المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المنهج النفسي: ينظر المشتغلون بالتحليل النفسي إليه بوصفه علمًا بالإنسان بما - الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا

[عفيف عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌جهود القدماء:

- ‌المستشرقون والشعر الجاهلي

- ‌دراسات باللغة الإنجليزية:

- ‌الشعر الجاهلي في دراسات العرب المحدثين

- ‌مدخل

- ‌جهود الجامعات:

- ‌الدواوين الشعرية:

- ‌الدراسات الأدبية "الكتب

- ‌أولا: في تاريخ الأدب

- ‌ثانيًا: دراسة الشعراء

- ‌ثالثًا: مجتمعات جاهلية

- ‌رابعًا: فنون شعرية

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة

- ‌سادسًا: لغة الشعر الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة مجموعة شعرية أو ما يشبهها

- ‌ثامنًا: شعر القبائل أو ما يشبهها

- ‌تاسعًا: الطبيعة والحيوان

- ‌عاشرًا: مناهج دراسة الشعر الجاهلي ونقده

- ‌حادي عشر: النثر الجاهلي

- ‌ثاني عشر: موضوعات أخرى

- ‌الدراسات والبحوث "الدوريات

- ‌مدخل

- ‌أولًا: تاريخ الجاهلية

- ‌ثانيًا: تاريخ الأدب

- ‌ثالثًا: فكر الجاهلية ومعتقداتها

- ‌رابعًا: دراسة شعراء

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة فنية

- ‌سادسًا: مناهج دراسة الأدب الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة نصوص

- ‌ثامنًا: أغراض الشعر

- ‌تاسعًا: اللغة واللهجات

- ‌عاشرًا: النثر الجاهلي

- ‌حادي عشر: موضوعات أخرى

- ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

- ‌الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة

- ‌مدخل

- ‌المنهج الأسطوري:

- ‌المنهج البنيوي:

- ‌المنهج الاجتماعي:

- ‌المنهج النفسي:

- ‌المنهج التكاملي:

- ‌دراسات أخرى:

- ‌النصوص الجاهلية التي درست

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌المنهج النفسي: ينظر المشتغلون بالتحليل النفسي إليه بوصفه علمًا بالإنسان بما

‌المنهج النفسي:

ينظر المشتغلون بالتحليل النفسي إليه بوصفه علمًا بالإنسان بما هو كذلك، أي: بوصفه علمصا يستمد أصوله من دراسة الإنسان في أخص أحواله، وفي مقدمة هذه الأحوال المرض، حيث تدفع الإنسان معاناته وآلامه إلى البوح بما يضمر، فإذا بالحقيقة تتكشّف شيئًا فشيئًا، وإذا بالظاهر السافر يكشف عن باطن خفي، وإذا بالساذج البسيط يفتق عن عمق أكثر اكتنازًا وتعقيدًا، وإذا وراء "الشعور" المعلن "اللاشعور" المضمر، وإذا بمظاهر الإعلان والتعبير عن هذا الشعور تنطوي على إعلان آخر، وعلى تعبير مغير، بل مناقض عن لا شعور، وإذا بالشعور الظاهر نفسه لا يعدو أن يكون إنكارًا لهذا اللاشعور ونفيًا1.

والتحليل النفسي هو العلم الذي استطاع أن يكشف عن الوجه الآخر الخفي للإنسان في وحدته الجدلية بهذا الوجه الظاهر، ولم يكشف التحليل النفسي عن مضمون هذا الوجه ومحتوى هذا الباطن الخفي، بل كشف كذلك عن شكل هذا الوجه أو اللغة التي يعلن بها الوجه عن نفسه من خلف أقنعة الإنكار والنفي والتزييف، فهو قد كشف لنا عن لغة "اللاشعور"، وقد أقام فرويد في كتابه "تفسير الأحلام" الدليل على أن "الحلم لغة الحالم".

وإذا كان أرسطو قد عرف الإنسان بلغته بما هو عارف، فإن فرويد قد عرف الإنسان بلغته بما هو راغب، أي: إن كشف فرويد كشف لغوي بمعنى ما، وهو كشف لنحو هذه اللغة وبلاغتها ومفرداتها. ولغة الرغبة هذه هي لغة اللاشعور، لغة العمليات الأولية، حيث الرموز والعمليات الدفاعية، وحيث التعبير أكثر ما يكون

1 فرج أحمد فرج، التحليل النفسي للأدب، فصول مجلد 1، عدد2 "1981"، ص26.

ص: 263

إمعانًا في العيانية وفي بعده عن التجريد. إنها لغة مصورة بدائية في مقابل لغة الشعور والوعي والمنطق والمعرفة والواقع في ارتقاء تجريدها ومنطقها1.

وسرعان ما تعددت الصورة التي استمدت أصولها الأولى من الإنسان مريضًا لتشمل وجود الإنسان كله مريضًا وسويًّا، طفلًا وراشدًا، يقظًا وحالمًا. وهكذا تطور التحليل النفسي من نظرية وطريقة حرفية في علاج نوع محدد من المرض النفسي، وهو العصاب، وإلى نظرية عامة في أحوال النفس وخفاياها، وفي طبيعة الوجود الإنساني بأسره، وأيضًا إلى منهج وحرفيات وأدواتٍ يستخدمها المتخصصون في اختراق جدار الغموض المحيط بهذه النفس وقراءتها لغة وأسلوبًا في التعبير.

ويرى أحد الباحثين، وهو فرج أحمد فرج2، أن الإبداع الفني ينطوي على شكل من أشكال الحماية من المرض النفسي، أنه البديل له. وقديمًا فطن أرسطو إلى الوظيفة "التطهيرية" للإبداع الفني، فعندما نبدع عملًا فنيًّا أو نشارك في مشاهدته والانفعال به، فإننا بذلك نتيح الفرصة لانطلاق ما هو حبيس معتقل في داخلنا من مشاعر خوف أو كره أو ندم أو عدوان.

فالعمل الفني "تواصل وإعادة ارتباط بالعالم وبالآخرين"، وهو ضرب من ضروب "العلاقة بالموضوع"، وهو يندرج ضمن "إعادة بناء العالم" التي نجدها دائمًا في حالات المرض العقلي المستفحل عندما يشرع المريض في جمع شتاته، ويجاهد في مغالبة مرضه، والخروج من وحدته المطبقة. وبالرغم مما ينطوي عليه هذا البناء من الهم والزيف، وإن هذا الخلق لواقع بديل مجافٍ تمامًا للواقع الفعلي، فإنها تكشف في النهاية عن بداية السعي إلى العودة إلى الواقع عن طريق واقع بديل، لكن ذلك يكون الخطوة الأولى نحو الواقع الفعلي.

فالحلم إذن، والفن من حيث هو شكل راق ومعقول من الحلم، هما ضربان من ضروب التواصل مع الواقع، والإعداد لمواجهته، ولعل من أخطر كشوف التحليل النفسي تلك الدراسات الحديثة التي كشفت عن "صلة الإبداع فنيًّا كان أو علميًّا بالقدرة على مواجهة مشاعر الاكتئاب"، فالعمل الإبداعي في أعمق مستوياته

1 نفسه 27.

2 فرج أحمد فرج: التحليل النفسي للأدب. فصول مجلد1، عدد2 "1981"، ص35.

ص: 264

يستهدف قهر الاكتئاب، ودفع شبح الموت بالعمل الإبداعي، علمًا وفنًّا، يبقى بعد رحيل صاحبه حاملًا للأجيال المتعاقبة اسمه1.

ويرى إيليا حاوي2 أن النقد يسير سيرًا عكسيًّا مناقضًا، حيث يتحرَّى عن الكينونة، ويعبِّر في مراحل التكوين، ويستقطب طبائع الأسلوب الخفية التي تؤثر في التجربة، وفي تجسيدها يفسر الظواهر الصامتة بأبعادها النفسية والوجودية، فتتبدَّى له التجربة الفنية وكأنها أداة كلية تتعرض للكون والطبيعة والإنسان عبر فلذاتها المجزوءة، كما يرى أن الطبيعة المبدعة هي التي تتفتق عبرها رموز الكون والنفس، وهي التي تكتنز في رحمها وأحشائها الحقائق الكبرى.

والنقد الصحيح -كما يراه حاوي3- للأثر الأدبي يشتمل على كثير من التعقيد، ويستحيل في أحيان كثيرة إذا لم يكن لدى النقاد قدرة على الولوج إلى الأصقاع النفسية والفنية التي خلص إليها الشاعر في كده للتعبير عن المشاعر المظلمة التي تدلهمّ في أعماق وجدانه. وقد أجمع النقاد المعاصرون على أن الشعر ليس تعبيرًا عن الحقيقة الذهنية، بل هو ذلك السراب النفسي الذي يوهم بها، والذي لا يبرح يغرر بالإنسان ويسوقه إلى تنازع البقاء والتوغل في عبث الفكر والوجود.

والشعر، من وجهة نظره غالبًا هو تعبير عن الذات المظلمة في الشاعر، تلك الذات التي تختلج في وجدانه، وراء ما يعيه ويفهمه، وما يتداول به من شعور ظاهر4.

فالنقد، كما يراه5، ليس تقريرًا، وإنما هو تحليل لما يقع في "لا وعي" الشاعرن، فالنقد الصائب هو محاولة لمعانقة التجربة الشعرية في ضمير صاحبها، والحلول فيها واكتشاف أبعادها.

وفي محاول تطبيق منهجه هذا على الأدب العربي، كان له كتَّابه ذو الأجزاء.

1 فرج أحمد فرج: فصول مجلد1، عدد2 "1981"، ص35.

2 إيليا حاوي: في النقد والأدب5.

3 نفسه 13.

4 نفسه 15.

5 نفسه 25.

ص: 265

الخمسة1، كان نصيب العصر الجاهلي منها الجزء الأول، وقد بدأ ذلك الجزء بمقدمات جمالية عامة تناول فيها: وظيفة الانفعال الفني، وتمثَّلت هذه الوظيفة في: الخلق والإبداع، وبعث العالم المادي والحلول فيه، وتحرير الشاعر من الحتمية الخارجية، وإحداث ائتلاف واختلاف في حدود النفس، وتوليد الغلو وتحقيق المثال، والغلو الانفعالي، والغلو الافتعالي، والانتخاب من الواقع، والنفاذ إلى الجوهر من المظهر، والانفعال مبدع للجمال.

وتناول كذلك بواعث التجربة الشعرية: البواعث النفسية العامة، والسيرة وتأثيرها في بعث التجربة الشعرية، والطبع والأخلاق، وترابط السيرة، والطبع وتفاعلها، وتأثير البيئة في بعث التجربة الشعرية، وتأثير البواعث الاجتماعية.

وتناول كذلك الموضوع والثقافة وقيمتها في الأدب، والأبعاد الفنية للتجربة الشعرية، ووسائل التعبير في التجربة الشعرية، والصعوبة الداخلية ووظيفة الخيال، والعقل وحدوده في التجربة الشعرية، والعوامل المؤثرة في الأسلوب الفني2، وهو في كل ما عرض يعرضه في سياق النصوص الشعرية والشواهد لما يذهب إليه، وشواهده من الشعر العربي عبر عصوره المختلفة.

ويمكننا التعر إلى أهمِّ آرائه في دراسة النص وتحليله ببيان أهم مرتكزاته النظرية وهي:

1-

لئن كانت التجربة تصدر غالبًا عن باعث ذاتي، فإن وراء ذلك الباعث جذورًا خفية ترتبط بموقف الإنسان من الوجود ومن المعاني التي أنيطت بمظاهره، وتقررت فيها، دون أن تهدئ من روعه، وتوفي به إلى يقين نهائي يركن إليه، وذلك وليد ردة النفس على العقل، وسخطها على حدوده، ومنطقه القاصر الذي يغرر به الوضوح، وثورتها على حتمية العالم الخارجي وأقداره ونواميسه ولغزه الثابت الرتيب3.

2-

إن التجربة الشعرية العميقة تصدر عن ذلك التوحيد الحي الذاهل بين ما تعانيه النفس في الداخل وما تبصره في الخارج، إنه نوع من فيض النفس على الوجود

1 صدر عن دار الكتاب اللبناني، بيروت ط1: 1962، وما نتعامل معها الطبعة الرابعة 1979.

2 استغرقت هذه المقدمات الجمالية 155 صفحة من الجزء الأول.

3 إيليا حاوي: في النقد والأدب 1/ 29.

ص: 266

وإخضاع له لقدر الحياة والموت والبعث، وذلك الشعور الحاد بمصير الزوال والعبث1.

3-

إن الفن هو وليد توق الإنسان الحرية، وشعوره بها شعورًا عميقًا، يفك عقال نفسه، فينبري للأشياء يهدمهما ويبنيها من جديد2.

وهذه قضية تحتاج إلى وقفة طويلة لمناقشتها، ولسنا هنا قادرين على الإطالة، ولكننا نرى أن هذه التهمة ألصقت بالشعر الجاهلي، واتهمت الشاعر الجاهلي بالمادية والحسية المفرطة، ويكفي أن نذكر بعض الحقائق لندحض هذه التهمة:

أ- لم يحدد لنا هذا الباحث أو غيره ممن اتهموا الشاعر الجاهلي بالتقصير ما الذي قصدوه بالحسية والواقعية، أَلَا نجد في شعرنا الحديث، بالرغم من كل روافده الثقافية والفكرية، هذه الحسية والواقعية؟

ب- ماذا نقول في هذا السيل من الدراسات التي تذهب جميعها إلى الرمز الواضح في الشعر الجاهلي بخاصة والقديم بعامة؟

ج- وهذه المقابلة التي عدت قصورًا، أليست أداة من أدوات الشاعر في كل عصر من العصور، ألا نستطيع أن نذهب إلى أنَّ هذه المقابلة لم تكن لمجرَّد تقريب الأشياء والصور إلى السامع فحسب، بمقدار ما كانت العلاقة فكرية بين الصورتين، والأمثلة من الشعر الجاهلي وافرة، وبخاصة في المشهد الطللي وما تضمنه من شرائح صغيرة، وكذلك في مشاهد الموت.

وأخيرًا فإن هذه الصورة التي ظنَّها الباحث حسية كما ظنها غيره، هي في الحقيقية رموز تعكس هموم الشاعر الجاهلي وهموم مجتمعه، وتصديه لمشكلات كانت تؤرقهم؛ كمشكلة المصير والصراع الحضاري والإحساس بالعدمية، تلك المشكلات التي لا تستطع معتقداته أن تحلها وتهدئ من روعه.

4-

لقد قصر الشاعر العربي، غالبًا، عن إدراك حقيقة الشعر من هذا القبيل، فلبث يجول في حدود المادة أو حدود المعني منصرفًا إلى الغلو البصري القائم على الجزئية والحسية والواقعية التي يسبغها ويقرها المنطق: فالشعر العربي كان يتجه

1 إيليا حاوي 32.

2 نفسه 35.

ص: 267

إلى المقابلة، يدني الأشياء ويقربها، بينما ينصرف الشعر الحقيقي إلى ما تستنبطنه وترمز إليه1.

وهذه قضية تحتاج إلى وقفة لمناقشتها.

ويحدد الباحث مفهوم الثقافة عنده، فهي القاعدة الخلقية والفكرية والمعرفية والعلمية التي يرتكز عليها سلوك الفرد الاجتماعي، ومن ذلك الكتابة التي عرفها الناس وشاعت في زمانهم القديم. وكان الشاعر معجبًا بقدرة الإنسان على ابتداعها؛ لأنه استعادها مرارًا وهو يصور معالم الأطلال، ومن ذلك أيضًا استعادته أخبار السلف وبخاصة بعض جوانب القصص الذي كان يشكّل في خيالهم قضية من قضاياهم المصيرية؛ كقصة أحمر ثمود أو عاد، ومن ذلك أيضًا الزراعة والصناعة والألعاب؛ مثل: صورة لعب الأطفال بالخذروف، ومقلاء الوليد الذي شبّه به صلابة عيره. ومن معارفهم التطيب بالعقاقير والأعشاب، ومن عاداتهم الدية وتقاسم الماء عندما يقل بحصاة تسمى حصاة القسم، وقرى الضيف وضرب الأيسار، وتسنيح الطيور، وإيقاد النار للكرم أو للحرب، ورفع اللواء في المعارك. ومن الطقوس الدينية زيارتهم للأماكن المقدسة وحلاقة رءوسهم عندها، وتقديم الضحايا والقرابين لمعبوديهم فيها. ومن مجالات التعامل بينهم التداين الذي كان يشكل عندهم قاعدة السلوك.

ويخلص الباحث إلى أن الصور الثقافية في شعر زهير أعطت، على قلتها، فكرة وافية عن البنية الداخلية التي كانت تؤلف القاعدة لكل سلوك فردي واجتماعي في عصره.

5-

قد ينتقل الشاعر ذاته تحت وطأة الانفعال، من يقين نفسي إلى يقين آخر ينقضه ويخالفه، متحولًا من الظلمة إلى النور، ومن أعماق اليأس إلى ذروة الأمل، ومن الاستخذاء والذل إلى الزهو والاعتداد، ذلك أن الشعر هو تعبير عن اللحظة النفسية المبرمة التي تشتد؛ بحيث تخضع قوى النفس جميعًا لمنطقها1.

6-

الشعر العربي هو شعر الغلو، يسرف فيه الشاعر ويبدع له الأساليب الداخلية

1 إيليا حاوي: في النقد الأدبي 37.

2 حاوي: في الأدب والنقد 1/ 39.

ص: 268

والخارجية، حتى يدرك به في أحيان كثيرة الأسطورة والمتسحيل1.

7-

الفن انتخاب قبل كل شيء، فهو ينظر إلى الواقع وينفعل به، ويصهره صهرًا، ثم يؤديه تأدية جديدة تبقي على كثير من الملامح في الواقع القديم، بعد أن تصقلها وتجلوها وتحررها من الهنات التي تشوه حقيقتها2.

8-

الجمال الفني هو تلك الحالة الشبيهة باللحظة الصوفية التي تنفذ بها النفس إلى غيبها وغيب الحياة والعالم، فتكشف للإنسان ما لا يقوى على اكتشافه بنفسه، وما لا يستطيع أن يدركه ويحل فيه بيقينه الخاص، وذلك أن الانفعال النفسي عندما يتعمّق ويقوى يغدو قادرًا على تخطي الحدود المرسومة لفهم الأشياء، فيلتقطها في تخوم الحلم والرؤيا في حالة وجودها الروحي الأول، قبل أن تأخذ أشكال الواقع بحدوده ومراسيمه، وتذعن لمنطقه، وتتشوه بأعراضه وجزئياته3.

9-

لكي ينفذ الناقد إلى البواعث الحقيقية للتجربة الشعرية لا بُدَّ له، بالإضافة إلى إلمامه بخبايا النفس البشرية، من معرفة التيارات المهمة التي تنازعت نفسية الشاعر من خلال سيرته4، وهذا يعني أن الارتياد النفسي للقصيدة مرتبط أشد الارتباط بالسيرة، شريطة أن تقتصر منها على التيارات الجوهرية البعيدة الغور، التي أثرت في بعث التنازع والتعقد والالتباس في نفسه.

10-

إن معرفة أخلاق الشاعر وطبعه تسهم إسهامًا كبيرًا في كشف حقيقة العوامل التي تتدافع وتتوالد وراء ما يسفر وينجلي من معانٍ واضحة في القصيدة، فالطبع هو الذي يؤدي إلى تنازع الشاعر مع المؤثرات الخارجية5.

11-

إن السيرة تمثل الحتمية الخارجية، والنفسية أو الطبيع يمثل الحتمية الداخلية، ومن تفاعلهما تتولد التجارب القلقة التي هي مادة الشعر الأولي، وهذا النزاع بين حتمية النفس وحتمية الحياة والقدر والمصير يفجر ينابيع النفس عند معظم الشعراء6.

1 حاوي: في الأدب والنقد41.

2 نفسه 44.

3 نفسه 45.

4 نفسه 52.

5 نفسه 55.

6 نفسه 62.

ص: 269

12-

ليس في الشعر الجاهلي إلّا نبذ قليلة من القصائد التي تعالج المشكلة الاجتماعية العامة، وتعكس الهموم التي يعانيها الفرد من جرّاء اتصاله بالآخرين وقيامهم إلى جنبهم1.

13-

وفي معرض حديثه عن "الموضوع والثقافة وقيمتهما في الأدب"2 يقرر جملة من الملاحظات حول الشعر الجاهلي، وهي في مجملها تحتاج إلى وقفة طويلة ومناقشة، فالباحثون اختلفوا في تفسيرها وتعليلها، ومنها قوله:"لئن كان ثمة عقدة من البواعث وراء تلك الظاهرة -ويعني بها عدم النفاد إلى الأباد الروحية والوجودية- فإن أهمها ضعف ثقافة الجاهلي، لأن البدائي يعجز عن الارتقاء إلى الكليات من ضمن الانفعال الآني العارض، لذلك ظل الطلل طلل حجارة ونؤي وأثافي، ولم يقدر الجاهلي أن يفطن إلى أن ظاهرة الطلل ليست سوى رمس، وأن آثاره ليست سوى أشلاء الحياة وهيكلها المندثر الحزين، وظل الشاعر يلتفت إليه بحسرة خارجية بدون أن يحمل فيه، فيغدو طللًا وجوديًّا نفسيًّا، بعد أن كان طللًا وصفيًّا ماديًّا".

"وهو كذلك إذا أعجب بجمال المرأة وتعقد بحبها، فأخذ يجيل في الطبيعة مجسدًا انفعالاته في حدود المشاهد البصرية المتشابهة".

14-

إن الأسلوب الفني يتأثر، غالبًا، بالنفسية الجماعية المسيطرة على روح العصر الذي يعايشونه، لهذا غلبت النزعة الوصفية المادية على معظم الشعراء الجاهليين، وذلك لأن النفسية البدائية هي نفسية مادية تدرك معاني الأشياء في إطارها الحسي أو في أشكالها الظاهرة، وهو يعجز عن التجريد الذي يتداول المعاني في الذهن، ويعجز أيضًا عن الرؤيا التي تصهر العالم المادي وتذيبه وتوحّد بينه وبين العالم الداخلي، لذلك قلَّمَا نشهد في شعرهم خيالًا خلَّاقًا، يبصر فيما وراء الأشياء، وإنما هناك خيال حسي حسير، يعيد الأشياء إلى ذاتها في حدود الأشكال والألوان والمظاهر3.

وهذه قضية خطيرة تحتاج إلى وقفة للمناقشة.

1 حاوي: في الأدب والنقد 96.

2 نفسه 1/ 101 وما بعدها.

3 نفسه 147.

ص: 270

ويتصل هذا الاتهام بما سبق، ذلك أن الشعر الجاهلي ألصقت بها ظلمًا تهمة الوضعية المادية، مدعين بأن النفسية البدائية هي نفسية مادية تدرك معاني الأشياء في إطارها الحسي أو في أشكالها الظاهرة، وقد قام هذا إلى القول بأن شعرهم خلا من الخيال الخلاق الذي يبصر فيما وراء الأشياء، وهو خيال حسي حسير يعيد الأشياء إلى ذاتها في حدود الأشكال والألوان والمظاهر.

وفي ظني أن هذا الاتهام ينطلق من مفهوم البدائية وتطبيقه على المجتمع الجاهلي، وحقيقة الأمر أن هذا المجتمع لم يكن بدائيًّا كما توهم الباحثون الغربيون حين سحبوه على القبائل البدائية، بل كان مجتمعًا له قيمه ومعتقداته، وكان يختزن في رحمه طاقات هائلة كامنة استغلها الإسلام، فانطلق العرب يفتحون مشارق الأرض ومغاربها، فكيف يفعل البدائيون هذا كله خلال فترة وجيزة؟ بل كيف يؤمنون بهذا الدين وينتجون حضارة عظمى خلال قرنين من الزمان؟.

أما الخيال الخلاق فلم تتفق المذاهب النقدية المعاصرة على مفهوم واحد وتعريف واحد للخيال، ولا الخيال الخلاق.

ولذلك لا نستطيع أن نسبغ الحسية على الخيال عند الشاعر الجاهلي ونجعلها سُبَّة في جبين الشاعر، بل نقول: إنها كانت أحيانًا، ولكنها لم تكن عامة.

ويتناول إيليا حاوي في القسم الثاني من كتابه "في الأدب والنقد الجزء الأول" قصائد جاهلية يتناولها بالتحليل والنقد، وهذه النصوص هي:

لامرئ القيس: الأطلال والأحبة2 "29 بيتًا من المعلقة"، وصف الليل2 "أربعة أبيات من المعقلة".

لعنترة: الفخر والحماسة3 "31 بيتًا من معلقة" تبدأ بالبيت:

إن تغدفي دوني القناع فإنني

طب يأخذ الفارس المستلئم

لعمرو بن كلثوم: الفخر الملحمي4 "معلقته كاملة".

1 حاوي: في الأدب والنقد، 1/ 155-182.

2 نفسه 263-269.

3 نفسه 183-203.

4 نفسه 271-292.

ص: 271

للنابغة: البائية في مدح عمرو بن الحارث الغساني1، المعلقة "نموذج من اعتذاريات النابغة"2.

للأعشى: قصيدة خمرية مطلعها3:

وشمول تحسب العين إذا

صفقت وردتها نور الذبح

للمهلهل: رثائية مطلعها4:

اهاج قذاء عيني الأذكار

هدوءًا فالدموع لها انهمار

للشنفري: لامية العرب5.

للمتلمس: هجاء عمرو بن هند6:

ألك السرير وبارق

ومبايض لك والخورنق؟

لعمرو بن معد يكرب: في سبيل لميس7:

ليس الجمال بمئرز

فاعلم وإن رديت بردا

للحارث بين حلزة: شكوري8:

من حاكم بيني وبين الدهر مال عليّ عمدًا

لزهير بن أبي سلمى: الحكمة والخواطر9 "من المعلقة 22بيتًا":

سئمت تكاليف الحياة ومن يعش

ثمانين حولًا لا أبا لك يسأم

لطرفة بن العبد: آراء في الحياة والموت10 "48 بيتًا من المعلقة" تبدأ بالبيت:

ولست بحلال التلاع مخافة

ولكن متى يسترفد القوم أرفد

1 حاوي: في الأدب والنقد 293-313.

2 نفسه 315-333.

3 نفسه 335-344.

4 نفسه 345-353.

5 نفسه 355-391.

6 نفسه 393-404.

7 نفسه 405-410.

8 نفسه 411-415.

9 نفسه 204-229.

10 نفسه 230-261.

ص: 272

للبيد بن ربيعة: وصف الأتان والبقرة والوحشيتين1، من المعلقة بدءًا من البيت:

وأحب المجامل بالجزيل وصرمه

باقٍ إذا ظلعت وزاغ قوامها

"32 بيتات"؟

في رثاء أربد2 مطلعها:

بلينا وما تلبى النجوم الطوالع

وتبقى الجبال بعدنا والمصانع

لدريد بن الصمة: رثائية لأخيه عبد الله3:

أمرتهم أمري بمنقطع اللوى

فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد

لعلقمة الفحل: قصيدة مطلعها4:

هل تلحقني بأولى القوم إذا شحطوا

جلذية كأتان الضحل علكوم

وقد حاول الباحث تطبيق منهجه الذي حدده في القسم الأول من كتابه، ولكنه مال إلى الإيجاز في النماذج الأخيرة، واكتفى بذكر ملاحظات عامة على النصوص المحللة.

أما الدكتور محمد النويهي فله دراسة قيمة تقع مجلدين هي "الشعر الجاهلي: منهج في دراسته وتقويمه"5، وقد قرر منذ البداية أهمية العصر الجاهلي، وأن "دراسة صحيحة للشعر العربي في كل عصر من عصوره يجب أن تبنى على علم دقيق وثيق بطبيعة الشعر العربي في مرحلته الأولى مرحلة العصر الجاهلي"6، كما قرر أن "خير ما كتب عن الشعر الجاهلي وأحفله بالكشف القيم هو ما كتبه الدكتور طه حسين في حديث الأربعاء"7، ويرى أننا في أشد الحاجة إلى أن "نعيد تقدير الشعر الجاهلي وننظر فيه نظرة فاحصة متأنية تزيد طبيعته الفنية استكشافًا، ونستغل المقدَّرات العلمية والفنية التي لم تكن متاحة للرعيل الأول من نقادنا المحدثين8.

1 حاوي: في الأدب النقد 417-420.

2 نفسه 430-433.

3 نفسه 435-441.

4 نفسه 443-452.

5 صدر عن الدار القومية بمصر د. ت.

6 الشعر الجاهلي10.

7 نفسه 11.

8 نفسه 12.

ص: 273

ومما يضاعف من حرصه إحساسه بخطر مخيف محدق بالشعر الجاهلي، وهذا الخطر يتمثّل في خشيته من أن يأتي زمن لا يفهم هذا الشعر وتنقطع الصلة به، وهذا ما دفعه إلى تأليف كتابه، ومما يضاعف من ذلك قصور نقدنا القديم، هكذا نقع بين قطبين: قصور نقدنا القديم، وبناء نقدنا الحديث على أسس من دراسة الآداب الغربية، وانعكاس ذلك على من درسوا أدبنا القديم1.

أما سبب تقصير البلاغيين والنقاد ووقوعهم في الأخطاء لأنهم لم يفهموا ما الأدب، ما كنهه؟ ما دوافعه؟ ما منشأه من النفس الإنسانية؟ ما وظيفته؟ ماذا يحاول؟ لِمَ تحتاج إليه الإنسانية؟ لماذا يهتم الأدباء بإنتاج، بل يساقون إليه سوقًا لا يستطيعون له دفعًا، ويكلفهم الكثير من الجهد ويفرض عليهم الكثير من التضحيات؟ كيف نتلقى إنتاجهم؟ وماذا يجب علينا أن نحاول التقاطه منه؟ وما طبيعة التجربة الفنية؟ وما علاقتها بالتجربة الواقعة؟ فيم تزيد عليها؟ وفيم تتفق التجربتان وفيم تتخلفان2؟.

تلك هي الأسئلة التي يوجهها الباحث، ويحاول أن يجيب عليها في دراسته هذه، وفي الوقت نفسه يحذر من تطبيق مقاييس النقد الغربي، ويطلب منَّا ألا نندفع إلى إقحامها على أدبنا العربي، لأنها مهما اتفقت مع أدبنا العربي في أصولها الإنسانية إلّا أنها تختلف عنها في أمور جذرية، وتطبيقها المتعسف على أدبنا ينتج عنه ضرركبير3. ولكن دراسة الآداب الأجنبية تفيدنا بتنبيهنا إلى مواطن الاختلاف بينها وبين أدبنا، فهي تزيدنا فهمًا لتراثنا الأدبي وإدراكًا صحيحًا عميقًا بطبيعته الخاصة، وإبصار واعيًا دقيقًا لوسائله التصويرية المميزة، واستجابة كاملة غنية لقيمه الجمالية المستقلة4.

وفي محاولة لتحديد منهجه يقول: "لسنا ندَّعي بهذا أننا أقبلنا على دراسته بذهن خالٍ تمام الخلو، فإننا أقبلنا على هذه الدراسة وقد اكتسبنا مما تيسر لنا من ثقافة علمية وفنية فهمًا عامًّا للفنون الأدبية التي يستخدمها الأديب لأداء مضمونه.

1 الشعر الجاهلي13.

2 نفسه 21.

3 نفسه 22-23.

4 نفسه 24.

ص: 274

لكننا لم نقبل على الشعر الجاهل بمقاييس محددة مضبوطة صارمة ننتظر تحققها فيه، ونسلتزم وفاءه بها، فنرضى عنه إن حققها، ونسخط عليه إن أخل بها"1.

أما مجاله أو المادة التي انتقاها من الشعر الجاهلي فتسع قصائد، ست من المفضليات، واثنتان من ديوان زهير، وواحدة من المعلقات العشر، إضافة إلى مقطوعات وأبيات مفردة قليلة، وهذا يعني أن الأحكام التي يصل إليها ليست قاطعة بسبب قلة النماذج إذا ما قورنت بحجم الشعر الجاهلي.

ويرى النويهي أن الشعر العربي لا يدرس بمعزل عن المعرفة التامَّة المحيطة به، سواء ما كان متعلقًا بالأديب أو ما كان متعلقًَا بالبيئة الطبيعة والاجتماعية التي تحيط بالأدب وإنتاجه، والدراسة الفنية لهذا الشعر تكون "محض تخريف وهجس إذا لم تربطه ربطًا وثيقًا بهذه الأحوال والأوضاع والعناصر والظروف"2.

ويخصص النويهي الفصل الأول لـ "عناصر الموسيقى الشعرية"3، وخلاصة ما يراه: إن الإيقاع العام للبحر يجب ألّا يغفلنا عن الاستماع الدقيق إلى الإيقاع الخاص للكلمات مضافًا إليه اختلاف النغم، وإذا بدأنا نلتفت إلى تنويع الشاعر في أبياته وشطوره لهذا الإيقاع الداخلي للكلمات، وأدركنا كيف ينسجم هذا التنويع مع تقلب فكرته وعاطفته4، ويحاول كذلك أن ينفي ما أنكره بعض النقّاد وهو ملاءمة البحور المختلفة للعواطف المختلفة، وحجتهم في ذلك ان البحر الواحد يستعمل لمختلف العواطف. ويرد عليهم بأنها تختلف في درجة العاطفة، وإن لم تختلف في نوع العواطف التي تصلح لها البحور. وبعبارة موجزة: فإنه يربط بين البحر ودرجة العاطفة5، وأما القافية فيرى أن الأمر فيه ما زال بحاجة شديدة إلى مزيد من الاستقراء6.

يتناول في الفصل الثاني "الحرف المتردد والحكاية الصوتية" على أنهما من

1 النويهي: الشعر الجاهلي 25.

2 نفسه 30.

3 نفسه 39-64.

4 نفسه 56-57.

5 نفسه 62.

6 نفسه 63.

ص: 275

"الوسائل البلاغية"1. ويرى أن القيمة الموسيقية للكلمة لا تقتصر عليها مفردة، بل تمتد إلى موضعها من الجملة الشعرية وما بين الكلمات المتعاقبة من تنسيق وتجاوب في النغم، أو تنافر مقصود فيه. وإن القدماء التفتوا إلى أنواعٍ من التجاوب؛ كالجناس والتشريع والتفويف والتسميط، ولكن هناك وسائل لم ينتبهوا إليها، ومنها ترديد الحرف الواحد في كلمتين أو كلمات متتابعة أو متقاربة2، ويرى كذلك أن البلاغيين والنقاد القدامى لم يستفيدوا مما نبه إليه علماء اللغة من ملاءمة بعض المصادر بأوزانها للمعنى المراد، مثل:"فعلان" الذي يعبِّر عن اضطراب وحركة؛ لأنهم لو التفتوا إلى ذلك لأدركوا أن الشعراء في تصويرهم معانيهم وأداء أفعالهم وحركاتهم لا يكتفون باللفظ الواحد الذي سبقت اللغة إلى وضعه، بل يوقعون وينغمون كلمات متعددة في جملٍ أو أبيات كاملةٍ ومتعاقبة، حتى تطابق بإيقاعها وتنغيمها فكرهم وانفعالهم3.

ويخصص الفصل الثالث للحديث عن "الخيال البصري"4، فيرى أن أهم الخصائص التي تميز الشعر الجاهلي أنه انطباع بصري يلعب الخيال البصري دورًا عظيم الأهمية في بنائه وتكوينه، ولكي تصل إلينا أفكار الجاهلي علينا تشغيل مخيلتنا البصرية عند قراءتنا لهذا الشعر؛ لأن الفهم العقلي "لا يكفي لتفهم ذلك الشعر والخلوص إلى دقائقه البديعة خلوصًا يحقق الاستجابة الفنية الغنية"5.

وفي الفصل الرابع يتحدّث عن "الحركة والحيوية"6، وهو يرى أن في الشعر الجاهلي حقيقة كبيرة الشأن، وهي حكايته البارعة للحركة الموصوفة، حتى لينقل الشاعر إليك هذه الحركة نقلًا حيًّا بوسيلة الشعر الصادقة، وسيلة الإيقاع والنغم7، ويمثل لذلك بأبيات من قافية زهير أولها:

كأن عيني في غزلي مقتلة

من النواضح تسقي جنة سحقا

1 النويهي 65-106.

2 نفسه 65.

3 نفسه 70.

4 نفسه 107-120.

5 نفسه 112.

6 نفسه 121-148.

7 نفسه 121.

ص: 276

وفيها يصف سانية، ويشبهها النويهي بالفيلم السينمائي المتحرك، ولكن الفرق أننا في الأبيات نجد أن أداة الشاعر الكلمات، وعلى القارئ نفسه أن يحولها إلى الصور المقصودة1.

ويعقد الفصل الخامس للحديث عن "الحب: النسيب والغزل"2 وابتداء من هذا الفصل يشرع في ربط العنان بنصٍّ شعري يجعله تطبيقًا عليه، والنص هنا "عينية الحادرة" التي مطلعها:

بكرت سمية بكرة فتمتع

وغدت غدو مفارق لم يربع

ويبدأ حديثه بمناقشة قضية قديمة هي افتتاح القصائد بالنسيب وتكرار تجربة الفراق إلى درجة تثير الملل في نفس القارئ بخاصة المحدثين، وتحملهم على التشكك في صدق الشعراء وأصالتهم. ويعرض لمختلف آراء الباحثين بدءًا من ابن قتيبة وانتهاءً بالباحثين المحدثين، أما رأيه هو فمتأرجح بين أن يكون ذلك الافتتاح أصالة أحيانًا وتقليدًا أحيانًا أخرى، ولكنه يعود ليؤكد وهو يقدم لعينية الحادرة أنه يقدم مثالًا على النسيب الافتتاحي الذي يقنعنا بصدقه التام، ويحمل إلينا حرارته عبر القرون، ولا يدع مجالًا لتشككنا في أن الشاعر يتحدث عن تجربة واقعة حدثت له3.

وحينما ينتهي من شريحة النسيب وينتقل إلى الفخر القبلي "الفصل السادس"، فإنه يطالبنا بالتركيز على الفهم التاريخي والدراسة الاجتماعية، أي: المنهج التاريخي الاجتماعي في دراسة الأدب، ذلك المنهج الذي يعطي أكبر اهتمامه إلى أنه مرآة تعكس لنا أحوال مكانه وزمانه، وسِجِلُّ حيُّ نستقرئ فيه دقائق الظروف المعايشة التي أنتج فيها، والتي خضعت لشتى عوامل البيئة المادية والثقافية4، وخلاصة رأيه: إن واقع الحال بينهم في ذلك العصر القريب من الإسلام كان نزاعًا بين تقليد جاهلي قديم يقوم على شريعة الغاب التامة القسوة والدموية، وبين حس أخلاقي جديد ظهر أولًا في عدد من أفرادهم الممتازين المفكرين، ثم بدأ يسود القبائل الكبيرة ذوات الأنساب والأحساب5.

1 النويهي 147

2 نفسه 149-296، وقد استغرقت الفصول 5،6، 7.

3 النويهي 164.

4 نفسه 210.

5 نفسه 226.

ص: 277

ومن الآراء الطريفة التي يوردها حول الكرم، من خلال دراسته لهذه الشريحة من القصيدة، إن الشعر الجاهلي لا يرسم للعرب الجاهليين صورة الكرم التامّ إلّا إذا أخطأنا الاستنباط، وغفلنا عن دلالة الكلام. وإلّا إذا كانت معرفتنا بالشعر الجاهلي معرفة محدودة، وهذا الخطأ لا يقوم حجة على الشعر الجاهلي نفسه، وإن كل افتخار بالكرم يثبت البخل في آخرين1، ويستنبط حقيقة أخرى من الشعر أن الكرم كواجب مفروض كان يلزم أشرافهم وحدهم، أما للآخرين فهو مثل عالٍ يجلونه ويسعون جهدهم إليه، لكنهم لا يلامون إذا قصروا في بلوغه. ويرى أن السبب الأساسي في إيجاد ذلك الكرم الجاهلي وإحلاله منزلة عالية في قائمة فضائلهم الاجتماعية كان سببًا اقتصاديًّا2، وله رأي طريف في الأخبار والأشعار المنسوبة إلى حاتم خلاصته أنها، في معظمها مصنوعة، لتدعيم الأسطورة3.

ويطالب النويهي4 بأن علينا إعادة النظر في جميع الأحكام الرائجة في تاريخنا الأدبي، وأن نخضعها لمنهج في البحث أكبر دقة، وبذلك نحقق هدفين:

أولهما: التحقيق الموضوعي النزيه المجرد من الهوى والتعصب والحلم الرومانسي بالماضي.

وثانيهما: إنصاف الجاهليين في حدودهم الزمانية والمكانية التي حددت أوضاعهم المعايشة فحددت إمكاناتهم الفكرية والأخلاقية.

وفي الفصل السابع5 يتحدث النويهي عن الشريحة الثالثة في عينية الحادرة "نشوة الحياة: اللذة العنيفة والألم العنيف"، ويرى الباحث أن في الأبيات هذه "تشخيصًا" حقيقيًّا كالذي نراه في الشعر الغربي "محمرة عقب الصبوح عيونهم: بمرأى هناك من الحياة ومسمع"، فالحياة هنا مشخَّصة، كما يلفت نظرنا إلى التضاد في الأبيات، وإن ما ذكره الشاعر من إقباله على ملذات الحياة نعمها لا يعني أنه فاقد المرحمة ميت الضمير لا يهمه سوى متعته الخاصة، بل إنه ليدرك مبلغ شقاء الآخر من ذلك المجتمع، ويفعل ما في وسعه لتخفيف كربه ومداواة جراحه، وهو

1 النويهي 233.

2 نفسه 234-235.

3 نفسه 239.

4 النويهي253-254.

5 نفسه 255-296.

ص: 278

بهذا يمهد الرد على أستاذه طه حسين الذي ادعى أن الشعر الجاهلي لا يصور إلّا حياة الأغنياء، ونسي وأغفل شعر الصعاليك، وكذلك لبيد وطرفة وغيرهم. ويتساءل على من يتكرّم أولئك الأغنياء إن لم يوجد فقراء يحتاجون إلى ذلك السخاء الذي يفخر بها أغنياء الشعراء؟

وعندما يعد للحديث عن إحساس الحادرة بجوع الجائعين، يرى أنه قد بدأ يتحرك فيه الضمير الشخصي المستقل عن كيانه الجماعي كعضو في قبيلة.

أما ميمية علقمة التي مطلعها:

هل ما علمت وما استودعت مكتوم

أم حلبها إذ نأتك اليوم مصروم

فقد استغرق تحليلها فصولًا ثلاثة: الثامن1: من النسيب التقليدي إلى الناقة الحبيبة، والتاسع2: الحيوان الوحشي والطبيعة، والعاشر3: فلسفة الموت والحياة.

وأول ما يستلفته نسيب علقمة الذي يسبق الحادرة بجيلين، فيرى في نسيب علقمة أنه ليس مقصورًا على المحبوبة، بل هو في حقيقته حزن على رحيل قبيلة بأجمعها، وهذا يعني أن نسيب الحادرة متطور ويمثل مرحلة متأخرة من التطور الفني4، وقاده هذا إلى القول بأن النسيب القديم قد تحوّل إلى فنٍّ جديد هو الغزل الذي هو أقل ارتباطًا بالقبيلة، وأقل اهتمامًا بتصوير رحيلها الجماعي، وأكبر تركيزًا على المحبوبة الواحدة، وأقل اهتمامًا بتفصيل ما يعانيه الشاعر من مشاعر شخصية تجاه هذه المحبوبة5.

وفي شريحة الحيوان الوحشي يسجل النويهي خصائص ثلاثًا6:

1-

إن لدى الجاهلي معرفة بأحوال الحيوان الوحشي في الصحراء، ودقائق حياته ناجمعة عن خبرة طويلة ومراقبة متكررة ودراسة مشغوفة صابرة لهذا الحيوان في مختلف مراحل حياته وأحداث معيشته.

1 النويهي297-343.

2 نفسه 398-432.

3 نفسه 304.

4 نفسه 307.

5 نفسه 379-380.

6نفسه 379-380.

ص: 279

2-

إن مقدرة هذا الشاعر لا تقتصر على التسجيل الدقيق لحقائق الطبيعة، بل تمتد إلى أن تمكنه من التعاطف مع العواطف المنقولة، بحيث يضطرب لها كيانه اضطرابًا تنتقل إليه عدواه القوية.

3-

هي تلك التي تجعل منه شاعرًا ممارسًا، وتلك هي مقدرته الفائقة على أن يصور لنا بألفاظه دقائق الصور المنقولة، وأن يحمل إلينا بهذه الألفاظ ظلال عواطفه المرهفة.

أما الطبيعة عند الشعراء الجاهليين فهي بالنسبة إليهم "شيء حي نابض بالحياة، استجابوا لما فيها من حيوية واهتزوا لمؤثراتها اهتزازًا شديدًا، وتتبعوا لما يحدث لها من تقلبات على مرِّ فصول السنة المختلفة"1.

أما حينما ينتقل الشاعر فإنما ينتقل فجأة ومباغتة إلى أبيات حزينة متشائمة، يترك فيها عالم الحيوان السعيد إلى عالم الإنسان الشقي، وهذا هو قسم الحكمة من القصائد الجاهلية، ويرى فيها الباحث أو في أغلبها حكمة مليئة بالأسى والحسرة وخيبة الأمل2.

وفي هذا الانتقال من البهجة إلى التشاؤم وتغير الحالة النفسية، فإنه في نظر النويهي ناتج من إحساسه بأن وجوده محصور في العالم المحدود، لا عالم آخر فوقه أو وراءه أو بعده، ولكن هذا اليأس التام من وجود غير الموجود يقبل بِنَهَمٍ على هذه الحياة الفانية التي لا يؤمن بغيرها، والاندفاع بكل طاقته في استغلالها واعتصار كل قطرة منها قبل أن تولي3. وهكذا فإن الشعراء الجاهليين قد انتقموا من الموت بكل الوسائل: باللذة، بالحب، بالخمر، والنساء والشواء والغناء والندامى والعطر والزهور، بركوب الإبل النجيبة والخيل الكريمة، بالصبر على السفر المجهد، بالصيد، بالقتال، بإنفاق المال بجنون، ولكنهم وجدوا سلاحهم الأقوى ضد الزمن وقسوة الحياة وتقلُّب الدهر وحتم الموت في الشعر4.

1 النويهي 391.

2 نفسه 399.

3 نفسه 419.

4 نفسه 432.

ص: 280

ودرس "الوحدة الحيوية"1 في القصيدة الجاهلية من خلال "همزية زهير" التي مطلعها:

عفا من آل فاطمة الجواء

فيمن فالقوادم فالحساء

وهو يرى أن الحكم الشائع في نقدنا الحديث على القصيدة الجاهلية بخلوها من الوحدة الفنية أو العضوية يحتاج إلى قدر من التعديل؛ لأنه يعتسّف في تطبيق المفهوم الغربي للوحدة على شعرنا القديم، والوحدة معناها أن يكون بين موضوعات القصيدة انسجام في العاطفة المسيطرة، وفي الاتجاه المركزي نحو حقائق الكون وتجارب الحياة2.

وبعد أن يستعرض ألوانًا من الوحدة أطلقها باحثون؛ كالوحدة الفنية والوحدة العضوية والوحدة المعنوية، ويراها ليست متوفرة في القصيدة الجاهلية، يذهب إلى أن الموقف الوحيد السليم هو أن نحاول أولًا أن ننظر إليه بنظرة أهله، وأن نتذوقه بتذوقهم، وأن نستخرج منه المقاييس التي يحق لنا أن نطبقها عليه، وبمعنى آخر أن الشعر الجاهلي مستقل في وحدته عن المفاهيم الأخرى، ويقترح تسمية جديدة للشعر الجاهلي هي "الوحدة الحيوية"، وفهمنا لحالة الشاعر الانفعالية هو المفتاح الذي سيدخلنا في مختلف أقسام قصيدته، وتعمقنا لها هو الذي سيحل لنا متناقضاتها العديدة، فيؤلف بينها في وحدة حيوية قوية، إذ يجلي لنا عاطفته المسيطرة المتحدية لكل ما تلقاه من هموم، المتصارعة مع ما يفرضه التقليد الشعري من الحزن في قسم النسيب، والغضب في قسم الهجاء3.

ويرى في همزية زهير "تفككًا"، ومرد التفكك يكمن في تعمق حالة الانفعالية؛ إذ إن التقليد الشعري يقتضيه أن يبدأ بفن النسيب الآسي الحزين، لكنه في صميمه أبعد الناس في هذا الآوان عن الأسى والحزن، فهو يتفجر مرحًا ونشاطًا واستبشارًا وتفاؤل شباب، فكيف يوفق بين النقيضين دون أن يقع في الكذب الفني4؟.

والنشوة صفتهم العليا، والنشوة ميزة هذه القصيدة الأولى5، ويعني نشوة

1 النويهي 435-528.

2 نفسه 435-436.

3 نفسه 415-452.

4 نفسه 458.

5 نفسه 497.

ص: 281

الحياة. ويرى النويهي أن معيشة زهير طول حياته بين قوم ليسوا قومه ذوي العصب كانت من أهم الأسباب التي مكَّنته من أن يعلو على العصبيات القبيلية المتناحرة، وأن يرى فظاعة الحرب وجنايتها على الفريقين المتصارعين، حتى وصل إلى فلسفته السامية السلمية التي جلتها معلقته1.

وفي الفصل الثاني عشر2 يدرس "ميمية الجميح الأسدي" التي مطلعها:

يا جار نضلة قد أنى لك أن

تسعى بجارك في بني هدم

وإن أول شيء يقرره النويهي أن القدماء عجزوا عن فهم ابتداء القصيدة بثلاثة أبيات تقطر سخرية مرة، وسرعة الحركات في البحر الكامل والبتر المفاجئ العنيف الذي يدخلها، وهذا كله ليوحي بغيظ شديد يجيش في صدر الشاعر، ليصل إلى توعد مخيف بالانتقام الماحق، إلى صرخة مجروحة على صديقه الذي قتل غدرًا3.

وفي الفصل نفسه "حماسة وغضب" يدرس قصيدة أخرى لشاعر جاهلي هو "يزيد بن الحذاق الشني4" مطلعها:

أعددت سبحة بعدما قرحت

ولبست شكة حازم جلد

وفي الفصل الثالث عشر "هدوء المشيب" يدرس "لامية زهير" مطلعها:

ويذكر النويهي إحدى خصائص زهير الفنية، وهي التنسيق الماهر العذب لأسماء الأماكن5، وإن قصيدته تنقسم إلى الأقسام التالية: النسيب، والصيد، ومدح حصين بن حذيفة بن بدر الفزاري.

وفي الفصل الرابع عشر "دقائق التنغيم الصوتي، الحزن: الرثاء" درس عينية أبي ذؤيب الهذلي التي مطلعها:

أمن المنون وريبها تتوجع؟

والدهر ليس بمعتب من يجزع

والقصيدة بمضمونها الفكري والعاطفي وأدائها الفني تنتمي إلى العصر الجاهلي، بالرغم من أنها نظمت بعد الهجرة بعقدين، والسبب هو استمرار جزء من

1 النويهي 532-533.

2 نفسه 554 وما بعدها.

3 نفسه 568-648.

4 نفسه 582.

5 نفسه 649-710.

ص: 282

العقلية الجاهلية والتقاليد والعادات والأحوال الجاهلية، وكذا افتتان العرب بالفن الشعري الجاهلي، ويرى أن أهم الأسباب التي صرفتنا عن استكشاف الدقائق الصوتية في شعرنا القديم، ومدى اتحادها العضوي مع مضموناتها، هو تلك الطريقة الخطابية الفجة التي كنا نقرأ بها الشعر ونلقيه في المحافل وعلى أسماع المتعلمين1.

ولصلاح بعد الصبور محاولة لـ "قراءة جديدة لشعرنا القديم"2، وفيها يعرف الشعر بأنه "فن اكتشاف الجانب الجمالي والوجداني من الحياة، والتعبير عنه بالكلمات المموسقة"3، وأنه "تقدير النفس الإنسانية والحياة"4، أما الشاعر العظيم فهو "مكتشف عظيم في عالم الجمال والوجدان؛ لأنه يرى الأشياء والأحاسيس رؤية طازجة، وليست نظرته وليدة المنطق أو العلم، ولكنها وليدة الحدس، وأما أدواته فهي الخيال الخصيب"5.

ونظرية الوحي والإلهام من أهم النظريات في تاريخ الشعر، والوحي معناه الكشف الباطني عن حقائق لا تبدو ظاهرة لعيان البصر أو عيان العقل. ومن الغريب، كما يرى صلاح عبد الصبور، إن الشعر العربي القديم نشأ في حضن نظرية استمداد الإلهام من منبع متعال عن البشر، فقرن الشعراء أنفسهم بالجن، ولكن من سوء حظ العربي أنه نظرية الإلهام لم تكد تثبت في الوجدان العربي حتى زاحمتها نظرية أخرى هي نظرية الصنعة الشعرية6.

وهناك ثلاثة أبواب لافتة للنظر في شعرنا القديم، ذم الدنيا، أدب الشذوذ الجنسي، الخمر.

أما أبواب الكتابة فهي: ما جدوى الشعر؟ بين المهانة والتمرد، والشاعر يتفلسف، حوار مع الكون، حوار مع الكائنات، الشاعر والحب، مثال الجمال، صور فنية.

1 نفسه 655.

2 صدر عن دار النجاح، بيروت، 1973.

3 نفسه 17.

4 نفسه 20.

5 نفسه 20.

6 نفسه 21-22.

ص: 283

وهو يرى أن شعر الزهد يمثل شعور الجماعة، بينما يمثل شعر التأمل في الموت شعور الفرد، ولهذا فإن شعر ميتافيزيقا الموت هو شعر أصيل لنفس حساسة بمقياسها الخاص، ولو قلنا: إن مجال الشعر هو الإنسان وحده، والإنسان الطبيعة، والإنسان والمجتمع، لكان شعر تأمل الحياة والموت هو المنحى الأول في شعر الإنسان منفردًا، وهو يضرب ذلك أمثلة لشعراء جاهليين منهم: طرفة وأبو ذؤيب والأفوه الأودي وكعب بن سعد الغنوي.

وإن لكل شاعر نغمه الفريد، ولكن ما نلحظه فيهم جميعًا أنهم يحبون الحياة وإن كانوا يرون الموت قدرها المقصود، ولعل تلك هي أول ملامح النظرة الميتافيزيقية التي تمزج بين الموت والحياة في الخاطرة الواحدة1.

وتظل الطبيعة صامتة حتى تتحدث بلسان الفنان ووجدانه، أو بقلمه وألوانه، فتتجلّى عندئذ ألوانها وظلالها، ونورها وظلامها، ولم يكتف الشاعر الجاهلي بالوصف الظاهر مجمدًا للصورة، وباحثًا لكل شيء عن شبيهه في اللون أو الشكل ليشبهه به، ولكنه لمس أخفى ما في الطبيعة وأدقه، وهو في الوقت ذاته جوهرها وروحها، ذلك هو عنصر الحركة فيها، فالطبيعة حولنا ليست ثباتًا مطلقًا، ولكنها تغير مستمر، وهذا التغير هو دليل النماء والحياة فيها2، ويرى أن الطبيعة لا تكتسب الحياة إلّا إذا اصطبغت برؤية الشاعر وحالته النفسية.

وللدكتور يوسف خليف دراستان في الشعر الجاهلي، إحداهما: خصصها لدراسة الشعراء الصعاليك3 والثانية: "دراسات في الشعر الجاهلي"4، والدراسة الثانية في الأصل كانت بعض مقالات نشرها في فترات مختلفة في دوريات متخصصة، ثم طوَّرها وجمعها في هذا الكتاب.

ويصرّح في مقدمة الدراسة الثانية أنه ما زالت هناك جوانب في حاجة إلى مزيد من الدراسة لكشف ما يكتنفها من غموض، وتجلية ما يحيط بها من حجب، وإن هدفه من هذه الدراسة يقف على بعض هذه الجوانب الغامضة5، وقد تخير من هذه المشكلات أربعًا هي:

1 صلاح عبد الصبور 41.

2 صدر عن دار النجاح، بيروت، 1973، 61.

3 صدرت عن دار المعارف بمصر 1959.

4 صدرت عن مكتبة غريب بالقاهرة 1981.

5 دراسات في الشعر الجاهلي5.

ص: 284

مشكلة الشعر الجاهلي بين الرواية والتدوين.

مشكلة أولية هذا الشعر وما بعد الأولية.

مشكلة مقدمات القصائد الجاهلية الطللية وغير الطللية.

مشكلة الشعر الجاهلي بين النزعتين القبلية والفردية.

أما القضية الأولى1: فلا ينكر وجود الكتابة، ولكنه ينفي أن يذهب كما ذهب غيره إلى أنها كانت تستخدم في تدوين الشعر في ذلك العصر، وإن كان بعضهم قد استخدامها في كتابة شعره، ويؤكد أن التدوين بدأ في عصر التدوين.

وأما القضية الثانية2: وهي أولية الشعر، فيعرض لنظرية عربية قديمة، هي رأي ابن سلام "الشعر العربي بدأ في صورة مقطوعات قصيرة أو أبيات قليلة العدد يرتجلها الشاعر في مناسبات طارئة ليعبر بها عن انطباعات سريعة مؤقتة"، كما يعرض للنظرية الحديثة التي تذهب إلى أن الرجَز كان الصورة الأولى للشعر العربي في بدايته.

وعلى الرغم من أن النظرية الحديثة لا يطمئن إليها بعض الباحثين، ويرون أنها مجرّد فرض، وأن شيوع الرجز لا يعني قدمه وسبقه للأوزان الأخرى، إلّا أن الدكتور خليف يرى فيها "أساسًا صالحًا لحل المشكلة، ويتخذ منها قاعدة سليمة لتصور الموقف، وتتبع للطريق الذي سلكه الشعر العربي منذ البداية، أو على الأقل للاقتراب من الحقيقة الضائعة المجهولة التي طوتها أستار الزمن البعيد"3، وهو بهذا يلتقي مع بعض المستشرقين. ويرى أن العرب عرفوا الرجز منذ أن عرفوا الحداء، وهي قضية تنتهي بنا إلى نتيجة حتمية لا مفر منها، وهي أن الرجز العربي قديم موغل في القدم، ولكنه لا يملك أن يؤكد هذه الحقيقة، وكل ما يملك قوله:"لعلها الحقيقة" لعدم توفر الأدلة والنصوص اليقينية الثابتة"4.

وفي رأي الدكتور خليف أن هذه المرحلة التي شهدت الأولية الناضجة للشعر الجاهلي كانت هناك عوامل متعددة هيَّأت لظهوره في هذه الصورة الناضجة حين

1 دراسات في الشعر الجاهلي 7-35.

2 نفسه 37-103.

3 نفسه 44.

4 نفسه 47.

ص: 285

أتاحت الفرصة لظهور لغة أدبية موحَّدة توحدت فيها لغات القبائل وذابت لهجاتها، واختفت منها الفروق اللغوية التي تعددت بسببها هذه اللهجات، فكانت صالحة لاتخاذها لغة الشعر والتسامي بها عن لهجاتهم المحلية، وكأنما عرفت الجزيرة ازدواجًا لغويًّا في هذه المرحلة1.

وهكذا فقد اكتملت القصيدة العربية في أواخر القرن الخامس الميلادي بعد توافر العوامل السياسية والاقتصادية والدينية التي أظهرت لغة قريش لغة أدبية موحدة، فرضت نفسها على المجتمع الجاهلي كله؛ حيث اصطلح الشعراء في الشمال والجنوب على اتخاذها لغة شعرهم، وراحت القصيدة الجاهلية تأخذ طريقها بعد ذلك نحو تطور طبيعي لم يكن بد منه، أي: إن القصيدة مرت بمرحلتين2:

1-

مرحلة النضج الطبيعي التي يمثلها امرؤ القيس وطرفة والمرقشان وعبيد وعلقمة.

2-

مرحلة النضج الصناعي التي بدأت مع الطفيل الغنوي وأوس بن حجر، وبلغت ذروتها عند زهير، ويمثلها: زهير والنابغة الذبياني وعنترة ولبيد.

ومن اليسير ملاحظة الظاهرتين التاليتين في الشعر الجاهلي3:

1-

ظاهرة المنهج الثابت للقصيدة الجاهلية.

2-

ظاهرة العقد الفني بين الشاعر الجاهلي وقبيلته.

وفي ضوء هاتين الظاهرتين نستطيع أن نلاحظ أن "القصيدة الجاهلية تنحلّ إلى قسمين أساسيين: قسم ذاتي يتحدث فيه الشاعر عن نفسه، يصور فيه عواطفه ومشاعره وانفعالاته، ونضع فيه المقدمات ووصف الرحلة الصحراء، وقسم آخر غيري يتحدث فيه الشاعر عن قبيلته وفاءً بهذا العقد الفني بينه وبينها، أو يعرض فيه للمدح أو الاعتذار.

أما المقدمات4 فهي تارة طللية وهي الغالبة، تارة غزلية، وأخرى همزية، وهناك مقدمات فروسية، وأخرى في بكاء الشباب الضائع والحسرة على أيامه

1 دارسات في الشعر الجاهلي 59.

2 نفسه 73.

3 نفسه 117.

4 نفسه 119-170.

ص: 286

الخالية. وهناك مقدمات تدور حول زيارة طيف الحبيبة البعيد لصاحبها في أحلامه على نحو ما نرى في تأبط شرًّا "القافية".

ويمكن رد هذه الاتجاهات جميعًا في المقدمات إلى ثلاثة دوافع أساسية: المرأة، والخمر، والفروسية1. ويعلل الباحث2 القسم الذاتي في القصيدة الجاهلية "المقدمة وما يتصل بها من حديث الصحراء" إنما هو محاولة لإثبات وجود الشاعر الجاهلي أمام مشكلة الفراغ في حياته، وهي مشكلة لم يجد لها حلًّا إلّا عن طريق هذه المتع التي لم يجد مكانًا للتعبير عنها في زحمة الالتزامات القبلية إلّا في مقدمات قصائده، ومن هنا كان طبيعيًّا أن تخلو قصائد الرثاء من هذه المقدمات؛ لأن مقامها ليس مقام لهو أو متعة، ولأن الموت الذي يتحدث عنه الشاعر قد وضع حلًّا نهائيًّا لمشكلة الفراغ التي كان يحاول بوسائله المختلفة أن يجد حلًّا لها، وهي سائل لم يعد للحديث عنها مكان في هذه القصائد.

ويحاول الدكتور خليف أن يدرس مقدمة الأطلال دراسة موضوعية وفنية، فيرى فيها أولًا كثرة في الظهور؛ لأنها وجدت هوى شديدًا في نفوس الشعراء الجاهليين لارتباطها ببيئتهم المادية، وطبيعة حياتهم الاجتماعية؛ إذ هي تعبير عن تلك الظاهرة الطبيعية في المجتمع البدوي، وظاهرة "الحركة" التي كانت نتيجة طبيعية للتفاعل الحتميّ بين البيئة والحياة3، وقد استطاع شعراء المرحلة الفنية الأولى أن يرسوا دعائم هذه المقدمة، وأن يحققوا لها طائفة من مقوماتها وتقاليدها الفنية التي استقرت لها بعد ذلك، والتي أصبحت معالم ثابتة في طريق الشعر العربي القديم، ويهتدي بها الشعراء في سبيل تحقيق الصورة الكلاسيكية لأعمالهم الفنية، أي: إنهم حقَّقوا لها إطارها الشكلي ومضمونها الموضوعي4.

وتتراءى قطعان الظباء والبقر الوحشي آمنة في مسارحها وكأنها البقية الباقية من مظاهر الحياة في هذه الأطلال الموحشة الصامتة، أو كأنها تجسيم حي للحسرة التي تملأ على الشاعر أرجاء نفسه، وهو يرى هذه الأطلال وقد خلت من صاحبته التي تعيش في أعماقه رمزًا للماضي السعيد الذي ذهب إلى غير رجعة5.

1 دراسات في الشعر الجاهلي 119.

2 نفسه 119-120.

3 نفسه.

4 نفسه 124.

5 نفسه 127.

ص: 287

أما أسماء المواضع والأماكن التي تقع بينها الأطلال، وتحديدها تحديدًا جغرافيًّا دقيقًا فتعلل بأنها نموذج حي للواقعية في ذلك الشعر الجاهلي، كما أنها ترتبط بنفسية الشاعر الذي يتمثل هذه المواضع قطعة من نفسه، ففيها عاش أيامه الجميلة1.

وتطوَّرت المقدمة مع التطور الفني الذي أصاب الشعر الجاهلي عند شعراء مدرسة الصنعة أو عبيد الشعر، وفي رأي الباحث أن أروع ما وصل إلينا من المقدمات الطللية في هذه المرحلة "مدرسة الصنعة"، وهي مقدمة زهير لما ضمَّنها من طاقة تعبيرية تصويرية بارعة، وزهير يرسم منظرين أساسين: الأطلال في صمتها وسكونها، ومنظر صاحبة الأطلال في رحلتها المندفعة في الصحراء2.

وتتميز مقدمات لبيد بأن فيها تعبيرًا عن فتنة الشاعر بالطبيعة فتنة طاغية جعلت الطبيعة تشغله عن الأطلال وصاحبة الأطلال3، ويتناول الباحث المقدمات الأخرى ويمثّل بأمثلة من الشعر الجاهلي.

وأما القضية الرابعة "الشعر الجاهلي بين القبيلة والفردية": فخلاصة رأيه أن "عقدًا اجتماعيًّا" عقد بين الشاعر وقبيلته، وكان نتيجته أن قام "عقد فني" فرض عليه ألّا يتحدث عن نفسه، وإنما يتحدث عن قبيلته، وأصبح ضمير الجماعة "نحن" أداة التعبير بدلًا من ضمير الفرد "أنا"، وأصبحت "صناديق أصباغه" مستعارة من قبيلته وليست صادرة عن نفسه.

ولكن ذلك لم ينف وجود شعر يصور شخصيات أصحابه أو حياتهم الخاصة. أما الصوت الأقوى والأوضح، فكان صوت المجموع. وهكذا وجد ما يمكن تسميتهم بـ "أصحاب المذهب القبلي في الشعر" أو "شعراء القبائل"، وفي مقابل هؤلاء وجد أيضًا "أصحاب المذهب الفردي"، ومثال المجموعة الأولى: عمرو بن كلثوم وغيره كثيرون، ومثال المجموعة الثانية: امرؤ اليس وطرفة. وإلى جانب هاتين الطائفتين وجدت طائفتان أخريان من الشعراء، بالغت إحداهما في التمسُّك بالشخصية القبلية، وبالغت الأخرى في الاعتداد بالشخصية الفردية.

1 دراسات في الشعر الجاهلي 127.

2 نفسه 134.

3 نفسه 142.

4 نفسه 171-190.

ص: 288

أما الطائفة الأولى: فهي تريد من قبائلها أن تبالغ في الحرص على "العقد الاجتماعي" القائم بينها وبينهم، ولا تفرط فيه، بحيث يكون ملزمًا لها في كل الظروف، حتى لو تصرّف الفرد تصرفًا منكرًا لا تقره تقاليدها، ومثالها: شاعر الحماسة "قري بن أنيف" أحد بني العنبر1 الذي يقول:

لو كنت من مازن لم يتستبح إبلي

بنو اللقيطة من ذهل بن شيبانا

إلخ الأبيات.

وأما الطائفة الأخرى: فهم "الشعراء الصعاليك" الذين بالغوا في فهم الشخصية الفردية، وتمردوا على النظام القبلي.

وما تبقَّى من الدراسة يفرده الباحث لطرح نظرية جديدة في تقسيم جديد للعصر الجاهلي فنيًّا2. ويعترف الباحث بأنه لو توفَّر له جهود القدماء في جمعهم أشعار القبائل لفضَّل توزيعهم على أساس قبلي، ولكنها ضاعت.

لذلك فهو يقترح تصنيفًا جديدًا يقسم الشعر في هذا العصر إلى ثلاثة عصور متميزة، نستطيع من خلالها متابعة حركة الشعر وتطوره الفني فيه، وهذه العصور هي:

1-

عصر حرب البسوس: الذي شهد ميلاد القصيدة العربية الأولى عند المهلهل ومعاصريه من شعراء هذه الحرب، ويمتد هذا العصر ليغطي فترة ما بين حرب البسوس وحرب داحس والغبراء؛ حيث تَمَّ نضج مدرسة الطبع الجاهلية التي تكاملت على يد امرئ القيس وأضرابه، وأخذت القصيدة شكلها النهائي الذي استقرَّ لها بعد ذلك، كما ظهرت طلائع مدرسة الصنعة وروادها الأوائل، وهم الطفيل الغنوي وأوس بن حجر وأضرابهما.

2-

عصر حرب داحس والغرباء: الذي شهد ازدهار مدرسة الصنعة التي حوّلت مجرى الشعر الجاهلي في فترة ما بين الحربين، وسلمت أدواتها إلى شعراء هذه الحرب يعكفون عليه، وقد بلغت المدرسة الجديدة على أيديهم قمة نضجها، ومنهم: زهير وعنترة والنابغة.

3-

عصر ذي قار: الذي يمثل أواخر العصر الجاهلي حتى ظهور الإسلام، وفيه

1 حماسة أبي تمام بشرح المرزوقي 1/ 13-15.

2 دراسات في الشعر الجاهلي 193-215.

ص: 289

ظهرت مدرسة التقليد التي استطاعت أن تتمثل تمثلًا واضحًا تقاليد المدرستين السابقتين، ومنهم: حسّان ولبيد والأعشى.

وتناول الدكتور عناد غزوان إسماعيل "المرثاة الغزلية في الشعر العربي"1، فرأى فيها رنة حزينة باكية تبدو في بعض الأحيان مظهرًا سوداويًا يصور بعض تشاؤمية الشاعر في نظرته إلى المرأة والجمال، وهنا، كما يرى الباحث، يلعب العامل الاجتماعي والنفسي دورًا كبيرًا في خلق وتجسيد مفهوم الألم في المقدمة الغزلية2.

ولعل أهم ما جاء في هذه الدراسة:

1-

إن البناء الفني للقصيدة العربية القديمة يكشف لنا عن امتزاج الشخصيتين الفردية والقبلية العامة وتمثلها عبر تجارب زمنية طويلة وعريقة، في مجموعة أغراض تكشف عن وجود الذات الشاعرة وذوات القبيلة، فالمقدمة الغزلية إنما هي صورة الشخصية الفردية النابعة من إيمان العربي المطلق وحقه الفطري بحريته الشخصية، في حين يمثل المدح والفخر القبلي والهجاء القبلي والحماسة صورة من صور الشخصية القبلية3.

2-

إن المقدمة الغزالية برنتها الحزينة وصرخة ألمها الواضحة في مقاطعها الكثيرة تدل على أن الشاعر الجاهلي إنما يتغزّل ليرثي نفسه، ويصور بعض وجوه القلق، حيث يجد في ذلك التصوير راحة نفسية4.

3-

إن بحثه هذا يحاول فهم رنَّة الحزن والألم في القصيدة العربية في عصورها الحضارية المختلفة والمتمثلة في شعر الغزل ومطالعه الكثيرة، وفي غرض الرثاء وقصائده المتعددة، على أنها رثاء لنفس الشاعر في قلقها ومخاوفها، ومن وجودها وانتقاليتها وما تخلقه في نفس المحب من خيبة أمل5.

4 إن المرثاة الغزالية في الأدب العربي عندما تعبِّر عن الأسماء والندب والنواح، أو عندما تصور مشاعر الحب بين الحبيب والحبيبة إنما هي صورة واقعية من صور

1 صدر عن مطبعة الزهراء، بغداد، 1974.

2 نفسه 2.

3 نفسه 6، 7.

4 نفسه 9.

5 نفسه 10.

ص: 290

الشعر العربي الذي يشاركه في بعض خصائصه الإنسانية أشعار الأمم والشعوب الأخرى من غنائيته وواقعيته في التعبير عن هذه العاطفة التي لا تخلو منها نفوس البشر1.

5-

ليس من شكٍّ في أن عنصر الحرب في العصرين الجاهلي والإسلامي قد غذَّى تلك المقطعات الغنائية بروح الرثاء وتمجيد الفروسية والبطولة والقيم الأخلاقية والمثل العليا التي تعتز بها المرأة الشاعرة1.

أما الدكتور محمود الجادر فله في مجال دراسة الأدب الجاهلي الدراسات التالية:

"قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية"3 و"الفن القصص في القصيدة الجاهلية"4 و"نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية"5 و"قراءة معاصرة في مقدمة القصيدة الجاهلية"6.

أما البحث الأول: فإن الباحث يقرر منذ البداية أن العمل الفني في القصيدة الجاهلية يبقى مشدودًا إلى وحدة موضوعية لعلَّها تعجز عن غير المتخصصة، فثمَّة عائقان يقفان بيننا وبين مناخ إثبات حضورٍ جادٍّ في قناعتنا المعاصرة، من خلال القراءة، والوحدة المفترضة في العمل الفني في القصيدة الجاهلية.

أولهما: عبث الأيام بالموروثات وتشويه معالمه.

والثاني: تميز موقع نظرنا المعاصر من موقع نظر الشاعر الجاهلي إلى طبيعة الوحدة الموضوعية للعمل الشعري7.

وإن الحقائق كلها -من وجهة نظره- تشير إلى أن محور معاناته الفكرية قام على حقيقة بسيطة، وهي الانشداد إلى الفناء المطلق في الهوية الاجتماعية المتمثلة

1 المرثاة الغزالية 13.

2 نفسه 26.

3 نشر في مجلة الأقلام، بغداد، العدد 12 "1979"، ص3-9.

4 نشر في مجلة الأقلام، العدد3، "1981" ص2-13، ومجلة آفاق عربية "1981"، عدد فبراير، ص218-226.

5 مجلة الأقلام، عدد7، "1980م"، ص4-10.

6 مجلة الأقلام، عدد12 "1979".

7 مجلة الأقلام، عدد 12 "1979م"، ص5.

ص: 291

في الرابطة القبلية، ولكن هذا الإنشداد لا يلغي الجانب الذاتي المحض في العمل، ولكن المقدمة قد تحتمل ذاتيًّا أكبر من القدر المتاح في الغرض1.

والمؤشِّر الرئيس للوحدة الفنية والنفسية في القصيدة الجاهلية هو التجربة الموضوعية التي تستثير الشاعر إلى القول، وتحتل معاناته في مقطع الغرض من قصيدته مدارًا أصيلًا في بيعة الانتقاد والتوجه في مرحلتي الافتتاح والرحلة2.

وأما رأيه3 في المقدمة، أو الصورة الطللية، آلت إلى شعراء مرحلة نضج القصيدة الجاهلية تراثًا تقليديًّا يمتلك القدرة على استعياب آثار الآثار النفسية الشفافة التي تنبثق في لحظات محاولة استرجاع صور الماضي المفقود، فتستنزف جهد الشاعر رغم بعدها النسبي عن طبيعة تجربته الآنية، لأنها تبدو مهيأة لاستيعاب الزخم النفسي غير المرتبط إلى أية دلالة موضوعية حاسمة في أغلب الأحيان، ولكنها تقدم مؤشرًا واضحًا إلى عمق ارتباط الشاعر بالبيئة التي ظلّت تواجه حياته، يتحدى الرحيل الأبدي وترفد صيغته الطللية بتفاصيل المعاناة، وأما ارتباط المرأة بالصيغة الطللية فإنه يبدو منبثقًا عن ارتباط منابع الحنين إلى الاستقرار ووحدتها النفسية رغم تشبعها الموضوعي، ولذا فلا طلل نجده في قصائد الرثاء والحماسة والهجاء.

وخلاصة رأيه رفض التسميات التقليدية، وتقرير أن ينظر إلى الافتتاح على أنه ميدان حديث الذاكرة، وأن ينظر إلى تفاصيله من خلال فهم تكوين الشاعر النفسي والاجتماعي، فضلًا عن فهم طبيعة التجربة الآنية التي يفترض أن تنبثق من خلال وحدة موضوعية تفرض على الشاعر اختيارًا دون غيره في عمله الإبداعي.

ولعل أوثق هذه الدراسات صلةً بما نحن بصدده، هو مناهج دراسة الأدب الجاهلي، وهو دراسته الموسومة بـ "نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية"4، ويذكر في مقدمة بحثه بعض محاولات إرساء منهج جديد، وهي محاولة كلٍّ من الدكتور محمد النهويهي والدكتور عبد الله الطيب والدكتور مصطفى ناصف، ولكنه

1 محمود الجادر5.

2 نفسه 6.

3 نفسه 6.

4 الأقلام، عدد3، "1981"، ص2-13.

ص: 292

يرى في هذه الدراسات والمحاولات أنها ظلت قائمة على متابعة الجوانب الأدائية الخالصة1.

ويذهب الباحث إلى التمسُّك بالقول بأن تشخيص فعالية الجهد الحضاري ينبغي أن يقوم على ملاحظة طبائع العلاقات الاجتماعية والقومية والإنسانية، وتشخيص فعالية أبعاد الضوابط والقوانين المتحكمة فيها، ومدى انشدادها إلى صيغٍ متبلورة تحدد طموحًا إنسانيًّا داعيًا إلى إقامة مجتمع يتركز فيه الجهد الإنساني على توفير فرص الحياة الكريمة للفرد وللمجموع، من خلال استخدام متطور للخبرة الموروثة المكتسبة في ميادين توظيف القدرات الإنسانية، لمواجهة حقائق الحياة وتحدياتها وقوانينها المفروضة2.

والشعر -من وجهة نظره- يقف على ناصية طرفين متداخلين: يتمثّل أولهما في كونه صورة من صور التواصل بين حضارة الأمة وبين فعاليتها الفكرية المحددة بالظرف التاريخي. ويتمثل ثانيهما في كونه شاخصًا من شواخص هذه الفاعلية التاريخية، وفي تميزه منها بقدرته الاستثنائية على نقل أبعاد الطموح والتفاعل الإنساني التي تعجز كل النصوص الموروثة الأخرى عن تشخيص آثارها بصورة واضحة ودقيقة3.

ويزعم الباحث أن "أوليات الفكر الشعري ظلّت تمتد إلى تفاصيل الطموح الذي وجد طريقه الخفي إلى قصائد المديح والرثاء، فرسم من خلالها أبعاد الشخصية الاجتماعية المثلى، وحدد متطلبات "العرف" المفترضة في هذه الشخصية، وذلك منطق ينسحب على قصائد الفخر الشخصي والجماعي التي ظل الشاعر خلالها يقدّم صور الاستشراف الواعي لملامح الطموح، مستهديًا بمقومات الريادة الفكرية للقصيدة الميهأة للانتشار في الوعي الاجتماعي في ظل سلطة "العرف" الخارقة4، وفي رأيه أن هذا الفهم لطبيعة العمل الفكري في القصيدة الجاهلية سيكون كفيلًا بتفسير ظاهرة ضعف الشعر في المرحلة المبكرة من عصر صدر الإسلام.

1 محمود الجادر5.

2 نفسه5.

3 نفسه، عدد3 "1981"، 5.

4 نفسه6.

ص: 293

أما لوحات الافتتاح فتفصح عن عمق معاناة الغربة في تجربة الشاعر النفسية، وبذلك يتوجَّب علنيا أن نعيد النظر في تفاصيل الدراسات التقليدية، التي منحت الافتتاح بعد المباشرة الموضوعية المحدودة، حتى بدا الشاعر الجاهلي متهالكًا في عالم المرأة التي لم تكن إلّا عنصر إذكاء لمشاعر الحنين إلى الاستقرار، وفي رأيه أن هذا هو السر في تشتت رموزها وتعددها في ديوان الشاعر الواحد، وفي القصيدة الواحدة، بل في البيت الواحد أحيانًا1.

ويرى الباحث أن ثَمَّة رغبة فطرية في الانفلات من عالم الواقع إلى عالم أحلام اليقظة الذي يتخذ امتداد المتميز في العمل الفني، وبهذا التفسير وحده نستطيع أن نعلل انشداد بعض النماذج الجاهلية كالصعاليك مثلًا إلى تصوير عالم السعالي والجن، وعلاقات الشاعر ببعض كائناته الأسطورية2.

والرحلة في القصيدة ليست ذات مدلول واحد في الدواوين الجاهلية كلها، وإنما يجب البحث عن مفاتيح منطقية لتعليل امتدادها إلى تجارب شعرية لا حصر لها من الموروث، وذلك قد يعيننا على ملاحظة طبيعة تعامل الشاعر الجاهلي مع ناقته التي تغدو وسيلة من وسائل مواجته لمواقف الصراع أو الانتقال إلى حلم اليقظة الموعود، ومنفذًا فينا لمعالجة التجربة الشعرية في مقطع الغرض "الشريحة الثالثة"3.

وفي الشريحة الثالثة: يرى الباحث أن علينا أن نعيد النظر في صيغ القيم المطروحة في قصائد المديح والرثاء والفخر والهجاء، للإحاطة بأبعاد الشخصية الفردية والاجتماعية التي ظلّ وعي الشاعر مشدودًا إلى محاولة تحديدها، لرسم آفاق الغد الذي ينبغي للواقع أن يعبر إليه، وتلك هي المهمة الفكرية التي لا يريد أن تعلو فتزعم أنها كانت محور العمل الشعري. وذلك ما يفسّر لنا علة اتجاه عامة قصائد المديح والرثاء والفخر إلى رسم الشخصية الإيجابية من خلال سمات الكرم والشجاعة والنجدة، والقول الفصل وحماية الجار والحرص على القبيلة "نواة الانتماء القومي".

1 محمود الجادر7.

2 نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية7.

3 نحو منهج عربي في دراسة القصيدة الجاهلية7.

ص: 294

أما الذي منح القصيدة الجاهلية قدرتها على التأثير الحاسم في الفكر الاجتماعي أنها ظلت تمثل سلطة "العرف" القادر على استقطاب الرغبة والرهبة في ظروف غياب السلطة التنفيذية المركزية التي تستند إلى قانون مثبت أو سنة مدونة. وهكذا كان "حسن الثناء" رائدًا اجتماعيًّا حاسمًا يشخصه قول السمؤول بن عادياء "اللامية"1.

وأما المنهج المؤهل لفهم القصيدة الجاهلية، فهو رهن باستلهام خصوصية الظرف الذي انبثقت عنه، واستقصاء الأرضية الفكرية والثقافية التي ظلت ترفد الأعمال الإبداعية ببعض مقوماتها، فضلًا عن دراسة آفاق الطموح التي ظلّ العمل الإبداعي مشدودًا إليها، فمن خلال هذه المنافذ وحدها نستطيع أن نطل على عالم فسيح يحدد أبعاد هذه الأنماط الخالدة من الأعمال الإبداعية الملهمة في تراثنا الفكري الأصيل2.

1 محمود الجادر 8.

2 نفسه 10.

ص: 295