الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
في فساده، وكذا صحح البغوي والرافعي عن الطهارة، وهو الأصح (1) .
(1)[المجموع شرح المهذب](1\188)
د-
طريقة الحنابلة:
قال عبد الله بن أحمد بن محمد بن قدامة:
في تطهير الماء النجس: هو ثلاثة أقسام:
القسم الأولى: أحدها: ما دون القلتين فتطهيره بالمكاثرة بقلتين طاهرتين: إما أن يصب فيه، أو ينبع فيه فيزول بها تغيره إن كان متغيرا، وإن لم يكن متغيرا طهر بمجرد المكاثرة؛ لأن القلتين لا تحمل الخبث ولا تنجس إلا بالتغير؛ ولذلك لو ورد عليها ماء نجس لم ينجسها ما لم يتغير به، فكذلك إذا كانت واردة، ومن ضرورة الحكم بطهارتهما طهارة ما اختلطتا به.
القسم الثاني: أن يكون وفق القلتين: فلا يخلو من أن يكون غير متغير بالنجاسة فيطهر بالمكاثرة المذكورة لا غير، الثاني: أن يكون متغيرا فيطهر بأحد أمرين: بالمكاثرة المذكورة إذا أزالت التغير، وبتركه حتى يزول تغيره بطول مكثه.
القسم الثالث: الزائد عن القلتين فله حالان:
أحدهما: أن يكون نجسا بغير التغير فلا طريق إلى تطهيره بغير المكاثرة.
الثاني: أن يكون متغيرا بالنجاسة فتطهيره بأحد أمور ثلاثة: المكاثرة، أو زوال تغيره بمكثه، وأن ينزح منه ما يزول به التغير، ويبقى بعد ذلك
قلتان فصاعدا، فإنه إن بقي ما دون القلتين قبل زوال تغيره لم يبق التغير علة تنجيسه؛ لأنه تنجس بدونه، فلا يزول التنجيس بزواله؛ ولذلك طهر الكثير بالنزح وطول المكث ولم يطهر القليل، فإن الكثير لما كانت علة تنجيسه التغير زال تنجيسه بزوال علته، كالخمرة إذا انقلبت خلا والقليل علة تنجيسه الملاقاة لا التغير فلم يؤثر زوال التنجيس، انتهى.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كلام في قاعدة التطهير للمياه وعدم الفرق بين المياه والمائع. والجواب على شبهة من فرق بينهما - قال:
إذا عرف أصل هذه المسألة فالحكم إذا ثبت لعلة زال بزوالها كالخمر لما كان الموجب لتحريمها ونجاستها هي الشدة فإذا زالت بفعل الله تعالى طهرت بخلاف ما إذا زالت بقصد الآدمي على الصحيح، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا تأكلوا خل خمر إلا خمرا بدأ الله بفسادها، ولا جناح على مسلم أن يشتري من خل خمر من أهل الذمة إذا لم يعلم أنهم تعمدوا إفسادها؛ وذلك لأن اقتناء الخمر محرم، فمتى قصد باقتنائها التخليل كان قد فعل محرما، والفعل المحرم لا يكون سببا للحل والإباحة.
وأما إذا اقتناها لشربها واستعمالها خمرا فهو لا يريد تخليلها، وإذا جعلها الله خلا كان معاقبة له بنقيض قصده فلا يكون في حلها وطهارتها مفسدة.
وأما سائر النجاسات فيجوز التعمد لإفسادها؛ لأن إفسادها ليس بمحرم كما لا يحد شاربها؛ لأن النفوس لا يخاف عليها بمقاربتها المحظور كما يخاف من مقاربة الخمر؛ ولهذا جوز الجمهور أن تدبغ جلود الميتة، وجوزوا أيضا إحالة النجاسة بالنار وغيرها. والماء لنجاسته سببان:(أحدهما) : متفق عليه، والآخر مختلف فيه، فالمتفق عليه: التغير بالنجاسة، فمتى كان الموجب لنجاسته التغير فزال التغير كان طاهرا كالثوب المضمخ بالدم إذا غسل عاد طاهرا (والثاني) : القلة، فإذا كان الماء قليلا ووقعت فيه نجاسة ففي نجاسته قولان للعلماء: فمذهب الشافعي وأحمد في إحدى الروايات عنه: أنه ينجس ما دون القلتين، وأحمد في الرواية المشهورة عنه: يستثني البول والعذرة المائية، فيجعل ما أمكن نزحه نجسا بوقوع ذلك فيه، ومذهب أبي حنيفة: ينجس ما وصلت إليه الحركة، ومذهب أهل المدينة وأحمد في الرواية الثالثة: أنه لا ينجس ولو لم يبلغ قلتين.
واختار هذا القول بعض الشافعية كالروياني.
وقد نصر هذه الرواية بعض أصحاب الشافعي، كما نصر الأول طائفة كثيرة من أصحاب أحمد، لكن طائفة من أصحاب مالك قالوا: إن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة ولم يحدوا ذلك بقلتين.
وجمهور أهل المدينة أطلقوا القول: فهؤلاء لا ينجسون شيئا إلا بالتغير، ومن سوى بين الماء والمائعات كإحدى الروايتين عن أحمد، وقال بهذا القول الذي هو رواية عن أحمد قال في المائعات كذلك كما قاله الزهري وغيره، فهؤلاء لا ينجسون شيئا من المائعات إلا بالتغير، كما ذكره البخاري في
[صحيحه] ، لكن على المشهور عن أحمد اعتبار القلتين في الماء. وكذلك في المائعات إذا سويت به.
فنقول: إذا وقع في المائع القليل نجاسة فصب عليه مائع كثير فيكون الجميع طاهرا إذا لم يكن متغيرا، وإن صب عليه ماء قليل دون القلتين وصار الجميع كثيرا فوق القلتين ففي ذلك وجهان في مذهب أحمد:
(أحدهما) : وهو مذهب الشافعي في الماء: أن الجميع طاهر.
(والوجه الثاني) : أنه لا يكون طاهرا حتى يكون المضاف كثيرا والمكاثرة المعتبرة أن يصب الطاهر على النجس، ولو صب النجس على الطاهر الكثير كان كما لو صب الماء النجس على ماء كثير طاهر أيضا، وذلك مطهر له إذا لم يكن متغيرا، وإن صب القليل الذي لاقته النجاسة على قليل لم تلاقه النجاسة وكان الجميع كثيرا فوق القلتين كان كالماء القليل إذا ضم إلى القليل.
وفي ذلك الوجهان المتقدمان، وهذا القول الذي ذكرناه في المائعات كالماء هو الأظهر في الدلالة، بل لو نجس القليل من الماء لم يلزم تنجس الأشربة والأطعمة؛ ولهذا أمر مالك بإراقة ما ولغ فيه الكلب من الماء القليل، كما جاء في الحديث، ولم يأمر مالك بإراقته من الأطعمة والأشربة واستعظم إراقة الطعام والشراب بمثل ذلك؛ وذلك لأن الماء لا ثمن له في العادة بخلاف أشربة المسلمين وأطعمتهم، فإن في نجاستها من المشقة والحرج ما لا يخفى على الناس، وقد تقدم أن جميع الفقهاء يعتبرون رفع الحرج في هذا الباب، فإذا لم ينجسوا الماء الكثير للحرج فكيف ينجسون نظيره من الأطعمة والأشربة والحرج في ذلك أشق؟ !
ولعل المائعات الكثيرة لا تكاد تخلو من نجاسة.
(فإن قيل) : الماء يدفع النجاسة عن غيره فعن نفسه أولى وأحرى بخلاف المائعات.
(قيل) : الجواب من وجوه:
(أحدها) : أن الماء إنما دفعها عن غيره؛ لأنه يزيلها عن ذلك المحل وتنتقل معه فلا يبقى على المحل نجاسة، وأما إذا سقطت فيه فإنما كان طاهرا لاستحالتها فيه، لا لكونه أزالها عن نفسه؛ ولهذا يقول أصحاب أبي حنيفة: إن المائعات كالماء في الإزالة، وهي كالماء في التنجيس، فإذا كانت كذلك لم يلزم من كون الماء يزيلها إذا زال معها أن يزيلها إذا كانت فيه.
ونظير الماء الذي فيه النجاسة الغسالة المنفصلة عن المحل وتلك نجسة قبل طهارة المحل.
وفيها بعد طهارة المحل ثلاثة أوجه: هل هي طاهرة أو مطهرة أو نجسة.
وأبو حنيفة نظر إلى هذا المعنى فقال: الماء ينجس بوقوعها فيه وإن كان يزيلها عن غيره، كما ذكرناه.
فإذا كانت النصوص وقول الجمهور على أنها لا تنجس بمجرد الوقوع مع الكثرة، كما دل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم:«الماء طهور لا ينجسه شيء (1) » ، وقوله:«إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل الخبث (2) » ، فإنه إذا كان طهورا يطهر به غيره، علم أنه لا ينجس بالملاقاة، إذ لو نجس بها لكان إذا صب على النجاسة ينجس بملاقاتها، فحينئذ لا ينجس بوقوع النجاسة فيه، لكن إن بقيت عين النجاسة حرمت وإن استحالت زالت، فدل ذلك
(1) سنن الترمذي الطهارة (66) ، سنن النسائي المياه (326) ، سنن أبو داود الطهارة (66) ، مسند أحمد بن حنبل (3/86) .
(2)
سنن الترمذي الطهارة (67) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (517) ، سنن الدارمي الطهارة (731) .
على أن استحالة النجاسة بملاقاته لها فيه لا ينجس وإن لم تكن قد زالت عن المحل فإن من قال: إنه يدفعها عن نفسه كما يزيلها عن غيره فقد خالف المشاهدة. وهذا المعنى يوجد في سائر الأشربة من المائعات وغيرها.
الوجه الثاني: أن يقال: غاية هذا أنه يقتضي أن يمكن إزالة النجاسة بالمائع، وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد، كما هو مذهب أبي حنيفة وغيره، وأحمد جعله لازما لمن قال: إن المائع لا ينجس بملاقاة النجاسة؛ وهذا لأنه إذا دفعها عن نفسه دفعها عن غيره، كما ذكروه في الماء فيلزم جواز إزالة النجاسات بكل مائع طاهر مزيل للعين قلاع للأثر على هذا القول.
وهذا هو القياس، فنقول به على هذا التقدير، وإن كان لا يلزم من دفعها عن نفسه دفعها عن غيره؛ لكون الإحالة أقوى من الإزالة، فيلزم من قال: إنه يجوز إزالة النجاسة بغير الماء من المائعات أن تكون المائعات كالماء، فإذا كان الصحيح في الماء: أنه لا ينجس إلا بالتغير إما مطلقا، وإما مع الكثرة، فكذلك الصواب في المائعات.
وفي الجملة التسوية بين الماء والمائعات ممكن على التقديرين، وهذا مقتضى النص والقياس في مسألة إزالة النجاسات وفي مسألة ملاقاتها للمائعات: الماء وغير الماء.
ومن تدبر الأصول المنصوصة المجمع عليها والمعاني الشرعية المعتبرة في الأحكام الشرعية - تبين له أن هذا هو أصوب الأقوال، فإن نجاسة الماء والمائعات بدون التغير بعيد عن ظواهر النصوص والأقيسة
وكون حكم النجاسة يبقى في مواردها بعد إزالة النجاسة بمائع أو غير مائع بعيد عن الأصول وموجب القياس، ومن كان فقيها خبيرا بمأخذ الأحكام الشرعية وأزال عنه الهوى تبين له ذلك، ولكن إذا كان في استعمالها فساد فإنه ينهى عن ذلك، كما كان ينهى عن ذبح الخيل التي يجاهد عليها، والإبل التي يحج عليها، والبقر التي يحرث عليها، ونحو ذلك؛ لما في ذلك من الحاجة إليها لا لأجل الخبث.
كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان في بعض أسفاره مع الصحابة فنفدت أزوادهم، فاستأذنوه في نحر ظهورهم، فأذن لهم، ثم أتى عمر رضي الله عنه فسأله أن يجمع الأزواد فيدعو الله بالبركة فيها ويبقي الظهر، ففعل ذلك.
فنهيه لهم عن نحر الظهر كان لحاجتهم إليه للركوب، لا لأن الإبل محرمة؛ فلهذا ينهى عما يحتاج إليه من الأطعمة والأشربة عن إزالة النجاسة بها كما ينهى عن الاستنجاء بما له حرمة من طعام الإنس والجن، وعلف دواب الإنس والجن، ولم يكن ذلك لكون هذه الأعيان لا يمكن الاستنجاء بها، بل لحرمتها، فالقول في المائعات كالقول في الجامدات.
(الوجه الثالث) : أن يقال: إحالة المائعات للنجاسة إلى طبعها أقوى من إحالة الماء وتغير الماء بالنجاسات أسرع من تغير المائعات، فإذا كان الماء لا ينجس بما يقع فيه من النجاسة لاستحالتها إلى طبيعته فالمائعات أولى وأحرى.
(الوجه الرابع) : أن النجاسة إذا لم يكن لها في الماء والمائع طعم ولا
لون ولا ريح فلا نسلم بأن يقال بنجاسته أصلا، كما في الخمر المنقلبة أو أبلغ وطرد ذلك في جميع صور الاستحالة.
فإن الجمهور على أن المستحيل من النجاسات طاهر، كما هو المعروف عن الحنفية والظاهرية وهو أحد القولين في مذهب مالك وأحمد ووجه في مذهب الشافعي.
(الوجه الخامس) : إن دفع المائعات للنجاسة عن نفسها كدفع الماء لا يختص بالماء، بل هذا الحكم ثابت في التراب وغيره.
فإن العلماء اختلفوا في النجاسة إذا أصابت الأرض وذهبت بالشمس أو الريح أو الاستحالة هل تطهر الأرض؟ على قولين:
أحدهما: تطهر: وهو مذهب أبي حنيفة، وأحد القولين في مذهب الشافعي وأحمد، وهو الصحيح في الدليل.
فإنه قد ثبت عن ابن عمر أنه قال: كانت الكلاب تقبل وتدبر وتبول في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكونوا يرشون شيئا من ذلك، وفي [السنن] أنه قال:«إذا أتى أحدكم المسجد لينظر في نعليه، فإن كان بهما أذى فليدلكهما بالتراب، فإن التراب لهما طهور (1) » .
وكان الصحابة - كعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وغيره - يخوضون في الوحل ثم يدخلون فيصلون بالناس ولا يغسلون أقدامهم. وأوكد من هذا «قوله صلى الله عليه وسلم في ذيول النساء إذا أصابت أرضا طاهرة بعد أرض خبيثة: " فتلك بتلك "، وقال: " يطهره ما بعده (2) » .
وهذا هو أحد القولين في مذهب أحمد وغيره، وقد نص عليه أحمد
(1) سنن أبو داود الصلاة (650) ، مسند أحمد بن حنبل (3/20) ، سنن الدارمي الصلاة (1378) .
(2)
سنن الترمذي الطهارة (143) ، سنن أبو داود الطهارة (383) ، سنن ابن ماجه الطهارة وسننها (531) ، مسند أحمد بن حنبل (6/290) ، موطأ مالك الطهارة (47) ، سنن الدارمي الطهارة (742) .