المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالا - دراسات في الأديان اليهودية والنصرانية

[سعود بن عبد العزيز الخلف]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة

- ‌مقدمة

- ‌المقدمة

- ‌مدخل إلى دراسة الأديان

- ‌أولاً: تعريف الدين

- ‌ثانياً: تقسيم الأديان

- ‌ثالثاً: علم الأديان في القرآن الكريم وكتابة المسلمين فيه:

- ‌رابعاً: باعث التدين:

- ‌خامساً: بيان أن التوحيد سبق الشرك:

-

- ‌الباب الأول: اليهودية

- ‌الفصل الأول: التعريف باليهودية

- ‌المبحث الأول: تعريف كلمة يهود

- ‌المبحث الثاني: مجمل تاريخ اليهود

-

- ‌الفصل الثاني: مصادر اليهود

- ‌المبحث الأول: التوراة والكتب الملحقة بها

- ‌المطلب الأول: تعريف التوراة

- ‌المطلب الثاني: تاريخ التوراة

- ‌المطلب الثالث: تحريف التوراة

- ‌المطلب الرابع: صفات الله عز وجل في التوراة المحرفة:

- ‌المطلب الخامس: وصف اليهود للأنبياء عليهم السلام في التوراة المحرفة

- ‌المطلب السادس: اليوم الآخر لدى اليهود

- ‌المبحث الثاني: التلمود

- ‌المبحث الثالث: بروتوكولات حكماء صهيون

- ‌الفصل الثالث: بعض عبادات وشعائر اليهود

- ‌الفصل الرابع: فرق اليهود

- ‌الفصل الخامس: أخلاق اليهود من خلال القرآن الكريم

-

- ‌الباب الثاني: النصرانية

- ‌الفصل الأول: التعريف بالنصرانية

- ‌المبحث الأول: تعريف كلمة النصرانية

- ‌المبحث الثاني: التعريف بالمسيح عليه السلام إجمالاً من خلال القرآن الكريم وما يتفق معه مما ورد في أناجيل النصارى

- ‌المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالاً

-

- ‌الفصل الثاني: مصادر النصرانية

-

- ‌المبحث الأول: الكتاب المقدس:

- ‌المطلب الأول: إسناد وتاريخ الأناجيل الأربعة

- ‌المطلب الثاني: الأناجيل الأربعة متناً

- ‌المطلب الثالث: إنجيل برنابا

- ‌المبحث الثاني: المجامع النصرانية

-

- ‌الفصل الثالث: عقيدة النصارى

- ‌المبحث الأول: التثليث

- ‌المطلب الأول: تعريفه ومرادهم به:

- ‌المطلب الثاني: استدلالات النصارى على التثليث

- ‌المطلب الثالث: إبطال ونقض ما استدلوا به على التثليث

- ‌المطلب الرابع: أدلة إثبات الوحدانية وإبطال التثليث من العهد القديم والأناجيل:

- ‌المطلب الخامس: الأقانيم الثلاثة تعريفها وأدلتهم عليها وبيان بطلان تلك الأدلة

- ‌المطلب السادس: الإتحاد: (التجسد)

-

- ‌المبحث الثاني: الصلب والفداء

- ‌المطلب الأول: الصلب:

- ‌المطلب الثاني: الفداء

- ‌المطلب الثالث: بيان بطلان دعوى النصارى في الصلب والفداء إضافة لما سبق

- ‌المبحث الثالث: محاسبة المسيح الناس

- ‌المبحث الرابع: قول النصارى في البعث والجنة والنار

- ‌الفصل الرابع: بعض العبادات والشعائر عند النصارى

- ‌الفصل الخامس: العوامل التي أدت إلى تحريف رسالة المسيح عليه السلام

- ‌الفصل السادس: أهم الفرق النصرانية المعاصرة

- ‌الفصل السابع: التنصير

- ‌الفصل الثامن: البشارة بالنبي محمد صلى الله عليه وسلم في الكتاب المقدس

- ‌مصادر ومراجع

الفصل: ‌المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالا

‌المبحث الثالث: تاريخ النصرانية إجمالاً

إن الحديث عن تاريخ النصارى الأوائل والنصرانية من المصادر النصرانية يعتبر من أصعب الموضوعات وأكثرها تعقيداً، لأن التاريخ إنما يعتمد على النصوص والروايات المحفوظة التي تبين تاريخ حقبة ما.

والناظر في المصادر النصرانية يواجه مشكلة الإنقطاع التاريخي في فترة من أهم الفترات المتعلقة بالنصرانيه، وهي الفترة التي تعقب رفع المسيح عليه السلام إلى منتصف القرن الثاني من الميلاد، فإن هذه الفترة تعتبر فترة حرجة جداً والمصادر التي يمكن أن يعتمد عليها في بيان تاريخ تلك الفترة تعتبر نادرة جداً، بل لا يوجد بين يدي النصارى سوى كتاب "أعمال الرسل" الذي تحدث كاتبه في أوله عمن يزعم أنهم تلاميذ المسيح حديثاً محدوداً، ثم خصص بقية كتابه للحديث عن بولس وأعماله، ورغم ذلك فإن المعلومات عن بولس تنقطع قبل موته بعد وصوله روما، وهذه النهاية التي انتهى إليها صاحب الكتاب هي نهاية المعلومات المتوفرة لدى النصارى عن تلك الفترة يضاف إلى ذلك ما يمكن إستفادته واستخلاصه من رسائل بولس الأربع عشرة التي فيها إشارات قليلة تخص بولس من ناحية تاريخية إلا أنها شبه خالية من المعلومات عن الحواريين الذين هم تلاميذ المسيح عليه السلام الحقيقيون

ومع ذلك فسنحاول ذكر تاريخ إجمالي للنصارى والنصرانية إلى عهد ما بعد الإمبراطور قسطنطين حسب المعلومات المتاحة، وذلك لإعطاء القارئ تصوراً عن النصرانية من ناحية تاريخية، ربما يكون قريباً من الواقع.

ص: 171

أولاً: المسيح عليه السلام من خلال مصادر النصارى

المسيح1 هو عيسى بن مريم عليه السلام وينسبه النصارى إلى داود عليه السلام 2 ويعتقدون أنه لا أب له من البشر، لأن الله أرسل إلى مريم الملك جبريل عليه السلام فكان الحمل به عليه السلام 3 ثم إنها وضعته بعد ذلك في بيت لحم في فلسطين، وزعم صاحب إنجيل متى أن أمه ذهبت به من فلسطين إلى مصر خوفاً من هيرودس حاكم اليهودية، الذي عزم على قتل جميع الأطفال الذين ولدوا في ذلك العام، لأن منجمين مجوس أخبروه بولادة ملك اليهود4

1 يلاحظ أننا سنذكر هنا ما يتعلق بالمسيح من ناحية تاريخية من خلال كتب النصارى وهي الأناجيل الأربعة وإذا كان هناك ما يتعارض مع ما ورد في مصادرنا الإسلامية نبين ذلك أو نحيل إلى موضع بيان ذلك.

2 انظر بيان ما يتعلق بنسب المسيح في ص197.

3 لم يذكر النصارى نفخ جبريل عليه السلام في مريم، وإنما ذكر الله عز وجل ذلك في القرآن الكريم بقوله عز وجل {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} التحريم آية 12 قال ابن كثير في تفسيره (4/355) : أن الله بعث جبريل عليه السلام فتمثل لمريم في صورة بشر سوي، وأمره الله أن ينفخ بفيه في جيب درعها - فتحة ثوبها من قبل رأسها - فنزلت النفخة فولجت في فرجها فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام، أما النصارى فكلامهم في هذا غير ظاهر ولا واضح المعنى، وقد ذكروا ذلك في موضعين من أناجيلهم ففي إنجيل متى (1/18)" أما ولادة يسوع فكانت هكذا لما كانت مريم أمه مخطوبه ليوسف قبل أن يجتمعا وجدت حبلى من الروح القدس". وفي إنجيل لوقا (1/34) بعد أن ذكر مجيء جبريل إلى مريم المخطوبة ليوسف وبشرها بأنه سيكون منها المسيح قالت مريم "وكيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً، فأجاب الملاك، وقال لها الروح القدس يحل عليك وقوة العلي تظللك فلذلك أيضا القدوس المولود منك يدعى ابن الله ".

4 انظر إنجيل متى (الإصحاح الثاني) .

ص: 172

وبعد بلوغ المسيح عليه السلام الثلاثين من عمره ابتدأ دعوته بعد أن اعتمد1من يحيى عليه السلام 2 فكان يعظ الناس في أماكن تجمعهم، وإذا رأى مرضى يشفيهم ويتجول في سائر المدن اليهودية، وظهرت على يديه آيات كثيرة مثل تكثير الطعام، وشفاء المرضى، والمشي على الماء وغير ذلك، وفي هذه الفترة المبكرة من دعوته التحق به من يزعم النصارى أنهم حواريو المسيح، وتابعوه في رحلاته، ثم أرسل تلاميذه إثنين إثنين إلى القرى للدعوة، وشعر رؤساء اليهود بالخطر الذي سيحيق بهم، من جراء دعوة المسيح عليه السلام ولذا فقد اتفقت كلمتهم على ضرورة القضاء عليه.

فلما كان في اليوم الأول من أيام عيد الفصح3، علم اليهود بمكانه في بيت المقدس، وذلك بوشاية من أحد أتباعه وهو يهوذا الإسخريوطي، فجاؤا وألقوا القبض عليه، ففر تلاميذه وتركوه فأخذه اليهود إلى رئيس كهنتهم وواجهوه

1 انظر معنى التعميد ص 301 من شعائر النصارى.

2 لا يوجد لدى النصارى أي معلومات عن حياة المسيح عليه السلام الأولى وشبابه، والأناجيل الأربعة لم تذكر سوى ولادته، ثم تنتقل إلى فترة تعميده مباشرة، والتي ابتدأ بعدها بدعوته، ثم بعدها على أكثر تقدير بسنة واحدة أو بثلاث سنوات رفع إلى السماء ومعنى ذلك أن عمره كان في ابتداء الدعوة قرابة ثلاثين سنة وهي مدة لا يعرف النصارى عنها شيئاً البتة سوى خبر أورده متى وهو عودة المسيح حين كان صبياً من مصر، وأخر في إنجيل لوقا عن تعلمه وتعليمه في الهيكل حين كان عمره اثنى عشر عاماً. كما أن النصارى لم يذكروا شيئاً عن تكلمه في المهد ولا يعرفون ذلك.

3 الفصح هو عيد يهودي ويسمونه أيضاً عيد الفطير لأنهم يأكلون فيه الخبز فطيراً غير مختمر، وهو عندهم عيد الضحية حيث يضحون فيه بحمل أو جدي ونحوه. وأصل هذا العيد ذكرى لنجاة بني إسرائيل من فرعون مصر. وقد استبدل النصارى عيد الفصح اليهودي بالعشاء الرباني حيث يزعمون أن المسيح هو حمل فصحهم المذبوح، وأن الخبز والخمر رمز لتلك الأضحية عندهم وهو المسيح عليه السلام. انظر: الفكر الديني اليهودي 180-188 بتصرف، شرح أصول الإيمان للقس اندرواس واطسون 500.

ص: 173

بما يتهمونه به إلا أنهم رأوا أن الشهود لا تتفق كلمتهم فيما شهدوا به عليه، وأخيراً سأله رئيس الكهنة وقال له: أأنت المسيح ابن المبارك؟ فقال عيسى: أنا هو وسوف تبصرون إبن الإنسان جالساً عن يمين القوة وآتياً في سحاب السماء. فمزق رئيس الكهنة ثيابه. وقال ما حاجتنا بعد إلى شهود قد سمعتم التجاديف1. ما رأيكم؟ فحكم الجميع عليه أنه مستوجب للموت2.

ثم حملوه إلى الوالي الروماني بيلاطس البنطي الذي قرره بما كان متهماً به وهو أنه "ملك اليهود" وهي التهمة التي أوعز اليهود إلى الوالي الروماني أن المسيح يدعيها لنفسه، إلا أن المسيح لم يجبه بشيء3، فرأى بيلاطس أنه لا يستحق الموت، وهو الجزاء الذي كان يطالب اليهود بإيقاعه به، إلا أن بيلاطس بعد ذلك ونزولاً عند رغبة اليهود حكم عليه بالموت على الصليب، فحمل يوم الجمعة صباحاً إلى موضع الصلب، حيث علق على الصليب في زعمهم في الساعة الثالثة صباحاً4 وبقي على الصليب إلى الساعة التاسعة عصراً، حيث مات بعد أن صاح "إلهي إلهي لماذا تركتني" ثم أُنزِل عن الصليب وأدخل قبراً بقي فيه تلك الليلة ونهار السبت وليلة الأحد، فلما جاؤا صباح الإثنين وجدوا القبر خالياً، وقيل لهم إنه قام من قبره، ثم إنه ظهر

1 التجاديف المراد بها الكلمات الكفرية، أو الكلمات الموحية بكفر قائلها.

2 إنجيل مرقص (14/62-65) .

3 وهذا حسب الأناجيل الثلاثة متى، مرقص، لوقا، أما إنجيل يوحنا فإنه ذكر محاورة بين المسيح وبيلاطس انظر الاصحاح 18/33-38.

4 هذا على حساب الساعة الغروبي الذي يكون أول ساعة بعد غروب الشمس هي الساعة الواحدة ليلاً إلى إثنتى عشرة ساعة، فتوافق في الغالب الساعة الأولى من النهار بعد طلوع الشمس، فتكون الساعة الثالثة هنا صباحاً حوالي التاسعة والنصف في عرفنا والتاسعة توافق الثالثة والنصف مساءاً.

ص: 174

لتلاميذه بعد ذلك، وبين لهم أنه حي وبقى معهم حسب كلام صاحب أعمال الرسل "أربعين يوماً"1 ثم ارتفع إلى السماء وهم ينظرون إليه2، وكانت مدة دعوة المسيح حسب الأناجيل الثلاثة الأولى لا تزيد عن سنة واحدة إذ لم يذكروا خلال دعوة المسيح إلا عيداً واحداً، أما إنجيل يوحنا فذكر ثلاثة أعياد3 لليهود لهذا يرى كثير من النصارى أن مدة دعوته كانت ثلاث سنوات4، وكان أتباعه خلال هذه المدة والذين خَلفَّهم بعده ينحصرون في الاثنى عشر حوارياً وآخرين يبلغ مجموعهم مائة وعشرين فقط5.

وكل من نظر في الأناجيل التي بين يدي النصارى والتي تحوي دعوة المسيح ونشاطه، وتحركاته، ومواعظه، يتيقن أن المسيح لم يؤسس ديانة جديدة البتة، بل كان يلتزم بشريعة موسى عليه السلام ويدعو إلى الإلتزام بها، ويحرم الخروج عليها6، وبهذا أيضاً وصى تلاميذه الذين أرسلهم إلى الدعوة في القرى7.

1 أعمال الرسل (1/3) .

2 هذا ما أورده النصارى إجمالاً من قصة المسيح عليه السلام وما زعموه من صلبه وموته وقيامته، وقد أفردت مبحثاً خاصاً عن الصلب وبيان التناقض في كلام النصارى فيه وبيان بطلانه انظر ص 266.

3 انظر إنجيل يوحنا (2/13) ، (5/1)(12/1) .

4 انظر تاريخ المسيحية (1/33) .

5 أعمال الرسل (1/15) .

6 انظر إنجيل متى (5/17) إنجيل لوقا (18/18) .

7 انظر متى (10/5) ، مرقص (6/12) ، لوقا (9/2، 10/1) .

ص: 175

أما محور دعوة المسيح عليه السلام حسب الأناجيل، فهو الدعوة إلى التوبة والإنابة إلى الله والتبشير بالملكوت القريب1، وكان يضرب لهم الأمثال في ذلك، ولا يختلف في هذا عن الأنبياء من بني إسرائيل الذين سبقوه وجاؤا بعد موسى عليه السلام، إلا أنه زاد في النهي عن الفواحش والفساد بتأكيد تحريم الوسائل إليها فمن ذلك قوله في إنجيل متى (5/27)"قد سمعتم أنه قيل للقدماء لاتزن، وأما أنا فأقول لكم إن من ينظر إلى امرأة ليشتهيها فقد زنى بها في قلبه" وفي (5/33)"سمعتم أنه قيل للقدماء لا تحنث بل أوف للرب أقسامك، وأما أنا فأقول لكم لا تحلفوا البتة...... بل ليكن كلامكم نعم. نعم، لا. لا"

وكذلك أكد على التسامح والعفو والمحبة وفي هذا يقول متى (5/43)"سمعتم أنه قيل تحب قريبك وتبغض عدوك، وأما أنا فأقول لكم باركوا لا عينكم، أحسنوا إلى مبغضيكم، وصلوا لأجل الذين يسيئون إليكم ويطردونكم"

أما التشريع فلم يذكر عنه منه شيء سوى ما يتعلق بالحض على عدم الطلاق وعدم زواج المطلقة. يقول متى عنه في (5/31) "وقيل من طلق إمرأته فليعطها كتاب طلاق، وأما أنا فأقول لكم إن من طلق إمرأته إلا لعلة الزنى يجعلها تزني

1 انظر متى (4/17) ، (9/12) مرقص (3/17) لوقا 8/1) .

ص: 176

ومن يتزوج مطلقة فإنه يزني".

وفي إنجيل لوقا (16/18) يقول "كل من يطلق امرأته ويتزوج بأخرى يزني وكل من يتزوج بمطلقة من رجل يزني"

فهذا يدل على أن المسيح عليه السلام لم يؤسس ديانة جديدة البتة بل كان شأنه ودعوته شأن ودعوة الأنبياء السابقين من بني إسرائيل من بعد موسى عليه السلامإلا أن الله جعله وأمه آية لبني إسرائيل.

ثانياً: تلاميذ المسيح عليه السلام بعد رفعه.

المصادر التاريخية لهذه الفترة بعد رفع المسيح عليه السلام نادرة جداًوقليلة فلا يوجد بين يدي النصارى سوى سفر أعمال الرسل الذي ورد فيه جانباً من أعمال حواري المسيح وتلاميذهثم خُصِصَ بقية الكتاب للحديث عن بولس ويضاف إلى هذا السفر بعض الجمل الواردة في الرسائل الملحقة بالعهد الجديد التي تتحدث عن شيء من تأريخ تلاميذ المسيح. هذا كل ما لدى النصارى من كتب عن هذه الفترة.

ولهذا سنشير إشارة مختصرة إلى هذه الفترة حسب المعلومات المتاحة فنقول:

إن تلاميذ المسيح فيما يذكر النصارى بعد رفعه قاموا بالدعوة في جميع مدن اليهودية. وحسب سفر أعمال الرسل فقد أظهروا آيات وعجائب كثيرة قاموا بها وخاصة شفاء المرضىوبناءاً على تلك الآيات أقبل الناس على سماع كلامهم والإستجابة لهمإلا أن هذا لم يمنع كهنة اليهود ورؤساءهم من أن يتوعدوا التلاميذ ويتهددونهم ليتوقفوا عن الدعوةإلا أن ذلك التهديد لم يوقف حماس التلاميذ ونشاطهم في الدعوةوتتركز دعوة التلاميذ

ص: 177

وتعاليمهم: على وجوب التوبة والتعميد والإيمان بالمسيح عيسى عليه السلام لتغفر لهم خطاياهم1 وهي الدعوة التي كان المسيح عليه السلام يدعو إليها كما سبق بيانه.

ولم يكن في دعوتهم تصريح بألوهية المسيح ولا بنوته لله، بل أعلن "بطرس" كبيرهم فيما يذكر النصارى أمام اليهود في أول خطبة له عامه:"أن يسوع الناصرى رجل2 قد تبرهن لكم من قبل الله بقوات وعجائب وآيات صنعها الله بيده في وسطكم كما أنتم أيضاً تعلمون"3

بعد هذا ازداد حنق اليهود على التلاميذ فقبضوا على أحدهم ويسمى إستفانوس ورجموه بالحجارة حتى قتلوه4 وقتلوا بعده آخر يسمى يعقوب أخو يوحنا5 ثم اضطهدوا بقية الأتباع، حتى تشتت كثير منهم في سائر أنحاء اليهودية والسامرة، وكان التلاميذ إلى ذلك الوقت مقتصرين في دعوتهم على أبناء جلدتهم من اليهود، إلا أنهم رأوا أن غير اليهود يقبلون أيضاً دعوتهم، وقد انضم إليهم عدد من اليونانيين، فشجعهم هذا على تكثيف الدعوة بين الأجانب، فأرسلوا برنابا6 إلى أنطاكية ليدعو الأجانب، فآمن بدعوته أيضاً العديد من الناس، وكان قد انضم إلى التلاميذ بولس "شاؤول

1 انظر سفر أعمال الرسل (2/38) .

2 فصرح هنا بطرس بأن المسيح عليه السلام رجل وليس ابن الله وأن ما أظهر من آيات إنما هي في حقيقتها صنع الله عز وجل أجراها على يديه.

3 أعمال الرسل (2/22) .

4 أعمال الرسل (7/58) .

5 أعمال الرسل (12/2) .

6 سيأتي الحديث عنه عند ذكر إنجيل برنابا ص 211.

ص: 178

اليهودي"1 فكُلِفَ هو وبرنابا بدعوة الوثنيين، فنجحا في دعوتهما نجاحاً كبيراً، وحدث من جراء قبول الوثنيين اليونانيين وغيرهم للديانة النصرانية إشكال خطير، وهو أن بعض دعاتهم صاروا لا يلزمون من تنصر من الوثنيين بالتمسك بتعاليم الشرائع الموسوية، وعلى رأس هؤلاء بولس، وأما الدعاة الآخرون فكانوا يرون وجوب العمل بتعاليم الشريعة الموسوية ومن ضمنها الختان.

فحدث خلاف بينهم، اجتمعوا على إثره في مجمع في بيت المقدس، فقرروا عدم مطالبة الوثنيين بالالتزام بالشريعة، ويكتفى من ذلك بالإمتناع عما ذبح للأصنام وعن الدم والمخنوق والزنا"2. هكذا ذكروا.

وينتهي بعد هذا خبر التلاميذ، ولا يعلم على التحديد ما حدث منهم ولا ما حدث عليهم، وإنما يمكن تتبع بولس في دعوته، وأنه نشط نشاطاً قوياً في دعوته فزار مدناً عديدة في آسيا، ثم كان خاتمة مطافه في روما، وهذا آخر ما ذكره صاحب سفر الأعمال، ولا يعطينا عن خاتمة حياة بولس شيئا ولا يعرف النصارى على التحقيق عنها شيئاً.

ثالثاً: العصور اللاحقة لعصر تلاميذ المسيح إلى مجيء الإمبراطور قسطنطين

إن الحديث عن العصور المتقدمة من هذه الفترة يلفه الغموض الشديد ويكاد يكون الجهل بتلك الفترة جهلاً مطبقاً، وهي فترة من أكثر فترات التاريخ

1 سيأتي الحديث عنه بالتفصيل في فصل خاص انظر ص309.

2 أعمال الرسل (15/29) .

ص: 179

النصراني غموضاً وأشدها صعوبة وخطورة، إذ أفرزت هذه الفترة وخاصة اللاحقة مباشرة لعصر التلاميذ بروز الأناجيل الكثيرة، التي ظهرت في وقت متقارب من تلك الفترة، وهي متضاربة تضارباً شديداً.1

كذلك برزت للوجود الأقوال المنحرفة الكثيرة عن المسيح وديانته، وهي أيضاً أقوال متضاربة متباينة،

يقول الكاتب النصراني حبيب سعيد متحدثاً عن تلك الفترة "ومع أنه من اليسير جمع نتف من هنا وهناك عن هذه الفترة- نهاية عصر الحواريين - إلا أن الأربعين سنة من 70 إلى 110م - تبقى أكثر فترات التاريخ المسيحي غموضاً وإبهاماً، وهو أمر يؤسف له، لأن هذه الفترة حفلت بكثير من معالم التغيير في الكنيسة نفسها، ولأن فيها برز كثيرون من دعاة المسيحية المجهولين بعد "بولس"، وظهر كثير من الأفكار التي حملها بلا شك المتنصرون الوثنيون من مصادر غير مسيحية وخاصة حول العقائد والممارسات المسيحية، مثل الأسرار، والأصوام وأشكال العبادة، ودستور الكنيسة نفسه خضع لبعض التعديلات"2

ويميز هذه الفترة المتقدمة من تاريخ النصارى حادثة مهمة جداً لعلها من أهم الحوادث التي وقعت على النصارى بعد رفع المسيح عليه السلام ألا وهي حادثة تدمير بيت المقدس من قبل القائد الروماني تيطس سنة 70م في عهد الإمبراطور "لوسباسيانوس" حيث قضى هذا القائد على اليهود في فلسطين

1 ستأتي دراسة مفصله للأناجيل عند الحديث عن مصادر النصارى ص 169 وما بعدها.

2 تاريخ المسيحية (1/47) .

ص: 180

وخاصة في القدس قضاءاً شبه تام بسبب ثورتهم ضد الرومان1.

ولاشك أن عملية القتل والإبادة هذه قد طالت أكبر عدد من النصارى في ذلك التاريخ، لأنه لم يكن هناك فرق بين اليهودي والمتنصر إبان تلك الفترة، كما أن البلاء والقتل والإبادة كان شبه عام لجميع المناطق التي يتواجد فيها اليهود في فلسطين خاصة والمناطق المجاورة لها.

ومن هنا فإن الحديث عن تلك الفترة فيه عسر واضح، إذ أنها حلقة مجهولة في تاريخ النصرانية، حتى إن نهاية أتباع المسيح عليه السلام وكذلك بولس تعتبر مجهولة2 بسبب ذلك البلاء الطويل الذي حل باليهود متتابعاً متلاحقاً من قبل الرومان، منذ رفع المسيح عليه السلام إلى تدمير تيطس لبيت المقدس سنة 70م، ثم استمر البلاء على من بقي منهم إلى التدمير الثاني في عهد الإمبراطور "أدريان" حيث تجمع مجموعة من اليهود وأمروا عليهم رجلاً يسمى "بركوكبا" وزعموا أنه المسيح المنتظر فخرج بهم على الرومان، فما كان من الإمبراطور الروماني "أدريان" حوالي عام 130م إلا أن أرسل حملة كبيرة وأمرها بتدمير جميع المحلات التي يمرون عليها، محلاً، محلاً، واستمر في ذلك سنتين حتى دمر بلاد اليهود، وقضى عليهم، وأعاد تدمير بيت المقدس وبنى محله هيكلاً للمشتري، معبود الرومان في ذلك الوقت، وحرم على اليهود الدخول إلى بيت المقدس إلا يوماً واحداً في السنة بعد دفع غرامة مالية كبيره3.

1 انظر تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 380-383.

2 انظر تاريخ المسيحية 1/3.

3 انظر تاريخ بني إسرائيل من أسفارهم ص 387.

ص: 181

فلاشك أن أحداثاً جساماً كهذه كانت سبباً من الأسباب المباشرة للانقطاع التاريخي البيَّن في تاريخ النصارى الذين كانوا في ذلك الوقت لا يتميزون عن اليهود بشيء خاصة لدى من هو خارج إطارهم مثل الرومان واليونان الوثنيين.

كما أن الثقل الديني والإلتزام بمبادئ المسيح عليه السلام كان متمركزاً في بيت المقدس، وكان سبق أن حدث انقسام بين دعاة النصارى في مسألة شريعة موسى عليه السلام ووجوب التزامها وإلزام المتنصرين من الوثنيين بها، وكان المحافظون على الشريعة والموجبون للإلتزام بها من المتبعين للمسيح من اليهود هم القوة الغالبة في ذلك الوقت.

إلا أن تدمير بيت المقدس وقتل اليهود وجه لهذه الفئة بالذات ضربة قاصمه، وأفسح المجال لبولس وأتباعه المنادين بإلغاء العمل بالشريعة الموسوية وفصلها عن ديانة المسيح عليه السلام يقول حبيب سعيد "أما خراب أورشليم في الشرق إثر التمرد اليهودي سنة 70م فكان له أثر عميق في المسيحية، وذلك لأنه قضى على الجماعات الفلسطينية، وتضخم أعداد متنصرى الوثنية، من العوامل التي جعلت كفاح "بولس" للتخلص من اليهودية الناموسيه الضيقه، غير ذي موضوع، وغدت أنطاكيه ورومية وبعدها أفسس أهم المراكز في تطور التاريخ المسيحي1".

والناظر في تاريخ تلك الفترة يجد أنها أفرزت افرازات خطيرة جداً في الديانة النصرانية حيث ظهرت المذاهب والأقوال المختلفة والمتباينة في المسيح وديانته، نذكر منها:-

1 تاريخ المسيحية (1/46) .

ص: 182

الغنوصية 1: وهو اسم يطلقه النصارى على فرق عديدة، تجمع في عقيدتها بين إلهين اثنين أو أكثر، وتبني مطالبها على المعرفة2.

المارسيونية أو الماركونية: وهم أتباع مارسيون الذي ولد في آسيا سنة 85م، وبعضهم يقول 120م، ومن معتقداته القول بإلهين: أحدهما إله اليهود، وهو في زعمه إله قاس شرس، وهو الذي خلق هذا العالم المادي. ومع ذلك فهو أقل مستوى من الإله الآخر الذي هو إله الرحمة والمحبة، حيث هو الإله الحقيقي المحتجب والذي ظهر في شخص المسيح، ويرى أن المسيح لم يمت على الصليب ولم يدفن ولم يقم من القبر، ولكنه اختفى فجأة ليبشر الموتى في الهاوية ثم رجع بعد ذلك ليقوم بعمله كالأب المحتجب في السماء.

المونتانية: وهي تنسب إلى رجل اسمه " مونتانس " ادعى النبوة بعد منتصف القرن الثاني الميلادي، وزعم أن الروح القدس يتكلم إليه، وتنبأ معه أيضاً امرأتان أعلنتا قرب نهاية العالم وقرب رجوع المسيح عليه السلام. ولكي يستعدوا لهذا المجيء أمرت المتنبئتان الناس بالكف عن الزواج وعن شرب الخمر وعن الأطعمة الشهية، وصاروا ينتظرون مجيء المسيح، حتى خرج مجموعة منهم إلى الصحراء لاستقبال المسيح، وكادوا أن يهلكوا من الجوع والعطش لولا أن السلطات أنقذتهم. وقد استمرت المونتانية قائمة إلى القرن الخامس الميلادي3.

1 الغنوصية: كلمة يونانية تترجم بـ " العرفانية"، وهي فلسفة دينية صوفية. انظر: موسوعة الفلسفة (2/86)

2 انظر فرق الغنوصية ومقالاتها في تاريخ الفكر المسيحي 1/396.

3 تاريخ الكنيسة (1/120) .

ص: 183

البنويون: وقولهم: أن المسيح إنسان ولد من مريم بطريقة إعجازية، وأن الله عز وجل في وقت تعميد المسيح تبناه ووهبه قوة لعمل المعجزات، واستمر بشراً إنساناً إلى أن صلب ثم مات، وقام من الموت، ورفع إلى السماء، وهم ينتظرون مجيئه ليخلص أتباعه من العار الذي أصابهم بسبب صلبه، وهم يتمسكون بالشريعة الموسوية1

الانتحالية أوالوحدوية: وهي عدة مذاهب نصرانية نادت بأن الله واحد وليس ثلاثة ولها مذاهب وأقوال منها:-

السابليوسية: نسبة إلى الكاهن سابليوس المتوفى سنة 261م وهو كما قيل عنه يعتقد: بأن الله واحد غير قابل للتجزئة وينكر الثالوث إلا أنه يرى أن الله الخالق تجسد بعد في صورة المسيح فصار إبناً، فتألم وصلب ثم تحول بعد ذلك إلى الروح القدس الذي صار مرشداً للتلاميذ. فعنده أن الله واحد قد أخذ هذه الأدوار الثلاثة كلها.

بولس السميساطي: وهو أسقف أنطاكيه الذي رُسِّم أُسقفاً لها سنة260م، وكان يقول إن الله واحد، وأن كلمته وحكمته من صفاته، وأن هذه الصفة "الكلمه" حلَّت على المسيح الذي هو بشر ولد من مريم فحين حلَّت عليه الكلمة صار المسيح الفادي والمخلص، ورفعه الله مكافأة له، وأعطاه إسماً فوق كل اسم.

الأريوسية: نسبة إلى الأسقف الليبي "آريوس" الذي درس على تلميذ بولس السميساطي وهو "لوقيانوس" وكان آريوس يعلم بأن الله إله واحد غير

1 تاريخ الفكر المسيحي (1/490-497) .

ص: 184

مولود أزلي، أما الإبن فليس أزلياً بل وجد وقت لم يكن الإبن فيه موجوداً، وهو خرج من العدم مثل غيره من المخلوقات حسب مشيئة الله، فهو ليس إلهاً، ولايملك شيئاً من الصفات الإلهية، إلا أن الله منحه مجداً جعله فوق كل الخلائق.

وقد انتشرت الآريوسيه إنتشاراً عظيماً، وهي التي انعقد مجمع نيقيه سنة 325م بأمر الإمبراطور قسطنطين1 للنظر فيها وغيرها من المذاهب التي كان يتوزع إليها النصارى في ذلك الوقت2.

فهذه المذاهب والأقوال المتباينة كانت منتشرة بين النصارى في ذلك الوقت، ولأتباعها نشاط قوي أيضاً، وكانت المواجهات القوية كثيراً ما تحدث بينهم وبين من يخالفهم، وخاصة أتباع مذهب "بولس" الذي كان له تلاميذ وأتباع فيما يظهر أقوياء وذوي نشاط في دعوتهم، وقد استطاعوا أن يترأسو المراكز الدينية في ذلك الوقت، بعد سقوط عاصمة الديانة الأولى، وهي بيت المقدس، وتلك المراكز تمثلت في أنطاكيه، والإسكندريه، وروما، وكانت في الغالب في يد أتباع بولس، وقد كان من أولئك الأتباع:-

أسقف أنطاكيه إغناطيوس الأنطاكي الذي نصب أسقفاً لكنيسة أنطاكيه وذلك في سنة 70م 3.

وأسقف كنيسة روما إكلميندس الروماني الذي نصب فيما يظن من سنة

1 انظر الحديث عن هذا في الكلام على المجامع النصرانية ص221.

2 انظر مرجعاً لهذه النحل كل من كتاب تاريخ الكنيسة لجون لوريمر (1/102-123) تاريخ الفكر المسيحي حنا الخضري (1/592-620) .

3 تاريخ الفكر المسيحي 1/415-417، تاريخ المسيحية 1/61.

ص: 185

92-

101م1.

وأسقف سميرنا (أزمير) بوليكاربوس: الذي قتل في اضطهادات الحاكم ماركوس أوريليوس سنة 156م2.

وأسقف ليون ايريناوس: الذي يعتقد أنه توفي بين سنتي 190-202م3.

جاستين- يوستينوس مارتر الذي فتح مدرسة في روما ثم أعدم في سنة 165م4.

واكلميندس الإسكندري: الذي ولد سنة 150م في بلاد اليونان ثم انتقل إلى الإسكندرية حيث التحق بمدرستها التي تدعى "مدرسة التعليم المسيحي5" وتولى إدارتها ويعتقد أنه توفي سنة 215م6

وإريجانوس المصري: الذي ولد حوالي 185م في الإسكندرية، وتولى إدارة المدرسة اللاهوتية فيها بعد مديرها السابق، توفي في صور سنة 253م7.

وإثناسيوس: الذي نُصِّبَ أسقفاً على الإسكندرية سنة 328م خلفاً

1 تاريخ الفكر المسيحي (1/420) .

2 تاريخ الفكر المسيحي (1/426) ، تاريخ المسيحية (1/98) .

3 تاريخ الفكر المسيحي (1/431) تاريخ المسيحية (1/131) .

4 تاريخ الفكر المسيحي (1/444) تاريخ الكنيسه (1/98) .

5 هذه المدرسه أسسها فيما يقال باتينوس الذي كان وثنياً رواقياً قبل المسيحية وقد أسس مدرسة الإسكندرية اللاهوتية سنة 179م وقام بالتعليم فيها. انظر تاريخ المسيحية (1/127) تاريخ الفكر المسيحي (1/501) . وهذه المدرسة كان لها الدور الأكبر بعد في الوقوف في وجه دعوة اريوس عن طريق الاسقف الإسكندروس ثم اثناسيوس.

6 تاريخ الفكر المسيحي (1/500) تاريخ المسيحية (1/138) .

7 تاريخ الفكر المسيحي (1/539) تاريخ المسيحية (1/138) .

ص: 186

لإسكندروس، واللذان كان لهما أكبر الأثر في تحريف دين المسيح عليه السلام بترسيخ عقيدة ألوهية المسيح في مجمع نيقيه الذي دعا إليه الإمبراطور قسطنطين سنة 325م ونبذ دعوة التوحيد التي كان يتزعمها آريوس الليبي1.

وكانت هذه المواجهات بين المختلفين من دعاة النصارى وأساقفتهم تنتهي في الغالب بالدعوة إلى مجمع من المجامع، الذي يعلن في نهايته بحرمان من قصد حرمانه وطرده من الشركة النصرانية2 وفي الغالب لا ينصاع المطرود والمحروم لتلك القرارات، بل يستمر في نشر تعاليمه3.

ومن المعلوم أن النصارى في تلك الفترة لم تكن لهم دولة، ولم يقم لهم تجمع متكامل بحيث يمكن أن يقال عنهم أنهم أمة مجتمعه، بل كانوا أول الأمر يعيشون بين بني جنسهم اليهود ثم بين الوثنيين، وهذا جعلهم في حالة من البلاء والعذاب شديدة، فحين كانوا بين بني جنسهم اليهود كانوا يُضْطَهدون لأن اليهود اعتبروهم خارجين عن شريعتهم، وفي نفس الوقت يضطهد الجميع الرومان الوثنيون الذين كانوا لا يعرفون فرقاً بين اليهودي والنصراني، لهذا فقد كان لثورات اليهود على الرومان أسوأ الأثر على النصارى، وبعد القضاء على اليهود وطرد من بقي منهم خارج فلسطين واجه النصارى الذين كانوا بين الوثنيين إضطهاداً شبه متواصل من قبل حكام الرومان الوثنيين4 استمر قرابة ثلاثة قرون، إلى أن تولى الإمبراطور قسطنطين عرش

1 تاريخ الفكر المسيحي (1/642) تاريخ المسيحية (1/152) .

2 مقصدهم بذلك الحكم بانحرافه عن الدين والحكم عليه بالكفر وإخراجه من الجماعة.

3 انظر تاريخ الفكر المسيحي (1/480) في موقف الكنيسة من المارسيونيه، وفي (1/606-608) في الموقف من بولس السميساطي، وفي (1/632) في موقف الكنيسة من الآريوسيه.

4 انظر فصل عوامل تحريف رسالة المسيح ص306.

ص: 187

روما، فأوقف الاضطهاد بمرسوم ميلان سنة 313م1، وابتدأ النصارى منذ ذلك التاريخ، يظهرون على السطح، وبدأت ديانتهم تنتشر انتشاراً فعلياً على حساب الوثنية التي كانت تدين بها أكثر الشعوب في ذلك الوقت، إلا أن النصرانية نفسها في هذه الفترة المتأخرة قد وصلت إلى الوثنيين وقد أثرت في كثير من دعاتها السنون العجاف المتطاولة التي مرت بهم، فانحرفوا عن دين المسيح عليه السلام وجعلوه ديناً وثنياً يقوم على تأليه ثلاثة آلهة في ثلاثة أقانيم يزعمون أنها إله واحد، ويعتمدون في شرح الديانة وتفصيل العقيدة على الفلسفة، وخاصة الأفلاطونية الحديثة والرواقية، وكان من يسمون بالمدافعين عن النصرانية في تلك العهود جلهم قد درس الفلسفة الوثنية، وربما كان تابعاً لها فترة طويلة ثم تحول إلى النصرانية بفلسفته وسابق تصوراته2 فهذا كله جعل الوثني لا يجد فرقاً كبيراً بين ما كان يعتقد وما يدعوا إليه النصارى.

وكان لتنصر أباطرة الرومان وأولهم قسطنطين أكبر الأثر في انتشار النصرانية في الدولة الرومانية المترامية الأطراف - والناس على دين ملوكهم- إلا أن تنصر الأباطرة قد جعل النصارى يواجهون مشكلة كبرى وهي وصاية الأباطرة على الديانة وتعاليمها، حيث صارت بعد ذلك في يد الأباطرة الرومان الذين يسيرون العقائد النصرانية وفق أهوائهم، فينصرون من المذاهب ما يتفق مع أهوائهم، فإذا كان هناك أحد يدعوا إلى تعاليم لا يميلون إليها فإنهم يطلبون من النصارى عقد مجمع ويوعز إليهم بطرد ولعن من لا يرغبون، يقول حبيب سعيد: " وباحتضان الإمبراطورية للكنيسة، تعرضت القوى الروحية في

1 انظر تاريخ الكنيسة (2/119) .

2 انظر تأثير الفلسفة الوثنية على النصرانية ص317.

ص: 188

الكنيسة لخطر الإختناق والفناء - وغدا تنفيذ القانون الكنسي، واستدعاء المجالس العامة وتنفيذ قرارتها، وتعيين الأساقفة في المراكز الهامة، وحق الإختصاص الأعلى للمحاكم الروحية، والقول الفصل في المشاكل الجدلية والتي قد تنشأ حول العقائد، غدت كلها من الحقوق التي طالبت بها الدولة الرومانية وأصرت على انتزاعها من السلطات الدينيه"1.

يؤكد لنا هذا التسلط ويوضحه أن الذي دعا إلى مجمع نيقيه سنة 325م هو الإمبراطور قسطنطين وكان حاضراً في ذلك المجمع وقرر فيه أُلوهية المسيح وطرد أريوس وجماعته، ثم صدق بعده بعشر سنوات على قرارات مجمع صور التي فيها إعادة أريوس إلى الكنيسة وطرد إثناسيوس الذي كان وراء إقرار الوهبة المسيح عليه السلام.

ثم دعا كل من الإمبراطور الغربي قسطنطين الثاني والإمبراطور الشرقي قسطنديوس إلى مجمع في مدينة سارديكا سنة 343م بغرض توحيد النصارى، لكن النصارى لم يتفقوا وخرجوا أشد اختلافاً وتفرقاً.

ثم بعد مقتل الإمبراطور قسطنطين الثاني دعا الإمبراطور قسطنديوس إلى مجمع ميلانو سنة 355م وطلب من الأساقفة إصدار حكم بخلع اثناسيوس، ووقعت الأغلبية على ما أراد، ثم دعا ذلك الإمبراطور أيضاً إلى مجمعين في نفس الوقت مجمع في تركيا ومجمع في إيطاليا سنة 359م وأمر الذين يشرفون على مجمع إيطاليا بإرغام المجتمعين على التوقيع على قرار المجمع الذي يوافق نوعاً ما مذهب الآريوسيين الذين يسمون "الأريوسيين المعتدلين".

1 تاريخ المسيحية (1/144) .

ص: 189

كما استخدم القوة العسكرية من أجل إرغام المجتمعين في تركيا على التوقيع، ثم جاء الإمبراطور ثيود وسيوس وكانت ميوله ضد الأريوسية1 فدعا إلى مجمع القسطنطينة سنة 381م، وقرر المجمع العودة إلى قانون الإيمان النيقوي2 وزادوا عليه: ألوهية الروح القدس واعتبار الأريوسيه ضد القانون الروماني3، وهو المذهب الذي عليه الغالبية العظمى من النصارى إلى الآن.

وهكذا نجد أن النصرانية صارت ألعوبه بيد أباطرة الرومان يسيرونها وفق أهوائهم ورغباتهم إلى أن سقطت الدولة الرومانية أمام هجمات القبائل القادمة من الشرق والشمال الشرقي التي استولت على روما سنة 410م4.

وبهذا نكون قد عرضنا في هذا المبحث التاريخ النصراني المبكر بشكل مختصر، ولعله يكون وافياً بالغرض، ولابد أن نبين هنا أن انتصار أتباع بولس ومذهبه قد جعل مصادر دارسي مثل هذه الموضوعات تعتمد عليهم، فهم الذين نقلوا كل هذه المعلومات عن معلميهم، وعن الفرق الأخرى ومعلميها، لذا فإن الحكم على صحة المعلومات عن تلك الفرق وأولئك الناس وخاصة في مجال العقيدة لا يكون صحيحاً دقيقا إلا في حالة الاطلاع على كلام صاحب المقالة أو كلام تلاميذه وأتباعه عنه فعلى المطالع لذلك الانتباه في هذا الموضوع والحذر.

والله تعالى أعلم

1 انظر تاريخ الكنيسة (3/109) .

2 انظر قانون الإيمان ص221 عند الحديث عن مجمع نيقيه.

3 انظر تاريخ الفكر المسيحي (1/646-664) تاريخ الكنيسة (3/111) .

4 انظر تاريخ الكنيسة (3/140) .

ص: 190