الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة
مدخل
…
الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة:
عرفنا في الصفحات السابقة منزلة الأدب الجاهلي بعامَّة والشعر بخاصة، وأنه يمثل بؤرة الشعر على مَرِّ العصور، ولقد بدأ الاهتمام به في عصر النهضة العربية في وقت مبكر، ولكن هذا الاهتمام، كما أسلفنا، مَرَّ بمراحل مختلفة، ولكن الاهتمام بتحليل نصوصه ومحاولة الدراسة الرأسية بدلًا من الأفقية بدأ منذ أواخر الستينات، ونزعم أنه اتضح في السبعينات، ومن المتوقع أن يبلغ أشدَّه وينضج في هذا العقد، بل إن بعض الباحثين اصطنع منهجًا أسماه "منجهًا عربيًّا في دراسة القصيدة الجاهلية"1.
ويبدو أن بعض الباحثين قد أحسَّ بقصور المنهج القديم في استيعاب مضامين النصِّ وتحليلها ونقدها، ولذا أطلقوا على مؤلفاتهم أو بحوثهم "قراءة جديدة" أو "قراءة ثانية" أو "قيم جديدة" أو "رؤية عصرية"، ونجد هذا الاتفاق عند معظمهم، واعترفوا به في اختيار عناوين مؤلفاتهم في مقدمة بحوثهم، ولكنهم اختلفوا بعد ذلك، وقد عرضنا لذلك الاختلاف أو لجزءٍ منه عند حديثنا عن المآخذ أو ملاحظاتهم على دراسة الشعر الجاهلي، ولم يتوقف الأمر عند حد اختلافهم فحسب، بل راح كل فريق ينعي على الفريق الآخر تقصيره، ويزعم أن منهجه هو المناسب لدراسة ذلك الشعر والكشف عن كنهه ومعدنه الأصيل. ولعلي لا أكون مبالغًا إذا قلت أن واحدًا منهم لم يمتدح غير منهجه، ورأى فيه المنهج الوحيد لدراسة ذلك الشعر.
ونستطيع أن نلحظ اتجاهين رئيسين للمتحدثين في الدراسة، ويتفرع منهما
1 د. محمود الجادر، مجلة الأقلام، عدد 7 "1980"، ص4 وما بعدها.
اتجاهات ومناهج فرعية كثيرة لها مسمياتها، وهذان الاتجاهان هما:
1-
اتجاه الاستقراء الموضوعي لذلك الشعر.
2-
اتجاه التفسير الرمزي له.
أما القضية الكبرى التي شغلت كثيرًا من الباحثين فهي محاولة الإجابة عن السؤال التالي:
هل نخضع الأدب الجاهلي لمناهج ومذاهب النقد الغربي الحديث؟ ولا ضير في عرض بعض آرائهم علَّها تفيدنا في بلورة التيار العام للباحثين.
فالنويهي1 يحذر من تطبيقها قائلًا: "يجب أن نحذر أقوى الحذر من تطبيق مقايس النقد الغربي، وألا نندفع إلى إقحامها على أدبنا العربي"، ولكنه في الوقت نفسه لا يرى ضررًا من دراسة الآداب الأجنبية، فهي تزيدنا فهمًا لترثنا الأدبي، وتمدنا بمفاهيم جديدة نستخدمها في تطوير أدبنا المعاصر.
ويرى أحمد كمال زكي2 أن "تفتح المحثين على آداب الغرب وإغفالهم أحيانًا الفروق الجوهرية بين أدبنا وغيره من الآداب العالمية، مع وجود الكلاسيكيين الذين يريدون ان يستمرَّ الناقد في الخط الذي رسمه البلاغيون، قد دفع بالنقد الأدبي إلى حالٍ من القلق شكَّكت في كثير من القيم.
وإذا كان في رأيه هذا متحفظًا، فإنه في بحث آخر3 يتوجَّس شرًّا من الاستقصاء الجزئي لأي نص أدبي يقع في أيدي البنيويين؛ لأن ذلك قد يعطّل دور النص المعرفي، كما يلغي قيمته التاريخية إلغاءه لقيمته المضمونية، وأكثر من هذا ربما طولبنا ونحن نقرأه بأن نكون أصحابه المبدعين أولًا وآخرًا، فتغيب إلى الأبد ذات صاحبه بكل حدسها وتفكيرها، ولكنه يستطرد فيرى في بعض إنجازات البنيويين ما يدعم التفسير الأسطوري للشعر.
ويخشى الدكتور إبراهيم عبد الرحمن4 من أن تكون الدراسات الحديثة
1 الشعر الجاهلي، ص22.
2 دراسات في النقد الأدبي ص6.
3 التفسير الأسطوري للشعر القديم، مجلة فصول مجلد1، عدد3 "1981"، ص115-116.
4 الشعر الجاهلي، ص196.
للصورة الشعرية وآراؤهم المختلفة فيها خطورة تورطنا في فرض منهج وذوق حديثين على الصورة الشعرية القديمة.
ويعترف في مقدمة بحث آخر1 بأنَّ محاولته المقترحة لقراءة الشعر الجاهلي في 2ضوء المنهج الأسطوري ليست سوى خطوة على طريق الدراسات الخصبة التي ظفر بها هذا الشعرعلى أيدي القدامى والمحدثين من النقاد، وأن عمله هو إعادة تركيب هذه العناصر وتأليفها لخلق ما يصحّ أن يسمَّى منهجًا جديدًا لدراسة الشعر الجاهلي، يفك مغاليقه، ويكشف عن كنوزه التي ظلّت خافية على الدراسين القدامى، كما لا تزال خافية على الدراسين المحدثين، على الرغم من تنوّع مناهجهم واتساع ثقافاتهم.
وينعي الدكتور لطفي عبد البديع2 على طائفة من الباحثين اعتدت بأطراف من نظرية النقاد "تين"، وجعلت من الثالوث الذي ركَّبه من "الجنس والبيئة والعصر" عصًا سحرية تلقف ما عداها.
أما الدكتور مصطفى ناصف3 فيشكك في مزاعم الباحثين المحدثين، فهو لا يوافقهم على أن يكون الشعر القديم انعكاسًا مباشرًا لفكرة البداوة، فهو ليس شعرًا حسيًّا غليظًا يُعْنَى بوصف المحسوسات التي يراها الشعراء أمامهم في الصحراء المفتوحة، لا أثر من أثار الفكر والعقل فيه، وفي نهاية المطاف يدعو إلى قراءة الشعر الجاهلي قراءة ممعنة لنلحظ بوضوح أنه وافر الحظ من العمق والثراء.
والحقيقة أن المذاهب النقدية الغربية ليست ضررًا كلها ولا خيرًا كلها إذا أردنا وضعها في أحد القطبين، فهي قد نشأت بفعل تحولات فكرية واجتماعية وسياسية، فكل مذاهب نشأ عقب تغيير أو أكثر في المجتمع الأوروبي، وقد نشأ تعبيرًا عن ذلك الاتجاه، وليلبي حاجات جدت، وهي -أي المذاهب- لها مصطلحات نقدية وأدبية لها مدلولاتها وشحناتها الفكرية، والأدب الذي ينتج لم ينشأ من فراغ، فقد أنتجه وأبدعه أصحابه ليلبي حاجات معينة. فإذا حاولنا تطبيق هذه المناهج والمذاهب فينبغي أن نكون واعين لما نفعل، ولما نصطنع من مصلطحات.
1 التفسير الأسطوري للشعر الجاهلي، مجلة فصول مجلد 1 عدد 3 "1981"، ص127.
2 الشعر واللغة، ص1.
3 قراءة ثانية لشعرنا القديم، ص48-50.
أما الأدوات، أدوات التحليل والتذوق والنقد وإصدار الحكم على العمل الأدبي، فتلك ستكون نافعة لأدبنا، وإنني أظن أننا نظلم أدبنا العربي القديم بعامة، والجاهلي بخاصة، إن نحن أخضعناه إخضاعًا أعمى بلا قيد أو شرط وبلا تحفظ لهذه المناهج والمذاهب؛ لأننا عندئذ سنتمحك ونحاول أن نحشره أحيانًا في قوالب لا يدخل فيها ولا تناسبه، قد يفقد نكهته الخاصة المميزة.
وثَمَّة أمور ينبغي للنقد الحديث والناقد أيضًا أن يتنبه إليها عند دراسة الشعر الجاهلي:
1-
إن الشعر الجاهلي عميق الصلة ببنية اللغة.
2-
أن يقرأ الشعر قراءة مسموعة منغمة حسب إيقاعها.
3-
أن يلاحظ الرمز عند الشعراء الكبار.
4-
إن الشعر هو ميثولوجيا الجاهلية.
5-
أن يلاحظ الملاحم فيه.
6-
أن يلاحظ الصراع الميتافيزيقي بين الإنسان والطبيعة الصحراوية.
7-
أن يلاحظ معركة الشاعر مع الدهر، وأن الحماسة توكيد لا شعوري ضد الدهر.
8-
أن يلاحظ التطرف في الكرم والفخر.
9-
إن المبالغة هي بلاغة المعاناة الجدية.
10-
الفتوة هي السبب الناتج عن هدم فتوة الإنسان بالعدم.
ويخلص الدكتور عفت الشرقاوي1 القضايا التي تثار في الدراسات النقدية الحديثة بأنها: إما قضايا تتصل بقضايا الثقافة العربية التي نشأ فيها هذا الأدب، وإما قضايا متصلة بتوثيق نصوص هذا الأدب وتفسيرها تفسيرًا أدبيًّا حديثًا.
وفي ندوة عدقتها مجلة "فصول"2 بعنوان: "مشكلة المنهج في النقد العربي المعاصر" اشترك فيها كلٌّ من الأساتذة: شكري عياد، وعبد المحسن بدر، وبدر الديب، وصبري حافظ، وعز الدين إسماعيل، وجابر عصفور، ومن الآراء التي طرحهات المشتركون فيها:
1 إعادة تقييم المسلمات الأدبية السائدة في فترة معينة، بحيث تتوافر لكل فترة
1 دروس ونصوص في قضايا الأدب الجاهلي، دار النهضة العربية، بيروت، 1979، المقدمة.
2 فصول، مجلد 1 العدد 3 "1981"، ص242 وما بعدها.
من تاريخنا الأدبي عملية بناء لا ترتكز على ما هو قائم فقط، ولكنها تتضمَّن أيضًا إعادة تقييم لسلم القيم الأدبية السائدة في لحظة تاريخية معينة.
2-
من روافد عملية إرساء القيم أن يخلق النقد تيارًا من الأفكار والرؤى الجديدة، بإقامة حوار مع الثقافات الأخرى، ولا يقتصر على التراث الثقافي، بل يمتد إلى الثقافات الإنسانية، والاتجاهات النقدية المختلفة.
3-
إذا كان المنهج النقدي جزءًا من واقع أدبي معين، فكيف يمكن فرضه على واقع أدبي آخر كالأدب العربي الذي له مشكلاته الخاصة؟
4-
يقف الناقد العربي موقفًا بالغ الحرج، فالصورة الغربية الملاحظة الآن أنَّ كل ناقد يقف عند المدرسة التي درسها وقت إن كان في البعثة مثلًا، ولا يستطيع بعد ذلك التعامل مع بقية المناهج المطروحة الأكثر حداثة، فمتى يتوقف الناقد، وتتكون لديه رؤية للعالم، فيعكف في وعي على تراثه، ويفحص في الوقت نفسه وبوعي أيضًا، وانطلاقًا من أرض ثابتة تلك المناهج، وأن يختار ما يجده أفضل وأكثر ملائمة لحل مشكلات الواقع الأدبي والنقدي كخطوة نحو حلّ مشكلات المجتمع بشكل عام.
5-
هل يكتسب أي منهج من المناهج الأوربية طابعًا محليًّا نشأ نتيجة ظهوره استجابة لمقتضيات واقع أدبي بعينه في بيئة بعينها؟ أم أنه في اللحظة التي أصبح فيها منهجًا خرج عن حدود محلية، فأصبح أداة صالحة للاستخدام والتعامل مع أيّ أدب، في أي عصر، لدى أي شعب من الشعوب؟
6-
يعاني النقد من عدم الاستمرارية والتراكم، فكل باحث لا يحاول أن يتجاوز جهود من سبقه من الباحثين فحسب، بل إنه يسقط هذه الجهود كلية باعتبار أن الحلول التي يطرحها الواقع ومساهمات مثقفي هذا الواقع، هي أصلًا ظل للثقافة الأجنبية، فيحاول أن يأتي هو الآخر بحلول خارجية أكثر حداثة.
7-
لم يحقق النقد حتى الآن متابعة جزئية للأعمال التي تصدر، ولم نستطع تحقيق ذلك خلال الخمسة والعشرين عامًا الماضية، فنحن نعاني أزمة نقد.
8-
الناقد ينقل فهمه لمنهجٍِ ما من خلال ثقافته الخاصة، ومن خلال رؤيته الخاصة، فإذن ليس لدينا منهج بنيوي مثلًا، وإنما عندنا فهم مصري للبنيوية
وغيرها من المناهج الحديثة، وهذا الفهم يأتي من خلال تصوره لاحتياجات واقعه الثقافي ودوره فيه. وهذه الرؤيا لا تتكون بمعزل عن الأيديولوجيات والفلسفات الإنسانية المختلفة.
9-
أَقرَّ المجتمعون أننا نعاني مشكلة منهج، ونعاني أيضًا من مشكلة الخوف من تعدد المناهج، والخوف من عدم التمثل، والخوف من عدم التكامل بين النظرية والتطبيق.
10-
المثقف العربي جزء من الأزمة التي يعانيها النقد.
11-
ليس هناك خوف، وإنما هناك إحساس بأزمة حضارية، وانجراف في اتجاه معين أكثر مما ينبغي، وهذا الانجراف يكاد يصل إلى حد الجذور.
12-
هناك شيء ينقصنا، وهو ما يسمَّى بتاريخ الأفكار، أي: التاريخ الثقافي في الأدب العربي كله.
13-
لا بُدَّ أن يكون عندي الشجاعة لأن أكون "أنا" عندما أتعلم من الغرب، أو عندما أفكر في تراثي.
14-
المنهج هو الرؤية للحياة التي تجعل هذا التحلل أو ذاك صالحًا للواقع الذي نعيشه، أو يجيب عن أسئلة مطروحة في الواقع الذي نعيش فيه، أو أنه لا يجيب عن مثل هذه الأسئلة.