المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌خلاصة الدراسات الحديثة: - الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا

[عفيف عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌جهود القدماء:

- ‌المستشرقون والشعر الجاهلي

- ‌دراسات باللغة الإنجليزية:

- ‌الشعر الجاهلي في دراسات العرب المحدثين

- ‌مدخل

- ‌جهود الجامعات:

- ‌الدواوين الشعرية:

- ‌الدراسات الأدبية "الكتب

- ‌أولا: في تاريخ الأدب

- ‌ثانيًا: دراسة الشعراء

- ‌ثالثًا: مجتمعات جاهلية

- ‌رابعًا: فنون شعرية

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة

- ‌سادسًا: لغة الشعر الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة مجموعة شعرية أو ما يشبهها

- ‌ثامنًا: شعر القبائل أو ما يشبهها

- ‌تاسعًا: الطبيعة والحيوان

- ‌عاشرًا: مناهج دراسة الشعر الجاهلي ونقده

- ‌حادي عشر: النثر الجاهلي

- ‌ثاني عشر: موضوعات أخرى

- ‌الدراسات والبحوث "الدوريات

- ‌مدخل

- ‌أولًا: تاريخ الجاهلية

- ‌ثانيًا: تاريخ الأدب

- ‌ثالثًا: فكر الجاهلية ومعتقداتها

- ‌رابعًا: دراسة شعراء

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة فنية

- ‌سادسًا: مناهج دراسة الأدب الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة نصوص

- ‌ثامنًا: أغراض الشعر

- ‌تاسعًا: اللغة واللهجات

- ‌عاشرًا: النثر الجاهلي

- ‌حادي عشر: موضوعات أخرى

- ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

- ‌الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة

- ‌مدخل

- ‌المنهج الأسطوري:

- ‌المنهج البنيوي:

- ‌المنهج الاجتماعي:

- ‌المنهج النفسي:

- ‌المنهج التكاملي:

- ‌دراسات أخرى:

- ‌النصوص الجاهلية التي درست

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

‌خلاصة الدراسات الحديثة:

قبل الخوض في قضيتين أساسيتين ينبغي علينا أن نشكّل صورةً للواقع الجاهلي، وأعني بالقضيتين مناهج دراسة المحدثين للشعر الجاهلي، وموقف هذه المناهج من قضايا أساسية في الشعر الجاهلي، وسأحاول أن أرسم صورة توضح المعالم البارزة في المجتمع الجاهلي التي كان لها حضور شبه دائم في الشعر الجاهلي.

يشكل الرباعي التالي المحور الأساسي الذي تدور حوله باقي المحاور، وأعني به الفرد "الأنا"، والقبيلة "نحن"، والصعلوك "الفرد المتمرد على القبيلة وتقاليدها"، والملك أو الكاهن أو رئيس القبيلة، وهذه العناصر الأربعة المكونة لهذا المحور قد تتفق وقد تتنافر، وقد تتحد.

والمجموعة الثانية أو المحور الثاني: الصحراء، والطلل، والمطر، والسيل، والرحلة، والظعينة، والوشم، وهذه تربطها بالإنسان الجاهلي علاقات قد تكون إيجابية، وقد تكون سلبية، قد ينفر منها العربي ويخشاها، وقد يلوذ بها لتحميه، أو ليجد عندها الأمن والطمأنينة، يرهبها لأنه يرى فيها مستقبله الآيل إلى فناء، أو سعادته الآيلة إلى فراق، أو القبر الذي يطويه، فعلاقته بها ذات وجهين متضادين.

فهي تختزن جزءًا من ماضيه أو كله، وتصور حاضره، وتخبئ مستقبله المجهول الذي لا يدري كنهه.

والمحور الثالث: يمثل الحيوان، ولكن لا يكون حضوره وفاعليته في القصيدة الجاهلية بالكثافة نفسها. وتطالعنا الحيوانات التالية ممثّلة في الشعر بصورة ملفتة وهي: الناقة والفرس وحمار الوحش والكلاب. وهذا المحور أيضًا يدور في فلك

ص: 143

المحور الأول لا يفارقه، ولكن يظهر هذا ويختفي ذاك، والمحرك لأدواره فاعلية خفية اختلفت المناهج في تفسيرها وتأويلها، ويوصف كل حيوان بصفات تختلف من شاعر إلى آخر، بل من قصيدة إلى آخرى للشاعر نفسه، وهذا المحور أيضًا في علاقاته مع المحور الأول ينتقل من طور إلى طور مضاد وفقًا لمعطيات وعوامل أخرى.

أما المحور الرابع فيتمثل في الزمن، الموت والفناء، وانتهاب اللذات من خمر ونساء، وصيد وعقر، والمرأة، والحروب "الأيام"، والصراع بمظاهره المختلفة، والخمر، والمحبوبة، والكرم. وهذه المجموعة تأتي، أو يأتي بعضها نتيجة لتصارع المحاور السابقة لتشكل فلسفة الشاعر الجاهلي المعبِّر عن مشكلاته ومشكلات أقرانه من الجاهليين الذين يعانون مثل ما يعاني، ويرغبون مثل ما يرغب، ويرهبون ما يرهب، ولا أريد أن أستبق الأمور؛ لأن ذلك سيعرض بالتفصيل عند دراسة المناهج، لكنني أستطيع أن أزعم أن المحور الرابع يقتسمه قطبان متضادان: رغبة في الخلود يرافقها رهبة من الموت وهلع وجزع، والقطب الآخر اندفاع في اتجاه مضاد يتمثل في انتهاب اللذات وتخليد النفس بعد الفناء بأعمال تبقى خالدة ما دام غير قادر على تحقيق الخلود، والاحتمالات والاختيارات هنا كثيرة، يجد الشاعر وفقًا لظرفه والمؤثرات التي تضغط عليه وسيلة للرد أو الهروب أو التصدي، أو التهلي والتناسي.

وهذا المحور لا يتعامل، فيؤثر ويتأثر، بالمحور الأول فحسب، بل تتداخل المحاور الأخرى لتشكل بنية متشابكة معقَّدة، حار الباحثون أحيانًا واختلفوا في تفسيرها، وتناقضت تفسيراتهم وتأويلاتهم وفقًا لمنطلقاتهم المنهجية.

وهكذا فإنني أزعم أن هذه المحاور الأربعة تشكِّل أساسيات في النص الشعري، ولكن هذا لا يعني أن كل عنصر فيها قد يكون محورًا ثانويًّا تتنامى حوله الصورة أو النص الشعري.

وهكذا نتصور أن من يتصدَّى لدراسة الشعر الجاهلي ينبغي أن يضع نصب عينيه هذه الحقائق، فأين كان النقد القديم من هذا؟

لن نكرر ما أوردناه في موضع آخر من هذا البحث من أن الناقد القديم، أو

ص: 144

دراس الشعر الجاهلي لم يكن من أهدافه ما نحن بصدده، بل كانت له أهداف أخرى.

يذهب الدكتور إبراهيم عبد الرحمن في دراسة له إلى قصور النقد القديم في جوانب أهمها: إنه قصر في فهم شعرنا القديم في سياقه الأدبي ودلالاته الحضارة1.

وتقول بنت الشاطئ محددة منهجها: "أريد أن أستخلص لأدبنا العربي قيمًا جديدة نابعة من تراثنا الأصيل، دون التزام بالقيم وبالأحكام التي ذهب إليها من نظروا في هذا التراث بذوق عصرهم، وحكموا عليه بعقلية زمانهم، وقوموه بموازين بيئاتهم ومجتمعهم

"2.

ويرى صلاح عبد الصبور أن مقياس دراسة الشعر تقدير النفس والحياة، ولذا فقد قصرت معظم الدراسات التراثية لعدم تعمقها لهذا الغرض الجوهري3.

أما الدكتور كمال أبو ديب فيرى أن القراءة السائدة للشعر الجاهلي قراءة صلة تفقده التحليل، بل تفقده خصيصة الشعر الأولي، وهي كونه تجسيدًا لاستجابة إنسانية، ورؤيا للعالم جماعية وفردية في آنٍ واحد4.

ولا نريد أن نسترسل في إيراد آراء الباحثين؛ لأن من عرضنا لهم يمثلون اتجاهات مختلفة، وكلهم أجمعوا على قصور النقد القديم عن سبر أغوار الشعر الجاهلي، أو لنقل: إن ذلك لم يكن من أهدافهم لأسباب معلنة، وأخرى غير معلنة.

ولم يتوقف رفضهم لمنهج القدماء في نقد الشعر الجاهلي وتحليله، بل رفض بعضهم أيضًا منهج المستشرقين في دارسات الشعر الجاهلي، وقد سقنا بعضه في حديثنا عن جهود المستشرقين.

وبالرغم من تلك الدراسات الكثيرة حول الأدب الجاهلي بعامّة والشعر

1 من أصول الشعر العربي القديم، مجلة فصول، مجلد4، عدد2، "1984"، ص24-41.

2 قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصر، معهد الدراسات والبحوث العربية 1966، ص14.

3 قراءة جديدة لشعرنا القديم، بيروت، دار النجاح، 1973، المقدمة.

4 من الفصل السادس من كتاب يصدر عن المؤسسة العامة للكتاب بمصر، 1986.

ص: 145

بخاصة، إلّا أن قضايا كثيرة تبرز في المقدمة، وقد أثارت هذه القضايا جدلًا كبيرًا، وتباينت الآراء حوله. ولا نرى بأسًا من ذكر أهمها:

1-

عمر الشعر الجاهلي الذي وصل إلينا، وهي قضية متفرعة عن أولية الشعر نفسه، ويعدُّ "جويدي" المستشرق قصائد القرن السادس الميلادي الجديرة بالإعجاب التي تنبيء بأنها ثمرة صناعة طويلة1.

2-

شعراء الجاهلية المعروفون، وما انتهى إلينا من أشعارهم، وحجم هذا الشعر.

3-

وضع الشعر ونحله شعراء الجاهلية أهي صحيحة أم باطلة؟ فإن صحَّت فأين هذا المنحول فيما وصلنا عن العلماء الرواة من أشعارهم2؟

4-

صورة الشعر الجاهلي الحقيقي: ويرى الدكتور البهبيتي أن كثيرًا من الشعر الجاهلي الصحيح النسبة إلى أصحابه، أو إلى العهد الجاهلي قائم في الكتب الباقية بين أيدينا الآن، لكن ليس في مجاميع الشعر الجاهلي الذائعة الصيت، وإنما يقع في كتب تدخل عندنا، وفي اعتبارنا في مجال القصص المصنوع؛ لأن القدامى وضعوها في قالب متحجر من تصور الشعر الجاهلي والتاريخ الجاهلي، بحيث أصبح التاريخ الحيّ عندنا قصصًا، وما اندرج خلاله من الشعر مصنوعًا. وهكذا لم يبق من هذا البناء الشامخ العتيد إلّا قطعًا متناثرة هنا وهناك3.

ويرى الدكتور عادل البياتي أن ملاحم الأيام وما تضمنته من فكر وثني دخلت في صدام مع الإسلام، انتهت به إلى أن يتمكَّن من تغطية جميع الملاحم الوثنية، ونزعها من الصدور بأناشيدها، بالرغم من أن كانت متمكِّنة من نفوس العرب الوثنيين يومئذ4. وهو بهذا الرأي يلتقي مع البهبيتي، من أن صورة الشعر التي نتعامل معها ليست الصورة الحقيقية الكاملة للشعر الجاهلي.

1 انظر رأيه هذا في "الفن ومذاهبه في الشعر العربي، شوقي ضيف، ط8: 1974م، ص14".

2 يرى الأستاذ محمود شاكر أن هذه القضايا الثلاث من أكبر القضايا التي يثيرها أمر الشعر الجاهلي، وانظر مجلة العرب، السنة العاشرة، الجزء 5، 6 "1975"، ص322.

3 المعلقات سيرة وتاريخًا، الدار البيضا 1982، ص189، تاريخ الشعر العربي، القاهرة، 1961م، ص107.

4 انظر أيام العرب، بغداد، 1976، الفصل الخاص بالإسلام وشعر الأيام، ص179، وما بعدها.

ص: 146

5-

أيام العرب: والجدل الذي يثور حولها ليس حدوثها أو عدمه، بل طبيعتها وما حملته من قيم ومعتقدات، ونتائجها، وطبيعة شعرها هل ينتمي إلى الملاحم أم لا؟ وهل كانت شرًّا ووبالًا على المجتمع الجاهلي أم خيرًا؟ ولم تعمد الضمير العربي طمسها فضاع مصدرها الأساسي وهو كتاب أبي عبيدة؟ هل بسبب خوفهم من أن تثير العصبية القبلية؟ أم لما تحمله من فكر وثني؟ أم بسببهما معًا؟ واختلفوا كذلك في أسباب حدوثها وكثرتها، بل ذهب بعضهم إلى أنها لا تعني حربًا فحسب، بل تعني مأثرة أو غير ذلك1، ولا أرى بأسًا من إيراد بعض آراء الباحثين فيها.

فالدكتور أحمد كمال زكي يراها تراثًا نبع من الضمير الجاهلي في شتَّى تكويناته الاجتماعية، وامتلأ بالمحتوى الفكري الذي يتشكّل تشكلًا قوميًّا لم تشاركه فيه الأمم المجاورة، مع تسليمه بوجود تأثيرات متبادلة بينهما. وهي تتضمن خلاصة الثقافة العربية الأولى ممتزجة بالأساطير والقصص والخرافي، وكان المحدثون منذ العصر الأموي قد دأبوا على طمسها؛ لأن فيها إيقاظًا للشعر الجاهلي الذي أساسه العصبية2.

ويرى الدكتور البهبيتي رأيًا مغايرًا للرأي السابق فهو يقول: "إنهم لم يذكروا من شعرهم إلّا ذلك الشعر الذي قاله شعراؤهم في عهدٍ لا يزيد على القرنين قبل الإسلام، بل إنهم لم يستبقوا من ذلك كله إلّا ما قيل من هذا الشعر، وكان متصلًا بتلك الحروب الأهلية، وبحركات تحرير الجزيرة"3.

والأيام في رأي الدكتور عادل البياتي ليست وثيقة تاريخية، وإنما عالم ينبض بالأساطير التي تصور حياة الأمة العربية في شبه الجزيرة العربية4.

ويرى الدكتور الطاهر مكي أن "الأيام موغلة في القدم، ولعلها أقدم مما تشير إليه كتب التاريخ، وإن الشعر والقصص لم يكونا بمعزل أحدهما عن الآخر"5.

1 أيام العرب، عادل البياتي، 179.

2 دراسات في النقد الأدبي، بيروت، دار الأندلس 1980، ص157.

3 تاريخ الشعر العربي حتى القرن الثالث، القاهرة، دار الفكر، ص45.

4 أيام العرب ص95، وانظر بلاشير "المترجم" ص173.

5 امرؤ القيس: أمير شعراء الجاهلية، دار المعارف ط2، 1970م، ص17.

ص: 147

ولسنا في مجال استقراء ما كُتِبَ حول الأيام، فالمصادر والمراجع مثبتة في هذا البحث، ولكن خلاصة ما أراه أن صورة الأيام الحقيقة ستظل ناقصة بسبب فقدان مصادرها الأساسية، فما تبقَّى منها نتف مبثوثة هنا وهناك، وبالرغم من محاولتي جمع الأيام وشعرها وأخبارها إلّا أنني لم أظفر إلّا بأقل من أربعمائة يوم1، وأزعم كذلك أن التاريخ في هذه الأيام اختلط بالأساطير، وليس أدل على ذلك من صورتي عنترة والمهلهل وما نسج حولهما، وقل مثل ذلك في غيرهما من الفرسان والأبطال والحكماء والكهان الذين كان لهم دور بارز في تلك الأيام.

6-

طبيعة الشعر الجاهلي: وتلك قضية خاض فيها الدراسون، وذهبوا مذاهب شتى، وبرزت في تبريرات أوردوها لاصطناع هذا المنهج أو ذاك؛ فبعهضم رأى أن مصدر الشعر الجاهلي هو "الإلهام"، ولكن من سوء حظه أن نظرية الإلهام لم تكد تثبت في الوجدان العربي حتى زاحمتها نظرية الصنعة في الشعر، وإن هذا الشعر نشأ من منبع متعالٍِ عن البشر، فقُرِنَ الشعراء أنفسهم بالجن2.

ويذهب الدكتور مصطفى ناصف إلى أن الشاعر الجاهلي لا يتصور الفن عملًا فرديًّا، بل يتصوره نوعًا من النبوغ في تمثل أحلام المجتمع ومخاوفه وآماله، ويرى أنه ينافس أي شعر آخر إذا أحسنّا قراءته3.

واختلف أيضًا في نسبة هذا الشعر إلى نوع من أنواع الشعر الثلاثة: الغنائي والملحمي والمسرحي، فرأيُ الدكتور شوقي ضيف بأن الشعر العربي نشأ نشأة غنائية4.

7-

تطور الشعر الجاهلي: وتتصل هذه القضية بسابقتها، يقول الدكتور شوقي ضيف: "ومن الخطأ أن نظن أن الحياة الأدبية في العصر الجاهلي كانت ساذجة بسيطة، فقد كانت معقَّدة ملتوية شديدة الالتواء

وكان كل شيء في العصر الجاهلي يعد لظهور هذا التكلف في الشعر أو ظهور الصنعة

ويدلل على صحة رأيه

1 انظر: الشعر وأيام العرب في العصر الجاهلي، دار الأندلس، بيروت، 1983، للباحث نفسه.

2 صلاح عبد الصبور، قراءة جديدة لشعرنا القديم، بيروت، دار النجاح، 1973م.

3 قراءة ثانية لأدبنا القديم، ص53.

4 الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص41.

ص: 148

بأسماء بعض الشعراء كالمهلهل والمحبر النابغة والمرقش وغيرهم"1 وهو بذلك يخالف الجاحظ في مقولته2 ويرى أن الجاحظ قد بالغ ليرد على الشعوبية3.

أما غرنباوم4 فقد حاول أن يؤسس مدارس فنية في الشعر الجاهلي تضم الشعراء الذين ولدوا بين 440م -530م على وجه التقريب، وقسَّمهم إلى المدارس التالية:

1-

المدرسة الأولى: في قبيلة قيس بن ثعلبة، تبدأ بسعد بن مالك وتنتهي بالأعشى.

2-

المدرسة الثانية: وزعيمها عبيد بن الأبرص.

3-

المدرسة الثالثة: وزعيمها امرؤ القيس.

4-

المدرسة الرابعة: وهم وصَّافو الخيول ومنهم: زيد الخيل والطفيل والغنوي.

5-

المدرسة الخامسة: وهم عبيد الشعر أوس بن حجر وزهير وأتباعهما.

6-

المدرسة السادسة: أبو دؤاد الأيادي وأتباعه طرفة وعدي والمثقب والأعشى.

ويقسِّم الدكتور يوسف خليف5 العصر الجاهلي إلى ثلاثة عصور أدبية:

1-

عصر البسوس: ويمثله امرؤ القيس.

2-

عصر داحس والغبراء: وطلائعه الطفيل الغنوي وأوس بن حجر، ومن هذه المدرسة زهير وعنترة والنابغة.

3-

عصر ذي قار: ويمثله حسان ولبيد والأعشى.

أما الدكتور سيد حنفي حسنين6 فيرى أن الشعر الجاهلي مرَّ بثلاث مراحل هي:

1-

مرحلة الطبع والتلقائية، أو شعر ما قبل الاحتراف، ويمثلها أبو دؤاد وعبيد وامرؤ القيس والصعاليك.

1 الفن ومذهبه في الشعر العربي ص22.

2 البيان والتبيين 3/ 28.

3 الفن ومذاهبه في الشعر العربي، ص19.

4 دراسات في الأدب العربي، ترجمة: إحسان عباس وزميليه، ص145.

5 دراسات في الشعر الجاهلي، مكتبة غريب، القاهرة، 1981، ص213.

6 الشعر الجاهلي: مراحله واتجاهاته الفنية، دار الثقافة، القاهرة، ط2، 1981م، ص31.

ص: 149

2-

مرحلة الصنعة والاحتراف، أو احتراف الشعر: ويمثلها زهير وأوس وبشامة الغدير وكعب والحطيئة والنابغة والأعشى.

3-

مرحلة الجمو: ويمثلها لبيد.

ويحاول الدكتور بهي الدين زيان1 أن يرصد عوامل التطور قبل أن يتحدث عن التطور نفسه، فيرد هذا التطور إلى العوامل التالية: طبيعة الحياة الاجتماعية، وشخصية الشاعر ومكانته في المجتمع، والمؤثرات الفكرية والثقافية التي استهدفت تغيير الحياة في المجتمع، وينتقل بعد ذلك ليتحدث عن مجالات التطور، فيراها أولًا في تطور لغة هذا الشعر، وفي وسائل البيان، وأوزان الشعر، وفي القصيدة الجاهلية نفسها، وفي موضوعات الشعر، وتطور الاتجاهات الفنية عند بعض الشعراء، والاتجاهات الموضوعية عند الآخرين.

وعندما يحاول تقييم هذا التطور فإنه يقرر أنَّ الشعر قد قطع مرحلة طويلة في تطوره، ومن ثَمَّ فإن القصائد الطويلة التي ترجع إلى حوالي مائة وخمسين سنة قبل الإسلام، ليست إلّا تطورًا أخيرًا أو صورة كاملة لهذا الشعر، وإن الشعر الجاهلي أقدم وأبعد زمنًا من تاريخ هذه القصائد.

وهكذا فإن خلاصة رأيه هي أن مظاهر هذا التطور تشمل: اللغة، وصور التعبير، والشكل، والمضمون، والاتجاهات.

8-

هل العرب بدائيون؟ وهذا التساؤل مثير للجدل والاستغراب، وقلَّمَا خلا بحث في الشعر الجاهلي من ذكر هذه القضية، بل نجد الباحث نفسه يتحدث في اتجاهين متضادين، يصف العرب بالبدائيين ليصل إلى نتيجة تمكنه من تطبيق منهجٍ ما على شعرهم، وفي الوقت نفسه ينفي عنهم التهمة عندما يحاول أن يبين خصائص ذلك الشعر، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا أن الملابسات التالية قد أحاطت بالقضية فألبستها ثوبًا من الغموض، وحتى لا نطيل نكتفي بسردها هنا وهي:

1-

تأثر واضح بالمستشرقين ومناهجهم حينما بحثوا في أولية الشعر عدوا العرب في جاهليتهم بدائيين، وقاسوا عليهم الأحكام نفسها التي قاسوها وطبقوها على

1 الشعر الجاهلي، تطوره وخصائصه الفنية، دار المعارف، 1982، ص7-52.

ص: 150

الشعوب البدائية والقبائل الإفريقية البدائية، كربطهم الهجاء والرثاء بالطقوس السحرية أو الدينية.

2-

الخط بين البداوة والبدائية، وهما لفظتان مختلفتان معنًى على الأقل.

3-

الغموض الذي اكتنف حياتهم الدينية في الجاهلية.

4-

الغموض الذي اكتنف حياتهم الثقافية أيضًا.

5-

خلطوا بين فترتين مَرَّ بهما العرب قبل الإسلام، الجاهلية الأولى والجاهلية الثانية، أو العرب البائدة، وعرب قبيل الإسلام، ونسوا أن الشعر الذي ندرسه ينتمي إلى فترة قبيل الإسلام، ومما دعا جويدي المستشرق وغيره إلى القول بأن الشعر الذي ندرسه ينبئ عن أنه ثمرة صناعة طويلة.

6-

رغب بعض الدراسين في دراسة الشعر الجاهلي دراسة أسطورية، ووجدوا أن الأسطورة مما يخص الأمم البدائية، فذهبوا إلى نسبة العرب إلى الأمم البدائية.

وصفوة القول في هذه القضية أن العرب في جاهليتهم التي بين أيدينا شعرها أو بعضه لم تكن بدائية، لأن ما وردنا من فكرها وجدلها مع المسلمين ومعتقداتها وحضارتها ينفي ذلك، بل إن الجاهلية الأولى كانت معاصرة لحضارات وادي النيل وما بين النهرين وغيرهما، ولم تكن بدائية بالمصطلح المتعارف عليه. وإذًا فنستطيع الاطمئنان إلى أنَّ جاهلية قبيل الإسلام وأهلها قد تجاوزوا الحياة البدائية بجوها الأسطوري منذ آماد طويلة1، وإذا كانت أساطير وظَّفها الشعراء الجاهليون في شعرهم، فإنما انحدرت إليهم من أسلافهم، أو من أمم أخرى وثقافات أخرى أثَّرت فيهم وتاثروا بها.

9-

أثر الحضارة الأجنبية في الشعر الجاهلي: ويمكن أن نقول أيضًا عن هذه القضية "ثقافة الشاعر" أو "البنية الثقافية"، وهي قضية كثر فيها القول وتضارب، فالمتعصبون للجنس العربي يرفضون الاعتراف بأي تأثر بالحضارات الأجنبية، وهم ممتدون على مدى عصور الأمة العربية، فقد رفضوا قول من قال أن القرآن الكريم تضمن ألفاظًا غير عربية دخلت العربية قبل الإسلام، بل كفَّروا القائل، وهم يرون في هذا التأثر نقيصة وسبَّة وعارًا. وفي المحدثين نسمع أصواتًا

1 هذا الرأي الأخير ذهب إليه الدكتور عبد العزيز الأهواني في "حركات التجديد في الأدب العربي" مصر، 1979، ص10.

ص: 151

ترفض الاعتراف بهذا التأثير الأجنبي، يقول الدكتور محمد التونجي1:"أغلب الصور جاء وصفًا للمظاهر الخارجية شكلًا ولونًا نابعًا من معطيات فكرهم، ولا وجود فيه للتأثير بأية صورة أجنبية عن الجزيرة العربية".

وثمة رأي وسط يقول: "إن التأثير كان محدودًا وضئيلًا، ولم يظهر بوضوح إلّا في شعر بعض الشعراء الذين احتكّوا بغيرهم"2 ويتفق معه في الرأي بالدكتور عثمان موافي3، فيرى بأن سبل التأثير محدودة وهي تتمثَّل في: بعض الأمثال والحكم وبعض الحوادث التاريخية، وبعض الألفاظ.

ولا نجد من قال أن أبواب التأثر كانت مفتوحة على مصاريعها، وإنما وجدنا من العصر العباسي من قال بالتأثر، فقد ذكر الجاحظ4 أن أهل المدينة قد تأثروا بالفارسية بسبب استقرار بعض الجاهليات الفارسية منذ زمن سحيق.

ولم أورد هذه النماذج من الآراء المتناقضة إلّا على سبيل الاستشهاد، فلم تخل دراسة إلّا وعرضت لهذه القضية. وهي متصلة بالخشية من الانتقاض من الأصالة الكمال في الوقت نفسه، ودليل ذلك أنها قديمة. ولكن المستشرقين الذين ذكرنا طرفًا من آرائهم قتلوا هذه القضية بحثًا، وكان لديهم شبه إجماع على تاكيد هذا التأثر، وقد برّروه بوجود الديانتين السماويتين في الجزيرة، ويدين بهما بعض العرب، وكذلك بوجود إمارتي المناذرة والغساسنة على الحدود، ونفوذهما السياسي والاقتصادي، وكذا وجود طرق القوافل التجارية مع وسط آسيا. ونجد بحوثًا عديدة منها مكتوبة بلغاتهم المختلفة، وربما كان لكتاباتهم ردة فعل لدى العرب، فاعتقدوا بأن المستشرقين قصدوا بيان اعتماد العرب على غيرهم، والانتقاص من عزتهم القومية، فتصدو لهم.

ونتوقف قليلًا لنناقش هذه القضية، فأوّل ما نقرره أن عزلة أمة من الأمم، أو شعب من الشعوب ليس مجال فخر له، وإن عدم أخذه عن غيره أو إعطاء غيره ليس

1 دراسات في الأدب الجاهلي، حلب، 1980م، ص97.

2 جورجي زيدان، تاريخ التمدن الإسلامي، 3/ 28.

3 التيارات الأجنبية في الشعر العربي منذ العصر العباسي حتى نهاية القرن الثالث، مؤسسة الثقافة الجامعية، الإسكندرية، 1972م، ص161 وما بعدها.

4 الحيوان بتحقيق عبد السلام هارون 1/ 34.

ص: 152

مزية تحسب له، ولقد ثبت بالدليل القاطع بما ورد في كتب التاريخ والسير والتفسير والحديث الشريف وكتاب الله أن العرب اتصلوا بغيرهم، حتى أن بعضهم أصنامهم جلبت من البلقاء، كما ثبت أن كثيرين منهم عرفوا اللغة الفارسية والحبشية وغيرهما، وثبت أيضًا أنهم كانوا يتاجرون مع غيرهم من خارج الجزيرة العربية.

وإذن فقضية الاتصال بغيرهم واضحة كل الوضوح، والاتصال يعني تأثرًا وتاثيرًا حسب الحاجة وحسب المستوى الثقافي والحضاري للشعبين المتصلين ببعضهما بعضًا.

والأدب بشعره ونثره من نتاج نفرٍ من أهله يعبر عن أحاسيسهم، ومشكلاتهم، وتناقضات مجعتمهم، وأحلامهم، وهمومهم، واللغة أداته، فكيف بعد هذا كله ننكر الاتصال والتأثر والتأثير؟ كيف ننكره والمنطق السليم والشواهد والأدلة المادية تؤكده؟

ويبقى بعد ذلك فيم كان التأثر؟ ذلك سؤال لا نستطيع الإجابة عنه بجملة أو سطر أو صفحة، لأن ذلك يتطلب ما يلي:

1-

يتطلب أولًا معرفة بلغة وحضارة الأمم التي اتصل بها العرب، وبعضها قد طمس.

2-

ويتطلب ثانيًا مسحًا لشعر الجاهليين ونثرهم والتقاط شواهد على هذا التأثر.

ولا أعتقد أن باحثًا قد قام بمثل هذا العمل بعد، ولكن ما نجده إما إشارات لدى القدماء نستدل منها على وجود تأثر، أو نستقرئ ديوانًا أو نصًّا فنستنتج التأثر.

تلك هي القضايا الشائكة التي لم يتفق الباحثون على رأي موحَّد بشأنها، وإن تقاربت وجهات نظر بعضهم، لكن فجوة كبيرة تفصل بين فريقين منهم على الأقل: أحدهما في أقصى اليمين، والآخر في أقصى اليسار، ولكنها قضايا كان لها أثر فعال في تنويع دراسة الأدب الجاهلي وتعدد مناهجه، ولم تكن عاملًا معوقًا في تقدم درس الأدب الجاهلي، وبعض هذه القضايا أصبح الآن قضية ندرسها لتأريخ ذلك الأدب؛ كقضية الانتحال وعمر الشعر الجاهلي، ولكن القضايا الأخرى ما زال الجدل محتدمًا لتأييد وجهة النظر هذه أو تلك.

ولكن ثمة قضايا نستطيع أن نسميها بالمصطلح المعاصر قضايا ساخنة؛ لأنها تؤثِّر في دراسة وتحليل النص الشعري الجاهلي، وتفرز نتائج تقود إلى حل كثير

ص: 153

من القضايا السابقة التي ذكرناها، ولكن من وجهة نظر منهج معين، وهذه المناهج التي تحل رموز هذه القضايا هي محور بحثنا هذا كله وزبدته، وهي قضية الساعة الملحة، وعلى فهمها والتعمق في تعليلها يتوقف سبر أغوار النص الجاهلي، والوصول إلى أقرب صورة من عصره وقائله.

فهدفنا الأساسي إذًا فهم النص الشعري فهمًا مغايرًا لما قصد إليه شراح الأدب القدامى من شرحه شرحًا لغويًّا، والتعريج على بعض صور التشبيه والمجاز وغيرهما من ضروب البلاغة.

وفي ظنِّي أن الظواهر والقضايا التي استقطبت اهتمام الباحثين والنقاد هي: الطلل، والصعلكة، والمعلقات، وأولية الشعر الجاهلية، ومشكلة المصير "الحياة والموت"، وأيام العرب، والأمثال، والرحلة، والوحدة في القصيدة الجاهلية، ولغة الشعر، والصورة الفنية، وخصائص الشعر الجاهلي، والأسطورة، والرمز.

وسنعرض لأهم الآراء التي قيلت في كل قضية أو ظاهرة، وندلي بدلونا؛ لأنها ستمهد الطريق أمام عرض مناهج دراسة الشعر الجاهلي.

ولقد كان للدارسين المحدثين مآخذ على مَنْ درسوا الشعر الجاهلي؛ بعضها على الأقدمين، وبعضها على بعضهم بعضًا، وقد يكن من المفيد حقًّا أن نعرض لهذه المآخذ، حتى إذا ما عرضنا للمناهج في نهاية البحث ندرك من تجنب هذه المآخذ، ومن تناقض مع نفسه فوقع فيها، ونؤثر عرضها بغير ترتيب زمني لأسباب أهمها أن الذي يعنينا هو المآخذ، ولعدم معرفتنا أسبابهم العلمية.

فطه حسين1 في معرض حديثه عن الوحدة المعنوية للقصيدة القديمة يرى أن الذين ينكرونها إنما ينكرونها لسببين هما: لعدم دراستهم الشعر القديم دراسة يتعمقون فيها أسراره ومعانيه، ويصدقون ما يقال فيه من الكلام، ولأنهم يقبلون ما يقوله الرواة في غير تحفظ ولا تحقيق، وينسون أن الشعر القديم نقل مذاكرة، فضاع ما ضاع، ولم تحسن الرواية، فكثر فيه الاضطراب، وظنَّ المحدثون أن هذا صفة الشعر القديم.

ونجيب البهبيتي2 يقرر بأن جميع الفنون التي عالجها الشاعر الإغريقي

1 حديث الأربعاء، دار المعارف، 1/ 33.

2 تاريخ الشعر العربي، ص105.

ص: 154

القديم عالجها الشاعر الجاهلي، غير أن اليونان وجدوا طريق الملائمة بين هذه الفنون بوضعها في إطار من القصة، ولم نجد بين أيدينا في شعر الجاهلية الباقي هذا الإطار، وهو نفسه قد رفضته الأمة العربية في عهد نضجها المتأخر ولم تقبله، لما وصلت إليه من إحساس بالواقع، يتنافى مع صياغة القصة شعرًا.

ويقرّر مصطفى ناصف1 في مقدمة كتاب القيم، بأن معظم الدراسات متشابهة في بنيتها العقلية غير متعمقة في القراءة، وهناك كثير جدًّا من الحواجز القائمة بيننا وبين تراثنا القديم.

أما النويهي2 فيعزو قصور النقد القديم عن فهم الشعر الجاهلي لأنه قام على أساس من علوم البلاغة التقليدية التي قصرت عن أن تلفتنا إلى الجمال الحقيقي في الأدب القديم، وإنما فعلوا ذلك لأنهم لم يفهموا ما الأدب؟ ولأنهم لم يستفيدوا مما نبه إليه اللغويون كابن جني في باب "إمساس الألفاظ أشباه المعاني". ويحاول في موضع آخر3 أن يعلل عجزنا اليوم عن فهم الأصالة عند الشعراء بأننا لم نستثر خيالنا إلى أوسع مدى حتى نحقق الصورة الكاملة الحسية والفكرية والعاطفية التي يريد الشاعر بناءها، والتي يكتفي منها بلمسات مختارة يترك لنا تتبعها واستفياءها؛ لأن الشعر الصحيح يقوم على اللغة الموجزة المكثفة والمشحونة.

ويرى أحمد كمال زكي4 بأن دراساتنا التاريخية المصتلة بالشعر تعاني من النقص، وسببه قصور في القوانين الفنية التي ارتضينا حتى الآن أن نحكمه بها، لذا فإن على المؤرخ الجديد للأدب العربي أن يتحرك في إطار مفهوم يحقق التكامل الفني بين أشكال التعبير في الأدب العربي، مع الحرص على تقديم الخلفية الجاهلية بالوضوح الذي رفضه الشراح الأقدمون، وتصحيح المفاهيم التي راجت نتيجة لاستبعاد بعض الأنواع الأدبية.

ويذهب عز الدين إسماعيل5 إلى أن النشاط النقدي في مجمله نقد معياري،

1 قراءة ثانية لشعرنا القديم ص5.

2 الشعر الجاهلي: منهج في دراسة وتقويمه ص14، ص21، ص70.

3 الشعر الجاهلي: منهج في دراسته وتقويمه 159.

4 ترثنا الشعري والتاريخ الناقص، مجلة فصول، مجلد4 عدد2 "1984" ص11-32.

5 مناهج النقد الأدبي المعاصر، مجلة فصول مجلد1 عدد "1981"، ص16.

ص: 155

وإذا كان قد تخللته حالات قليلة من العمل الوصفي فإنها لم تعد أن تكون نشاطًا جزئيًّا لا يكاد يفضي إلى نظرية متكاملة.

والفرق فيما بين النقد المعياري والنقد الوصفي أنَّ الأول هو النقد الذي يصدر فيه الناقد عن مجموعة من المعايير التي يستند إليها ما ينتهي إليه من أحكام، وهي إما أن تكون متصلة بالنص الأدبي نفسه، وهي المعايير الجمالية، وإما أن تكون مستندة إلى الواقع مشتقة منه، أي: من الأعراف والتقاليد والقيم العامة السائدة، وقد كان النقد العربي القديم في تخليه عن المعيار الأخلاقي، وأحيانًا إنما كان في حقيقته تخليًّا عن المستوى السلوكي أساسًا.

ويعيب إبراهيم عبد الرحمن1 على أكثر الدراسين انصرافهم إلى العناية بالجوانب التاريخية والموضوعية وحدها دون أن يفطنوا إلى حقيقة هامة، وهي أن شروح اللغويين القدامى للشعر الجاهلي هي ثمرة عقلية إسلامية شرحته من خلال دراسات لغوية معاصرة لتلك الفترة، وحرصت على الاحتفاظ له بشيء غير قليل من القداسة اللغوية والفنية، وتجلى اتجاههم هذا بوضوح في مفهومهم البلاغي للصورة في الشعر الجاهلي، فأغفلوا الحديث عن أصولها الدينية القديمة، وألحوا لطمس هذه الأصول على خلق وجوه شبه مادية وحسية بين عناصر هذه الصور، أو قل: بين أطرافها المتنافرة.

ويؤكد ذلك ثانية حينما يقرر في دراسة أخرى2 أن الهدف منها الكشف عن جوانب القصور في فهم الشعر القديم في سياقه الأدبي ودلالته الحضارية، ويخصصها لفحص أصلين من أصول الشعر القديم هما: الأغراض والموسيقى، حيث تمثل الأغراض الجانب الموضوعي من أصل القصيدة القديمة، بينما تمثل الموسيقى أحد الجوانب الشكلية فيها.

وينعي الدكتور لطفي بعد البديع3 على الدراسين بأن كتبهم قد طفحت بكل شيء إلّا الشعر والأدب، فقد توارى الشعر بين ركام الأخبار، وتراجم الشعراء، والأحكام التي يتناقلها الخلف عن السلف، ثم لا يكون من وراء ذلك شيء، كما

1 من أصول الشعر العربي القديم، مجلة فصول، مجلد4، عدد2 "1984"، ص24-41.

2 التفسير الأسطوري للشعر الجاهلي، فصول، العدد الثالث "1981"، ص927-940.

3 الشعر واللغة، مكتبة النهضة المصرية، 1969م، ص1.

ص: 156

اعتدت طائفة بأطراف من نظرية "تين"، وجعلت من الثالوث الذي ركبه من الجنس والبيئة والعصر عصاً سحرية تلقف ما عداها.

وأما الدكتور عبد الجبَّار المطلبي1 فتحدث ناقدًا طريقة دراسة الشعر الجاهلي في معرض دراسة حول "قصة ثور الوحش وتفسير وجودها في القصيدة الجاهلية" فيقول: "يبدو أن طريقة التسليم التي تفضي إلى قبول الأشياء كما هي من غير تساؤلٍ قاصد في أسباب وجودها، قد أغرت مؤرخي الأدب الجاهلي في البلاد العربية بسلوكها، فجاءت معالجتهم لشعر هذه الحقبة معالجة وصفية، وإن عرضت أحيانًا تحت تأثير المعنيين بالشعر الجاهلي من المستشرقين، وشكهم في صحة بعضه، لتساؤل ليست وراءه تطلعات أصيلة".

يحصر الدكتور سيد حنفي حسنين2 مآخذ على الدراسات السابقة بواحد من الاحتمالات التالية.

إما طغيان الجانب التاريخي على المقومات الفنية، أو وقوف الباحث عند المنهج دون التعرض للتطبيق، أو يتناول موضوعًا محددًا طرحه الشعراء كالغزال أو المرأة أو الطبيعة يستقرءونه من المادة الفنية وكأنها وثيقة تاريخية، أو اجتماعية، دون الاهتمام ببيان الطبيعة الفنية لهذا الشعر، أو لأن الدراسين نظروا إلى العصر نظرة شاملة، واعتبروه مرحلة فنية واحدة، وإن وقفوا عند بعض الظواهر الفنية المتفردة كمدرسة زهير أو شعر الصعاليك.

ويحدد يوسف اليوسف3 عيب الدراسات المعاصرة بأنها لم تحل الظاهر على باطنٍ يسكنه بعمق، أي: هي لم تتعامل مع الأشكال الفنية الجاهلية من حيث هي رموز تضمِر ما لا يتبدَّى على سطحها، لذا فهي لم تشكّل قفزة في تاريخ النقد المعاصر.

ويرى مطاع صفدي4 بأن من الغريب حقًّا أن يكون الشعر الجاهلي هو مصدر

1 مواقف في الأدب والنقد، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، 1980، ص65.

2 الشعر الجاهلي، المقدمة.

3 بحوث في المعلقات، وزارة الثقافة، دمشق، 1978م، ص35.

4 قراءة ثانية للشعر الجاهلي: الأصالة والممكن، مجلة الفكر العربي المعاصر عدد10 "شباط 1980"، ص5.

ص: 157

علوم اللغة والتاريخية والآثار أحيانًا، وعلوم البلاغة والبديع وغيرها، ولا يكون مصدرًا للكشف عن مقوماته الداخلية، وإذا كان النقّاد القدامى، وقد حاولوا أن يغطوا هذا النقص الذي لم يعوه بأساليبهم القاصرة؛ كالبحث عن سرقات الشاعر ومقارنته بمن سبقه أو عاصره من الشعراء، وبمواجهات تقتصر على النقد اللغوي، فإن النقاد المحدثين لم يتقدموا إلّا قليلًا عمَّا توقف عند حدوده النقد التقليدي القديم. ويصل إلى نتيجة بأن الشعر الجاهلي وتجربته كفنٍّ ومعاناة، وثقافة تكوينية وجودية، ولغة من الرموز الكثيفة عن الحياة، ومواقف العربي من مشكلاتها المختلفة ما زال مجهولًا، وعالمًا مغلقًا بكرًا لما تتناوله أقلام النقاد الجدد إلّا للمحات عابرة لا تستوعب شموله ولا تسبر أغواره.

ويتهم أدونيس1 النقد العربي القديم ومعظم النقد الحديث بأنهما يقدمان صورة تفتقر إلى الدقة عن الشعر الجاهلي، فقي الشعر الجاهلي نفسه نجد بذورًا قوية لحركة إبداعية خرجت على القبيلة وقيمها السائدة "الصعاليك"، وكذلك امرؤ القيس وطرفة.. وكانت هذه الحركة تحاول أن تطرح بديلًا جديدًا.

ويتهم إيليا حاوي2 النقد الأدبي الحديث أنه جرى منذ مطلع القرن على أسلوب متدنٍ متخاذلٍ يقف عند حدود النص، يتلقف منه ما يعطيه على هون ويسر، وقلَّمَا يفطن الناقد إلى أن التجربة الفنية هي تجربة ما ورائية، فالشاعر يعبر بالمعاناة والرؤيا حين تقدر له، والناقد يستنبطها ويتقصّى فيها، ويجلو ضمير هذا المكتوم والمختفي، ويكمل أحدهما الآخر.

ويجد إحسان سركيس3 مصيبة التراث ببعض من تناوله من أبنائه، فهذا النفر لم يفرق بين الأوراق التي ينبغي لها أن ترث في الأرض، وبين النسغ الذي يمد الشجرة بأسباب الغذاء والنماء، فارتضى المركب السهل في ترديد ما قاله الباحثون القدامى، أو التزم تجديدًا سطحيًّا يغلب عليه التبسيط أو قصور الرؤية، حتى كاد الكثيرون أن يستشعروا نحو ذلك التراث غربة المرء في وطنه.

ويقرر أحمد سويلم4 أن الشعر الجاهلي قد ظلم في نظر الكثيرين فأغفلوا

1 الثابت المتجول، دار العودة، بيروت، 1974، ص19.

2 مقدمة الطبعة الرابعة من كتابه "في النقد والأدب ج1" دار الكتاب اللبناني 1979.

3 مدخل إلى الأدب الجاهلي، دار الطليعة، 1979م، ص6.

4 شعرنا القديم، رؤية عصرية، المجلس الأعلى للثقافة، مصر، 1979م، ص33.

ص: 158

نماذجه الواقعية الثورية. ويتَّهم صلاح عبد الصبور1 معظم دراساتنا لتراثنا العربي بأنها دراسات قاصرة؛ لأنها لم تعمد لغرض الشعر الجوهري، وهو اكتشاف الجانب الجمالي والوجداني من الحياة والتعبير عنه بالكلمات المموسقة، فالشاعر العظيم مكتشف عظيم في عالم الجمال والوجدان؛ لأنه يرى الأشياء والأحاسيس رؤية طازجة، فنظرته ليست وليدة المنطق، وإنما وليدة الحدس، وأدواته هي الخيال الخصيب.

ويعترف الدكتور يوسف خليف2 بوجود جوانب من الشعر الجاهلي ما زالت في حاجة إلى مزيد من الدراسة للكشف عمَّا يكتنفها من غموض بالرغم من كثرة الدراسات التي قامت حول الشعر الجاهلي، وبالرغم من اهتمام الباحثين بهذا الشعر.

وماذا بعد؟

وإذا كان هذا العدد الكثير من الدراسين والنقَّاد قد أوردوا هذه المآخذ، وعدُّوها سبب التعثر والتخبط في دراسة الشعر الجاهلي، فما البديل الذي طرحوه أولًا؟ وبعد ذلك ما المناهج التي بلوروها وعدوها صالحة للكشف عن حقيقة الشعر الجاهلي؟ وللإجابة عن السؤال الأول سنعرض لآرائهم المختلفة في هذا الأمر.

فالدكتور أحمد كمال زكي3 يرى أن المؤرخ الجديد ينبغي له أن يتحرك في إطار مفهوم يحقق التكامل الفني بين أشكال التعبير المختلفة في الأدب العربي، مع الحرص على تقديم الخلفية الجاهلية بالوضوح الذي رفضه الشراح القدامى، وتصحيح المفاهيم الرائجة نتيجة استعباد بعض الأنواع الأدبية، كما يجب عليهم أن يستغلوا الرمز في إعطاء البناء الحقيقي لحضارتنا العربية القديمة؛ لأن عدم استغلاله أفقدنا أعرافًا ومجموعات كبيرة من السلوك، واستغلق عنَّا معنى ما أبدعته الجاهلية من فنٍّ شعري عظيم. وخلاصة رأيه أنه معالجة المضمون في المحل الأول بالرغم من تقديره كل ما قدمته التشكيلات الشعرية من قيم جمالية.

1 قراءة جديدة لشعرنا القديم، دار النجاح، بيروت، 1973، ص20.

2 دراسات في الشعر الجاهلي ص4.

3 انظر دراسات في النقد الأدبي 151، تراثنا الشعري والتاريخ الناقص، فصول مجلد4 عدد 2 "1984" ص11-23.

ص: 159

ويطالب الدكتور إبراهيم عبد الرحمن1 الباحثين والنقاد بأن يلتفتوا إلى العناصر المتقابلة التي يجمع بينها الشاعر في الصورة المركَّزة والمتراكمة عناصر البقاء والفناء، وما يتصل بها من صور الصيد، والضوء والمطر، والحمل والولادة، مما يقودنا، لو أحسنَّا فهمها، إلى الكشف من عوالم الشعر وتفسيرها، وذلك يكشف عن أصولها الميثولوجية التي انبعثت منها. مما يبرز العلاقات الخفية التي كان يقيمها الشاعر الجاهلي بين عناصر الصورة ومكوناتها المختلفة، وبين مواقفه أو فلسفته في الحياة وظواهرها المتناقضة في بيته،

ويعتقد الدكتور مصطفى ناصف2 بأن التطور هو إعادة تشكيل الماضي، وليس الماضي إلّا الأدب الجاهلي، ومن ثَمَّ كان خطر الدراسة الأدبية للعصر الجاهلي؛ لأننا ندرس منابع الأدب العربي ومقوماته جميعًا، وفكر الشاعر وثقافته في أي عصر لا يمكن أن تتضحا إلّا إذا رجعنا إلى ثقافة الشاعر الجاهلي، وثقافة الشاعر الجاهلي والنهضة الثقافية في ذلك العصر لم تدرسا حتى الآن دراسة كافية.

ويعقد الدكتور النويهي3 تمهيدًا في كتاب يخصصه لكيفية دراسة الشعر العربي فيقرر فيه أن كل دراسة صحيحة للشعر العربي في أيّ عصر من عصوره يجب أن تبني على علم وثيق دقيق بطبيعة الشعر الجاهلي الذي يمثل المرحلة الأولى، ويقرر في موضع الآخر مجيبًا عن سؤالٍ: كيف نفهم الأصالة؟ بقوله: نفهمها ونحكمها بمقياسين: هل حدثت هذه التجربة لهذا الشاعر حقًّا؟ وهل تناولها الشاعر تناولًا فيه شيء جديد من نفسه، بأن عرضها من زواية مختلفة بعض الاختلاف، أو لفتنا إلى تفاصيل لم نلفت إليها من قبل؟ ويقرر بعدها حقيقة أننا عجزنا عن فهم الأصالة عن الشعراء الجاهليين، ويبرر عجزنا لعدم تبين تفاصيل التجربة الذاتية التي صوَّرها الشاعر بأصالة لبعد العهد، واختلاف الظروف وصعوبة اللغة، وموت الكثير من ألفاظها وتراكيبها، وفقدانها الكثير من ظلالها الفكرية ونبراتها العاطفية التي كان يسمعها أهلها في ذلك العصر السحيق.

وأخيرًا يقرر كفية فهم الشعر الجاهلي بتضافر العوامل التالية معًا: جهد في

1 الشعر الجاهلي: ص193.

2 قراءة ثانية لأدبنا القديم، ص42 وما بعدها.

3 الشعر الجاهلي: منهج في دراسته وتقويمه، الصفحات 10، 156، 157، 159، 161، 267.

ص: 160

التعاطف والمشاركة الخيالية، وتشغيل المخيلة البصرية، وتتبع التفاصيل الحركية، وأن ينشط القارئ وجدانه الكامل حتى يعايش تجربة الشاعر القديم بفكره وعقله كاملين، والإنصات إلى الشعر القديم بآذان أهله، وبذل الجهد في تعرية الألفاظ من ارتباطاتها الحديثة حتى تكون أقدر على أن نسمع فيها ما كان يسمع فيها القدامى من موسيقى، وعلى أن نتابع ما كانت تثير فيهم من معانٍ ثانية واستدعاءات فكرية وعاطفية وجمالية.

أما يوسف اليوسف1 فإن يرى أن تقوم الدرسات حول الشعر الجاهلي على الإيمان بوحدة القصيدة الجاهلية، وليس هذا فحسب، بل بإحالة الظاهر على الباطن، وتوثيق الصلة بين الظواهر نفسها، ويرى فيها أشكالًا فنية لمعانٍ مترابطة من الداخل، ويقرر في كتاب آخر2 أن الشعر إفرازي اجتماعي، إضافة إلى أن القصيدة تبدعها نفس معينة لها أحوالها المعينة وحاجاتها الشخصية.

ويحدد الدكتور لطفي عبد البديع3 همه وهدفه في كتابه "الشعر واللغة" قائلًا: "ونحن إذ نبحث عن اللغة في القصائد التي نعرض لها في هذه الفصول لا نبحث عمَّا فيها من لفظ مستعارٍ أو وجه من وجوه التشبيه، بل همنا الوقوف على الوجود الشعري الذي يتحقق في اللغة باعتبارها فكرًا للشعر لا يلبث الشاعر معه أن يجد نفسه وقد أحاطت به الكمات من كل جانب.

أما الدكتور سيد حنفي4 فقد رأى أن يفيد مما درسه من سبقوه، ويتجنب في الوقت نفسه ما درسوه تجنبًا للتكرار، وبعد ذلك كله يتجه إلى الشعر مباشرة.

ويحدد الدكتور فتحي أبو عيسى5 إطارًا عامًّا يتبناه ويدعو غيره إلى تبنيه، وهو يستند إلى منطلقين أساسين؛ أولهما: إن اهتمامنا بالشعر القديم يعني اعترافًا منا بأنه النموذج الأمثل، وثانيهما: أن هذا الإعجاب والاهتمام وإيثاره على سواه يجب ألَّا يمنعنا من الكشف عمَّا فيه من هنات. وبعد ذلك يقرر أن منظوره في القصائد يتكئ على دعامتين: الرجوع إلى المعاجم لاستخراج المعاني للألفاظ، والاستعانة

1 بحوث في المعلقات ص26.

2 مقالات في الشعر الجاهلي، وزارة الثقافة، دمشق، 1975، ص11.

3 الشعر واللغة ص6.

4 الشعر الجاهلي: مراحله واتجاهاته الفنية.

5 من قيثارة الشعر العربي: دار المعارف 1980، ص5-7.

ص: 161

بالدراسة التحليلية، والاتكاء فيها على بعض النظرات مما عسى أن يكون مفتاحًا إلى العالم الشعري في القصيدة.

أما نقطة الانطلاق عند بنت الشاطئ1 فهي التفرقة بين تراثنا الأدبي وبين أحكام مؤرخيه وآراء ناقديه.

وفي "قراءة جديدة لشعرنا القديم" لصلاح عبد الصبور2، يعرض لنا تجربة قارئ للشعر العربي يحب هذا الشعر؛ لأنه جذوره الممدودة في الأرض، ويصدر عنه فيما يكتب، يطمع أيضًا أن ينظر في هذا التراث نظرة بريئة جديدة ترى الجمال حيثما وجد بمقياسها العصري، فلا يأسرها حكم سابق، وتحاول أن تستشف ما وراء هذا الجمال من ظاهرة اجتماعية، أو تيارٍ نفسي، أو إحساس عام.

ويرى الدكتور محمود الجادر3 أن المنهج المؤهل لفهم القصيدة الجاهلية باستلهام خصوصية الظرف الذي انبثقت عنه، واستقصاء الأرضية الفكرية الثقافية التي ظلَّت ترفد الأعمال الإبداعية ببعض مقوماتها، فضلًَا عن دراسة آفاق الطموح التي ظلَّ العمل الإبداعي مشدودًا إليها، فمن خلال المنافذ وحدها نستطيع أن نطل على عالم فسيح يحدد أبعاد هذه الأنماط الخالدة من الأعمال الإبداعية الملهمة في تراثنا الفكري الأصيل.

وأما الدكتور كمال أبو ديب4 فقد رفد المكتبة الجاهلية ببحوث كثيرة درات كلها حول منهجه الذي ارتاده في الشعر العربي، وهو المنهج البنيوي، سنعرض له بالتفصيل في موضعه من مناهج دراسة الأدب الجاهلي، ولكنه يرى وجوب اكتناه القصيدة من حيث هي بنية كلية دالة، تفعل وحداتها المكونة بطرق يمكن اكتشافها مجسَّدة طريقة فردية في معاينة الواقع، وصورةً للعالم قائم في لحظة الخلق في وعي الشاعر.

1 قيم جديدة للأدب العربي القديم والمعاصرة ص14.

2 قراءة جديدة لشعرنا القديم، المقدمة.

3 نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية، مجلة الأقلام، عدد 7 "1980"، ص4 وما بعدها.

4 نحو منهج بنيوي في دراسة الشعر الجاهلي، مجلة المعرفة، عدد 196 "1978"، ص101.

ص: 162

وفي دراسة أخرى1 يذكر في المقدمة أن البحث يحاول أن يموضع دراسة الشعر الجاهلي على مستوى من التحليل يرتفع عن المستويات التاريخية والتعليمية والتوثيقية، أو اللغوية والبلاغية والانطباعية التي تتم عليها معظم الدراسات له الآن. ويهدف الباحث من خلال ذلك كله إلى تطوير منهج تناول لهذا الشعر يغذيه وعي نظري عميق بالأسس التحليلية التي تطرحها الدراسات المعاصرة، وبالتصوّرات التي تنطلق منها، والإشكاليات التي تثيرها، كما يرى أن الذي يسهم في تشكيل المنظور الذي يعاني منه الشعر الجاهلي في بحثه هو تلك الإنجازات التي تحقق في خمسة تيارات بحثية متميزة في هذا القرن هي:

1-

التحليل البنيوي للأسطورة كما طوره كلودليفي- شتراوس في الأنثروبولوجيا البنيوية.

2-

التحليل التشكيلي للحكاية كما طوره فلاديمير بروب في دراسته للتركيب التشكيلي لحكاية الحوريات.

3-

مناهج تحليل الآداب المتشكلة في إطار معطيات التحليل اللغوي والدراسات اللسانية والسيميائية وبشكل خاصٍّ عمل رومان ياكوبس والبنيويين الفرنسيين.

4-

المنهج النابع من معطيات أساسية في الفكر الماركسي، والذي أولى عناية خاصة لاكتناه العلاقة بين بنية العمل الأدبي وبين البنى الاجتماعية "الاقتصادية والسياسية والفكرية"، ولعل لوسيان غولديان أن يكون أبرز النقاد الذين اسهموا في تطوير هذا التناول.

5-

تحليل عملية التحليل الشفهي في الشعر السردي، ودور الصيغة في آلية الخلق، كما طوره ملمان باري وألبرت لورد.

أما الدكتور عبد القادر الرباعي فله دراسات عدة في الشعر الجاهلي، منها دراسة أقرب ما تكون عامة ليست مقتصرة على الشعر الجاهلي، موضوعها "الصورة في النقد الأوربي: محاولة تطبيقها على شعرنا القديم"2، وفي هذه الدراسة يقرر بأنه ملزم بالاعتماد على منهج تكاملي، ويعلل ذلك بأن البحث في الصورة معقَّد لكثرة الآراء المتضاربة حولها، وذلك ليتمكن من الانتخاب من الآراء الكثيرة المتعددة آراء صائبة، أو يعتقد صوابها.

1 دراسة قيد النشر في كتاب بالعنوان السابق، تصدر عن المؤسسة العامة 1986م.

2 مجلة المعرفة، دمشق، العدد 204 "شباط 1979م، ص27 وما بعدها.

ص: 163

وتكشف بحوثه التي نشرها أنه التزم بالمنهج التكاملي، ولكنه أفاد من المناهج كلها بنسب متفاوتة، ففي بحث له موضوعه:"مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة في الشعر الجاهلي، بحث في التفسير الأسطوري"1 يصرح في بحثه هذا بأنه تجاوز الحسية والغرض ووحدة البيت الجزئية التي ما زالت الدراسات التقليدية تتابعها، وطرح بدائل لها أكثر شمولية، فربط الشعر الجاهلي بالتجربة الوجدانية للإنسان العربي القديم، حتى أصبح الحس روحًا، والغرض حدثًا، والوحدة الجزئية بناءً دراميًّا تتفاعل على داخله المتشابهات والمتنافرات لتشكل وحدة نموذجية جذرية، يلتقى فيها الواحد بالمتعدد، والذات بالمجموع، والخاص بالعام، ويقرر بأن الصورة الشعرية الجاهلية هي ابنة العقلية الجاهلية ذات الاستراتيجية الروحية في تعاملها مع الأشياء، لذا كانت منابعها هي المنابع الجاهلية التي شكَّلت الأصنام الوثنية والشعائر الدينية، ثم الممارسات السحرية والحكايات الخرافية.

ولإحسان سركيس2 سبيل أخرى لدراسة الأدب الجاهلي، فهو يقول:"وسبيلنا المضي مع الباحثين الجادّين في ماضيهم عن قوام الذات، وعن تعبيرٍ مطابق للمرحلة التي يعيشونها، وذلك بأن تنتخل في ضوء مفاهيم العصر من تراثنا ما يعبِّر عن حقيقة حضارتنا، وما يزال يحتفظ بغنى التعبير المطابق لحقيقة ذلك الماضي والمسعف في استمراريته، وأن نضعه في إطاره التاريخي بوعي وشعور جديدين من خلاف موقف يقدر المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي والعدسة الكبيرة التي تقربنا منه.. ولا يتم ذلك إلّا بمعايشة وتحسّن عمق التجربة الحضارية والإنسانية التي رافقت المجتمعات العربية، والروح التي كانت تعمرها من خلال التعبير الأدبي الذي كان أوضح في مجاله من دنيا الفكر، وهي روح عربية كانت تعيش مخاضًا مستمرًّا لتعبر عن ذاتها اجتماعيًّا".

1 المجلة العربية للعلوم الإنسانية، المجلد2، العدد6 "ربيع 1982"، ص80، وما بعدها.

2 مدخل إلى الأدب الجاهلي، ص11.

ص: 164