الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
دراسات أخرى:
وبالرغم من أن ما اصطنعناه من تقسيم للدراسات وفق مناهج معينة، فإنني لا أستطيع أن أجزم بالتزام باحث منهجًا معينًا دون أن يفيد من المناهج الأخرى، ولكن السمة الغالبة على منهجه هي التي دعت إلى وضعه في هذا المنهج أو ذاك، وتبقى بعد ذلك دراسات ذات قيمة، وقد التفت أصحابها إلى النص الشعري الجاهلي فدرسوه دراسة تجاوزت حدود الدراسة التقليدية، وجمّودها عند حد معين.
وأول الباحثين الدكتور لطفي عبد البديع، وله دراستان؛ الأولى: تنظيرية "التركيب اللغوي للأدب"1 والثانية: دراسة تطبيقية "الشعر واللغة"2.
وأما الدراسة الأولى فيصرّح منذ بداية المقدمة أنه "يحمل إلى العربية فكرًا جديدًا تستقيم فيه لعلم الأدب طريقته، فقد طالما انحرفت به الأقلام إلى غير موارده، فتوارت حقائقه وعقمت مادته، واضطرب نسقه"3. وعندما يبحث عن الأسباب يجدها في البلاغة ومنطقها الصوري الذي فتت الحقائق الشعرية، وطوفان التاريخ والجغرافية الذي أغرقه في متاهات، وعلم النفس الذي التوى به إلى غير غايته، وعلم اللغة والنحو الذي أفضى به إلى طريق مسدود، والأهواء التي توزعته فلم تصح فيه قضية4.
ولكن الأمل يراوده؛ لأن علوم اللغة والأدب تغمرها ثورة رائعة، والظاهرة
1 نشرته مكتبة النهضة المصرية 1970.
2 نشرته دار النهضة المصرية 1969.
3 التركيب اللغوي للأدب، المقدمة.
4 نفسه، المقدمة.
الشعرية لغوية في جوهرها، لا سبيل إلى التاني إليها من جهة اللغة التي تتم فيها عبقرية الإنسان وتتقوم بها ماهية الشعر. وعلى هذا يدير البحث في الكتاب. وبحثه هذا فلسفي يجمع نظرية اللغة استنطاق الأدب، جدلي قطبي يتصل أوله بآخره، وتقضي بدايته إلى نهايته، ويدل بعضه على بعض، وتنزع فيها كل حقيقة إلى ما يماثلها، في نظرية متسقة تقوم على التجربة الحية والفطرة التي يتعاطى معها الإنسان الظاهرة الأدبية ليقف على مقوماتها، وهي تتفاعل لتنهض بعبء التركيب1.
وقد جاء البحث في فصول سبعة هي: أثر المنطق في التفكير اللغوي والبلاغة، والدلالة اللغوية في التفكير الفنمولوجي، والدلالة الذاتية والمحاكاة، والأسلوبية والبلاغية، والعمل الأدبي بين المؤلف والقارئ، والرمزية وموضوعية الأثر الأدبي، ووظائف اللغة ونظرية الأنواع الأدبية.
وأما الدراسة الثانية "الشعر واللغة": فيكرر فيها بعض ما جاء في الدراسة الأولى، وهو أن الشعر قد "توارى بين ركام الأخبار"، وتراجم الشعراء والأحكام التي يتناقلها الخلف عن السلف، ثم لا يكون من وراء ذلك شيء"، وإن طائفة من النقاد قد اعتدت بأطراف من نظرية "تين"، وجعلت من ثالوثها المركب من "الجنس والبيئة والعصر" عصًا سحرية لقفت ما عداها"2.
ويتبنّى الباحث مقولة "هيدجر"3 من أن الشعر هو الذي يبدأ بجعل اللغة ممكنة، وأنه هو اللغة البدائية للشعوب والأقوام، وأما ماهية اللغة فتهم من خلال ماهية الشعر، وأما الشعر فهو الأساس الذي يقوم عليه التاريخ وليس زينة تصاحب الوجود الإنساني، ولا مجرد تعبير عن روح الثقافة.
وأما منهجه في الدراسة فهو البحث عن اللغة في القصائد، ولكن البحث عن لفظ مستعار أو وجه من وجوه التشبيه، ولكن هدفه "البحث عن الوجود الشعري الذي يتحقق في اللغة باعتبارها فكرًا للشعر لا يلبث الشاعر معه أن يجد نفسه وقد أحاطت به الكلمات من كل جانب"4.
1 التركيب اللغوي للأدب، المقدمة.
2 الشعر واللغة، ص1.
3 نفسه 2، 3.
4 نفسه 6.
وأما ما يخلقه الشاعر من هذه الكلمات فهو "عالم جديد يقيمه على أنقاض الفناء في المعركة الرهيبة بين الإنسان والطبيعة، أو بين الإنسان والإنسان.. وإلى هذا العالم تذهب المعاني تتعانق مع غيرها، وتدل على الوجود الشعري وتحققه، وفيه تتلاقى شتّى الصور والتراكيب، وقد تظهرت جميعًا لإبراز الدلالة الكلية"1.
وقد درس الباحث القصائد التالية: عينية الحادرة2، ونونية ذي الأصبع العدواني3، ومعلقة طرفة4، وميمية المخبل السعدي5، وعينية متمم بن نويرة6، ودرس نصوصًا أخرى من مختلف العصور بما في ذلك العصر الحديث.
والباحث في دراسته لهذه القصائد لم يحللها من ألفها إلى يائها، ولكنه وقف عند قضايا أو جزئيات تخدم منهجه وهدفه، وكانت وقفاته لمَّاحة ودقيقة تكشف وظيفة اللغة ممثَّلة في اللفظة، وقد اختار نصوصًا يستطيع من خلالها إثبات ما ذهب إليه، ولكنه كغيره أفاد من المناهج الأخرى، وإن كانت لي ملاحظة فهي سرعة هذه الدراسة وعدم صياغة كل دراسة في منظومة واحدة متكاملة تلقي مزيدًا من الضوء على ما تبناه من منهج.
وللدكتور عبد الجبار المطلبي دراسة في الأدب القديم وهي "مواقف في الأدب والنقد"7، والكتاب مجموعة محاضرات أو بحوث من نتاج الباحث، وينتظم الكتاب المباحث التالية: في الأدب العربي القديم ونقده8، ومحاولة في تفسير صورة من صور الشعر الجاهلي9، والشعر والأخلاق10، والشعراء وتجربة الشعر11.
1 الشعر واللغة 6.
2 نفسه 7-18.
3 نفسه 19-25.
4 نفسه 26-37.
5 نفسه 38-45.
6 نفسه 46-53.
7 من منشورات وزارة الثقافة والإعلام العراقية، 1980.
8 نفسه 23-62.
9 نفسه 63-112.
10 نفسه 113-178.
11 نفسه 179-227.
ويتبنَّى الباحث في مقدمة الدراسة رأيًا مفاده أن تطبيق الناقد لنظرية جمالية أو فنية على أثر معين من آثار الفن هو حكم سابق لا مسوغ له، ودراسة تنقصها النزاهة التي يفترضها القارئ في النقاد؛ لأن الناقد الحق مشاهد لا يحتاج إلّا إلى أن يرى الأثر الفني كما هو في ذاته، وأن الأثر الفني الأصيل المبتدع لا يخضع بطبيعته لمقاييس سابقة انتزعت من أثر آخر له تفرُّده وأصالته.
ولكن الباحث يستدرك بأن ذلك لا يعني جهل الناقد بنظريات النقد والجمال، فرصد الناقد المنظر الأثر الفني قد ينطوي على كشف وجهٍ من وجوه ذلك الأثر، أو في الأقل، تصويره من زاوية إنسانية معينة، وعلى بعد معين منه، مما قد يعين على فهم أعمق لذلك الأثر الفني الفريد، ولكنه يعترف بأن مخاطر مثل هذا النقد تبقى ماثلة ما لم يكن الناقد مدركًا لها، عارفًا أن مثل هذا النقد قد يكون حكمًا سابقًا متحيزًا، وقد يقتصر على كشف عناصر النظرية وأهواء معتنقها مما هو بعيد عن الأثر المبتدع، غريب عليه1.
ويعترف أيضًا أنه استضاء بنظريات الأدب ومصطلحاته في مختلف العصور، ولكنه حاول ألا يكون أسير تلك النظريات والمصطلحات، وجهد أن ينتزع نفسه من قيودها في دراسة جوانب الأدب العربي القديم، ولكنه لا يجزم بأنه نجا من حبائل تلك النظريات غير المنظورة2.
وفي حديثه عن "الأدب العربي القديم ونقده" يبدي ملاحظتين: أولاهما: إن الأدب يسبق معايير النقد، وثانيتهما: لا يصح مسلك النقاد العرب في هذه الأيام، أو مسلك كثير منهم على وجه التحديد، في تطبيق معايير النقد الغربي ومصطلحاته على الأدب العربي، لا سيما القديم منه3.
ومما يأخذه عليهم أن يسلكوا الشعر الجاهلي عامة في باب الشعر الغنائي، وأنهم بعد ذلك يحاولون أن يتحرورا فيه عمَّا يمكن أن يكون شبيهًا بالشعر الملحمي أو الشعر القصصي، وقد فاتهم أن الشعر الجاهلي نمط مستقبل من الفن يختلف عن آداب الأمم الأخرى، وأنه ابن تلك الصحراء4.
1 مواقف في الأدب والنقد 65.
2 مواقف في الأدب والنقد 7.
3 نفسه 25.
4 نفسه 26.
أما جهد النقاد القدامى فيرى أنهم عجزوا وقصرت بهم خطاهم عن الحكم الصائب والتقويم السليم، وذلك لأنهم اعتمدوا على قيم فنية ومعايير أدبية انحدرت إليهم من أمم أجنبية1.
وإذا كان لا بُدَّ من اصطناع مصطلحات حديثة، فإنه يجب مراعاة أمرين2: أولهما: الحذر في الاصطناع مدركين حدودها وما تنتهي إليه، وما تثيره من دلالات ومفهومات.
ثانيهما: الاصطناع مع الاقتصاد والحذر لما له من صفة العمومية التي تشترك فيها آداب بني الإنسان في مختلف العصور.
أما الوحدة في القصيدة3: فهو يراها شبيهة بعلاقة الإنسان الفرد بسائر قبيلته، له شخصيته واستقلاله، ولكن وحدة أخرى أقوى من ذلك تشده إلى قبيلته وتجعل منه جزءًا لا ينفصل عن كيانها ووجودها.
ولقد عبّر المذهب البدوي عن نفسه في القصيدة وما تتألف منه من صور ووقائع تنتظمها وحدة قائمة على ترابط تلك الصور بعضها ببعض.
وفي معرض دراسته لقصة الثور الوحشي وتفسير وجودها في القصيدة الجاهلية ينعي على مؤرخي الأدب الجاهلي معالجتهم الوصفية للشعر الجاهلي "أسلوبه، صوره، فنونه، موضوعاته
…
إلخ"4.
وهو يؤكد أن أقدم المحفوظ من الشعر الجاهلي يتسم بتنويع في التعبير اللغوي، وهذا يفترض وجود مذهب للشعر له قواعده وتقاليده، وأن هذا المذهب تكون نتيجة تطور أدبي خلال قرون طويلة سابقة5، وهذا يعني تراكمات من الحضارة والمعتقدات ضاع الكثير منها.
ومن هذا المنطلق حاول إعادة النظر في ذلك الشعر علّه يجد فيه أصداء
1 نفسه 31.
2 نفسه 39.
3 نفسه 58-61.
4 موقف في الأدب والنقد 65.
5 نفسه 65 وما بعدها.
لأشياء قديمة قِدَم تاريخ الأمة العربية، بل قِدَم أصلها الأول الذي نشأت منه.
وكانت محاولته بتفسير مظهر من مظاهر القصيدة الجاهلية مما يتّصل بثور الوحش، وهو يأخذ نماذج من دالية النابغة:
كأن رحلي وقد زال النهار بنا
…
يوم الجليل على مستأنس وحد
وقافية زهير:
كأن كوري وانساعي وميثرتي
…
كسوتهن مشبًا ناشطًا لهقا
ولامية لبيد:
كأخنس ناشط جادت عليه
…
ببرقة واحف إحدى الليالي
ويعالج قصة ثور الوحش بالعودة إلى الوراء قرونًا طويلة، ليصل إلى شوطئ دجلة والفرات حيث السومريون وملحمة جلجامش، ويطوف في الفنيقيين والعبرانيين وغيرهم، ليجد من آلهة كلٍّ شيئًا مشتركًا عندهم جميعًا، ويخلص إلى أن أقوام الهلال الخصيب قد عبده الإله - الثور، إله العاصفة.
ويخلص إلى أن هذه الصور، صور ثور الوحش، إنما هي تطور لترانيم أو ملاحم أو تفوهات دينية قديمة تتصل بقدسية الثور وما كان يرمز إليه من الخصب والمطر والاتحاد به بالصيد، ولكنها لم تعد تحمل مغزى دينيًّا، بل انتهت إلى الشعراء الجاهليين تقاليد أدبية، وإن لم تخل من إشارات قدسية1. وتتكشف القصيدة الجاهلية في قصة الثور عن أبعاد جديدة تتصل بقصة الإنسان الخالدة في دورة الحياة والموت واختلاف الفصول وقدسية الحيوان2.
1 نفسه 107.
2 نفسه 112.