المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المنهج التكاملي: وللدكتور عبد القادر الرباعي بحوث عدة تدور كلها حول - الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا

[عفيف عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌جهود القدماء:

- ‌المستشرقون والشعر الجاهلي

- ‌دراسات باللغة الإنجليزية:

- ‌الشعر الجاهلي في دراسات العرب المحدثين

- ‌مدخل

- ‌جهود الجامعات:

- ‌الدواوين الشعرية:

- ‌الدراسات الأدبية "الكتب

- ‌أولا: في تاريخ الأدب

- ‌ثانيًا: دراسة الشعراء

- ‌ثالثًا: مجتمعات جاهلية

- ‌رابعًا: فنون شعرية

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة

- ‌سادسًا: لغة الشعر الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة مجموعة شعرية أو ما يشبهها

- ‌ثامنًا: شعر القبائل أو ما يشبهها

- ‌تاسعًا: الطبيعة والحيوان

- ‌عاشرًا: مناهج دراسة الشعر الجاهلي ونقده

- ‌حادي عشر: النثر الجاهلي

- ‌ثاني عشر: موضوعات أخرى

- ‌الدراسات والبحوث "الدوريات

- ‌مدخل

- ‌أولًا: تاريخ الجاهلية

- ‌ثانيًا: تاريخ الأدب

- ‌ثالثًا: فكر الجاهلية ومعتقداتها

- ‌رابعًا: دراسة شعراء

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة فنية

- ‌سادسًا: مناهج دراسة الأدب الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة نصوص

- ‌ثامنًا: أغراض الشعر

- ‌تاسعًا: اللغة واللهجات

- ‌عاشرًا: النثر الجاهلي

- ‌حادي عشر: موضوعات أخرى

- ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

- ‌الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة

- ‌مدخل

- ‌المنهج الأسطوري:

- ‌المنهج البنيوي:

- ‌المنهج الاجتماعي:

- ‌المنهج النفسي:

- ‌المنهج التكاملي:

- ‌دراسات أخرى:

- ‌النصوص الجاهلية التي درست

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌المنهج التكاملي: وللدكتور عبد القادر الرباعي بحوث عدة تدور كلها حول

‌المنهج التكاملي:

وللدكتور عبد القادر الرباعي بحوث عدة تدور كلها حول الشعر الجاهلي، ولكنها تدور في محورين: الأول: الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى، والثاني: الصورة، هذه البحوث هي:

الصورة في النقد الأوروبي، ومحاولة لتطبيقها على شعرنا القديم1.

الصورة الشعرية ومجالات الحياة عند زهير بن أبي سلمى2.

شاعر السمو زهير بن أبي سلمى3.

مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة في الشعر الجاهلي: بحث في التفسير الأسطوري4.

الصورة والرؤية عند زهير5.

تشكيل المعنى الشعري ونماذج من القديم6.

التشبيه الدائري في الشعر الجاهلي: دراسة في الصورة7.

ويشكل البحث الأول الأرضية النظرية الذي يحاول أن يؤصل مفهومًا للصورة

1 نشر في مجلة المعرفة، دمشق، العدد 204 "1979"، ص27-69.

2 مجلة المورد 1980.

3 مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العددان 7، 8 "1981"، ص153-176.

4 المجلة العربية للعلوم الإنسانية، مجلد2، عدد6 "1982"، ص80-110.

5 مجلة أبحاث اليرموك، مجلد1، عدد2 "1983"، ص79-120.

6 مجلة فصول، مجلد 4، عدد2 "1984"، ص55-72.

7 بحث قدمه الباحث في ندوة المرحوم محمد الغول، جامعة اليرموك، أربد، الأردن 1984.

ص: 296

يتبناه في بحوثه، ويعرض لآراء النقاد قديمًا وحديثًا في الصورة، ويخرج بمفهوم للخيال أنه "نشاط عقلي روحي يعمل على جمع أشتات من الصور المستدعاة لغاية المشاهبة أو المنافرة، لكنه تنتظم بتأثير قوته وقوة الانفعال داخل نسق متحد منسجم"1، وهو أيضًا "قوة ذات نشاط ذهني توحد بين القلب والعقل، بين الوعي واللاوعي، تثار بحافز عميق، ويصحبها انفعال منظم، لتنتج صورًا وأشكالًا تعبر عن تجارب متجاذبة متنافرة، لكنها منظمة منسجمة، وتؤلف كلًّا موحدًا"2.

والبحث في الخيال يؤدي إلى البحث في الصورة التي ينتجها، لكن البحث في الصورة معقّد لكثرة الآراء المتضاربة حولها، ومن أجل ذلك يلزم نفسه بالاعتماد على منهج تكاملي؛ بحيث ينتخب من الآراء الكثيرة المتعددة آراء يعتقد صوابها3.

والصورة -كما يراها- واسطة الشعر التي تتشكل من علاقات داخلية مترتبة على نسق خاص أو أسلوب متميز، وهي وسيلة الشاعر في محاولته إخراج ما بقلبه وعقله وإيصاله إلى غيره؛ لأن ما بداخله من مشاعر وأفكار يتحول بالصورة إلى أشكال روحية، وبالصورة تحقق خاصية الشعر4.

والصورة بالمفهوم الفني: "أية هيئة تثيرها الكلمات الشعرية بالذهن، شريطة أن تكون هذه الهيئة معبرة وموحية في آنٍ"5 وعناصرها أربعة: عنصران متناسبان ودافع وقيمة6، أي: العنصر الظاهري، والباطني، والانفعال، والقيمة. وأنواع الصورة هي الصورة الحسية: البصرية والسمعية والذوقية والشمية والحركية، والصورة الاستعارية التي هي مظهر راقٍ من مظاهر الفعالية الخلّافة بين اللغة والفكر.

والجانب الحسّي أساس في الصور، أما الجانب الباطني من الصور فهو أفكار الشاعر ونفسيته التي هزتها تجربة عميقة، والصورة لا تلغي التشبيه، ولا تمحو الاستعارة، وإنما تقدم لنا فهمًا أعمق من الفهم الجزئي الذي ارتبط بكلٍّ منهما في السابق. ولابد من بقاء التشبيه والاستعارة وأشكال المجاز الأخرى في أذهاننا، ولكن

1 الصورة في النقد الأوروبي ص37.

2 نفسه 39.

3 نفسه 41.

4 نفسه 42.

5 نفسه ص42.

6 نفسه 43.

ص: 297

على أساس أنها وسائل مختلفة لوسيلة كبرى تضمهنَّ جميعًا1.

ويتصل بالصورة شكلان صوريان آخران هما: الرمز والأسطورة. ويجعل كولوردج الرمز "يستمد جزءًا من وجوده من الواقع"، ثم يجعله قابلًا للفهم، ومما يميز الرمز عنده شفافية الخاص في الخاص، أو العام في الخاص، أو الكوني الشامل في العام، وفوق كل شيء: إنه شفافية ما هو خالد خلال الآني وعبره"2. وهناك دلالات كثيرة للرمز يكاد ينتظمها جميعًا مفهومان: الأول شيء يدل على شيء آخر، والثاني شيء يثمل شيئًا آخر3.

أما الأسطورة: فهي "لون من ألوان الرمز، ولكنه الرمز الذي يرتبط بمبدأ "يونج" في "اللاوعي الجمعي"، ويعيش في أجزاء غيبية، فالأسطورة هي "مصدر المجاز الشعري على نطاق واسع، وهي وسيلة من وسائل الخيال، توحي بصور واسعة ذات هوية وجدانية خاصة"4.

وهو يرى أن الصورة بصفتها المركز البؤري للبناء الشعري كله تعمل بوسائلها الخاصة لتحقيق ذلك المطلب، فهي تنقسم داخل المعمل "صور متزواجة" تسير في نسق خاصٍّ تحدده الحالة النفسية لصاحبه، حتى تصل إلى النهاية وهي ترفع شارات النصر؛ لأنها بعثت كوامن الحياة في الجسم، فغدا كأي عنصر في الكون متحدًا مع الآخرين مستقلًّا بذاته وبشخصيته الخاصة، فالصور تلتقي في قطب محوري واحد، ثم تتوزع أزواجًا قد تتباع وتتنافر بحيوية وتكافؤ، ولكنها جميعًا تعمل متعاونة مع العناصر الشعرية الأخرى لتحقيق غاية الشعر الممكنة5.

ويرى أيضًا أن أهم عنصر شعري تطلب الصورة مساعدته هو الإيقاع، والعنصر الأساسي الآخر الذي يساند الصور ويساعد الموسيقى في تحقيق وظيفته السابقة هو الرؤى العاطفية أو الشعور المسيطر، إنه هو الذي يخضع الدوافع لمبدأ الانسجام6.

1 الصورة في النقد الأوربي 51.

2 نفسه 55.

3 نفسه 56.

4 نفسه 59.

5 نفسه 60.

6 نفسه 60.

ص: 298

وهكذا فعناصر الشعر الأساسية: الصور والموسيقى والشعر المسيطر. والشعر كما يراه، ليس مرآة تعكس مظاهر الطبيعة، ولكنه مرآة تنعكس فيها روح العالم وجوهره العام1.

وفي مبحثه الثاني "الصورة الشعرية ومجالات الحياة عند زهير" اختار الباحث زهيرًا لما لهذا الشاعر من مكانة اجتماعية وفنية هامة في عصره.

أما مجالات الحياة التي عناها فهي مجموع العلاقات القائمة أو المحتملة بين الإنسان والمظاهر الوجودية كلها، وهو يراها موزّعة على الأنواع الخمسة التالية2: الإنسان - الحياة اليومية - الطبيعة - الحيوان - الثقافة.

وكان زهير يولي الحياة اليومية جلّ اهتمامه كما توحي بذلك صوره في ديوانه، وهذا التوزيع لم يأت مصادفة، ولكنه مشكّل من ارتباطات داخلية للأنا الشاعرة بالآخر "الكون أو الحياة والوجود"3.

واختار الباحث من من الحياة اليومية المظاهر التالية: الأطلال، والظعائن، والرحلة، ومشاهد الصيد، والحرب والسلاح، والسقاية، والخيمة "طبيعة السكنى"، وزينة القوم "الثياب والألبسة"، والنار، والحبل، والمال4.

وفي حصر الباحث الصور المتصلة بكل مظهر من هذه المظاهر، وحاول التغلغل إلى أعماق الظاهرة، ففي الطلل حاول أن يفتش عن العلاقة الداخلية بين المرأة والأطلال من خلال وظيفة كلٍّ منهما في الحياة الجاهلية5، ويرى أنه إذا كان المكان طرفًا ثابتًا في الأطلال يتلقى تحوّل الحال، ويسجل مظاهره، فإن الزمان طرف متحرك ينقل الأبعاد المختلفة والمتضادة لهذا الحدث المتحول6. أما الرحلة فيراها منهج حياة في ذلك العصر، ولكنها عند الشاعر وضع شعري يرتبط بشكل تأليفي تآلفي مع الظعائن والأطلال. وإن أهم ما يجب الالتفات إليه عند زهير في رحلته:

1 الصورة في النقد الأوربي 61.

2 الصورة الشعرية ومجالات الحياة عند زهير، مجلة المورد العراقية، مجلد9، عدد3،:1980"، ص11.

3 نفسه 11.

4 نفسه 12-23.

5 نفسه 12.

6 نفسه 13.

ص: 299

الدافع النفسي للرحلة.

وأداة الرحلة.

وطبيعة المكان المرتحل إليه.

وأبعاد الزمن الذي تمتد الرحلة فيه1.

وفي مشهد الصيد عندما يصل الشاعر إلى النهاية يجعل فيها النصرة للثور والنجاة للقطاة، وإن الشاعر زهير حينما احتاج إلى أن يوجد معادلًا موضوعيًّا لقوة ناقته ونشاطها شبهها بهذا الثور المسنّ المجرب لمداخل لحياة ومخارجها، بعد أن تعوّد على الرحلة والانتقال من بلد إلى آخر2. ويذهب الباحث بعيدًا ويعتقد أن كل هذه المشاهد مشاهد الصيد، والتوجيهات المختلفة إلى توجه صورها دلائل رمزية خاصة بالشاعر ومواقفه من قضايا الحياة الكبرى، وبخاصة قضايا الصراع الإنساني، ثم مفهومه من الحق والباطل، فالباطل خاسر في النهاية حتّى لو تمتّع بالقوة والكثرة3.

أما المجال الثاني مرتبة فهو "الإنسان"4، وأول الجوانب كان النموذج الإنساني بشكل عام "الفرد" الذي يتألّف من عنصرين أساسيين هما: القاعدة الشعورية والسلوك الإنساني. ولاحظ الباحث أن صور القاعدة السلوكية مصروفة عنده إلى الخوف والكراهية والحقد والطمع والحزن والعزة.

ومن جوانب الإنسان الأخرى حركته، كما استعار الشاعر أيضًا بعض الصور من حواس الإنسان أو ما هو مصروف إليها مباشرة، وقد أكثر من الصور التي لها علاقة بحاسة النطق. والتفت أيضًا إلى جسد الإنسان، فاستعاد صورًا لبعض أعضائه. كما رسم صورًا لمرض الإنسان، واهتم أيضًا بموت الإنسان.

أما المرأة: فهي في شعر زهير جميلة الهيئة والصورة تمامًا، وقد أقام العلاقة بين المرأة والرجل على أساس الوظيفية التي ارتبطت بصفة كلٍّ منهما، فالرجل هو صاحب الحركة والنشاط والفعل خارج البيت، أما هي فخبيئة بيتها تنتظر من يخطبها. وهي تعرف طريقها إلى قلب الرجل، وكيف تحافظ على تعلقه بها.

1 الصورة الشعرية ومجالات الحياة عند زهير، 16.

2 نفسه ص18.

3 نفسه 19.

4 نفسه 23-27.

ص: 300

وهكذا تظل العلاقة بينهما حيوية متجددة، وهي حريصة على المال.

والمجال الثالث هو "الحيوان"1: وقد اهتم زهير بالحيوان الأليف وخصّ الإبل والخيل والكلاب، وكان للناقة نصيب طيب، وقد كان يعادل بينها وبين حيوانات أخرى كالفحل "في القوة"، والقطاة "في السرعة"، وحمار الوحش "في السرعة"، وفرس الأخدري "السرعة"، والجبل "في الصلابة"، والقصر "العظم والصلابة". أما الخيل فقد شبهها بالناقة "في السرعة"، والثور الوحشي تطارده كلاب الصائدين "في السرعة". ولاحظ الباحث أن صورة الخيل يكثر ورودها في مجال الحرب. أما الكلاب فارتبطت بمشاهد الصيد، وصورتها تشبه صورة الإنسان العاجز الذي يسلم زمام أمره أحدًا آخر يستغل قدراته ويوجهها كيفما يهوى. ورسم الشاعر للأسد من الحيوان البري صورًا شتّى، كان يعادل فيها بينه وبين ممدوحيه. أما المها والظبي فكان يستعيد صورتيهما في مجال وصفه جمال محبوبته "جمال العنق والعينين". وأما النعام فلوصف سرعة ناقته، وكذلك الحمار الوحشي "في السرعة للناقة، وحرصه على أتانه حرص الإنسان على ما ولي من أمر"، وكذلك البقرة الوحشية في حرصها على وليدها. أما الذئب فشبه اهتزاز السيف باهتزاز جسمه وهو مسرع، ومن الطير اهتمَّ بالصقر والطقاة "للسرعة"، وفي شعره بعض صور متفرقة للحبارى والحمام والغراب والصرد.

وينبه الباحث إلى أن حياة الحيوان كانت لدى زهير مجالًا حيويًّا لعرض مواقفه وآرائه من حياة البشر داخل المجتمع الجاهلي الذي كان يعيشه2.

أما "الطبيعة" فاحتلت المرتبة الرابعة في خياله، وأبرز مظاهرها المطر والسحاب اللذان عادل مرارًا بينهما وبي نعمة ممدوحه أو كرمه، وعادل في صور أخرى بين السحاب والأرض في أشكال التضاريس والألوان التي لهما، وكذا بين صوت الحركة للصائد وصوت المطر يتخلل ورق الشجر والنبات، وقد أطلق كثيرًا لفظة "السماء" على المطر.

أما الشجر فقد عادل الإنسان في أصله وفروعه بالشجر المتماثل الإنماء، والمعاداة بين الشجر والإنسان عنصر أساسي من عناصر تصوير الشاعر، واستعاد

1 الصورة الشعرية ومجالات الحياة عند زهير 27-31.

2 نفسه ص30.

ص: 301

صورًا لأنواعٍ من الشجر كانت لها أهمية في عصر الشاعر كالنخل والدوم، واهتمَّ بالنبات الأخضر والأرض الممرعة، فرسم منها صورًا ملائمة، وصور الأرض التي لها رسمها متضادة تذكرنا جيدًا بأحوال الحياة المتناقضة.

والملاحظ أن الشاعر شغف كثيرًا بالجبل "يشبه الكتيبة المدافعة عن الثغر بحبل يلتف حوله رجال كثر"1 وثمة صور قليلة وردت في الشعر للقمر والليل والنهار والخريف والشتاء والربيع. حقًّا، كما يقول الباحث، "لقد كانت صور الطبيعة بالنسبة للشاعر متنفسًا جديدًا يتوصّل عن طريقه إلى أبسط المواقف الفكرية والشعورية من الوجود"2.

أما "الثقافة" فكانت المجال الخامس من مجالات الحياة.

أما البحث الثالث: فهو "شاعر السمو زهير بن أبي سلمى"3 فالشعر الجاهلي متميز، كما يقول الباحث، بالإشراف والبساطة مع العمق والشمول، وينظر إلى أعلامه على أنهم الفلاسفة الأول الذين ابتكروا المعاني وشققوها بقدرتهم الذهنية، وبإخلاصهم في الوصول إلى حلول مقنعة لمسألة الإنسان والوجود4.

وقد اختار الباحث زهيرًا، وهو مجال معظم أبحاثه، ليتناوله من زاويتين: زهير الإنسان بأصوله وفروعه وسماته الخلقية والمسلكية. والزراوية الثانية: زهير الشاعر، بهدف الوقوف على قدراته الفنية التي جعلته شاعرًا متميزًا في خصائصه ومذهبه. وعندما عرض الباحث لحب زهير مع استمراره في وفائه لأم أوفى، رأى فيها وفي موقف الشاعر يعكس لنا مفهوم الناس في عصره للزواج والحب على حدٍّ سواء5.

وفي محاولة الباحث لتعداد خصاله الحميدة مدللًا بالشعر الذي قاله، وبمواقف حياتية له، فيرى أنه كان من النفر الذين كانوا يحاسبون أنفسهم كثيرًا ليقتربوا من الخير، ويبتعدوا عن الشر، ولهذا استقام خلقه، وباعد بينه وبين الموبقات، كالخمر والميسر والأزلام، ولقد تساوت بذلك نفسه، وابتعدت عن تدني المجتمع الجاهلي.

1 ديوان زهير 107.

2 الصورة ومجالات الحياة في شعر زهير 32.

3 نشر في مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد المزودج 7، 8 "1981"، ص152-176.

4 نفسه 152.

5 نفسه 157.

ص: 302

وسقوطه في الحضيض، وبذلك اقترب من الإيمان1.

وزهير، في نظر الباحث، ذو خلق جميل، مشدود برباط الإيمان دائمًا، وبلغ من إيمانه أنه خشي عقوبة الله؛ لأنه هجا بني عليم بن خباب بدون حق2، وهو يستغل حادثة غير منطقية لحثِّ المجتمع على رؤية الخطأ في نظامه الاجتماعي، فلو كان العدل هو الذي يسيره لما احتاج إلى أن يقبل هذا الأمر الغريب، وكانت تلك الحادثة هي الديات التي أخذت بغير حق؛ لأن الذي تحمّل دفعها لا ذنب له سوى حبه أن يسود الصفاء بدل الشر3.

ولقد كان زهير أليفًا لمن عرفهم واختلط بهم، مهما كانت مستوياتهم الاجتماعية، وعلى أية صفة كانت علاقته بهم، وكان وفيًّا جدًّا، وليس أدلّ على الوفاء الذي فُطِرَ عليه من إصراره ردّ الراعي البسيط "يسار"، وعدم حرصه على استرداد بقية ماله، وكان كذلك وفيًّا لزوجه "أم أوفى"، فقد ظلّ يذكرها بأحسن ما تذكر به أنثى بالرغم من انفصالها عنه.

وكان زهير متعففًا يترفع عن الماديات في علاقاته دائمًا، وقد ظهر ذلك جليًّا في تعامله مع ممدوحيه وبخاصة هرم بن سنان4، وصفوة القول، كما يرى الباحث، أن زهيرًا يشتغل في شعره، بقضايا إنسانية بالغة الدقة والخطورة في مجتمع جاهلي بدائي كانت تسوده، إلى حد كبير، شريعة باغية قاسية، لذا احتاجت من الشاعر قدرًا كبيرًا من التجرد والتفكير لوضعها وضعًا مؤثرًا. فالشاعر متألم جدًّا للأوضاع السيئة التي ينحدر إليها مجتمعه، وقد مثّل تألمه هذا في صورة شعرية توحي بأن طريق الخلاص هي السير مع حسّ السلام الذي بدأ يتخذ جانبًا إيجابيًّا فاعلًا، ومع كل ما من شأنه ترسيخ قيمٍ أو مُثُلٍ عليا فوق الأرض. ومن هنا التقى كلام الشاعر في دعوته الإصلاحية مع الخلق الإسلامي الذي جاء بعيد موته5.

وأما البحث الرابع فهو "مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة في الشعر

1 زهير شاعر السمو160.

2 شرح ديوان زهير 56، والأغاني 10/ 309.

3 شرح ديوان زهير 25 وما بعدها.

4 معاهد التنصيص 2/ 110.

5 زهير شاعر السمو، 167.

ص: 303

الجاهلي"1، وهو بحث في التفسير الأسطوري للشعر الجاهلي، ويقرر الباحث في ملخص بحثه أنه اتخذ من الصورة الشعرية محورًا للكشف عن المعنى في الشعر الجاهلي. ولكي تتحقق خصوصية هذا الشعر ربط البحث دراسة الصورة فيه بعقلية الجاهليين، والعناصر الحياتية البسيطة التي تيسرت لهم، فأدخلوها في تركيب أشعارهم، واتخذ البحث -من أجل ذلك- من النظرة الأسطورية التي كان عليها الإنسان البدائي منطلقًا للكشف عن ماهية الصورة الجاهلية والمعنى الجاهلي، ذلك لأن الديانة الوثنية التي كان عليها العصر الجاهلي كله فرضت هذه النظرة في تصور الإنسان الجاهلي للحياة والوجود.

استعان لإثبات ذلك الذي ذهب إليه بجولة في العقلية الدينية السحرية والخرافية، وما كمن خلفها من اندماج روحي بالأشياء، وهو الاندماج الذي تحققه الصورة الشعرية بشكل عام.

وتابع البحث بعد ذلك السمة الصورية في مواضعها من الشعر الجاهلي: في الكلمة، وفي التشبيه، والاستعارة، والوصف، والقصص، مفيدًا في ذلك كله من طبيعة المقارنة بين العناصر والحدود التي تصدر عنها الصورة الشعرية.

وقد حاول الباحث تجاوز الحسية والغرض ووحدة البيت والجزئية التي ما زالت الدراسات التقليدية تنتهجها، وطرح بدائل أكثر شمولية، فربط الشعر الجاهلي بالتجربة الوجدانية للإنسان العربي القديم حتى أصبح الحسّ روحًا، والغرض حدثًا، والوحدة الجزئية بناءً دراميًّا تتفاعل على داخله المتشابهات والمتنافرات لتشكّل وحدة نموذجية جذرية، يلتقي فيها الواحد بالمتعدد، والذات بالمجموع، والخاص بالعام.

وينطلق الباحث في مناقشاته النظرية والتطبيقية من نظرية شمولية عامَّة للشعر؛ حيث هناك عنصر عام مشترك يجمع الشعر في كل زمانٍ ومكانٍ، هو حاجة الإنسان إلى تعبيرٍ قولي منظم عن تجربته ومعاناته في مواجهة الكون والوجود.

وغرض البحث، كما حدَّده الباحث، رسم مسار عام يمكن لأية دراسة تفصيلية مشابهة أن تسلكه2. وأما اختيار العنوان:"دراسة المعنى بالصورة"، فإنما

1 نشرته المجلة العربية للعلوم الإنسانية، المجلد الثاني، العدد السادس "1982"، ص80-110.

2 نفسه ص81.

ص: 304

اختاره للتغلب على معضلة نقدية قديمة، وهي الفصل الذهني بين الشكل والمضمون، أو المادة والبناء، عن طريق حرف العطف "الواو" الذي يقوم فيهما بفصل الشيء عن ذاته1.

ويذهب الباحث بعد استعراض آراء النقاد الغربيين إلى تبني أن الصورة بنضارتها وتكثيفها وقوة الاستدعاء فيها، تتولد بعد مواجهة حقيقة من الشاعر للعالم، وإقبالٍ روحي عليه، واندماج كلي فيه. لذا تصبح رؤيته فيها خاصة، وأقلّ ما توصف به أنها رؤية داخلية متميزة لعالم جديد متميز، وهي رؤية تبتعد عن العادي المألوف، أو العلمي الدقيق، وتجري وراء الخفي البعيد المدهش2.

أما عن دراسة الأدب الجاهلي: فيرى الباحث أن هذا الشعر يظلّ وإلى الأبد يفرض نفسه على كل جيل، ومن هنا تغدو دراسته ودراسة الشعر القديم بعامَّة بعقلية جديدة إحياء له في الشعور والوجدان، وهو رأي اقتبسه وتبناه من بعد الدكتور شكري عياد.

وللصورة عنصران أساسيان لا بُدَّ لكل ناقد من اكتناهها، وهو يتعامل معها وهما:

1-

نوعية العناصر الداخلة في تركيب الصور وعلاقتها المتشابكة.

2-

طبيعة العقلية المشكلة لذلك التركيب ورؤيتها للوجود.

ويفترض الباحث أن الإنسان الجاهلي ذو تفكير وثني، وأن مثل هذا التفكير يثبت أنه كان يحتفظ بمقدار كبير من الطبائع العقلية لأجداده القدامى، وأنه كان يصر على الاحتفاظ بهذه الطبائع، وذلك استنادًا إلى قوله تعالى:{بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُون} 3.

والجاهلي بدائي، من وجهة نظر الباحث، وليس بدائيًّا بمفهوم التخلّف كما فهمت من مناقشتي معه، ولكنه لأنه يشكل نقطة البدء الحضارية للعرب. والبدائي

1 مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة 81.

2 نفسه 82.

3 سورة الزخرف آية 22.

ص: 305

إنسان يتصرف لحل قضاياه الوجودية بدوافعه الروحية أكثر من وعيه العقلي المجرد1.

ويؤكد حقيقة لها أثرها في تركيب هذا البحث، هي أن هذه العقلية الجاهلية ذات الطابع البدائي في مواجهتها لظواهر الكون ومشكلات الحياة كانت تحقق النظرة الأسطورية التي ترى الأرواح حالة في كل مكان ومتلبسة كل جماد، وهي نظرة تجمع بين الأشياء والأحياء في وحدة وجودية شاملة؛ بحيث يغدو الإنسان البدائي فيها لا يتصور عالمه الطبيعي صامتًا، وإنما يتصوره حيًّا مدركًا، وبهذا يلتقي الأسطوري والشعري2.

والأسطورة أو النظرة الأسطورية توحد بين الدين والسحر والشعر، أو الفن بشكل عام. ويرى فريزر أن الإنسان الوثني القديم أراد السيطرة على الكون والأرواح الدنيا بالتماس العون من الأرواح العليا مستخدمًا هذه الوسائل الثلاث3.

وفي الجزء المتبقي من البحث يحاول الباحث أن يدرس المعنى بالصورة بالتقاط صور من الشعر الجاهلي تدخل في المجال الذي اختاره، وضمن المنهج الذي اختطه لنفسه، ومن الصور:"صورة الوشم الذي شبه به الطلل"4، ورأى أن صورة الوشم، الطلل لم تكن خارج الذات عندهم، وبذلك أمكن لهذه الصورة عندهم أن تحقق رمزًا عامًّا يرتبط فيه كل واحد بسبب قريب أو بعيد، وكان الطلل عند الجاهليين لحظة تنويرية في الزمن الوجودي للإنسان5.

وهناك مظهر شعوري آخر يدور حوله جدل، هل هو صورة أم لا. ذلك هو "الوصف الحسي الواسع"، لبعض الظواهر والموجودات التي كان لها تأثير آنذاك؛ كالمرأة والناقة والفرس والظبي والصحراء والمطر والشجرة. واكتفى الباحث بتتبع صورة الفرس6.

1 دراسة المعنى بالصورة 85.

2 نفسه 85-86.

3 نفسه 86.

4 نفسه 87.

5 نفسه 88.

6 نفسه 91 وما بعدها.

ص: 306

واستنتج الباحث نمطًا ثالثًا جديدًا كان مثار جدل، وهو تلك القصص المروية عن الحيوان الذي شبهت به الناقة أمثال: الثور والبقرة وحمار الوحش والقطاة والظليم1.

ويذهب الباحث إلى تقرير أن الثور صورة للناقة، وأن الاثنين معًا صورة للإنسان، فهو المحور الذي ترتد إليه أو تقاس به كل الصور2، كما يذهب إلى أن الكلاب، أي: الصائد، في عقلية الجاهليين، ملازمة للثيران أبدًا، والصراع بينهما ثابت، وأن الكلاب كانت شخصية مكروهة مرفوضة في العصر الجاهلي، فهي تمثل الشرّ وترمز إليه3.

وأخيرًا يقرر الباحث أن الصورة الشعرية الجاهلية هي ابنة العقلية ذات الاستراتيجية الروحية في تعاملها مع الأشياء، لذلك كانت منابعها هي المنابع الجاهلية التي شكلت الأصنام الوثنية والشعائر الدينية، ثم الممارسات السحرية والحكايات الخرافية، وهي منابع تعود إلى أحلام الأمة القابعة في الذاكرة العرقية واللاشعور الجمعي، وغدت الصورة تصويرًا لنماذج عليا4. وإن معنى الصورة الجاهلية هو المعنى الفائق للعادة الذي لم تحققه أو تسعى لتحقيقه الذات الجاهلية فقط، وإنما الذات الإنسانية في كل زمان ومكان. ولهذا التقت دلالات الصورة المحللة في هذا البحث مع الدلالات العالمية للمنطلقات السلوكية في الدين والسحر والفن، أو الشعر عند الإنسان القديم، وهكذا كان الشعر الجاهلي كما عبَّرت عنه صوره أبعاد معنوية ترتد إلى تجربة الإنسان التي اتخذت طابعًا عالميًّا5.

ويرى أن مثل هذا التوجه في التفسير للشعر الجاهلي يزيح ثلاثة حواجز وقفت أمام دارسيه وهي6:

أولها: إن الحسية، وهي مما اتهم به، ما هي إلّا واجهة مادية لحاجة روحية بعيدة الغور والامتداد.

1 مدخل إلى دراسة المعنى بالصورة 93، وما بعدها.

2 نفسه 95.

3 نفسه 97 وما بعدها.

4 نفسه 103.

5 نفسه 104.

6 دراسة المعنى بالصورة 104-105.

ص: 307

ثانيها: إن الأغراض الشعرية ما هي إلّا مسائل خارجية ينطلق الشاعر منها إلى تمثّل حاجاته الإنسانية بالحدث الصراعي البطولي، وهذا يتطلب الغوص بدلًا من التوقف عند سطحها.

ثالثها: إن وحدة البيت والفكرة ليست بذات قيمة إلّّا إذا انتظمت في وحدة العمل الفني الكلي.

وفي البحث الرابع "الصورة والرؤية عند زهير بن أبي سلمى"1 يحاول الباحث أن يكشف وجه آخر من أوجه الصورة عند زهير هو "المعنى" بعد أن تنول "المصدر" في بحث سابق2، وهذا يدل على أن هذا البحث الذي نعرض له تأخر في نشره حيث هو فنيًّا وزمنيًّا تالٍ لذلك البحث المنشور عام 1980. وهذا البحث يهدف إلى جلاء أبعاد المعنى ومستوياته وتشابكاته كما توحي بها الصور على اختلاف درجاتها التركيبية3.

وبادئ ذي بدء يقرر بأن الصورة الشعرية قد ركبت فيه تركيبًا إنسيابيًّا يعتمد أسلوب الحكاية أولًا، والتعلق بالفعل الحركي ثانيًا4. وإن أول ما تفرضه علينا طبيعة الصورة عند زهير هو التعامل مع الشاعر على أساس معدنها الإنساني الذي تتوحد فيه الاتجاهات المختلفة جميعًا5.

وإن زهيرًا كان ينقل العلاقات والدلالات من جوِّ الإنسان إلى جوِّ الحيوان وبالعكس6. ولعل هذا مرتبط بالطوطمية بمظهرين: اجتماعي وأسطوري.

وأما المرأة فيرى الباحث بأن التوحيد بينهما وبين القبيلة قائم في خيال زهير ورموزه، وأن العلاقة بين الشاعر والمرأة في كثير من مقدمات قصائده قد ترتد إلى العلاقة بين الفرد والقبيلة7، وأن توحد المرأة بالقبيلة في شعر زهير وربما في الشعر

1 نشر في مجلة أبحاث اليرموك، جامعة اليرموك، أربد، الأردن، المجلد الأول "1983" 79-120.

2 نشر في المورد العراقية.

3 الصورة والرؤية 79.

4 نفسه 79.

5 نفسه 80.

6 نفسه 83.

7 نفسه 86-87.

ص: 308

الجاهلي أيضًا مرتبط بمجموعة من القيم المتماثلة التي تحدد مستويات الارتباط بهما، ولكن لباحث لا يلبث أن يستدرك بأن ما أورده لا يعني أن المرأة دائمًا ترمز إلى القبيلة أينما وجدت في قصائد الشاعر، بل ربما كانت امرأة حقيقية، بصفتها وطبيعتها1.

وثمة ظاهرة أخرى، وهي حب الفرد للقبيلة، ويعزز هذا ثنائية أخرى مهمة في التكوين الاجتماعي هي الاغتراب والتوحد، وقد انعكست هذه الظاهرة بشكل حاد في ديوانه2، ولهذا التوحد مردود أمني يتجاوز حدود الفرد إلى المجموع3.

وثمة ثنائية أخرى في شعره هي ثنائية الثابت والتحوّل التي تشكّل معنى اجتماعيًّا كبيرًا ناقشه زهير مناقشة شعرية جادة؛ لأن فيه موقفًا مبدئيًّا نابعًا من عاطفتي الحب للعشيرة والإخلاص لمبادئها العليا "هرم بطل زهير الاجتماعي"4.

والرحلة تشكل صورة مركزية في كثير من قصائد زهير، وهي لا تنفصل بحالٍ عن حاجته الداخلية للتحول من حال إلى حال، لذلك يأتي موقعها وسطًا بين عالمين من القصيدة: عالم عطلت فيه الحياة، وعالم دبت فيه الحياة، ولهذا اتخذت طابعًا قاسيًا5. فحركة الظعائن هي حركة نحو البديل الأجمل6.

وأما الموت فقد شكلت رؤيا البقرة وافتراس السباع ابنها، سلوكًا شعريًّا أدار عليه زهير كثيرًا من صوره الكبرى7، وقد عبر عن الموت الذي يأتي بالحياة في صورة مفردة، وفي مجالات أخرى أحيانًا كموت المال الذي يكون لابتعاث حياة جديدة. فالمغالبة العنيدة الذكية شعار زهير في فلسفة الموت والحياة، ولكنها مغالبة الأمان والسلام المتوازن للذات والآخرين، وفي هذا حل للتناقض الذي يبدو في دعواته المتكررة للسلام8.

وأما المكان فقد تعلّق به زهير وأحسّ بفاعليته، هو عنده موضع للموت

1 الصورة الرؤية عند زهير 89.

2 نفسه 89.

3 نفسه 91.

4 نفسه 101.

5 نفسه 103 وما بعدها.

6 نفسه 108.

7 نفسه 109.

8 نفسه 111.

ص: 309

والحياة، وأن جدلية الموت والحياة فوق الطلل قد انحلت في ثنائية أخرى هي الإنسان/ والحيوان البري، وغياب أحدهما كان يعني حضور الآخر1.

وأما الزمان: فقد أحسّ به الشاعر كثيرًا، وقرنه بالطلل دائمًا، ولكن الزمان في الطلل ارتدادي من الحاضر إلى الماضي، وهو موحّد الأطراف يجمع أوقاتًا متباعدة على رقعة مكانية واحدة موحدة أيضًا2.

وفي نهاية رحلة البحث ربط بين رؤية الشاعر وفلسفة العمل، فهي التي كانت وراء موقف التحدي في كل المسائل الوجودية التي ناقشها الباحث. لقد كانت قائمة في العلاقة التي صوّرها بين الفرد والقبيلة، والموت والحياة، والزمان والمكان، وغيرها. وهي فلسفة فجَّرها عند الشاعر عشق روحي للأبعد، ولذا رفض الثبات وعاش التحول على قسوته، وقاومه الاغتراب ودعا إلى توحد كامل قوي، كما واجه قدره فانتزع الحياة من الموت، وتمرد على المكان القيد، فانطلق يرتاد أماكن التحرر والانعتاق، وأبى أن يعيش أسير الماضي فجدَّ في أن يصوغ منه ومن الحاضر قاعدة للسياحة في الآتي اللانهائي، فالعمل عنده عمل القيمة والوجود، وبذلك كله حقَّق زهير ما سمي بالإنسان العزيز العنيد الذي يصارع لتلتئم أجزاؤه، ويسمو على عبوديته للزمن3.

أما البحث السادس "تشكيل المعنى الشعري ونماذج من القديم"4: ويرى الباحث أن الناقد يستطيع أن ينظر إلى مجموع التزامات أو العلاقات من خلال تشكيلين أساسيين للمعنى هما: التشكيل المكاني والتشكيل الزماني، وهذان التشكيلان هما محور المعالجة في بحثه هذا من خلال نماذج من الشعر العربي القديم5.

ويغدو المكان ذا فائدة حينما يحوّل الأدب إلى موضوع أو مادة في أجمل معانيها، والرؤية تتحقق فعلًا حينما نصبح قادرين على تجميع العلاقات في محاور متصاحبة في مكان ما يبرز نظامها، وهذا يجعل إمكانية رؤية التجربة الأدبية أكثر

1 الصورة والرؤية عند زهير 113.

2 نفسه 113-114.

3 نفسه 117-118.

4 نشر في مجلة فصول، مجلد 4، عدد 2 "1984"، 55-72.

5 نفسه 56.

ص: 310

حيوية وإبداعية، ويمدنا كذلك بمحور مركزي لمجموعة العناصر القابلة للمشاركة1. والباحث من خلال عرض نماذج من الشعر القديم يثبت أن التشكيل المكاني الشعري قد منح حواسّنا القدرة على الإدراك الحدسي الذي تجاوزنا به سطوح المواد المتجمعة إلى الأعماق البعيدة المفتوحة على اللا محدود من الأمكنة2.

أما الطاقة التي تعطي المكان القدرة العظيمة، فهي طاقة الخيال التي تتحوّل فيها الأشياء الصغيرة إلى عوالم واسعة، ولذا ربط النقاد المكان بالخيال3. وهذا يخلص الباحث إلى أن الصورة الشعرية تستوعب صفات التشكيل المكاني، أي: الطرف الأول في تشكيل المعنى الشعري.

وأما التشكيل الزماني فيستوعب صفاته الإيقاع الموسيقي، ويتناول الباحث الإيقاع في بعدين: البعد الطولي وهو الحركة الترددية التي تعتبر الأشياء أثناء قراءتنا من اليمين إلى اليسار، وتؤلف إيقاعًا موضعيًّا. والثاني: البعد الشاقولي، وهو يعني: الحركة التزامنية التي تعبر القصيدة من أولها إلى آخرها، وتؤلف إيقاعًا بنائيًّا. ويثمل ببائية أبي تمام على البعد الإيقاعي الأول، بينما يمثل للبعد الثاني بسينية امرئ القيس، ولامية ضابئ البرجمي4.

ويخلص الباحث إلى القول بأن المكان في الأدب يحتاج إلى الزمان، لأنه يتشكل فيه ويتحرك بحركته عبر أشيائه، وإن الزمان يؤلف من مجموع الأصوات الرفيعة مكانًا نغميًّا تعرضه الأذن متحركًا عبر المكان، فيدرك ويفكر بأبعاده وعلاقاته5. أما النتيجة الختامية لجولته النظرية التطبيقية هي أن مجموع التشكيلات المكانية والزمانية في الشعر تتفاعل معها لبناء شبكة من العلاقات المختلفة التي تتقارب وتتباعد في أوضاع تزامنية وتواؤمية لخلق رؤيا إبداعية تنشأ عند الشاعر أولًا، ثم تنحل في الناقد فتحرك طاقات الإدراك الكامنة عنده ثانيًا، ويتولد المعنى الأعمق للإنسان والوجود من خلال التفاعل بين الرؤيا عند الأول والإدراك عند الثاني6.

1 تشكيل المعنى الشعري 56.

2 نفسه 64.

3 نفسه 64.

4 نفسه 65-86.

5 نفسه 68.

6 نفسه 71.

ص: 311

والبحث الأخير هو "التشبيه الدائري في الشعر الجاهلي: دراسة في الصورة"، ويعرف التشبيه الدائري بأنه المشاهبة التي يحدثها الشاعر بين شيئين أو أشياء في تركيب فاتحته نفي بحرف "ما"، وخاتمته إثبات بحرف "الباء"، واسم التفضيل الذي على وزن "أفعل"1، ويسرد الباحث تاريخ هذا المصطلح في النقد العربي القديم، وخلص إلى أنهم لم يعدوه نوعًا من التشبيه، بل نوعًا من البديع، واختلفوا بعد في تسميته. ولم يكن حظ المحدثين بأوفر من القدامى، لذا فقد سموه بأسماء مختلفة2، لذلك اصطنع لنفسه هذا المصطلح الذي لم يرد كاملًا عند أحد.

وقد نبه الباحث إلى أن هذا التشبيه كثر وروده في الشعر الجاهلي إذا ما عد لونًا مميزًا، فقد أحصى ثمانية وخمسين تشبيهًا دائريًّا لدى اثنين وعشرين شاعرًا، ولكن شاعرين برزا في هذا اللون هما: الأعشى وأبو ذؤيب الهذلي3. ولاحظ الباحث أن هذا التشبيه ترتد عناصره إلى مصادر أساسية ثلاثة: الحيوان والطبيعة والإنسان4.

أما الحيوان: فتتوزع على الظبية والأسد والنعامة والصقر، وأما الطبيعة: فكان التشبيه موزعًا بين الماء والنبات والصخر، وأما الإنسان: فتوزّع بين شراب الإنسان والنماذج البشرية والأم.

ويربط الباحث بين النماذج التي عرضها والحكاية القصيرة أو الطويلة، ولاحظ أنها تركز أولًا على الحدث أكثر من الصفة، وأنها تطور الشخصيات المحركة لها والمتحركة بها، وأنها اهتمت بالمكان والزمان، وهكذا غدت الملامح القصصية في التشبيه الدائري من أهم الظواهر المشتركة بين نماذجه المتعددة في العصر الجاهلي.

وقد ربط الباحث أيضًا بين هذا التوجّه القصصي والحكاية الخرافية التي حصرها الشاعر في مشاهد متعددة في القصيدة الواحدة، ولهذا صلة بالعقلية العربية في العصر الجاهلي.

1 قدم في ندوة المرحوم محمود الغول، جامعة اليرموك، أربد، الأردن، 1984، ونشر في المجلة العربي للعلوم الإنسانية، عدد17، 1985، ص124-153.

2 نفسه 2.

3 نفسه 2-3.

4 نفسه 5.

5 نفسه 6.

ص: 312

وبز من وظائف التشبيه الدائري أحيانًا تحقيق الوحدة في القصيدة، وكان الإنسان الجاهلي في التشبيه الدائري يشق طريقه وسط متناقضات رهيبة تهدد حياته بالدمار في كل لحظة؛ ففي النماذج التي صورها الشاعر قد رفع هذه النماذج فوق صور البشر، وقربهم من صور الإلهية كما جسدتها العقلية الوثنية العربية.

والملاحظ أن الشاعر شغف كثيرًا بالجبل "يشبه الكتيبة المدافعة عن الثغر بجبل يلتف حوله رجال كثر"1 وثمة صور قليلة وردت في الشعر للقمر والليل والنهار والخريف والشتاء والربيع، حقًّا، كما يقول الباحث:"لقد كانت صور الطبيعة بالنسبة للشاعر متنفسًا جديدًا يتوصّل عن طريقه إلى أبسط المواقف الفكرية والشعورية من الوجود"2.

اما "الثقافة" فكانت المجال الخامس من مجالات الحياة، ويتبنى الباحث مفهومًا للثقافة بأنها:"القاعدة الخلقية والفكرية التي يرتكز عليها أسلوب الفرد الاجتماعي"3، ومن ذلك الكتابة التي عرفها الناس وشاعت في زمانهم القديم، وفيها استعادته أخبار السلف وبخاصة جوانب القصص الذي كان يشكل في خيال الناس قضية من قضاياهم المصيرية "قصة أحمد عاد أو ثمود" الذي كان أمثولة الشؤم عندهم". ومن ذلك أيضًا ما يشعرنا بزراعتهم وصناعتهم وألعاب الأطفال بالخذروف "ومقلالًا الوليد"، ومن عاداتهم الدية وتقاسم الماء عندما يقل بحصاة "حصارة القسم"، وقرى الضيف وخرب الأيسار وتسنيح الطيور وإدخال الأيدي في عطر، فشم للتحالف وإيقاد النار للكرم أو للحرب ورفع اللواء في المعارك، ومنه الطقوس الدينية التي صورها زيارتهم للأماكن المقدسة وحلاقة رءوسهم، وتقديم الضحايا والقرابين لمعبوديهم. ومن مجالات التعامل بينهم التداين الذي شكّل عندهم قاعدة السلوك4، ويخلص5 إلى أن الصور الثقافية أعطت -على قلتها- فكرة وافية عن البنية الداخلية التي كانت تؤلف القاعدة لكل سلوك فردي واجتماعي في عصره.

1 ديوان زهير 107.

2 الصورة ومجالات الحياة في شعر زهير 32.

3 نفسه 32.

4 نفسه 33.

5 نفسه 34.

ص: 313