهم وإلا فلا يعتد بما يروونه ويقولونه.
كما أن "يوسابيوس القيصري" قد طعن في بابياس نفسه حيث قال عن رواياته: "ويُدَوِنُ نفس الكاتب روايات أخرى يقول إنها وصلته من التقليد غير المكتوب، وأمثالاً وتعاليم غريبة للمخلص وأموراً خرافية
…
".
ثم قال عنه وعن آرائه: "وأظن أنه وصل إلى هذه الآراء بسبب إساءة فهمه للكتابات الرسولية، غير مدرك أن أقوالهم كانت مجازية، إذ يبدو أنه كان محدود الإدراك جداً كما يتبين من أبحاثه، وإليه يرجع السبب في أن كثيرين من أباء الكنيسة من بعده اعتنقوا نفس الآراء مستندين في ذلك على أقدمية الزمن الذي عاش فيه"2.
فهذه طريقة "بابياس" في النقل حيث ينقل عن كل من اتبع المشايخ بدون تحر لمقدرة التلميذ على الحفظ والضبط للروايات والعدالة وما إلى ذلك من شروط صحة الخبر، كما أن بابياس نفسه ضعيف التمييز بين الأقوال محدود الإدراك جداً. فكيف تعتبر أقوال من هذه حاله في أخطر قضية وهي الشهادة لكتاب بأنه كلام رب العالمين؟
1 تاريخ الكنيسة - يوسابيوس القيصري ص 175.
2 المصدر السابق ص 177.
كما أن في المقابل هناك عدة أدلة تدل على عدم صحة نسبة الإنجيل إلى "متى" الذي يزعمون أنه حواري وهي:
1-
أن النصارى لم ينقلوا الإنجيل بالسند، وقول بابياس السابق لم يعين فيه من هو متى هل هو الحواري؟ أم رجل أخر؟ كما أنه لم يعين الكتاب بل قال:"الأقوال".
وأيضاً فقد ذكر أمراً آخر يختلف تماماً عما عليه إنجيل متى الموجود وهو أنه قال: إنه كتبه باللغة العبرانية، مع أن النصارى يجمعون على أن: الكتاب لم يعرفوه إلا باللغة اليونانية، ولا يعرفون للكتاب نسخة عبرانية، بل الكثير منهم يرى أن: الكتاب يظهر من لغته أنه أول ما كتب إنما كتب باللغة اليونانية، وليس العبرانية1، فهذا يدل على أن قول بابياس لا ينطبق على إنجيل متى الموجود بين يدي النصارى.
كما أن هناك إستفساراً آخر في حالة أن يكون الإنجيل مترجماً من اللغة العبرانية إلى اللغة اليونانية، وهو: من هو مترجمه؟ وهذا أمر مهم، لأنه ما لم يعلم دين المترجم، وصدقه، وضبطه، وقوة معرفته باللغتين لا يمكن أن يعتمد على ترجمته.
2-
إن الدارسين لهذا الكتاب والباحثين من النصارى وغيرهم يرون أن كاتب هذا الإنجيل إعتمد كثيراً على إنجيل مرقص2، ومرقص في كلام النصارى تلميذ بطرس، فهل من المعقول أن يعتمد أحد كبار الحواريين في زعمهم على
1 المدخل إلى العهد الجديد ص 243.
2 المدخل إلى العهد الجديد ص243. القرآن الكريم والتوراة والإنجيل العلم ص82.
تلميذ من تلاميذهم في الأمور التي هم شاهدوها وعاينوها وعايشوا أحداثها؟
هذا يدل على أن كاتبه غير "متى" الذي يزعمون أنه حواري، وأن دعوى النصارى أن كاتب الإنجيل هو متى الحواري دعوى عارية عن الدليل وهي من باب الظن والتخمين الذي لا يغني من الحق شيئاً.
ثانياً: إنجيل مرقص:
هذا الإنجيل الثاني في ترتيب الأناجيل لدى النصارى وهو أقصرها إذ أنه يحوى ستة عشر إصحاحاً فقط.
أما كاتب الإنجيل فهو في زعم النصارى رجل من أتباع الحواريين والمعلومات عنه قليلة جداً وغامضة، ولا تتضح شخصيته وضوحاً يُطمئن النفس، إذ أن كل ما ورد عنه الإشارة إلى أن اسمه يوحنا، ويلقب مرقص، وأنه صاحَبَ بولس وبرنابا في دعوتهما، ثم افترق عنهما، ثم ذكر بولس في رسائله إسم مرقص ذكراً مقتضباً لا يعطي غناءاً في التعريف به1، وورد ذكر إسمه مع بطرس حيث يقول عنه "تسلم عليكم التي في بابل المختارة معكم ومرقص ابني"2.
فهذه المعلومات يفهم منها أن الرجل مجهول، إذ أنها لم تعط تعريفاً بدينه،
1 انظر رسالة بولس إلى كولوسى (4/10) ورسالته الثانية لتيموثاوس (4/11) ، ورسالته إلى فليمون (25) .
2 رسالة بطرس الأولى 5/12. ولا بد أن يعلم أنه لا يوجد لدى النصارى أي دليل يثبت
أن كاتب الإنجيل هو مرقص ابن أخت برنابا، وهو مرقص رفيق بولس، وهو تلميذ بطرس بل الأقرب أن أولئك أربعة أشخاص لهم اسم واحد، خاصة إذا علمنا أن اسم مرقص كان اسماً منتشراً في ذلك الزمان.
وعلمه، وأمانته، ونحو ذلك مما يجب توافر معرفته فيمن يكون واسطة لكتاب مقدس.
أما الكتاب وهو الإنجيل: فأقدم المعلومات التي عزته إلى من يسمى مرقص ما نقله "يوسابيوس" في تاريخه الكنسى عن بابياس حيث قال:"ولقد قال الشيخ أيضاً إن مرقص الذي صار مفسراً لبطرس قد كتب بكل دقة كل ما تذَكَّره من أقوال وأعمال الرب، ولكن ليس بالترتيب لأنه لم يسمع الرب ولم يتبعه، ولكن كما قلت قبلاً عن بطرس الذي ذكر من تعاليم السيد ما يوافق حاجة السامعين، بدون أن يهدف إلى كتابة كل ما قاله الرب وعمله، وهكذا فصل مرقص إنه لم يعمل خطأً واحداً في كل ما ذكره وكتبه.."1.
هذه أقدم شهادة لدى النصارى عن الكتاب والكاتب فهي شهادة مطعون فيه.2 لمجهول الحال وهو مرقص، عن أمر مجمل، حيث ذكر أنه كتب ما تذكر، ولم يفصل في المكتوب ما هو!! فهل تكفي هذه الشهادة في إثبات صحة الكتاب!!، لاشك أنها لا تكفي فإن مثل هذه الأدلة والشواهد لو قدمت لدى قاض في قضية لم يقبلها ولم يحكم وفقها.
ثالثاً: إنجيل لوقا:
هذا الإنجيل الثالث في ترتيب النصارى لكتابهم ويحوي أربعة وعشرين إصحاحاً.
وكاتب الإنجيل في زعم النصارى هو أحد الوثنيين الذين آمنوا بالمسيح بعد
1 انظر: تاريخ الكنيسة يوسابيوس ص 177، وكتاب المدخل إلى العهد الجديد ص 218.
2 انظر ما سبق من كلام يوسابيوس عن بابياس ص189.
رفعه وكان رفيقاً لبولس (شاؤول اليهودي) حيث ذكره بولس في ثلاثة مواضع من رسائله واصفاً إياه بأنه رفيقه1.
ولا يوجد لدى النصارى معلومات عنه سوى أنه أممي رافق بولس في بعض تنقلاته، حيث ورد إسمه في تلك الرحلات.
فهو بذلك يعتبر شخصية مجهولة وغير معروفة ولا متميزة بعدالة وديانه، ومع هذا أيضاً لا يوجد لدى النصارى دليل يعتمد عليه في صحة نسبة الكتاب إليه.
ولندرة المعلومات التي توثق نسبة الكتاب إلى لوقا المذكور يستشهد النصارى بكلام مجهول حيث يقول القس فهيم عزيز في كتابه "المدخل إلى العهد الجديد" في استدلاله على صحة نسبة الكتاب إلى لوقا ما يلي:
"هناك مقدمة كتبت لإنجيل لوقا فيما بين (160-180م) اسمها "ضد مارسيون" فيها يقول الكاتب عن لوقا: إنه من أنطاكية في سوريا مهنته طبيب وكان أعزباً بدون زوجة، مات وهو في سن 84 في بواتييه2 ممتلئاً بروح القدس - وقد كتب إنجيله كله في المناطق التي تحيط بأخائيه3 لكي يفسر للأمم القصة الصحيحة للعهد الجديد الإلهي.."
ثم قال صاحب الكتاب معلقاً "هذه مقتطقات عن هذه الشهادة
1 انظر: رسالة بولس إلى كولوسي (4/14) . ورسالته الثانية إلى تيموثاوس (4/11) . ورسالته إلى فليمون (24) .
2 بواتييه: مدينة غرب فرنسا، الموسوعة العربية الميسرة،1/420.
3 أخائية أو أخايا: إقليم في جنوب اليونان. انظر: الموسوعة العربية الميسرة،1/63.
التي لا يعرف كاتبها وقد قبلها كثير من العلماء لأنهم لم يجدوا من أتباع مارسيون1 من يكذبها مما يدل على أنها تقليد كنسي قوي"2.
بمثل هذه الشهادة المجهولة يثبت النصارى صحة كتابهم إلى ذلك الرجل المجهول لوقا، وهي لاشك شهادة لا قيمة لها ولا تفيد شيئاً، ويدل إستدلالهم بها على أنهم لا يملكون أدلة على صحة نسبة الكتاب إلى من يسمونه "لوقا" وذلك يبين لنا أن النصارى حين زعموا أن إنجيل لوقا كتاب صحيح وصادق، فإن ذلك مجرد دعوى بدون بينة.
رابعاً: إنجيل يوحنا:
هذا الإنجيل الرابع في ترتيب العهد الجديد وهو إنجيل متميز عن الأناجيل الثلاثة قبله إذ تلك متشابهة إلى حد كبير، أما هذا فإنه يختلف عنها لأنه ركز على قضية واحدة وهي: إبراز دعوى ألوهية المسيح وبنوته لله- تعالى الله عن قولهم - بنظرة فلسفية لا تخفى على الناظر في الكتاب، لهذا يعتبر هو الكتاب الوحيد من بين الأناجيل الأربعة الذي صرح بهذا الأمر تصريحاً واضحاً.
وإذا بحثنا في صحة نسبة الكتاب إلى يوحنا الذي يزعم النصارى أن الكتاب من تصنيفه نجده أقل كتبهم نصيباً من الصحة لعدة أدلة أبرزها منكروا نسبة الكتاب إلى يوحنا الحواري وهي:
1-
أن بوليكاربوس الذي يقال إنه كان تلميذاً ليوحنا لم يشر إلى هذا الإنجيل عن شيخه يوحنا، مما يدل على أنه لا يعرفه، وأن نسبته إلى شيخه غير صحيحة.
1 مارسيون هو أحد الخارجين على الكنيسة. وقد سبق ذكره ص160.
2 المدخل إلى العهد الجديد ص 272.
2-
أن الكتاب مملوء بالمصطلحات الفلسفية اليونانية التي تدل على أن لكاتبه إلماماً بالفلسفة اليونانية، أما يوحنا فكما يذكر النصارى فقد كان يمتهن الصيد مما يدل على أنه بعيد عن الفلسفة ومصطلحاتها.
3-
أن النصارى الأوائل لم ينسبوا هذا الإنجيل إلى يوحنا الحواري المزعوم، وأن "يوسابيوس" الذي كان يسأل "بابياس" عن هذه الأمور يقول:"الواضح أن بابياس يذكر اثنين إسمهما يوحنا: الأول الرسول وقد مات والثاني الشيخ وهو حي. ويلوح أنه هو الذي كتب الإنجيل".
فلهذا يقول القس فهيم عزيز بناءاً على ذلك "إن الكنيسة كانت بطيئه في قبولها لهذا الإنجيل"1.
وبناءً على ذلك فمنذ نهاية القرن التاسع عشر ظهر الاعتراض على نسبة هذا الإنجيل إلى يوحنا بشكل واسع ووصفته دائرة المعارف الفرنسية بأنه إنجيل مزور وهذه الدائرة إشترك في تأليفها خمسمائة من علماء النصارى ونص كلامهم "أما إنجيل يوحنا فإنه لا مرية ولاشك كتاب مزور أراد صاحبه مضادة إثنين من الحواريين بعضهما لبعض وهما القديسان يوحنا ومتى، وقد ادعى هذا الكاتب المزور في متن الكتاب أنه الحواري الذي يحبه المسيح، فأخذت الكنيسة هذه الجملة على علاتها، وجزمت بأن الكاتب هو يوحنا الحواري، ووضعت اسمه على الكتاب نصاً مع أن صاحبه غير يوحنا يقيناً، ولا يخرج هذا الكتاب عن كونه مثل بعض كتب التوراة التي لا رابطة بينها وبين من نسبت إليه، وإنا لنرأف ونشفق على الذين يبذلون منتهى جهودهم ليربطوا ولو
1 المدخل إلى العهد الجديد ص 551.
بأوهى رابطة ذلك الرجل الفلسفي الذي ألف هذا الكتاب في الجيل الثاني بالحواري يوحنا الصياد الجليلي، فإن أعمالهم تضيع عليهم سدى لخبطهم على غير هدى"1.
نقول مع هذه الاعتراضات، ومع وعدم وجود أدلة تثبت صحة نسبته إلى يوحنا الحواري المزعوم، فلا يجوز لعاقل أن يدعي صحة نسبته إلى يوحنا، فضلاً عن أن يزعم أنه كتاب مقدس موحى به من الله، فهذا فيه إفتراء عظيم على الله عز وجل، وإضلال لعباد الله بالباطل.
بعد هذا كله يتضح للناظر اللبيب أن النصارى وكذلك اليهود من قبلهم لا يملكون مستنداً صحيحاً لكتبهم يثبت صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، وإن من المعلوم أن أي إنسان أراد أن يقاضي إنساناً آخر لدى محكمة فلا يمكن أن تنظر المحكمة في دعواه ما لم يقدم من الإثباتات الصحيحة ما يصح اعتباره دليلاً، والنصارى لم يقدموا لأنفسهم ولا لأهل ملتهم من المستندات والأدلة شيئاً يثبتون به صحة كتبهم، بل لا يعرفون طريقاً إلى شيء من المستندات الصحيحة يقول الشيخ رحمه الله الهندي في كتابه العظيم "إظهار الحق" "ولذلك طلبنا مراراً من علمائهم الفحول السند المتصل فما قدروا عليه واعتذر بعض القسيسين في محفل المناظرة التي كانت بيني وبينهم2 فقال: إن سبب
1 نقلاً عن كتاب دراسات في الكتاب المقدس. د. محمود علي حماية ص 64.
2 المقصود بها المناظرة الكبرى التي تمت في الهند بين الشيخ رحمة الله الهندي وزعيم المنصرين في الهند مبعوث الكنيسة الانجليزية د. فندر وكانت المناظرة سنة 1854م في يومي 10-11 نيسان وكانت موضوعاتها هي: النسخ والتحريف، وألوهية المسيح، والتثليث، وإعجاز القرآن ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، وقد مُنِىَ د. فندر بهزيمة نكراء وخزي وعار بإقراره بالنسخ والتحريف. ثم قطع المناظرة، ثم جلا عن الهند، وفر منها وعاد إلى بريطانيا، بعد أن أظهر الله كذبه ونشر خزيه ورد عن المسلمين ولله الحمد عدوانه وشره. انظر أخبار المناظرة في مقدمة كتاب إظهار الحق 1/34.
فقدان السند عندنا وقوع المصائب والفتن على النصارى إلى مدة ثلاثمائة وثلاث عشرة سنة"1.
وفي هذا كفاية ودلالة على أن تلك الكتب التي تسمى الأناجيل كتب لا يملك أصحابها أي مستند يمكن الاعتماد عليه في صحة نسبتها إلى من ينسبونها إليه، فضلاً عن أن يصح نسبتها إلى المسيح عليه السلام أو إلى الله عز وجل.
1 إظهار الحق (1/111) .