الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
النقل عن الحنابلة:
أ- قال ابن قدامة: وإن منعها معتقدا وجوبها وقدر الإمام على أخذها منه أخذها وعزره ولم يأخذ زيادة عليها في قول أكثر أهل العلم. منهم: أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم. وكذلك إن غل ماله وكتمه حتى لا يأخذ الإمام زكاته فظهر عليه.
وقال إسحاق بن راهويه وأبو بكر بن عبد العزيز: يأخذها وشطر ماله؛ لما روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: «في كل سائمة الإبل في كل أربعين بنت لبون، لا تفرق عن حسابها، من أعطاها مؤتجرا فله أجرها، ومن أباها فإني آخذها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا لا يحل لآل محمد منها شيء (1) » .
وذكر هذا الحديث لأحمد فقال: ما أدري ما وجهه؟ وسئل عن إسناده؟ فقال: هو عندي صالح الإسناد. رواه أبو داود والنسائي في سننهما.
ووجه الأول: قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ليس في المال حق سوى الزكاة (2) » .
ولأن منع الزكاة كان في زمن أبي بكر رضي الله عنه بموت رسول الله صلى الله عليه وسلم مع توفر الصحابة رضي الله عنهم، فلم ينقل أحد عنهم زيادة ولا قولا بذلك.
واختلف أهل العلم في العذر عن هذا الخبر:
فقيل: كان في بدء الإسلام، حيث كانت العقوبات في المال ثم نسخ بالحديث الذي رويناه.
وحكى الخطابي عن إبراهيم الحربي أنه يؤخذ منه السن الواجبة عليه
(1) سنن النسائي الزكاة (2444) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، مسند أحمد بن حنبل (5/4) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .
(2)
سنن الترمذي الزكاة (659) ، سنن ابن ماجه الزكاة (1789) ، سنن الدارمي الزكاة (1637) .
من خيار ماله من غير زيادة في سن ولا عدد، لكن ينتقي من خير ماله ما تزيد به صدقته في القيمة بقدر شطر قيمة الواجب عليه، فيكون المراد بماله ها هنا الواجب عليه من ماله فيزاد عليه في القيمة بقدر شطره (1) .
ب- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: و (التعزير بالعقوبات المالية) مشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك في المشهور عنه، ومذهب أحمد في مواضع بلا نزاع عنه، وفي مواضع فيها نزاع عنه، والشافعي في قول، وإن تنازعوا في تفصيل ذلك. كما دلت عليه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم في مثل إباحته سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده، ومثل أمره بكسر دنان الخمر وشق ظروفه، ومثل «أمره عبد الله بن عمر بحرق الثوبين المعصفرين، وقال له: أغسلهما؟ قال: لا، بل أحرقهما» ، وأمره لهم يوم خيبر بكسر الأوعية التي فيها لحوم الحمر. ثم لما استأذنوه في الإراقة أذن. فإنه «لما رأى القدور تفور بلحم الحمر أمر بكسرها وإراقة ما فيها، فقالوا: أفلا نريقها ونغسلها؟ فقال: " افعلوا (2) » .
فدل ذلك على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة بذلك لم تكن واجبة.
ومثل: هدمه لمسجد الضرار، ومثل: تحريق موسى للعجل المتخذ إلها، ومثل: تضعيفه صلى الله عليه وسلم الغرم على من سرق من غير حرز، ومثل: ما روي من إحراق متاع الغال، ومن حرمان القاتل سلبه لما اعتدى على الأمير.
ومثل: أمر عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب بتحريق المكان
(1)[المغني] ومعه [الشرح الكبير](2\ 435) .
(2)
صحيح البخاري كتاب الأدب (6148) ، صحيح مسلم الجهاد والسير (1802) ، سنن النسائي الجهاد (3150) ، سنن ابن ماجه الذبائح (3195) ، مسند أحمد بن حنبل (4/48) .
الذي يباع فيه الخمر، ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، ومثل: تحريق عثمان بن عفان المصاحف المخالفة للإمام، وتحريق عمر بن الخطاب لكتب الأوائل، وأمره بتحريق قصر سعد بن أبي وقاص الذي بناه لما أراد أن يحتجب عن الناس، فأرسل محمد بن مسلمة، وأمره أن يحرقه عليه، فذهب فحرقه عليه.
وهذه القضايا كلها صحيحة معروفة عند أهل العلم بذلك، ونظائرها متعددة.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك عن أصحاب مالك وأحمد فقد غلط على مذهبهما.
ومن قاله مطلقا من أي مذهب كان فقد قال قولا بلا دليل.
ولم يجئ عن النبي صلى الله عليه وسلم شيء قط يقتضي أنه حرم جميع العقوبات المالية، بل أخذ الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة بذلك بعد موته دليل على أن ذلك محكم غير منسوخ.
وعامة هذه الصور منصوصة عن أحمد ومالك وأصحابه. وبعضها قول عند الشافعي باعتبار ما بلغه من الحديث.
ومذهب مالك وأحمد وغيرهما: أن العقوبات المالية كالبدنية، تنقسم إلى ما يوافق الشرع وإلى ما يخالفه، وليس العقوبة المالية منسوخة عندهما. والمدعون للنسخ ليس معهم حجة بالنسخ، لا من كتاب ولا سنة.
وهذا شأن كثير ممن يخالف النصوص الصحيحة والسنة الثابتة بلا حجة، إلا مجرد دعوى النسخ، وإذا طولب بالناسخ لم يكن معه حجة
لبعض النصوص (1) توهمه ترك العمل إلا أن مذهب طائفته ترك العمل بها إجماع، والإجماع دليل على النسخ.
ولا ريب أنه إذا ثبت الإجماع كان ذلك دليلا على أنه منسوخ، فإن الأمة لا تجتمع على ضلالة، ولكن لا يعرف إجماع على ترك نص إلا وقد عرف النص الناسخ له؛ ولهذا كان أكثر من يدعي نسخ النصوص بما يدعيه من الإجماع إذا حقق الأمر عليه لم يكن الإجماع الذي ادعاه صحيحا، بل غايته أنه لم يعرف فيه نزاعا. ثم من ذلك ما يكون أكثر أهل العلم على خلاف قول أصحابه، ولكن هو نفسه لم يعرف أقوال العلماء.
وأيضا فإن واجبات الشريعة التي هي حق لله ثلاثة أقسام: عبادات، كالصلاة والزكاة والصوم. وعقوبات؛ إما مقدرة، وإما مفوضة. وكفارات. وكل واحد من أقسام الواجبات ينقسم إلى بدني وإلى مالي، وإلى مركب منهما.
فالعبادات البدنية: كالصلاة والصيام. والمالية: كالزكاة. والمركبة: كالحج.
والكفارات المالية: كالإطعام. والبدنية: كالصيام. والمركبة: كالهدي يذبح.
والعقوبات البدنية: كالقتل والقطع. والمالية: كإتلاف أوعية الخمر. والمركبة: كجلد السارق من غير حرز وتضعيف الغرم عليه، وكقتل
(1) لعله (إلا بعض نصوص) إلخ.
الكفار وأخذ أموالهم.
وكما أن العقوبات البدنية تارة تكون جزاء على ما مضى كقطع السارق، وتارة تكون دفعا عن المستقبل كقتل القاتل، فكذلك المالية، فإن منها ما هو من باب إزالة المنكر. وهي تنقسم كالبدنية إلى إتلاف، وإلى تغيير، وإلى تمليك الغير.
فالأول المنكرات من الأعيان والصفات يجوز إتلاف محلها تبعا لها مثل: الأصنام المعبودة من دون الله لما كانت صورها منكرة جاز إتلاف مادتها. فإذا كانت حجرا أو خشبا ونحو ذلك جاز تكسيرها وتحريقها، وكذلك آلات الملاهي، مثل الطنبور، يجوز إتلافها عند أكثر الفقهاء. وهو مذهب مالك، وأشهر الروايتين عن أحمد.
ومثل ذلك: أوعية الخمر يجوز تكسيرها وتخريقها. والحانوت الذي يباع فيه الخمر يجوز تحريقه. وقد نص أحمد على ذلك هو وغيره من المالكية وغيرهم.
واتبعوا ما ثبت عن عمر بن الخطاب أنه أمر بتحريق حانوت كان يباع فيه الخمر لرويشد الثقفي، وقال: إنما أنت فويسق لا رويشد. وكذلك أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أمر بتحريق قرية كان يباع فيها الخمر، رواه أبو عبيد وغيره؛ وذلك لأن مكان البيع مثل الأوعية. وهذا أيضا على المشهور في مذهب أحمد ومالك وغيرهما.
ومما يشبه ذلك ما فعله عمر بن الخطاب، حيث رأى رجلا قد شاب اللبن بالماء للبيع فأراقه عليه. هذا ثابت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وبذلك أفتى طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل؟ وذلك لما
روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يشاب اللبن بالماء للبيع، وذلك بخلاف شوبه للشرب؛ لأنه إذا خلط لم يعرف المشتري مقدار اللبن من الماء، فأتلفه عمر.
ونظيره ما أفتى به طائفة من الفقهاء القائلين بهذا الأصل في جواز إتلاف المغشوشات في الصناعات: مثل الثياب التي نسجت نسجا رديئا أنه يجوز تمزيقها وتحريقها؛ ولذلك لما رأى عمر بن الخطاب على ابن الزبير ثوبا من حرير مزقه عليه، فقال الزبير: أفزعت الصبي، فقال: لا تكسوهم الحرير. وكذلك تحريق عبد الله بن عمر لثوبه المعصفر بأمر النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا كما يتلف من البدن المحل الذي قامت به المعصية، فتقطع يد السارق، وتقطع رجل المحارب ويده. وكذلك الذي قام به المنكر في إتلافه نهي عن العود إلى ذلك المنكر. وليس إتلاف ذلك واجبا على الإطلاق، بل إذا لم يكن في المحل مفسدة جاز إبقاؤه أيضا، إما لله وإما أن يتصدق به، كما أفتى طائفة من العلماء على هذا الأصل: أن الطعام المغشوش من الخبز والطبيخ والشواء، كالخبز والطعام الذي لم ينضج، وكالطعام المغشوش، وهو الذي خلط بالرديء وأظهر المشتري أنه جيد ونحو ذلك- يتصدق به على الفقراء، فإن ذلك من إتلافه.
وإذا كان عمر بن الخطاب قد أتلف اللبن الذي شيب للبيع، فلأن يجوز التصدق بذلك بطريق الأولى، فإنه يحصل به عقوبة الغاش وزجره عن العود، ويكون انتفاع الفقراء بذلك أنفع من إتلافه.
وعمر أتلفه؛ لأنه كان يغني الناس بالعطاء، فكان الفقراء عنده في
المدينة إما قليلا وإما معدومين.
ولهذا جوز طائفة من العلماء التصدق به وكرهوا إتلافه، ففي [المدونة] عن مالك بن أنس: أن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن المغشوش في الأرض أدبا لصاحبه. وكره ذلك مالك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به، وهل يتصدق باليسير؟ فيه قولان للعلماء.
وقد روى أشهب عن مالك منع العقوبات المالية، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان وإن قتل نفسا. لكن الأول أشهر عنه، وقد استحسن أن يتصدق باللبن المغشوش، وفي ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه، ولا يهراق.
قيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف منه، فأما إذا كثر منه فلا أرى ذلك، وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، يريد في الصدقة بكثيره.
قال بعض الشيوخ: وسواء على مذهب مالك كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه ساوى في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره، وخالفه ابن القاسم فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا، وذلك إذا كان هو الذي غشه.
وأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو، وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف في أنه لا يتصدق بشيء من ذلك.
وممن أفتى بجواز إتلاف المغشوش من الثياب ابن القطان. قال في
الملاحف الرديئة النسج: تحرق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بالتصدق، وقال: تقطع خرقا وتعطى للمساكين إذا تقدم إلى مستعمليها فلم ينتهوا. وكذلك أفتى بإعطاء الخبز المغشوش للمساكين.
فأنكر عليه ابن القطان، وقال: لا يحل هذا في مال امرئ مسلم إلا بإذنه.
قال القاضي أبو الأصبغ: وهذا اضطراب في جوابه وتناقض في قوله؛ لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطاء هذا الخبز للمساكين. وابن عتاب أضبط في أصله في ذلك وأتبع لقوله.
وإذا لم ير ولي الأمر عقوبة الغاش بالصدقة أو الإتلاف فلا بد أن يمنع وصول الضرر إلى الناس بذلك الغش، إما بإزالة الغش، وإما ببيع المغشوش ممن يعلم أنه مغشوش ولا يغشه على غيره.
قال عبد الملك بن حبيب: قلت لمطرف وابن الماجشون لما نهينا عن التصدق بالمغشوش لرواية أشهب: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما كثر من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يفرق ولا ينهب.
قال عبد الملك بن حبيب: ولا يرده الإمام إليه وليؤمر ببيعه عليه من يأمن أن يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ويسلم لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، هكذا العمل فيما غش من التجارات.
قال: وهو إيضاح من استوضحته ذلك من أصحاب مالك وغيرهم (1) .
ج- قال ابن القيم: وأما التعزير بالعقوبات المالية فمشروع أيضا في مواضع مخصوصة في مذهب مالك وأحمد وأحد قولي الشافعي.
وقد جاءت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن أصحابه بذلك في مواضع:
منها: إباحته صلى الله عليه وسلم سلب الذي يصطاد في حرم المدينة لمن وجده.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم بكسر دنان الخمر وشق ظروفها.
ومثل: أمره لعبد الله بن عمر بأن يحرق الثوبين المعصفرين.
ومثل: أمره صلى الله عليه وسلم يوم خيبر بكسر القدور التي طبخ فيها لحم الحمر الإنسية ثم استأذنوه في غسلها، فأذن لهم، فدل على جواز الأمرين؛ لأن العقوبة لم تكن واجبة بالكسر.
ومثل: هدمه مسجد الضرار.
ومثل: تحريق متاع الغال.
ومثل: حرمان السلب الذي أساء على نائبه.
ومثل: إضعاف الغرم على سارق ما لا قطع فيه من الثمر والكثر.
ومثل: إضعافه الغرم على كاتم الضالة.
ومثل: أخذ شطر مال مانع الزكاة، عزمة من عزمات الرب تبارك وتعالى.
ومثل: أمره لابس خاتم الذهب بطرحه، فطرحه فلم يعرض له أحد.
ومثل: تحريق موسى عليه السلام العجل وإلقاء برادته في اليم.
(1)[مجموع فتاوى شيخ الإسلام](28\ 109) وما بعدها.
ومثل: قطع نخيل اليهود إغاظة لهم.
ومثل: تحريق عمر وعلي رضي الله عنهما المكان الذي يباع فيه الخمر.
ومثل: تحريق عمر قصر سعد بن أبي وقاص لما احتجب فيه عن الرعية.
وهذه قضايا صحيحة معروفة، وليس يسهل دعوى نسخها.
ومن قال: إن العقوبات المالية منسوخة، وأطلق ذلك، فقد غلط على مذاهب الأئمة نقلا واستدلالا، فأكثر هذه المسائل ساغ في مذهب أحمد وغيره، وكثير منها سائغ عند مالك.
وفعل الخلفاء الراشدين وأكابر الصحابة لها بعد موته صلى الله عليه وسلم مبطل أيضا لدعوى نسخها.
والمدعون للنسخ ليس معهم كتاب ولا سنة ولا إجماع يصحح دعواهم، إلا أن يقول أحدهم: مذهب أصحابنا عدم جوازها.
فمذهب أصحابه عيار على القبول والرد. وإذا ارتفع عن هذه الطبقة ادعى أنها منسوخة بالإجماع. وهذا خطأ أيضا. فإن الأمة لم تجمع على نسخها ومحال أن ينسخ الإجماع السنة، ولكن لو ثبت الإجماع لكان دليلا على نص ناسخ.
قال ابن رشد في كتاب [البيان] له: ولصاحب الحسبة الحكم على من غش في أسواق المسلمين في خبز أو لبن أو عسل أو غير ذلك من السلع بما ذكره أهل العلم في ذلك.
فقد قال مالك في [المدونة] . (إن عمر بن الخطاب كان يطرح اللبن
المغشوش في الأرض) أدبا لصاحبه.
وكره ذلك في رواية ابن القاسم، ورأى أن يتصدق به.
ومنع من ذلك في رواية أشهب، وقال: لا يحل ذنب من الذنوب مال إنسان، وإن قتل نفسا.
وذكر ابن الماجشون عن مالك - في الذي غش اللبن- مثل الذي تقدم في رواية أشهب.
قال ابن حبيب: فقلت لمطرف وابن الماجشون: فما وجه الصواب عندكما فيمن غش أو نقص من الوزن؟ قالا: يعاقب بالضرب والحبس والإخراج من السوق، وما غش من الخبز واللبن أو غش من المسك والزعفران فلا يهراق ولا ينهب.
قال ابن حبيب: ولا يبدده الإمام، وليأمر ثقته ببيعه عليه ممن يأمن أن لا يغش به، ويكسر الخبز إذا كثر ثم يسلمه لصاحبه، ويباع عليه العسل والسمن واللبن الذي يغشه ممن يأكله، ويبين له غشه، وهكذا العمل في كل ما غش من التجارات، وهو إيضاح ما استوضحته من أصحاب مالك وغيرهم.
وروي عن مالك: أن المستحسن عنده أن يتصدق به؟ إذ في ذلك عقوبة الغاش بإتلافه عليه، ونفع المساكين بإعطائهم إياه. ولا يهراق.
وقيل لمالك: فالزعفران والمسك أتراه مثله؟ قال: ما أشبهه بذلك، إذا كان هو الذي غشه فهو كاللبن.
قال ابن القاسم: هذا في الشيء الخفيف ثمنه، فأما إذا كثر ثمنه فلا أرى ذلك وعلى صاحبه العقوبة؛ لأنه يذهب في ذلك أموال عظام، تزيد
في الصدقة بكثير.
قال ابن رشد: قال بعض الشيوخ: وسواء- على مذهب مالك - كان ذلك يسيرا أو كثيرا؛ لأنه يسوي في ذلك بين الزعفران واللبن والمسك قليله وكثيره.
وخالفه ابن القاسم، فلم ير أن يتصدق من ذلك إلا بما كان يسيرا. وذلك إذا كان هو الذي غشه. فأما من وجد عنده من ذلك شيء مغشوش لم يغشه هو وإنما اشتراه أو وهب له أو ورثه، فلا خلاف أنه لا يتصدق بشيء من ذلك. والواجب أن يباع ممن يؤمن أن يبيعه من غيره مدلسا به، وكذلك ما وجب أن يتصدق به من المسك والزعفران يباع على الذي غشه.
وقول ابن القاسم في أنه لا يتصدق من ذلك إلا بالشيء اليسير أحسن من قول مالك، لأن الصدقة بذلك من العقوبات في الأموال، وذلك أمر كان في أول الإسلام.
ومن ذلك: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في مانع الزكاة: «إنا آخذوها وشطر ماله، عزمة من عزمات ربنا (1) » ، وروي عنه في جريبة النخل:«أن فيها غرامة مثلها وجلدات نكال (2) » ، وما روي عنه:«أن من وجد يصيد في حرم المدينة شيئا فلمن وجده سلبه (3) » .
ومثل هذا كثير، نسخ ذلك كله. والإجماع على أنه لا يجب، وعادت العقوبات في الأبدان، فكان قول ابن القاسم أولى بالصواب استحسانا. والقياس: أنه لا يتصدق من ذلك بقليل ولا كثير، انتهى كلامه.
(1) سنن النسائي الزكاة (2449) ، سنن أبو داود الزكاة (1575) ، سنن الدارمي الزكاة (1677) .
(2)
سنن النسائي قطع السارق (4959) .
(3)
صحيح مسلم الحج (1364) ، سنن أبو داود المناسك (2037) ، مسند أحمد بن حنبل (1/170) .
وقد عرفت أنه ليس مع من ادعى النسخ نص ولا إجماع.
والعجب أنه قد ذكر نص مالك وفعل عمر، ثم جعل قول ابن القاسم أولى، ونسخ النصوص بلا ناسخ. فقول عمر وعلي والصحابة ومالك وأحمد أولى بالصواب، بل هو إجماع الصحابة. فإن ذلك اشتهر عنهم في قضايا متعددة جدا، ولم ينكره منهم منكر، وعمر يفعله بحضرتهم، وهم يقرونه ويساعدونه عليه، ويصوبونه في فعله، والمتأخرون كلما استبعدوا شيئا قالوا: منسوخ ومتروك العمل به.
وقد أفتى ابن القطان في الملاحف الرديئة النسج بالإحراق بالنار، وأفتى ابن عتاب فيها بتقطيعها خرقا وإعطائها للمساكين إذا تقدم لمستعملها فلم ينته. ثم أنكر ابن القطان ذلك وقال: لا يحل هذا في مال مسلم بغير إذنه، يؤدب فاعل ذلك بالإخراج من السوق.
وأنكر ذلك القاضي أبو الأصبغ على ابن القطان وقال: هذا اضطراب في جوابه، وتناقض من قوله، لأن جوابه في الملاحف بإحراقها بالنار أشد من إعطائها للمساكين، قال: وابن عتاب أضبط لأصله في ذلك وأتبع لقوله.
وفي [تفسير ابن مزين]، قال عيسى: قال مالك في الرجل يجعل في مكياله زفتا: إنه يقام من السوق، فإنه أشق عليه. يريد: من أدبه بالضرب والحبس (1) .
(1)[الطرق الحكمية] ص (266) وما بعدها.