المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المنهج الأسطوري: ترتبط الأسطورة دائمًا ببداية الإنسانية، حينما كانوا يمارسون السحر - الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا

[عفيف عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌جهود القدماء:

- ‌المستشرقون والشعر الجاهلي

- ‌دراسات باللغة الإنجليزية:

- ‌الشعر الجاهلي في دراسات العرب المحدثين

- ‌مدخل

- ‌جهود الجامعات:

- ‌الدواوين الشعرية:

- ‌الدراسات الأدبية "الكتب

- ‌أولا: في تاريخ الأدب

- ‌ثانيًا: دراسة الشعراء

- ‌ثالثًا: مجتمعات جاهلية

- ‌رابعًا: فنون شعرية

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة

- ‌سادسًا: لغة الشعر الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة مجموعة شعرية أو ما يشبهها

- ‌ثامنًا: شعر القبائل أو ما يشبهها

- ‌تاسعًا: الطبيعة والحيوان

- ‌عاشرًا: مناهج دراسة الشعر الجاهلي ونقده

- ‌حادي عشر: النثر الجاهلي

- ‌ثاني عشر: موضوعات أخرى

- ‌الدراسات والبحوث "الدوريات

- ‌مدخل

- ‌أولًا: تاريخ الجاهلية

- ‌ثانيًا: تاريخ الأدب

- ‌ثالثًا: فكر الجاهلية ومعتقداتها

- ‌رابعًا: دراسة شعراء

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة فنية

- ‌سادسًا: مناهج دراسة الأدب الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة نصوص

- ‌ثامنًا: أغراض الشعر

- ‌تاسعًا: اللغة واللهجات

- ‌عاشرًا: النثر الجاهلي

- ‌حادي عشر: موضوعات أخرى

- ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

- ‌الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة

- ‌مدخل

- ‌المنهج الأسطوري:

- ‌المنهج البنيوي:

- ‌المنهج الاجتماعي:

- ‌المنهج النفسي:

- ‌المنهج التكاملي:

- ‌دراسات أخرى:

- ‌النصوص الجاهلية التي درست

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌المنهج الأسطوري: ترتبط الأسطورة دائمًا ببداية الإنسانية، حينما كانوا يمارسون السحر

‌المنهج الأسطوري:

ترتبط الأسطورة دائمًا ببداية الإنسانية، حينما كانوا يمارسون السحر ويؤدون الطقوس الدينية، وذلك سعيًا وراء تفسير ظوهر الطبيعة، ولكن "ليفي برول" ينفي ذلك، ويرى أنها نشأت استجابة لعواطف الجماعة القاهرة1.

والأسطورة أنواع، منها: الأسطورة الطقوسية التي ارتبطت أساسًا بعمليات العبادة، ومنها الأسطورة التعليلية، والأسطورة الرمزية، والأسطورة التاريخية2.

والأسطورة ليست خيالًا كما يظن البعض، فهي واقع، وهي عقيدة تتمثل في شعائر معيشة يرتبط بها قصص مقدَّس يقوم بعملية توضيح هذه الشعائر وربطها بالاعتقاد، أما حينما يتصور إنسان ما أن الأسطورة خيال، فهذا يعني أنه اتخذ موقفًا منها هو الكفر بها ورفضها، وتحويلها إلى مجرّد قصة خيالية تستند إلى الوهم، وبذلك تخرج عن دائرة الدين المعتقد3. ولقد حدَّد لويس سبنس علم الأساطير بأنه "دراسة الدين البدائي أو شكل من أشكاله الأولى عندما كان حقيقة معيشة"4.

وقد كانت الأسطورة في بدايتها الأولى أم الفنون، كما كانت بداية الشعر مع الأسطورة، وكانت علاقة الكلمة بالأسطورة شيئًا مهمًّا في دراستها، لهذا فسَّرها "رجلان" بأنها ليست شيئًا أكثر من كونها صيغة من الكلمات المرتبطة بالشعيرة"5.

1 أحمد كمال زكي، الأساطير، المكتبة الثقافية "مارس 1967، ص4.

2 المرجع السابق، ص4.

3 أحمد شمس الدين حجاجي، فصول، مجلد4، عدد2، "1984"، ص43.

4 المرجع نفسه، ص42.

5 المرجع نفسه، ص43.

ص: 171

بل إن أحمد شمس الدين حجاجي يذهب إلى أبعد من ذلك، فيقرر أن "الكلمة" هي نفسها الأسطورة في حالة ارتباطها بالعقيدة، وحينما تطور تفكير الإنسان ليحدد معنى الألوهية ظلّت الكلمة الصادرة عن الإله لها قداستها، ولهذا فإن كلمة أسطورة مشتقة من لفظ "Mythos" التي كانت تعني المنطوق عند اليونان.

ويحدد "لويس سبنس" العلاقة بين الأسطورة والشعر بأن "بعض أشكال الشعر الأولى، وربما أنقاها، نتاج مباشر لحلقات من الانطباعات الطبيعية في ذهن الإنسان، وعلى هذا فإن الشعر والأسطورة انبثاق من الطبيعة"1، ويخالف "بريسكوت" هذا الرأي، ويرى أن الأسطورة "أدركت العقل أولًا، ثم جسّدت وعبّر عنها في النحت والشعر والملحمة والمسرحية، ومن الخطأ اعتبار هذه الفنون على أنها ذات أصل ديني فقط"2.

ولقد احتفظ الشعر حين انسلخ عن المعبد، في مرحلةٍ ما من مراحل الفكر الإنساني، بعلاقته بالأسطورة، ولم يكن الشعر العربي بدعًا بين الفنون الشعرية الإنسانية، فقد ارتبط بالأسطورة أيضًا إلى حد كبير، ونحن نعلم بأن الذي بين أيدينا من الشعر الجاهلي مكتمل، ولا تعرف بداياته على وجه التحديد، كما أن هذا الشعر قد تَمَّ الفصل فيه بين كلٍّ من الكاهن والساحر والشاعر، نجد هذا واضحًا في الأخبار وفي كتب السيرة أيضًا وكتب التفسير، بل إننا نجد أن وظيفة كلٍّ منهم قد تحدَّدت، وانفصلت عن بعضها بعضًا3، ومع هذا الانفصال في وظائفهم بقيت الكلمة هي أداتهم، وهي التي ارتبطت بالأسطورة ارتباطًا تامًّا.

ولقد حدَّثنا الرواة عن شياطين الشعراء، كما حدثونا عن وادي عبقر الذي يسكن فيه الجن، كما أخبرنا الشعراء أنفسهم في أشعارهم عن أسماء شياطينهم، "فلاحظ بن لاحظ" شيطان امرئ القيس، و"أبو مسحل" شيطان الأعشى، و"هبيد" شيطان عبيد بن الأبرص، "وهارد" شيطان النابغة.

وبعد هذه العجالة نود أن نعرض للمنهج الأسطوري في دراسة الشعر الجاهلي ورواده، ومسوغاتهم، وكيفية الإفادة منه، وما يؤخذ عليه.

1 المرجع نفسه، ص43.

2 أحمد شمس الدين حجاجي، فصول، مجلد4، عدد2 "1984م"، ص43.

3 انظر ما ورد في كتب السيرة والتفسير حينما اتهموا محمد صلى الله عليه وسلم وأنكروا عليه النبوة.

ص: 172

لقد نهج هذا المنهج في دراسة الشعر الجاهلي كلٍّ من الأساتذة: أحمد كمال زكي، وإبراهيم عبد الرحمن، مصطفى ناصف، وعبد الجبار المطلبي، ونصرت عبد الرحمن، وعلي البطل، وسنحاول أن نعرض لأعمال كلٍّ منهم في إيجاز.

أما الدكتور أحمد كمال زكي فأعماله: "تراثنا الشعري والتاريخ الناقص"1 و"التفسير الأسطوري للشعر القديم"2 و"التشكيل الخرافي في شعرنا القديم"3.

وفي بحثه الأوّل يقرر وجود نقص في دراساتنا التاريخية المتصلة بالشعر، وهذا أدَّى إلى قصور في القوانين التي ارتضينا أن نحكمه بها، ويحدد المعوقات التي حالت دون وصول الشعر الجاهلي كاملًا في ثلاثة محاور أو أربعة، ويزعم بأن شعرنا لو كان أخذ الأخذ الموضوعي، ثم نوقش المناقشات التي تخرجه عن جهد الشراح اللغويين، لعرفناه خيرًا مما عرف به، وأما المحاور فهي: إعراض أغلب الذين أرَّخوا لأدبنا عن تناول جزء من هذا الشعر تناولًا غير تقليدي، أو إعراض عن قسم من هذا الشعر متصل بالأساطير وأيام العرب، وكانت النتيجة عصفًا عاتيًا بقصائد كاملة ومقطوعات ومطولات جاهلية تدرج في سلك الشعر الأسطوري، وجاء اللغويون الرواة فبدّلوا بعض الكلمات ذات الدلالة في الشعر، وأما المحور الثاني: فتلك الأحكام الجزافية التي أطلقت على ذلك الشعر، مما ترك أثره في تصورنا المبتور لتاريخ الأدب العربي، ويرى سبل تصويب الخطأ في إطلاق النصّ الشعري من أمر الشاهد اللغوي الذي قيد النظر القديم في الشعر، وكذلك ألّا نعد أيام العرب تاريخًا، بل أدبًا جاهليًّا فيه الشعر والنثر، وأخطرها تطبيق مقاييسنا الخلقية في إطارها الإسلامي على ما أبقى عليه العلماء المتقدمون من شعر بعد تصيفيته أو تطهيره من الوثنيات.

وأما المحور الثالث: فمتعلق بالمنهج وهو إبقاء الشعر، وهو الناقص كما بينا، على السطح واختفاء ما عداه، ويقرر بعد ذلك جملة حقائق هي:

1-

إن مدار فكرة أي موضوع من تلك الموضوعات الوثنية كان من أهم أسباب تحول بعضها إلى الخرافات والحكايات التي تضمنتها السير الشعبية.

1 مجلة فصول، مجلد4، عدد2 "1984"، ص11 وما بعدها.

2 المرجع نفسه، المجلد1، العدد 3 "1981"، ص115-126.

3 فصل من كتاب "دراسات في النقد الأدبي" ص151-174.

ص: 173

2-

وعلى ذلك يمكن أن تكون أيام العرب البداية الطبيعية والصحيحة لتاريخ أدبنا.

3-

إن الشعر الجاهلي لم يكن شعرًا غنائيًّا كما زعم الكثيرون.

4-

أسجاع الكهان هي من أساطير الأولين، ولا بُدَّ أن تكون من فنون الشعر الملحمي الذي عرفه العرب.

5-

إن العقلية العربية التي أبدعت السير هي نفسها التي أبدعت أساطير الأولين، وما رضيت الأثبات الرسمية أن تحفظه من شعر قديم.

ويطرح سؤالًا في نهاية البحث: لماذا ظلَّ شعرنا إلى عهد قريب رافضًا بشكله الخليلي وبنبرته الحماسية ما يمت بصلة إلى التراث الشعبي، وما يخرج به إلى دفع ما اتهمنا به "رينان" وغيره؟ ويجيب بأن ليست للغة ولا البلاغة، وإنما لأن كتابنا ظلوا وسيظلون وراء المؤلف، وفي البحث عنه يجدون عادةً شيئًا رواغًا، حتى ليؤخذ بقاعدة الإسناد الموروثة فيرفض، وهو يرى إننا إذا عنَّ لنا تلافي هذا السوء المعياري، فلا بُدَّ من مراجعة تراثنا الأدبي التاريخي تلك المراجعات التي تجد ضالتها دائمًا في أساطير الأولين وأيام العرب.

ولا نقنع بما أورده الجاحظ وابن المعتز والقزويني، فكله مبتور جاء من مبتور، ويقرر أخيرًا أنه يصبح على المؤرخ الجديد لأدبنا أن يحقق التكامل الفني بين أشكال تعبيراتنا الأدبية، من ملاحم وخرافات وقصص وأمثال، بشرط أن يقدم الخلفية الجاهلية بالوضوح الذي رفضه الشراح الأقدمون، وبالتصحيح العلمي للمفاهيم القيمة التي استفحلت في بعض الأنواع الأدبية.

وفي بحثه الثاني "التفسير الأسطوري للشعر القديم" يطرح هذا التساؤل بادئ ذي بدء: أترانا نحتاج إلى التفسير الأسطوري للأدب؟ وإذا كنا نحتاج، فهل يصبح من مهمة الناقد تصور كيفية ما صدر عنه الأديب بكل تعقيداته ليطرح للفهم والتعليق، أو ليرسم الطريق الذي قطعه الأديب في الضباب الكثيف حتى طلع به علينا؟ وما قيمة الأدب في هذه الحالة، وهي جمالية في الجملة بالرغم من أنها تنطلق من المحيطين الاجتماعي والتاريخي؟

ويجيب الباحث بأن الأدب تفسير فني للكون، ومن حق الناقد أن يلجأ إلى كلِّ السبل لتحديد ذلك التفسير، بشرط ألّا يتجاوز طرفي البداية والنهاية، فيقع في سوءة الضلالة والتضليل.

ص: 174

وربما كان للرومانسية فضل التوجيه إلى حصر البنيات الأسطورية والمختفية دائمًا وراء الشكل العام للتعبير. ولوحظ أن لبعض كُتّاب لبنان ممارسات مبكرة للأسطورة داخل محيط الرمز الشعري، وفي معرض حديثه عن البنائية وتوجسه من خشية تعطيل دور الشعر المعرفي، يعترف بأن في بعض إنجازاتهم ما يدعم التفسير الأسطوري للشعر.

إن الشاعر يملك القدرة الجبارة على تشكيل الصورة الشعرية من فتات التصور القديم للوجود الأول، وكلما كان الشاعر قريبًا من عصر الفطرة الجاهلية أحد أشكالها، سيطرت عليه القوة الميتافيزيقية التي تصوغ قصيدته، أو تتحكم في صياغته بنحو أو آخر.

وفي رأيه أن الأسطورة ليست أدبًا، ولا يمكن أن تكون، وهي عندما ينتهي دورها في تفسير علاقة الآلهة بالموجودات، وفي إماطة اللثام عن بعض أسرار الكون والحياة، تتفتت في حكايات خرافية، وبعضها يقتحمه الخيال في الملاحم الشعبية، ثم يستغل استغلالًا أدبيًّا تتفاوت مستوياته الفنية بمقدار بما يوحي ويثير. ولكن الجزء الطقسي من الأسطورة يظل في ضمير الجماعة حيًّا ما امتد الزمن وتعاقبت آلاف السنين.

ويحدد لنا بعد ذلك الأسطورة التي عناها، وهي الأسطورة التي توزَّعت في أعمال إبداعية، بعضها شعبي، واستخدمت بطريقة تبدو للنظر العادي كما لو كانت ضربًا من المجاز أو التصوير الأدبي الشائع، وعنده أن الصورة الشعرية المبتكرة ترجع من حيث هي مجاز أو كناية أو علامة سيميوطيقية إلى قدرة الشاعر على الخروج من الفكرة المتسلطة بشيء يقول شيئًا يحاور الضمير العام بكل ميتافيزيقائه.

ويؤيد ما يذهب إليه بأمثلة من الشعر الجاهلي تتعلق بألفاظٍ لها دلالات أسطورية وخرافية موغلة في القدم، وقيم حضارية، ويشير في جزء من بحثه إلى أنّ الأسطورة تعني أحيانًا "الطوطمية" بكل ملابساتها، وبكل ما يوحي به اعتقاد بوجود وحدة كونية بين أنواع الزواحف والأشجار والهوام والحيوان والصخور والنجوم، ويشهد على هذا حضور ما سبق جميعًا في سلاسل النسب العربية، وهو يرى أن الحيوان عنصر وراءه رصيد هائل من الأفكار الأسطورية، ويسوق لمقولته نماذج من الشعر الجاهلي، ويختتم بحثه بأن التفسير الأسطوري للأدب، وللشعر خاصة، ما

ص: 175

زالت جوانب كثيرة لم يكشف عنها بعد، وإنَّ ما قدَّمه الرواد فيه شعراء ونقادًا وأنثروبولوجيين يوحي بأنّ للأسطورة اليوم دورًا قد يقلب أنواع التقويم الأدبي رأسًا على عقب.

ويعقِد فصلًَا خاصًّا في كتابه "دراسات في النقد الأدبي"، يتحدث فيه عن التشكيل الخرافي للشعر القديم، وهو يحدد أن ما يعنيه أولًا هو المضمون مقدرًا كل ما قدمته التشكيلات الشعرية من قيم جمالية، ويقرر بأن للأشطورة صلة بالدين، ولهذا فقد أثر تقصي المحتوى، من منطلق الخرافة التي قد تكون أساسًا للدين، وقد تكون أساسًا للأسطورة، إلّا أنها فيما يعرض بمعنى يبتعد عن المعنى الذي الذي قصد إليه. وهو يختار شعر الأيام ميدانًا لبحثه؛ لأنها وحدها تفي بأغلب ما صدر عن العصر الجاهلي، فهي تراث نبع من ضمير الجاهلي في شتَّى تكويناته الاجتماعية، وامتلأ بالمحتوى الفكري الذي يتشكّل تشكلًا قوميًّا لم تشاركه فيه الأمم المجاورة مع التسليم بوجود تأثير متبادل. والسبب الثاني: لأختيار شعر الأيام أنها تتضمن خلاصة الثقافة العربية الأولى ممتزجة بالأساطير والقصص الخرافي، لكن المحدثين منذ العصر الأموي دأبوا على طمسها، لما فيها من إيقاظ للشعور الجاهلي الذي أساسه العصبية، والسبب الثالث: لأن ملاحم الأيام زاخرة بإشارات ورموز حول آثار الشخوص الأسطورية المنقرضة والبلدان الطامسة، ثم عماليق يوم القيامة، ومعمري حرب البسوس، وأبنية يوم المشقر.

ويرى الباحث أن الكاهن والإبل والثور والغزال والحيات درات حول كل منها طقوس أو خرافات، ويقرر بأن عيون الشعر القديم كأنها كانت أصداء للتكوين الشعري للأيام.

أما الدكتور إبراهيم عبد الرحمن فله أعمال ثلاثة في هذا المجال هي: "الشعر الجاهلي: قضاياه الفنية والموضعية"1 و"التفسير الأسطوري للشعر الجاهلي"2 و"من أصول الشعر العربي القديم"3.

وفي البحث الأول الذي يتناول قضايا كثيرة متصلة بالشعر الجاهلي، ومنها

1 صدر عن دار النهضة العربية، بيروت، ط2: 1980م.

2 مجلة فصول، المجلد الأول، عدد3 "1981"، ص127-140.

3 مجلة فصول مجلد 4، عدد2 "1984"، ص24-41.

ص: 176

الصورة، يرى أن الاقتصاد في اللغة ألفاظًا وأساليب قد حمل الشعراء على إيثار الأسلوب التصويري في التعبير عن معانيهم؛ بحيث صارت الصورة الشعرية أصلًا من أصول الشعر الجاهلي، وكان هدف الشاعر من بناء هذه الصورة التعبير من خلالها عن قضاياه وأحاسيسه ومواقفه من الحياة والناس من حوله، لذا فقد غلب التعبير الرمزي على التعبير المباشر، وعلا الشعر الجاهلي على الواقع الحقيقي، ليصبح من خلال هذه الصورة بناءً لغويًّا حافلًا بالرموز والمعاني، ويستشهد بمعلقة أمرئ القيس وحائية عبيد بن الأبرص.

ويعتقد الباحث أننا لو أحسنّا الالتفات إلى العناصر المتقابلة التي يجمع بينها الشاعر في هذه الصور المركزة والمتراكمة: عناصر البقاء والفناء، وما يتصل بها من صور الصيد والضوء والمطر والحمل والولادة، فإن ذلك يقودنا إلى الكشف عن عوالم الشعروتفسيرها، وإن فهم الشعر الجاهلي لا يتأتى إلّا بفهم هذا الأسلوب التصويري، وتحليل صوره المركزة تحليلًا يكشف عن أمرين: أولهما: الأصول الميثولوجية التي نبعت منها، وثانيهما: يبرز تلك العلاقات الخفية التي كان يقيمها الشاعر الجاهلي بين عناصر الصورة ومكوناتها المختلفة، وبين مواقفه أو فلسفته في الحياة وظواهرها المتناقضة في بيئته.

ولتحقيق الغاية من الفهم والتفسير يرى أنه ينبغي أن ندخل إلى دراسة الشعر الجاهلي خاصَّة بهذه الملاحظات العامَّة على طبيعة الأسلوب التصويري:

1-

غلبة الأسلوب التصويري على موضوعاتٍ بعينها تردد في قصائده على اختلاف أغراضها.

2-

في جميع صور الشعر على كثرتها تردد أو تتكرر عناصر لغوية موضوعية وروحية واحدة، كأنها كانت لدى الشعراء بمثابة الشعائر المقدَّسة التي وكِّل إليهم تلاوتها.

3-

إن أطراف هذه الصورة وعناصرها المتقابلة تتداخل في الموضوعات المختلفة فيما بينها تداخلًا شديدًا.

4-

هذه الموضوعات المختلفة التي استأثرت بالأسلوب التصويري هي التي تشكِّل عناصر الهيكل العام الذي حققته القصيدة الجاهلية، ومن ثَمَّ فقد جعلت من هذا الهيكل بناءً رمزيًّا متكاملًا متنوع الأدوات والوسائل والغايات.

ص: 177

وحين نضم هذه الملاحظات نحقق أمرين هما:

1-

تحليل هذه الصور في ذاتها تحليلًا موضوعيًّا وفنيًّا يشكف عن هذا الجانب من الإبداع الفني الذي حققه الشعراء.

2-

البحث عن رموز هذه الصور بردها إلى أصولها الميثولوجية التي صدرت عنها.

وإن مثل هذا التحليل الميثولوجي يحتاج إلى معرفة واسعة وعميقة بحضارة الجاهليين، وثقافاتهم، وفلسفتهم في الحياة والموت، وتحديد تلك الروافد الثقافية والدينية والميثولوجية التي انتقلت إليهم من الحضارات المجاورة.

ويقسّم هذه الصور إلى صور جزئية وصور كلية أو لوحات، ويرى أن عناصر الصورة هي: العنصر الزمني، وقد اتخذوه أصلًا، والمقابلة، والحركة.

وفي عمله الثاني "التفسير الأسطوري للشعر الجاهلي"، يعترف منذ البداية بأن البحث محاولة مقترحة "لقراءة الشعر الجاهلي في ضوء المنهج الأسطوري ليست سوى خطوة عن طريق الدراسات الخصبة التي ظفر به الشعر على أيدي القدامى والمحدثين من النقاد، وهي دراسات تنوعت مناهجها، واختلفت نتائجها، ولذا فإن عمله في هذه القراءة الجديدة يتلخص في تجميع أفكارها، والربط بين عناصرها المختلفة، وباختصارٍ، فما يقوم به إنما هو إعادة تركيب هذه العناصر وتأليفها بضمِّ ما تفرق منها، لنخلق منها ما يصح أن يسمَّى منهجًا جديدًا يفك مغاليقه، ويكشف عن كنزه التي ظلت خافية على الدارسين القدامى والمحدثين أيضًا.

وعندما يشرع في تحديد خطوات المنهج الأولية يراها في ضرورة تحديد المدلولات اللغوية بعامة والشعرية بخاصة تحديدًا تاريخيًّا دقيقًا، أي: نحن بحاجة إلى معجم لغوي تاريخي، يطلب ذلك لنضع أيدينا على طبيعة الفكر العربي في صورته الصحيحة، وبذا يمكننا أن ندلف إلى حل مشكلات الشعر الجاهلي الأخرى؛ من تفسير الصورة الشعرية بالكشف عن أصولها الميثولوجية والشعبية القديمة، وفهم مغزى هذه التركيبة الموضوعية الغريبة المعروفة بالأغراض الشعرية، كما يمكننا بحل المعضلة اللغوية أيضًا الكشف عن منابع الفن والإبداع في الشعر الجاهلي، كما تعيننا أيضًا على الفصل في القضية المزمنة، قضية توثيق الشعر الجاهلي.

ويؤكد الباحث وجود التخلّف اللغوي الذي لا يزال يجثم بكلكله على الدراسات اللغوية المعاصرة على المستويين العام أو الأكاديمي، ويؤكِّد أن تحليل

ص: 178

التركيبة اللغوية للشعر الجاهلي في جوانبها الدلالية والنحوية والإشارية لا يتأتى للدارس إلّا بتطبيق منهجين معروفين في الدراسات اللغوية والنحوية تطبيقًا صارمًا، وهما: المنهج اللغوي المقارن، والكشف عن خبايا هذا العالم الأسطوري الذي انبثقت منه الميثولوجيا الدينية عند العرب، وهو لا يخوض في المنهج الأول لعدم الدراية الواسعة.

أما المنهج الثاني: هو "الميثولوجيا الوثنية الجاهلية"، فإنه يرى أننا نواجه ظلامًا دامسًا حرص القدامى جميعًا على طمسه طمسًا كاملًا، ولم يشذّ عن هذا السلوك سوى:"عبيد بن شريه" و"ابن الكلبي"، ومن ثَمَّ فإنه يتجه إلى النقوش العربية القديمة التي ظفرت بعناية الدراسين الأوربيين منذ القرن التاسع عشر. وتتميّز فترتان دينيتان في الجاهلية: مرحلة الشرك، أو مرحلة عبادة الظواهر والكائنات، والثانية مرحلة التجريد، أو الاتجاه إلى التوحيد. وقد رمزوا لآلهتهم في المرحلتين بالأوثان التي تعددت واختلفت من قبيلة إلى أخرى، وعبادة الأوثان هذه انتقلت إلى العرب من الأمم المجاورة، مما يؤكد تأثرهم في عبادتهم بديانات الأمم الأخرى المجاورة.

ويؤكد أن الميل إلى التوحيد أخذ يغزو العقلية العربية في أواخر العصر الجاهلي، ودليله أن نصوص الشعر الجاهلي في الفترة المتأخرة القريبة من الإسلام "عن زهير والأعشى" زخرت بعقيدة الإله الواحد، مما حدا بالرواة إلى التشكيك في صحة هذا الشعر، وعزوا ذلك إلى عمل الرواة المسلمين في تنقية الشعر من آثار الوثنية القديمة. وأما المكان الذي ظهرت فيه مثل هذه النصوص التوحيدية فهو جنوب الجزيرة العربية.

وقد اتخذت عبادات الجاهليين في هذا الطور شكلًا بعينه، هو شكل ديانات الشعوب المجاورة، وهو عبادة الكواكب التي تتألف من ثالوث سماوي: القمر، الشمس، الزهرة، وقد رمز الجاهليون للقمر بالثور، وللشمس بالمرأة العارية الفرس والغزالة والمهاة والنخلة، وللزهرة بالعزى، وقد خلص الباحث إلى أن هذا العالم الأسطوري بحيوانه ونباته وإنسانه وتماثيله قد اتخذ في هذا العصر من خلال التصور الديني ثلاثة مستويات منفصلة ماديًا، ومتصلة اتصالًا وثيقًا من الناحيتين الأسطورية والروحية.

1-

المستوى الأول: مادي، هو عالم النجوم البعيد، حيث تعيش هذه الآلهة التي تعبد إلهًا في أطوار مختلفة من الحياة الجاهلية الدينية.

ص: 179

2-

المستوى الثاني: إشاري، يتمثّل في هذه العلاقات الروحية التي كانوا يقيمونها، أو يرونها بين هذه الحيوانات والنباتات وغيرها على الأرض وبين عالم النجوم في السماء.

3-

المستوى الثالث: ذلك الوجود الأدبي في شعر الجاهليين، وقد اتخذ نزعة تصويرية غالبة.

وقد اتخذت هذه الزعة التصويرية لعالم الكواكب الميثولوجي في الشعر مظهرين واضحين:

الأول: لوحات متكاملة في وصف الطلل، والظعائن، والرحلة على الناقة، وصراع الحيوان والطير، وهي لوحات تضج بالحركة والحياة والصراع، وينبت من خلالها فيها هذه العقائد الميثولوجية.

ومن أبرز هذه اللوحات وأخطرها لوحة الطلل، ولوحة الظعائن، ولوحة الصيد.

والثاني: الصور الجزئية التي يؤلفها الشعراء عادة من التشبيهات، وأحيانًا من الاستعارات والكنايات، يصفون فيها جمال المرأة وصفًا مفصلًا وغامضًا، أو يشخِّصون قوة الفرس والناقة، وسرعة الظبي والظليم والحمار الوحشي، وإلى غير ذلك من صور الحيوان والطير والنبات التي حققت وجودًا فنيًّا رائعًا له أصوله ورموزه الميثولوجية والإنسانية المبثوثة فيه.

ويقرر أننا نجد تطابقًا ماديًّا كاملًا بين صور الشعر الجاهلي القصصية على وجه الخصوص، وبين عالم الكوكب في صورته الجغرافية التي انطبقت في أذهان الجاهليين عنه.

وهكذا فإن فهم الشعر الجاهلي لا يتأتّى، في نظره إلّا بفهم طبيعة الأسلوب التصويري فهمًا لغويًّا صحيحًا، وتحليل صوره المركَّزة، ولوحاته المركبة، تحليلًا يكشف أولًا عن أصولها الميثولوجية والشعبية التي نبعت منها، ويبرز ثانيًا تلك العلاقات الخفية التي كان الشاعر يقيمها بين عناصر الصورة، وبين مواقفه أو فلسفته في الحياة وظواهرها المتناقضة في بيئته.

1-

يشكل الحديث عن المرأة العنصر الأصلي الذي تأتلف حوله وتخرج منه بقية

ص: 180

عناصر القصيدة الأخرى، فهي التي توقف الشاعر على الأطلال

2-

إن الأسلوب التصويري يغلب على موضوعات بعينها، هي تلك الأغراض النمطية التي تؤلف البناء الشكلي والموضوعي للقصيدة الجاهلية، وإن الشعراء درجوا على أن يضفوا على صورهم طابعًا مثاليًّا يجعل من الأطلال نموذجًا للخراب والموت اللذين ينزلان بحياة الإنسان، ومن الحيوان على اختلاف أنواعه، حيوانًا أسطوريًّا في جماله وحركته وقوته، ومن السحاب وما يسقطه من أمطار رمزًا على ازدهار الحياة وخصوبتها.

3-

إن الشعراء حرصوا على أن يستمدوا هذه الصور من العالم الميثولوجي، عالم الكواكب على النحو الذي تصوروه وطبعوه في أذهانهم، وما كان يقابله في عالمهم المادي من حيوان ونبات وطير.

وفي محاولة لتطبيق هذه المنهج فإنه يأخذ "المرأة والشاعر"، وذلك لتبين تلك الصلة "الميثولوجية الوثيقة التي كانت تقوم بينها"، أو بين الحب وأغراض القصيدة الأخرى، وذلك من خلال نصوص تتوافر فيها الصور الكلية أو الصور الجزئية، وفي مجال الصور الكلية يدرس "عينية الحادرة" التي مطلعها:

بكرت سمية بكرة فتمتع

وغدت غدو مفارق لم يربع

وبائية الأعشى التي مطلعها:

وأصلت صرم الحبل من

سلمى لطول جنابها؟

ويأتي بحث الدكتور عبد الرحمن الثالث "من أصول الشعر العربي القديم: الأغراض والموسيقى دراسة نصية"، فيرى الباحث في مقدمة بحثه أن حرص النقاد المحدثين على تقويم التطور الذي حققه هذا الشعر بارتباطه بالشعر الإنجليزي الحديث من جهة، واتجاهات النقد الأدبي الحديث في أوربا من جهة ثانية، ويرى أن في هذه المحاولة الخصبة من التأصيل الفنِّي فائدة وخطورة في آنٍ واحد؛ لأنها ضخَّمت الدور الغربي في تطوير الشعر العربي الحديث، وقد نبعت أراؤهم من مقولة تتلخص في أن الشعر العربي القديم ظلَّ أربعة عشر قرنًا أسير صيغة تقليدية ثابتة تحقق لها شكلها وبناؤها ومقوماتها الفنية والموضوعية في العصر الجاهلي، وهي صيغة قد غلب عليها "عنصر الوحدة"، الأمر الذي جعل من القصيدة في صيغتها

ص: 181

التقليدية الثابتة أداة فنية عاجزة عن مواكبة التطور الذي أخذ يَجِدُّ على الحياة العربية عبر عصورها المختلفة والتعبير عنه.

وقد نجمت عن ذلك آثار خطيرة تمثَّلت في ظاهرتين غلبتا على حركة نقد الشعر في الأدب العربي الحديث: انصراف الدارسين المحدثين عن ملاحظة ظواهر التطور المختلفة التي أخذ الشعر القديم يحققها في مسيرته التاريخية والفنية الطويلة، والثانية: التفاتهم إلى الآداب الغربية وحدها لتفسير ما أخذ يجد على الشعر الحديث.

وقد دعا هذا كله الباحث إلى العودة إلى عالم الشعر القديم للكشف عن أصوله الشكلية والفنية، ولرصد ظواهر التطور البارزة التي أخذ يحققها تباعًا بفضل ظهور الإسلام، وهو يرى أنها أصول ظلت موصولة بين القديم والحديث في حياة الشعر العربي منذ العصر الجاهلي حتى الآن، على نحوٍ يؤكد استمرار الصلة الفنية الوثيقة بين قديم هذا الشعر وحديثه، ويجعل من الصيغة الشعرية الجديدة نتاجًا حتميًّا لهذا التطور الدائب، وتلك الصلة المستمرة، بالإضافة إلى المؤثرات الأجنبية الأخرى.

وينتهي إلى أن الشعراء الجاهليين، على الرغم من أنهم درجوا على بناء قصائدهم من أغراض وصور وأوزان واحدة، وقد نجحوا في أن يؤلفوا منها قصائد متنوعة الرموز والقضايا، على نحوٍ يعكس قدرة إبداعية خاصة لم يفطن إليها هؤلاء الدراسون الذين يلحون على ثبات الصيغة الشعرية القديمة وتقليديتها.

وفي الجانب التطبيقي يكتفي في دراسته هذه بالوقوف عند عنصرين من عناصر القصيدة يعدهما النقاد من أصولها الشكلية والفنية الكبيرة، واستغلّ الشاعر موهبته وقدرته الإبداعية في تنويعها بغية توظيفها في الرمز، والعنصران هما: الأغراض والموسيقى، وبالنسبة للأغراض يتناول المرأة كما في بحثه السابق، ولكن من خلال "معلقة امرئ القيس"، وينفذ إلى أعماق تصوره للمرأة، يرى أن التشابه بين الشخصيات الثلاث؛ لأن الأساطير القديمة يتداخل بعضها في بعض، ويخلص إلى أن شخصية الشاعر، امرئ القيس، وغيره من الشعراء، كما يستخلصها الرواة من أشعارهم، شخصيات أسطورية، وهذا يؤيد أن الأغراض الشعرية ليست أكثر من صيغ فنية خالصة يوظفها الشعراء في قصائدهم.

ص: 182

ويتناول كذلك "الصيد" وأداته حصانه الأسطوري، من خلال معلقة "امرئ القيس"، ويتناول كذلك "المطر"، ويجعل منه مطر أسطوريًّا.

ويرى الباحث أن كل شاعر من شعراء الجاهلية لديه "مقولته" التي تختلف عن مقولات غيره، وذلك بالرغم من أن الأغراض التي تتألف منها هذه القصائد لم تختلف كثيرًا في قصيدة عنها في الأخرى، وسبب ذلك أنها استحالت إلى "وسائل فنية"، يعبّر الشعراء من خلالها عن أفكارهم المختلفة.

ويخصص بقية بحثه للحديث عن "الموسيقى" في الشعر، وخلاصة رأيه:

1-

إن القدامى قد خلطوا بين الوزن والموسيقى من ناحية، والقافية من الناحية الأخرى، وأكدوا بما أخذوه على بعض الشعراء من أخطاء في الأوزان والقوافي، ثبات النظام الموسيقى في صورته التي استخلصها الخليل بن أحمد من ناحية أخرى، ومن ثَمَّ أخذت تتردد في كتاباتهم كلمات: الوزن والنظم والقافية دون كلمة "الموسيقى" أو "الإيقاع".

2-

إن المحدثين قد اتخذوا من عيوب "علم العروض" وقصور مقاييسه عن الكشف عن أسرار الشعر الموسيقية، عيوبًا للنظام الموسيقي للشعر القديم نفسه.

لقد أخذ الاتجاه النقدي الذي يربط بين الأوزان والمعنى يغزو النقد العربي الحديث منذ وقت مبكر، في كتابات المرصفي والبستاني والرافعي والنهويهي وغيرهم، وقد بالغ النويهي في تأكيد هذه الصلة بين بحر القصيدة وموضوعها في كتبه ودراساته التي خصَّصَها لتحليل نماذج من الشعر القديم، مبالغة وجعلت لكل بحر وظيفة بعينها.

أما الدكتور عبد الرحمن فيرى بأنَّ اتساع الوزن الواحد لأغراض القصيدة المختلفة، وتنوع موسيقى هذه الأغراض واستجابة هذا الوزن لمذاهب الملحنين وأداتهم، وأصوات المغنيين وإمكاناتهم، وأذواق المستمعين وعواطفهم المتباينة، يؤكد ما يذهب إليه من قدرة هذه الأوزان على مواجهة عواطف الشعراء المتغيرة مواجهة موسيقية خصبة ومتغيرة أيضًا، وذلك بخلق ألوان من الموسيقى الشعرية في القصيدة الواحدة، لها القدرة على إحداث تأثيرات متباينة في قراء هذا الشعر ومستمعيه

كما يؤكِّد زيف هذه الآراء التي تربط بين الأوزان نفسها ومعاني القصائد وأغراضها، وهو زعم يبطله تنوع أغراض القصيدة واختلاف معانيها، وتباين

ص: 183

مواقف الشعراء النفسية فيها، وصياغة هذا كله في بحر واحد ينتظم القصيدة من أولها إلى آخرها.

ويعترف الباحث بأن دراسته نظرية لم تعتمد على أية تجارب معملية أو مقارنات لغوية سامية، إلّا في حدود ما استقاه من بعض المصارد الحديثة، أما المطلوب فهو التدليل على وجود نظام موسيقي معقَّد للشعر القديم غير نظام الخليل العروضي، وإنه قد آن الأوان لأن يأخذ اللغويون العرب المحدثون زمام المبادرة في الحثِّ عن هذا النظام، ولا يكون ذلك إلّا بالتحليلات المعملية والمقارنات السامية، ولا يفوت الباحث أن يعترف بمحاولة جادَّة قام بها المرحوم الدكتور محمد مندور لتحليل موسيقى الشعر العربي القديم ورصد مقوماتها، عن طريق سلسلة من التجارب المعملية الدقيقة، قام بها في فرنسا في الفترة "1930-1939" ونشر مخلصًا لهذا البحث الذي لازال مخطوطًا، في مجلة كلية الآداب بجامعة الإسكندرية "العدد الأول 1943"، ثم عاد فأشار إلى النتائج في مجلة الرسالة، وفي كتابه "في الميزان الجديد". وقد تأثَّر كثيرون بهذه الدراسة، لكنهم لم يشيروا إلى صاحبها، لكن الباحث يرى أن هذه الدراسة الخصبة لم تقدِّم لنا وصفًا صوتيًّا دقيقًا كاملًا إلّا لوجه واحد من موسيقى الشعر العربي القديم هو "الموسيقى الخارجية"، أما "الموسيقى الداخلية" فلم يثر اهتمام الدراسين القدامى والمحدثين إلّا في إطار بعض الملاحظات الذوقية العامة التي نقع عليها في كتاباتهم.

والباحث الثالث الذي ينهج هذا النهج هو الدكتور نصرت عبد الرحمن، فينطلق في كتابه "الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث"1 من الصورة لتطبيق المنهج الميثولوجي أو الأسطوري.

ويقرر في مقدمة بحثه أن الصورة من أشد القضايا خطورة في النقد الحديث، وذلك لاتصالها اتصالًا مباشرًا بنظرية المعرفة في الفلسفة، أو لارتباطها بنظرة الإنسان إلى الكون، واقتناص الحقيقة الشعرية في الصورة مطلب عسير، وبخاصة في الشعر الجاهلي، لأننا لا نعرف كثيرًا عن صانع الصورة، ولا نعرف من أمر نظرته إلى الكون إلّا أشتاتًا من المعلومات.

ويقرر أيضًا أن الفصل بين صور الشعر الجاهلي والمعتقد كالفصل بين الصور

1 صدر عن مكتبة الأقصى، عمان، ط1: 1976م.

ص: 184

التي تملأ المعابد الفرعونية والمعتقد الفرعوني القديم، وأما منهجه في دراسة الصورة الجاهلية فيقوم على الأسس التالية:

1-

إطراح شعر المخضرمين، فقد يكون هؤلاء قد غيَّروا شعرهم الجاهلي بعد إسلامهم وأدخلوا فيه نظرات إسلامية.

2-

إطراح شعر الجاهليين الذي شك الباحثون فيه، مثل: شعر أمية بن أبي الصلت وعنترة والمهلهل.

3-

الاعتماد كثيرًا على شعر أصحاب الدواوين.

ويخصص الباحث الباب الثاني من كتابه للحديث عن الصورة في الإطار الرمزي، وفي هذا الإطار نبلغ الوجود الشعري للصورة الجاهلية، أو الدلالة الباطنية لها، ولا بُدَّ من الربط في هذا الباب بين الموجود والمعتقد الجاهلي، معتمدًا في دراسة المعتقد على كتب الميثولوجيا الحديثة، والربط كذلك بين الموجود وعبادة الأجرام السماوية، والرجوع إلى كتب الفلك؛ لأن في هذه الروابط ظهورًا للمثالية الجاهلية.

ويخصص الباب الثالث لدراسة الصورة في إطارها الشكلي، ويبني هذا على نتائج الدراسة الرمزية، ويدرس الصورة في بنائها الخاص، وفي البناء الهيكلي للقصيدة الجاهلية.

وتقوم دراسة كلها على ثلاث أعمدة رئيسية.

1-

عدم انفصال الدراسات النقدية عن الإطار الفلسفي العام.

2-

الشعر ينطلق من فلسفة وجدانية عُلْيَا، والشاعر يعبِّر عن روح الأمة.

3-

ينطلق النقد من دراسة "الموجود"، كي يصل إلى "الوجود الشعري".

ومن النتائج التي توصَّلت إليه الدراسة أن الإنسان الجاهلي مفترى عليه في الدراسات، وأن الصور الجاهلية تزيح الظلمات التي ادلهمت الإنسان الجاهلي.

ومن النتائج أيضًا أن بعض الشعراء الجاهليين شغفوا ببعض الصور دون غيرها، وقد عمَّ الباحث وجهة نظره هذه بجداول إحصائية ورسوم بيانية لموضوعات الصورة عند ثمانية شعراء جاهليين "النابغة، وامرئ القيس، زهير، الأعشى، طرفة، عبيد، أوس بن حجر، قيس بن الحطيم"، ومن هذا الموجود، ومن ربطه بالديانة الوثنية يتفتَّح الوجود الشعري الديني.

ص: 185

ويتفق مع الدكتور إبراهيم عبد الرحمن في أنه عدَّ المرأة مفتاحًا لمغاليق القصيدة الجاهلية، ويقرِّر أن المرأة كانت رمزًا للآلهة الشمس.

وعندما تحدّث عن المقدمة الطللية ألفى أنها ترمز في عمومها إلى ما تخلفه الشمس الراحلة على الخصب الزراعي، كما وجد رابطة بين صور الحيوانات "الظليم والفرس والناقة" وصور نجوم السماء، مما يدل على أن الشاعر كان يتطلع إلى هذه النماذج الحيوانية بأنها مثل موجودة في السماء، وربط بين قصة الثور الوحشي والكلاب، ومجموعة النجوم التي تسمَّى الثور والكلب الأكبر والكلب الأصغر والجبار. ويضع الباحث احتمالًا لأن تكون الرموز الدينية رموزًا وجودية؛ فالطلل يرمز إلى اليأس الوجودي، والمرأة ترمز إلى الأمل، ورحلة الصحراء ترمز إلى العمل، والناقة إلى القوة، وقصة الصراع الحيواني رمز للصراع الإنساني من أجل تحقيق آماله، وهو لا يجد بعدًا شديدًا بين الرموز الدينية والرموز الوجودية. ويرى الباحث أن الشكل تتجلى فيه الفلسفة الجاهلية الأيقونية التي تعد الزمان غير النهائي، وتعد المكان نهائيا، أما المكان فيحفظ الشاعر الجاهلي له وحدته، ويحطم الزمان، وتتجمع الأزمنة الثلاثة فيه: الماضي والحاضر والمستقبل، كما تظهر تلك الفلسفة أيضًا في التشبيه الذي يترابط فيه الحسّ والمعنى، وتتجلى أيضًا في بناء القصيدة الجاهلية العضوي، فالبناء العضوي في الشعر الذي ينبع من النظرية "الأيستمولوجية" من عامل الوحدة التي تربط بين الموجودات، وهي الرابطة العظمى في الشعر.

ويرى أيضًا أن الشاعر الجاهلي لم يكن يحلل كما تقول المثالية، ولم يكن يركب كما تقول التجريبية، بل كان يحلل ويركب معًا: يحلل المثال ويركب من المادة، ولعل هذا التناقص الناتج من التقاء التحليل والتركيب نوع من التفرد امتاز به الشاعر الجاهلي والقصيدة الجاهلية.

أما الدكتور علي البطل: فقد ذكر في مقدمة كتابه "الصورة في الشعر العربي حتى أواخر القرن الثاني الهجري" دراسة في أصولها وتطورها1، أن منهجه أسطوري؛ لأن بحثه "يحاول أن يكشف عن وجه للشعر العربي كان محتجبًا طيلة هذه الحقبة الطويلة من عمره، وهو وجه ارتباطه الوثيق بالحياة الدينية والأساطير القديمة التي

1 صدر عن دار الأندلس، بيروت، ط1: 1980م.

ص: 186

تسرب منها إليه الكثير من الصور، وكان الشعراء يحرصون على ترديدها، وكان الدارسون يرون فيها دليلًا على مادية الشعراء، وخواء الجانب الروحي في حياتهم، وساعدهم على ذلك مصطلح الجاهلية".

ومحور دراسته الصورة التي أخذت تشد الباحثين في الصنف الثاني من العقد السابع من هذا القرن، ويعترف بأن دراسته هذه امتداد وتطوير من بعض الوجوه لدراسة أستاذه الدكتور إبراهيم عبد الرحمن، ويعترف أيضًا أن الدراسات التي سبقته تقترب بدرجة وبأخرى من المنابع الأسطورية؛ كدراستي الدكتور ناصف "قراءة ثانية لشعرنا القديم" و"دراسة الأدب العربي"، إلّا أن الدراستين ينزع بهما صاحبها منزعًا نفسيًّا تشوبه الانطباعية، وتحفلان بالتجاوزات، ويعترف بأن أقرب الدراسات إلى منهجه دراسة الدكتور نصرت عبد الرحمن التي سبقت، ولكنه يأخذ عليها أنها اعتمدت على الأفكار الشائعة عن المعبودات المعروفة بالأصنام فقط، وأنه يلتوي أيضًا بالصور إلى الرمز الذي يفسره تفسيرًا انطباعيًّا لا يعتمد على أرض الأساطير التي يشير إليها، كما يتَّجه في بحثه عن الأساطير إلى السماء أساسًا، ويطرح بعد ذلك أسئلة لا يجيب البحث عنها.

ونظرًا لانصراف الدراسات السابقة عن الصورة إلى الشكل، فقد اهتم هو بالموضوع في الغالب دون إغفال الجانب الفني، كما انصبَّ اهتمامه على بحث الأصل الديني للصورة أساسًا، ثم المضي عنها متابعين تطورها الفني والتاريخي للوصول إلى ما وصلت إليه ملامحها بتاثير التغيرات الحضارية المتتابعة للهجرة، حتى قرب نهاية العصر العباسي الأول.

وقد قسَّم الباحث بحثه إلى أقسام أربعة:

الأول: يتناول الجانب النظري، درس فيه مفهوم مصطلح الصورة الفنية ومنطلق الدراسة التطبيقية، ودرس أيضًا الأصول الدينية والأسطورية التي تستمد منها الصور الفنية في الشعر العربي جذورها.

والثاني: يدرس صورة المرأة منذ بداية شكلها المثالي في العقيدة الدينية، إلى ما وصل إليه هذا الشكل من تطورٍ نحو الواقعية بتأثير التطورات الحضارية.

والثالث: يعالج صورة الحيوان التي تنبيئ بأصولٍ أسطورية كالثور الوحشي

ص: 187

وحمار الوحش والظليم والناقة والحصان، وهي من المعبودات الأساسية القديمة.

والرابع: يدرس عددًا من الصور في شعر المدح والفخر والرثاء والهجاء والوصف مبينًا جذورها الأسطورية من خلال الشعر، وما بقي من الممارسات الشعائرية من روايات الإخباريين التي لم تلفت الانتباه إلى دلالاتها الطقوسية.

ومن الأساسيات التي ارتكز عليها الباحث في بحثه أنه يتبنَّى المفهوم الجديد للصورة، الذي يعتبر الصورة عبارات حقيقية الاستعمال، ومع ذلك فهي تشكل صورة دالة على خيال خصب، ويستخلص من الاتحاهات الحديثة المتعددة نظرة متكاملة للمفهوم الجديد يتبناه، فالصورة تشكيل لغوي، يكوّنها خيال الفنان من معطيات متعددة، يقف العالم المحسوس في مقدمتها. ومن الأساسيات أن الصور الرمزية، أو الأنماط المتكررة من الصور، وما وراءها من ارتباطات النماذج العليا في الشعائر والأساطير هي مدار الاهتمام في بحثه.

ومن النتائج التي يخلص إليها الباحث:

1-

إذا كنَّا قد فقدنا الشعر فليس معنى ذلك أنه لم يوجد على الإطلاق دور للشعر في طقوس عباداتهم، وإنما علينا التماس آثاره وتقاليده الفنية التي عاشت في شعر المراحل التي وصلتنا آثارها؛ حيث تركزت الآثار في الصور الفنية.

2-

لقد جمع العرب الصور المختلفة للأمومة أو الخصوبة كالمهاة والغزالة والحصان من الحيوان، والنخلة السمرة من النبات، والمرأة من الإنسان، فجعلوها رموزًا مقدَّسة للشمس - الأم.

3-

لقد تخلَّفت عن عبادة المرأة - الأم، وعن ربطها بالشمس، الأم المعبودة، وجعلها نظيرًا للرموز المتعددة التي رمزوا بها للشمس كالنخلة والغزالة والمهاة، تخلفت عن ذلك صورة يمكن أن نطلق عليها: المرأة المثال أو الصورة المثالية للمرأة، وهي صورة لا تتعلق بالمرأة بعينها.

4-

قد يعمد الشاعر إلى فصل عنصر من عناصر صورة المرأة، مكونًا به صورة جزئية موسَّعة تضاف إلى الصورة العامة، مثل عنصر: الدرة أو البيضة أو القطاة أو الحمامة، وهي أيضًا عناصر مستمدَّة من صور دينية قديمة، إلى جانب صور

ص: 188

خاصة المرأة تصور علاقة أسطورية قديمة بين المرأة والحرب.

5-

لكن الباحث يعترف بأن ليس كل تصوير شعراء ما قبل الإسلام للمرأة مقصورًا على صور المرأة المثال، فهناك صورة المرأة الواقعية، وهي القينة أو المغنية أو المهجوّة من نساء الأعداء

إلخ، ولكن المرأة الغالبة -كما يرى- هي المرأة المثال.

6-

الحيوان من بين الصور المهمة لمعبودات الإنسان القديم، فهو إما طوطم الجماعة وحدّها الأعلى، وإما معبودها الممثَّل والرمز للإله السماوي: الكوكب الذي تتوجه إليه الجماعة في صلواتها، والباحث يتناول من الحيوان الثور الوحشي وهو رمز الإله القمر، والحمار الوحشي، والظليم.

7-

يرى أن ارتباط الرجل -المثال- بالقمر، شكل من أشكال التقديس التي يخلعها الذهن البدائي على العظماء، فلقد عبدت الملوك والأبطال في الديانات القديمة نتيجة وضعهم المتميز في المجتمع، لذا فقط شبه الممدوح بالبدر، وإن موقف الرجل المثال في الحرب -البطل، وهو الرمز لصورة الإله "ود" المحارب، أما الرجل المثال في السلم فهو الكريم، ولذا فإن شعر المديح يربط بين صورة الرجل المثال وبين صورتي القمر والثور الوحشي المقدستين، ويأتي هذا الربط في حالة السلم بصفة الكرم، وفي حالة الحرب بصفة البطولة، وهما صفتان ملازمتان للمدح في الشعر الجاهلي.

وأما الباحث الرابع الذي نرى أنه يسلك هذا المنهج ولو جزئيًّا الدكتور مصطفى ناصف في كتابه "قراءة ثانية لشعرنا القديم"1، وخلاصة رأيه في النقد العربي القديم أنه أحسَّ بشدة بنقاء الأدب العربي، وحرص على تشخيصه جيلًا بعد جيل، فقد شخَّصه برسم الصورة المثلى للغة العربية ممثَّلة في القرآن الكريم، وثانيًا: بإصراره على أن الأدب العربي صورة ناضجة كاملة النضج قبل اتصال الثقافة العربية بغيرها من الثقافات.

وفي معرض حديثه عن النهضة الثقافية في العصر الجاهلي رأى أنها لم تدرس بعد دراسة كافية، وإن فكرة شعب عربي لم تكن من الأفكار البعيدة عن

1 صدر عن الجامعة الليبية، 1975م، وصدرت طبعة ثانية عن دار الأندلس، بيروت 1977، وطبعة ثالثة عن الدار نفسها 1981م.

ص: 189

أذهان القبائل؛ لأن اللغة الأدبية الموحدة لم تكن لتنمو إلّا بفضل نمو الترابط الاجتماعي، ويرفض فكرة أن يكون الشعر القديم انعكاسًا مباشرًا لفكرة البداوة، بل إننا أمام مجتمع تشغله أسئلة أساسية شاقة عن مبدأ الإنسان ومنتهاه ومصيره وشقائه وعلاقته بالكون.

وخلاصة رأيه في الشعر الجاهلي أنه ينافس أي شعر آخر شريطة أن نحسن قراءته، ومن أجل إثبات ذلك درس المقدمات الطللية لكلٍّ من زهير وطرفة، وقد رأى فيها ضربًا الطقوس أو الشعائر التي يؤديها المجتمع، أو تصدر عن عقل جماعي لا عن عقل ذاتي أو حالة ذاتية، فالشاعر الجاهلي لا يتصور الفن عملًا فرديًّا، بل يتصوره نوعًا من النبوغ في تمثُّل أحلام المجتمع ومخاوفه وآماله، وإنَّ كل شاعر جاهلي لا يبدأ الحديث ولا يخاطب المجتمع الذي ينتمي إليه إلّا عن طريق بعث الماضي.

والشاعر الجاهلي يتخير العناصر التي لا تقبل الزوال، ويرى أن الطلل رمز الزمن الذي يتسم بالإيجابية الواضحة، والطلل يبدو وكأنه منبت ثقافة، وفكرة السفن تمضي في الماء تتعلق بفكرة الرحلة البعيدة التي تحقق المغانم، وفكرة النخيل مرتبطة بفكرة الظعائن.

وهو يرى أن موضوعات الشعر الجاهلي كثيرة، ولكنها قابلة للترابط، فالشعراء أعجبوا بالربط بين السيل والفرس، والفرس والمطر جزءان مترابطان من تفكير واحد، والفرس مرسل الغيث الذي يتوقعه الشاعر دون قنوط "مفهوم الخير"، والكرم جرى العرف على اعتباره معادلًا لفكرة الماء والبحر، والناقة هي التعبير الصالح عن فكرة الثبات والقهر والصمود، والناقة أشبه بالأمومة القوية، وقد اقترنت بالنخلة في أذهان العرب، وأمومتها صابرة قادرة راغبة في استمرار الحياة، وأخيرًا هي ليست مجرد حيوان، إنها حيوان مقدَّس أحيانًا.

ويربط الباحث بين فكرة الراهب وفكرة المطر، فالمطر في شعر امرئ القيس قيامة غير عادية، أو هو هزة كبرى تنسخ التجارب اليومية المألوفة، وتفصل بين جزءين من الحياة، والمطر يسوقنا إلى فكرة الكرم، وفكرة الماء الذي يهبط من السماء وثيق الصلة بفكرة المحبوبة، كما أن ثَمَّة صلة بين فكرة المطر وفكرة الناقة.

أما الوشم فهو تعويذة ضد الطلل، والتشابه بينهما لا يمنع من ملاحظة

ص: 190

المفارقة والتضاد. والوشم هو الجهد العقلي الذي ينتجه الإنسان في سبيل الإبقاء على الطلل والتغلب عليه أيضًا، فإذا استحالت مادة الحياة إلى وشمٍ كان في هذا بكاء للحياة وإبقاء عليها، وتعويذة الوشم هي الخطوة الأولى في سبيل الصراع ضد الطلل الشاخص.

ويرى الباحث أنه يجب التفكير في:

1-

الصراع بين الطلل والوشم.

2-

الصراع بين الطلل والناقة.

3-

الصراع بين الخمر والطلل.

4-

الصراع بين المغامرة المسمَّاة بالفخر والطلل.

وأما الدكتور نصرت عبد الرحمن فله البحوث التالية: "الصورة الفنية في الشعر الجاهلي في ضوء النقد الحديث"1، و"المطر: مواضع وروده في جانب من الشعر الجاهلي"2، و"حول دلالة عمرو في القسم والدعاء في الشعر الجاهلي"2.

والمبحث الأول هو الذي يتصل بموضوع هذه الدراسة، وهو يقرر منذ البداية وفي مقدمة البحث أن "قضية الصورة تتصل اتصالًا مباشرًا بنظرية المعرفة في الفلسفة، أو ترتبط بنظرة الإنسان إلى الكون، وإنها تحمل في حناياها حقائق شعرية تنأى بها عن الزخرف الشعري، وصندوق الأصباغ، والبلاغة"4.

وقد قسَّم بحثه إلى تمهيدٍ وأبواب ثلاثة: ففي التمهيد كان الأساس النظري الذي أقام عليه البحث، حيث حدَّد مفهوم الصورة، ووضع خطًّا أساسيًّا، وهو أن الشعر تعبير عن الوجدان الجماعي.

وكان الباب الأول1 للصورة في إطار الموضوع، وفي الفصل الأول: صورة الإنسان في الشعر الجاهلي: الصورة والدين، الصورة والكتابة، الصورة والفنون

1 صدر عن مكتبة الأقصى، عمان 1976م.

2 نشرته مجلة دراسات، الجامعة الأدرنية، مجلد6، عدد2، ص101-102.

3 نشرته مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 19-20 "1983م، ص7-30".

4 الصورة الفنية، المقدمة.

5 الصورة الفنية، ص21-104.

ص: 191

الصورة والإنسان الصائد، الصورة والإنسان الزارع، الصورة والصانع، الصورة والتجارة، الصورة والبيت، الرجل والمرأة، الصورة والطعام، والشراب، الصورة والعطور، الصورة والألعاب، الصورة والمرض.

وفي الفصل الثاني تحدث عن صورة العالم الطبيعي في الشعر الجاهلي "السماء والرياح والمطر والماء والفصول والحيوان والنبات".

وفي الفصل الثالث تحدَّث عن موضوعات الصورة عند كلٍّ من: امرئ القيس والنابغة وزهير وطرفة والأعشى وعبيد وأوس وقيس بن الخطيم.

وجاء الباب الثاني1 للصورة الجاهلية في الإطار الرمزي، وقد قسَّمَه إلى فصلين هما:

الأول: الصورة والرمز الديني "المرأة والطلل والرحلة للمرأة وللشاعر، وأسماء النساء والرمز، والمطر والتصور".

والثاني: الصورة والرمز الوجودي "اليأس والأمل والعمل".

وخصص الباب الثالث للصورة في الإطار الشكلي، وجاء في فصلين:

الأول: الصورة الجاهلية والشكل "المكان والزمان، والصورة والتشبيه، والشكل والحس، والتشبيه والمثل".

الثاني: الصورة وبناء القصيدة الجاهلية البناء التوافقي، والبناء المفارق، والبناء المتقطع.

وذلك هو بناء الكتاب آثرنا إيراده كاملًا لما فيه فائدة للباحثين والدراسين، وسنحاول إلقاء بعض الأضواء على المنهج الذي تبناه الباحث.

تتصور المعاني الشعرية في عدة أنواع من الصور2 هي:

أولها: التقريرية، وهي تلك لا تحوي تشبيهًا أو مجازًا.

وثانيها: التشبيهية، وهي التي يتجسَّم فيها المعنى على هيئة علاقة بين حدين.

وثالثها: الرمز الأيقوني، وهو الصورة التي تدل على صورة مادية بينهما علاقة تشابه، وتحمل الصورة المادية معنى.

1 نفسه 105-174.

2 الصورة الفنية 9-13.

ص: 192

ورابعها: الاستعارة.

وخامسها: الرمز غير الأيقوني، وهو عندما يتجسَّم التصوّر في مادة دون أن يكون في المادة علاقة تشبيهية أو استعارية، وهو علاقة باطنية خارجية "رموز الصوفية".

وسادسها: الكتابة وهي ضرب من الإشارة.

ويرى الباحث أن دراسة الشعر ينبغي أن تسير جنبًا إلى جنب مع دراسة الفكر، ولم يضر الشعر العربي غير الفصل الحادّ بينه وبين الفكر1. كما يرى أن علماء الأنثروبولوجيا لم يكتبوا عن الإنسان البدائي أسوأ مما كتبنا عن الإنسان الجاهلي، وإن النظر إلى بدائية الجاهليين قد طاردتهم حتى في فهم أشعارهم2.

ومن القضايا التي يتبناها الباحث في بحثه:

1-

أن تكون كثرة الحديث عن النار في الشعر الجاهلي وشدة الاعتزاز بها، وإن تبدَّت في معرض الكرم، مظهرًا من مظاهر الديانة الفارسية "المجوسية".

2-

إن دراسة الصورة الوثنية في الشعر الجاهلي تحتاج إلى منهج وصفي؛ لأن وراء هذه الصورة حياة مييثولوجية كاملة، وتختفي في ثناياها رموز ترتد إلى نظرة عرب الجاهلية إلى الكون والخلق والحياة والموت.

3-

لا ترد الغزالة في شعر الصيد، وعدم صيدها له دلالة هامة.

4-

الرجل في الشعر الجاهلي معنًى والمرأة صفة.

5-

للقمر والشمس وللشعر قداسة عند عرب الجاهلية، لكن هذه القداسة تبدو شاحبة في الشعر الجاهلي.

6-

في صورة الشمس بضعة عناصر: العنصر الزماني، والعنصر المكاني، والعنصر الجمالي، والعنصر الحيواني، والعنصر الإنساني، والعنصر الإلهي.

7-

أكثر الرياح في الشعر الجاهلي هي ريح الشمال وتليها الصبا، ثم الجنوب فالدبور فالنكباء.

8-

قلَّمَا نرى الشعراء يصوّرن البعير في أسفارهم.

9-

ثَمَّة أمران أضرَّا بالشعر الجاهلي: القول بحسيته، والقول بوضوحه وسذاجته.

1 نفسه 15.

2 نفسه 17.

ص: 193

وعلة ذلك هو الفصل البنَّاء بين ذاك الشعر والمعتقدات الجاهلية.

10-

إن دراسة الصور الجاهلية في ضوء الدين من أشق الأمور وأشدها عسرًا بسبب غموض الحياة الدينية.

11-

التشبيه بالغزالة كثير جدًّا في الشعر الجاهلي.

12-

نلاحظ في الظعائن أمورًا عدة:

أ- أن المرأة فيها تخرج بأبهى حللها وكامل زينتها.

ب- أن المرأة ترحل عادة إلى الأنهار والينابيع، فتطوف ما تطوف في الصحراء، ثم تحط رحالها بجانب الماء.

ج- أن للرحلة صورتين تكادان تتكرران عند الجميع: تشبيه الظعائن بالسفن وبالنخيل.

ويقوده هذا كله إلى الاعتقاد بأن رحلة الشمس كل يومٍ ورحلتها في الصيف والخريف والشتاء والربيع هي رحلة المرأة1.

13-

يربط الباحث بين رحلة الشعراء الجاهليين وملحمة جلجامش البابلية، ففي كل ثور وحشي، وتجواب طويل، ولكن الملحمة تحدد هدف الرحلة، وهو الوصول إلى الشمس لنيل الخلود، فهل كان الشاعر الجاهلي يطمع في الوصول إلى الشمس أيضًا لنيل الخلود2؟

14-

يخلص إلى القول بأن الحصان وحمار الوحش وغيرهما من الحيوانات لها مثيل في السماء3.

15-

تبدو الشمس "اللات الجاهلية" الإطار العام لرمز المرأة في الشعر الجاهلي، ويبدو أن هذا الرمز الديني العام يحوي رموزًا خاصَّة لكلّ اسم من أسماء النساء اللائي وردن في الشعر الجاهلي. ويبرر هذا كله بتكرار بعض الأسماء، وتشابه الصفات التي يسبغها الشعراء عليهن4.

16-

جعل الباحث الطلل رمزًا لليأس، والمرأة رمزًا للأمل، ورحلة الصحراء رمزًا للعمل.

17-

يعترف الباحث بأن الدراسات لا تخلو من تعميم يبدو منافيًا لروح النقد

1 الصورة الفنية 131.

2 نفسه 143.

3 نفسه 143.

4 نفسه 146.

ص: 194

الحديث الذي يعدُّ الشعر غير خاضع لقانون، وبعد كل قصيدة ذات حياة تتميز بالتفرد والخصوص.

18-

ينظر إلى الصورة على أنها من فعل التصور، فإن تشابهت الصور دلَّ ذلك على حدة التصور، وفي ظل الدين يتحد التصور.

وفي معرض حديثه عن الصورة الجاهلية في الإطار الشكلي1 يؤكد على الربط بين شكل الصورة الجاهلية وبنائها ومعتقد الجاهليين، فالشكل ليس قالبًا تُصَبُّ فيه الأفكار كما يصبّ الشراب في الأكواب على حد تعبيره. ويذهب إلى أن الشعر فنّ زماني مكاني، وأن قضية المكان والزمان من أخطر القضايا في الفكر الأيقوني، إلّا أنها منبثقة عن الفكرة الثنائية التي تعتقد أن المكان محدود مادي والزمان غير محدود. والشعر الجاهلي مبني على فكرة أيقوني: فالمعبود مادي يحده المكان ولا يحده الزمان، وقد خلفت هذه النظرة آثارها في شكل الصورة الجاهلية ووسمته بميسمها2.

وفي الفكر الأيقوني يكون التشبيه عمدة الصورة الفنية؛ لأنه فكر يقوم أساسًا على التشابه، ولكن الباحث يبرهن على أن الشعر الجاهلي برئ من تهمة الحسية التي رمي بها3.

ويذهب الباحث إلى أن الثنائية الأيقونية تفسّر حسية الصورة الجاهلية، ففي هذه الثنائية يتداخل المثال بالواقع؛ كالتداخل الذي نراه في التصاوير النصرانية مثلًَا، حيث تبدو العذراء بالغة الحسن، ولكنه حسن مأخوذ من دنيا الواقع، ولكننا نرى مثالًا معنويًّا فوق هذه الواقعية4.

ويعدد بعد ذلك الأشكال الحسية للصورة5، فأولها: الصورة البصرية، وتشكل الكثرة الغالبة من الصور الجاهلية، وأبرز سمات الصورة البصرية الحركية.

ويلي الصورة البصرية في الكثرة الصورة اللمسية، وبخاصة الناعمة فيما

1 الباب الثالث من الدراسة 175.

2 نفسه 177.

3 نفسه 179.

4 الصورة الفنية 182.

5 نفسه 186-189.

ص: 195

يلمس من الأشياء، ويلي ذلك الصورة الشمية، وقد يمزج الشاعر بين الصورتين اللمسية والشمية، ويلي ذلك الصورة السمعية فالذوقية.

أما "الصورة وبناء القصيدة الجاهلية"1: فيتناول قضية خطيرة في النقد الحديث، وهي الوحدة في الشعر الجاهلي، وهو يرى أن العلاقة بين الذات والموضوع لم تكن موجودة وحدها في العصر الجاهلي، بل وجدت علاقة أخرى هي علاقة بالآلهة، ونتيجة لهذه العلاقة قد يتحدد الموضوع، فالفكر الجاهلي يمكن تصوره على صورة مثلث رأسه الآلهة وأحد طرفيه الإنسان والآخر عالم الأعيان، وهكذا فالفكر الجاهلي هو العلاقة بين ذات وموضوع وآلهة.

وتتبدى هذه الوحدة في مواقف القصيدة الجاهلية، وهذه المواقف تتعدد وتتكون من ثلاث علاقات: علاقة الذات بالآلهة، وعلاقة الآلهة بالموضوع، وعلاقة الذات بالموضوع.

وبناء القصيدة الجاهلية في رأي الباحث، بناء توافقي2 كمعلقة زهير؛ حيث كان الموضوع هو إحلال السلام بين القبيلتين، وهذا السلام جاء نتيجة لحكمة من سَعَيَا إلى دفع الديات.

وثمة نوع آخر هو البناء المفارق3، وهو الذي يتعارض فيه موقف الآلهة من الموضوع مع موقف الشاعر منه. ويتبدى هذا البناء في الموضوعات القدرية التي لا يملك الإنسان دفعها كالموت والشيب والجدب، أو فيما يمكن رده إلى الآلهة، ومثاله: عينية الحادرة.

والنوع الثالث: هو البناء المتطقع4، وهو أن تكون القصيدة مكونة من موقفين هما: الذات والآلهة، والذات والموضوع، ولا يظهر الشاعر موقف الآلهة من الموضوع، ومثاله: قصيدة بشر بن أبي خازم "البائية" التي مطلعها:

تنعاك نصب من أميمة منصب

كذي الشوق لما يله وسيذهب

وتبدو الأبنية الثلاثة السالفة الذكر منبثقة من النظرة الجاهلية الأنتولوجية،

1 نفسه 192 وما بعدها.

2 الصورة الفنية 194 وما بعدها.

3 نفسه 200 وما بعدها.

4 نفسه 205 وما بعدها.

ص: 196

فالشاعر الجاهلي لم يكن يعتقد أنه الموجود الوحيد في هذا العالم، بل يشركه في هذا الوجود آلهة أقوى منه وأعظم، وكان عليه أن يبني شعره على وجوده1.

والشاعر الجاهلي كان يحلل الصورة ويركِّبها في وقت واحد، يحللها كما نلاحظ في "المرأة والناقة والفرس"، ولكنه إلى جانب هذا التحليل كان يركب صورًا تأخذ كل واحدة منها برقاب الأخرى، ويتكون منها معنى عام، كما فعل طرفة مثلًا عندما اجتمعت صوره جميعًا لتدل على القوة، لقد كان الشاعر يحلل المثال ويركّب من المادة، ولعل التحليل والتركيب بما في التقائهما من تناقض نوعٍ من التفرد، وتمتاز به القصيدة الجاهلية2.

1 الصورة الفنية 207.

2 نفسه 214.

ص: 197