المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌المنهج الاجتماعي: إن دراسة العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمة قدم فكرة - الأدب الجاهلي في آثار الدارسين قديما وحديثا

[عفيف عبد الرحمن]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة:

- ‌جهود القدماء:

- ‌المستشرقون والشعر الجاهلي

- ‌دراسات باللغة الإنجليزية:

- ‌الشعر الجاهلي في دراسات العرب المحدثين

- ‌مدخل

- ‌جهود الجامعات:

- ‌الدواوين الشعرية:

- ‌الدراسات الأدبية "الكتب

- ‌أولا: في تاريخ الأدب

- ‌ثانيًا: دراسة الشعراء

- ‌ثالثًا: مجتمعات جاهلية

- ‌رابعًا: فنون شعرية

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة

- ‌سادسًا: لغة الشعر الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة مجموعة شعرية أو ما يشبهها

- ‌ثامنًا: شعر القبائل أو ما يشبهها

- ‌تاسعًا: الطبيعة والحيوان

- ‌عاشرًا: مناهج دراسة الشعر الجاهلي ونقده

- ‌حادي عشر: النثر الجاهلي

- ‌ثاني عشر: موضوعات أخرى

- ‌الدراسات والبحوث "الدوريات

- ‌مدخل

- ‌أولًا: تاريخ الجاهلية

- ‌ثانيًا: تاريخ الأدب

- ‌ثالثًا: فكر الجاهلية ومعتقداتها

- ‌رابعًا: دراسة شعراء

- ‌خامسًا: دراسة ظاهرة فنية

- ‌سادسًا: مناهج دراسة الأدب الجاهلي

- ‌سابعًا: دراسة نصوص

- ‌ثامنًا: أغراض الشعر

- ‌تاسعًا: اللغة واللهجات

- ‌عاشرًا: النثر الجاهلي

- ‌حادي عشر: موضوعات أخرى

- ‌خلاصة الدراسات الحديثة:

- ‌الأدب الجاهلي والمناهج الحديثة

- ‌مدخل

- ‌المنهج الأسطوري:

- ‌المنهج البنيوي:

- ‌المنهج الاجتماعي:

- ‌المنهج النفسي:

- ‌المنهج التكاملي:

- ‌دراسات أخرى:

- ‌النصوص الجاهلية التي درست

- ‌فهرس الموضوعات:

الفصل: ‌ ‌المنهج الاجتماعي: إن دراسة العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمة قدم فكرة

‌المنهج الاجتماعي:

إن دراسة العلاقة بين الأدب والمجتمع قديمة قدم فكرة المحاكاة عند اليونان "أفلاطون وأرسطو"، لكنها دخلت في القرن العشرين آفاقًا جديدة جعلتها مدار بحثٍ بين كثير من المهتمين بالأدب ودارسيه من الذين لم يرضوا عمَّا قيل في هذا المضمار منذ أفلاطون حتى أساطين النقد الاجتماعي، بحيث التقى الناقد الخلاق بمنهجه وبصيرته وحساسيته الأدبية، بدارس التاريخ الأدبي بمعرفته الوضعية وأساليبه التصنيفية، بعالم الاجتماع بعمليته والمعايرية ودراساته الميدانية. وكان التقاؤهم ينطوي على محاولة جادة للوصول إلى فهم أعمق وأخصب للظاهرة الأدبية المعقدة بأبعادها الذاتية والمجتمعية.

وإن أقدم تناول مباشر حاول رسم بناء نظري وفلسفي للعلاقة بين الأدب والمجتمع يعود إلى الفكر الإيطالي فيكون "1668-1774م" في كتابه المشهور "مبادئ العلم الجديد"، الذي ضمَّنه نظريته الفلسفية والحضارية المعروفة بنظرية الدورة التاريخية، وبلوْرَ فيها فهمه النابع لدور الإنسان في خلق عالمه الاجتماعي وعلاقاته ومؤسساته، ومن ثَمَّ فنونه الإبداعية، وضرورة تحليل هذا كله بمصطلح علمي مادي وليس بمصطلح لاهوتي أو كنسي، وأقام "فيكو" على هذه الأرضية العلمية أوّل محاولة منظمة للربط بين أشكال التعبير الأدبي وطبيعة الواقع الاجتماعي.

وجاءت بعده مدام دي شتال "1766-1817" فألفت كتابًا بعنوان: "تناغم الأدب مع المؤسسات الاجتماعية":1800م" استعانت فيه بمفاهيم مونتسيكو "1689-1755" الاجتماعية، وببعض آراء معاصرها الألماني هيردر "1744-1803م" التي تقول بأن "كل عمل أدبي يتغلغل في بيئة اجتماعية

ص: 225

وجغرافية ما، حيث يؤدي وظائف محددة بها، ومن ثَمَّ لا حاجة إلى أيّ حكم قيمي، فكل شيء وجد لأنه يجب أن يوجد".

وجاء هيبوليت تين "1828-1893" ليطوّر هذه الفكرة من بعدها ويستفيد من التقدم الذي أحرزته النظرية الاجتماعية منذ مونتسكيو حتى أوجست كنت "1798-1857م". وقد جهد تين ليطور نظرية علمية كاملة للأدب، وليخضع الأدب والفن لطرائق البحث التي وظَّفت في العلوم الطبيعية حتى دفعت الكثيرين إلى اعتباره المؤسس الأول لعلم اجتماع الأدب، قد أضاف إلى بعدي العصر والواقع الاجتماعي بعدًا جديدًا هو الجنس أو العرق، وأصبح الثالوث "البيئة والجنس واللحظة التاريخية" هو الذي يفهم العمل الأدبي على أساسها فهمًا كاملًا.

ويمكن تلخيص العوامل الثلاثة في عنصر جوهري واحد هو "البيئة الفاعلة المتحركة المشروطة بالزمن من ناحية، وبالطبيعة الذاتية للمبدع من ناحية ثانية".

وفي الوقت نفسه كان معاصره كارل ماركس "1818-1883م" يحاول صياغة فلسفة كاملة لمفهوم البيئة، ولعلاقة الإنسان بها وموقفه منها، من منطلق مادي جدلي، وكان من الطبيعي أن تؤدي هذه الثورة الفلسفية إلى إعادة النظر في طبيعة العلاقة بين الأدب والواقع الاجتماعي من خلال منهجها الجديد في الدرس والتحليل، وكان لإعادة النظر تلك فضل كبير في صياغة الكثير من التساؤلات الجوهرية الهامة التي لا تزال حتى اليوم مدار بحث بين كثير من كُتَّاب هذه الثورة الفلسفية الجديدة، ومن المعادين لها على السواء، والتي فتحت آفاقًا ثرية من البحث والاستقراء.

ومن أهم هذه التساؤلات: ما طبيعة العلاقة بين البنى الاجتماعية والاقتصادية التحتية والبنى الفكرية والإبداعية الفوقية؟ ثم حوّر التساؤل إلى: ما دور الوجود الاجتماعية في تحديد الوعي؟ وما فاعلية الوعي في عملية التغيير الاجتماعي؟

وإذا كانت معظم المحاولات المبكرة لاستكناه أبعاد العلاقة بين الأدب والمجتمع تنطلق من افتراضين أساسيين هما: أن هناك علاقة حقًّا، وأن المطلوب هو تحديد طبيعتها، وأن الأدب يزودنا بنوع معين من المعرفة أو البصيرة بالواقع الذي صدر عنه، ويركز اهتمامه على علاقة هذه المعرفة بالصور الأخرى التي تقدمها مختلف المعارف الإنسانية عن المجتمع، فإن الشكلية في جوهرها نقص لهذا

ص: 226

المنطلق، ورفض لأن تحكم الفرضيات المسبَّقة عملية الاستقراء النقدية المهمة تلك، فقد بدأت المدرسة الشكلية الروسية في أوائل هذا القرن بتركيز عنيد على الجوهر الداخلي للعمل الأدبي.

وقد بدأ الشكليون بعزل الجوهر نفسه، وبتخليص موضوع دراستهم الخاص من مختلف الموضوعات والمناهج الأخرى، وذلك من خلال دراسة منظمة لما يدعوه جاكوبسون بالأدبية، أي: العناصر المميزة للأدب نفسه.

إن علاقة الأدب بالمجتمع أكثر تعقيدًا وتركيبًا مما صورتها به التناولات التقليدية التي درات في فلك الرؤى الاجتماعية المختلفة؛ لأنها ليست علاقة قائمة على أن الأدب يعكس أو يعلق على الواقع، أو حتى بين عناصره غير المتجانسة أو المتضادة، ولكن على أن الأدب يستهدف خلق علاقة مغايرة كيفيًّا للعلاقات المألوفة بين الإنسان والعالم، علاقة تسمح بتجديد إدراك الإنسان الحسي أو الكلي لنفسه وللعالم على السواء. وهذا لا يتأتَّى دون علاقة عميقة مرهفة ومعقَّدة معًا بين الأدب والمجتمع، علاقة من نوع خاص جدًّا، يهتك ألفة الإنسان بالعالم دون أن يفقده اتساقه، أو يشعره بالغربة فيه، أو العجز من فهمه، والتعامل معه، ولكن هذه العلاقة الجديدة لم يفد منها إلّا دعاة البنائية.

وقد أضاءت اكتشافات العالم اللغوي "سوسير" الكثير من الموضوعات والنشاطات الإنسانية، وتقوم على فكرة أنّ علم اللغة مفيد في الظواهر الثقافية الأخرى على مفهومين جوهريين: أولهما: أن الظواهر الاجتماعية والثقافية ليست مجرد مدركات وأحداث ذات معنى ودلالة، ليست إشارات، وثانيهما: أنه ليس ثمة جوهر لهذه الظواهر؛ لأن ما يحددها هو شبكة دقيقة من العلاقات ذات الدلالة بصورة تمكن الناقد من البعد عن التهويمات الانطباعية.

وقد خلص أحد الباحثين1 إلى مفاهيم أساسية في النقد الأدبي الاجتماعي هي:

1-

التعامل مع الأدب بوصفه نظامًا اجتماعيًّا.

2-

جدلية العلاقة بين العمل الأدبي والواقع الاجتماعي من حيث التأثير والتأثر.

1 صبري حافظ، مجلة فصول، مجلد4، عدد1 "1983"، ص77 وما بعدها.

ص: 227

3-

إفساح المجال للأدب الشعبي لما يتضمنه من أبعاد اجتماعية وبواعث جماعية.

4-

إقامة توازن بين الذاتي والموضوعي في النظر إلى الواقعية الأدبية.

وقاده هذا إلى تحديد المداخل النظرية التالية للنقد الاجتماعي:

1-

المدخل الأميريغي: ويستهدف دراسة الواقعة الأدبية بما تشتمل عليه من جوانب إنتاجية، يدخل فيها العمل الأدبي والناشر وجمهور القراء.

2-

المدخل الجدلي: ويدخل من فكرة أن عملية الإنتاج الأدبي والأيديولوجي هي جزء لا يتجزأ من العملية الاجتماعية العامة.

3-

المدخل البنائي التوليدي: ويتعلق بكيّف أن العناصر التاريخية والخصائص الفردية تشكل في تفاعلها وجدلها جوهر المنهج الإيجابي لدراسة الأدب والتاريخ.

4-

المدخل السيميولوجي: ويقوم في إطار الحركة البنائية، فيزودها بالأسس التي يمكن عن طريقها عد العمل الأدبي محققًا لنظام من الرموز الإشارية.

5-

المدخل الوظيفي: وينحو إلى تعيين العناصر الاجتماعية في العمل الأدبي على أساس مفاهيم علم الاجتماع، كما يحصر على إظهار دلالات مواقف الشخصيات وربطها بالظروف الاجتماعية.

والسؤال الذي يطرح نفسه هنا إلى أي حد يستوعب المنهج الاجتماعي في النقد الظاهرة الأدبية؟ ويجيب الباحث نفسه بأن المنهج متمم لمناهج أخرى وليس بديلًا لها، بل هو أداة تعين على منهج نقدي أدبي متكامل.

وأما مجاله فقد اتجه هذا المنهج في الأغلب الأعم إلى دراسة الأعمال الروائية، وهو يركز على محتوى الأعمال، وقد لا يتعمَّق في دراسة العلاقات اللغوية المكونة للعمل الأدبي.

ومن الباحثين الذين نهجوا هذا المنهج أو قاربوه في دراستهم للشعر الجاهلي: أحمد سويلم في كتابه "شعرنا القديم: رؤية عرية"1، وإحسان سركيس في كتابه "مدخل إلى الأدب الجاهلي"2 وحسين مروة في "النزعات المادية في

1 صدر عن المجلس الأعلى للثقافة، جمهورة مصر العربية، 1979.

2 صدر عن دار الطليعة، بيروت، 1979.

ص: 228

الفلسفة العربية الإسلامية ج1، ص175-326"1، ويوسف اليوسف في عملين: "مقالات في الشعر الجاهلي"2، و"بحوث في المعلقات"3.

ويقرر أحمد سويلم في مدخل بحثه بأن الشعر نشاط اجتماعي بالدرجة الأولى، والشاعر بشر يعيش مع البشر، يؤثر ويتأثر بالمجتمع، ومن ثَمَّ فإن ظروف نشأة القصيدة ظروف اجتماعية، وتحمل الخبرة السابقة، وتبعث خبرة جديدة، ويكنّ الحس الاجتماعي العام في أدق الصور الذاتية للشعر4، وينعي على الباحثين أنهم جهدوا أنفسهم في تصيّد أخطاء الشعراء بدلًا من استخراج كنوز الشعر العربي الذي يتجلّى فيه الإبداع بأبعاده الاجتماعية والجمالية والتنبؤية5. ونتيجة لذلك حبس الشعر العربي في قفص الرؤية النقدية القاصرة، وحرم النظرة العادلة، وإن نظرة عادلة متأنية إلى شعرنا القديم كفيلة بتصحيح تلك المفاهيم القاصرة، ورده إلى إطارات الإبداع الفني الأصيلة، ونقله إلينا وجهًا يحمل نداء الحياة المعاندة في لهب الصحراء، مؤكدًا واقعيته الواعية والتزامه الفني المحض، ودوره الأصيل في المجتمع في مواجهته رتابة الحياة6.

ويقرر هدفه من محاولته هذه ودراسته، إنما هو اكتشاف جوانب تراثنا الحقيقية المعبرة عن موقفه الفني والاجتماعي، ومجاله هو أقدم عصرين عرفهما الشرع العربي: العصر الجاهلي والعصر الإسلامي، اختار العصر الجاهلي لأنه يمثل بداية الشعر العربي، وأما العصر الإسلامي فلأنَّ النقاد أو بعضهم جعلوا منه امتدادًا للعصر الجاهلي دونما اعتراف بالتطوّر الذي طرأ عليه بسبب تغير الواقع الاجتماعي7.

أما مجال دراسته: فقد كان امرأ القيس وعنترة "الشعر بين السادة والعبيد"، وقد رأى أن بكاء امرئ القيس أمام الديار لم يكن بكاء يأس وموت، وإنما هو حزن

1 صدر عن دار الفارابي، بيروت، 1979.

2 صدرت الطبعة الثانية منه عن دار الحقائق بالتعاون مع ديوان المطبوعات الجامعية بالجزائر، 1980.

3 صدر عن وزارة الثقافة، دمشق، 1978.

4 شعرنا القديم: رؤية عصرية ص3.

5 المرجع نفسه، ص8.

6 المرجع نفسه، ص10.

7 شعرنا القديم رؤية عصرية ص10.

ص: 229

شفاف تتجلى فيه الحياة بآلامها وآمالها، بواقعها المرير وأحلامها المنتظرة، فهو حزن مرهف مبدع عميق يهز الوجدان ويسموا بالعواطف في بيئة قلوبها صخر، ووجدانها موت وصلابة1. وأما عنترة فلم ينس أنه كان يومًا عبدًا في مجتمع السادة، ولكنه لم يترجمها عدوانًا على الذين سلبوه حريته زمانًا طويلًا، ولا حوَّلها سلبًا ونهبًا مستندًا إلى قوته، لكنه ضرب المثل للسادة أنفسهم كيف يكون السيد، وانعكس ذلك في شعره بأبيات تؤكد ذلك المسلك الكريم2.

وأما المجال الثاني الذي فيه تطبيق على منهجه فهُمْ الصعاليك "شعراء متمردون"، فقد واكب الشعر تلك الأحداث الاجتماعية الكبيرة، بل عدَّه الكثيرون ثورة الفن الدائمة في مواجهة التخلف، والسجل الباقي للوعي البشري، ولم يكن الشعر العربي غريبًا عن الواقع العربي، ولم يتخاذل، ولم يعتزل متواريًا هاربًا، بل واكب عصره حساسية ونبضًا، مرتبطًا بواقعه وقضاياه، ومكثفًا الخبرة الشعورية والفنية بما بلغ التجربة الإنسانية، وأصلها في صورتها الحقيقية المؤثرة.

وكان الصعاليك أول ثورة واقعية متمردة في الشعر العربي، وقد اتخذ الصعلوك الإغارة والغزو شعارًا له، غير أن هذا الشعار قد اتخذ وجهين في التطبيق، فمنهم من طبقه بهدف التغلب على واقع اقتصادي قاسٍ ساد المجتمع، ومنهم من طبَّقه بقصد السلب والنهب، والصعاليك يشتركون في دوافهم: الفقر والإحساس بالظلم وفقدان المساواة والحرية، وإن اختلفوا في الوسائل، ويتحدون في نتائج تلك الدوافع وهو رفع الظلم والانتقام من الأثرياء والمستعبدين، ويبدو أنهم أرادوا أن يشذوا عن ذلك الواقع ما داموا يرفضونه، فأحدثوا أول صدع فني قوي الأثر تجلى في ملامح شعرهم الخاصة، واتسمت قصائدهم بالقصر، وتتناول موقفًا واحدًا، فاتسمت بالوحدة الموضوعية، وجاء شعرًا واقعيًّا التزم أصحاب به3.

وأما إحسان سركيس فقد قرَّرَ منذ البداية أنه لا بُدَّ من فهم تراثنا وإفهامه من مناحٍ جديدة، ولا بُدَّ من رؤيته بأعين جديدة، وذلك من أجل أن يتَّصل خيط الرسالة الحضارية والاستمرارية التاريخية، ويرى أن مصيبة تراثنا تكمن في بعض مَنْ تناوله

1 المرجع نفسه ص10.

2 شعرنا القديم: رؤية عصرية ص21.

3 شعرنا القديم: رؤية عصرية ص24-32.

ص: 230

من أبنائه؛ لأنهم لم يفرقوا بين الأوراق التي ينبغي لها أن ترث في الأرض وبين النسغ الذي يمد الشجرة بأسباب الغذاء والنماء1، أما دراسة المستشرقين لتراثنا فتسودها خرافات تبسيطية يمليها الشعور بالتفوق وتأكيد خصوصية حضارية معينة، مضافًا إلى ذلك أحيانًا نزعية معاكسة تميل إلى تجميد مبالغ فيه لخصوصيات الحضارة غير العربية لأهداف معينة وفق مستهدف دراساتهم بتحويل الاستشراق لديهم إلى اختصاص نوعي ينتهي أحيانًا إلى أبحاث نعيه في عمومية الإنسان2.

ويبرر الباحث قصور دراسات المستشرقين عمَّا يروم أبناء العربية بعدم الشعور بالانتماء الحضاري إلى تراثنا، وعدم الشعور بالتبعية تجاهه. ويقارن بين الباحث العربي والمستشرق بأن الباحث العربي يتناول حضارته وتراثه لتكون جوابًا عن حاجة أساسية في حياته يقتضيها سياق تطوره كما تقتضيها رغبته في إيجاد مرتكز لشخصيته ووجوده كسبيل لاستعادة جوهره3.

ولقد أحدث الفكر الأوربي صدمة عندما اتصل المثقفون العرب به؛ لأن الفكر العربي لم يكن يقوم على أرضية صلبة، ولذا فقد انقسم المثقفون إلى فئتين: فئة أمعنت في الاسترسال مع الفكر الأوربي التماسًا للتغلُّب على الشعور بالنقص واستعجالًا للنتائج، وفئة حاولت التغلب على ذلك الشعور بالنقص بأخذ حقنة اعتزاز تعلل النفس بها، وهذه الفئة الثانية لجأت إلى أسلحة كان لها خطرها على تراثنا؛ لأنها لجأت إلى التقريظ المفرط الذي كان له أثر في غربة الماضي عن الحاضر والمستقبل. أو تجميده في مقولة صوورية محددة سلفًا. وهكذا "ضاعت الحقيقة التي ينبغي الوقوف عندها؛ إذ لا يمكن لمجتمع أن يتجاوز تخلفه بذكر أمجاد ماضيه، بل بتحليل واعٍ لتلك الأمجاد كيف عاشت وارتقت، وكيف دبَّ الوهن فيها فتوقفت عن العطاء"4.

وهكذا يحدد الباحث قصده من دراسته، فهو محاولة لتجديد الأفكار، أما السبيل فهو "المضي مع الباحثين الجادّين في ماضيهم عن قوام للذات وعن تعبير مطابق للمرحلة التي يعيشونها، وذلك بالتنخل في ضوء مفاهيم العصر من تراثنا ما

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي ص5، 6.

2 المرجع نفسه ص6، 7.

3 مدخل إلى الأدب الجاهلي ص7.

4 مدخل إلى الأدب الجاهلي ص9.

ص: 231

يعبر عن حقيقة حضارتنا، والذي ما زال محتفظًا بغنى التعبير المطابق لحقيقة ذلك الماضي والمسعف على استمراريته، ومن ثَمَّ وضعه في إطاره التاريخي بوعي وشعور جديدين، من خلال موقف يقدر المسافة الزمنية التي تفصلنا عن الماضي

لا لنتأمل حدود الزمن، بل لندخله في بناء المستقبل، ولا يتم ذلك إلّا بمعايشة وتحسس عمق التجربة الحضارية والإنسانية التي رافقت المجتمعات العربية والروح التي كانت تعمرها من خلال التعبير الأدبي الذي كان أوضح في مجاله من دنيا الفكر، وهي روح عربية كانت تعيش مخاضًا مستمرًا لتعبِّر عن ذاتها اجتماعيًّا، أي: سياسيًّا واقتصاديًّا وثقافيًّا"1.

ويكشف الباحث عن منهجه النظري في الفصل الثاني "سبيل هذه الدراسة"2، وخلاصته أن يربط الظاهرة الأدبية بالظاهرات الاجتماعية ربطًا غير آلي، بل يكون استجلاء للعلاقة الجدلية بين الأدب والمجتمع، ويعترف بأن للآداب والفنون قوانينها الخاصة التي تعمل جنبًا إلى جنب مع القوانين العامة عمل تكامل وتمايز؛ لأن الآداب والفنون ليست بمثابة الظلال والتوابع، وإنما هي بمثابة وجه من وجوه وعي الواقع والتعبير عنه، فهي منظومة اجتماعية كبقية المنظومات، تحدد صفاتها وسماتها تبعًا للدور المنوط بها في جملة الأدوار الاجتماعية المختلفة المتمايزة هي الأخرى، والمتكاملة. ويرى أن للأدب أكثر من تاريخ تبعًا للضوء الكاشف الذي يوجهه الباحث، ولكنه في تناوله الظاهرة الاجتماعية سيعتمد الظاهرة الأدبية من خلال التناظر بين البنيتين التحتية والفوقية، منوهًا أنه ليس ثمة تساوق تام بينهما.

وفي معرض حديثه عن المناهج الأخرى والدراسات الجديدة التي تناولت التراث يقول: إنه يلتقي معها لقاء تكامل لا لقاء تنافي، ويمضي كلٍّ منهما في طريق موازٍ للآخر دون أن يلتقيا، ومبتغاه التقاط المتميز من الأعمال الأدبية لا المتشابه، وذي الرنة الجديدة والإيقاع المحدث، أما عيار الاختيار هو استهداء الأديب بما يمثله أدبه أو شعره من وعي أو إحساس مطابق للواقع المتحول.

ويفرض موضوع الدراسة عليه أن يلتزم المقارنة بين واقع الأدب والأشكال الاجتماعية التي عايشها أو عاش في كنفها، واستخلاص العلائق المتبادلة فيما بينها.

1 المرج نفسه ص11-12.

2 المرجع نفسه ص13-22.

ص: 232

ويقرر في ختام الفصل أنه إذا استطاع أن يؤكِّد على وجود الشعر الجاهلي وصدق تمثيله للحياة الاجتماعية والسياسية والروحية لذلك الزمن، فمن المؤكَّد أيضًا أن هذه الشجر الباسقة لم تنبت في أرض عراء، ولا بُدَّ أن يكون قد سبقها مخاض طويل تجاوز ألف عام.

وفي سبيل التمهيد لمنهجه ودراسته يرفض فكرة البداوة المطلقة في المجتمع الجاهلي، ويرى أنه كانت قواعد حضارية ترسى، وقد تتوارى بين الحين والحين، وتتمثّل في تطلع سياسي إلى قيام مجتمع ودولة، يعبِّر عنهما بمحاولات دائبة، أو بمجرد الشوق المنعكس في الكلمة والطباع والمواقف1.

أما اللغة وهي ظاهرة رئيسية في حضارة الإنسان تقوم على الاجتماع البشري والعمران، ولا يمكن أن يكتب لها الذيوع والاستمرار إلّا إذا كانت مواطنها بؤرة الالتقاء للتحركات المختلفة، والقطب الذي يدور حوله تجمع الناس وتلاقيهم ومبادلاتهم في إطار الأمن والاستقراء النسبي، والتي تقوم في النهاية على علاقات مادية وثقافية وروحية2.

والآداب الجاهلية في نظر الباحث مرحلة انتقالية، فالشعب العربي في جاهليته كان يمر عبر جدلية المد والجزر، فيه تتبدّل بين البوادي والقرى دون أن تتمكّن واحدة منها من أن تكون محورًا لكيان واحد. وكانت بداية يقظة الذات استيعاب الموضوع من خلال اقتحام الذات لمجال موضوع وجذبه إليها؛ لأن الموضوعات بذاتها مستقلة عن الذات العارفة، وإن في وسع الذات حينما تأخذ وجهة موضوعات بعينها أن تلتزم مواقف مختلفة من خلال الأداة التي تصطعنها. وإذا كان الموضوع من خلال الموقف العملي متعذرًا في رأد يقظة الذات، فيمكن التعبير بالوسائل المتاحة لها كالوسائل الجمالية مثلًا؛ حيث تستطيع إبداع صور جديدة تحمل طابع ذاتيتها.

ويزعم الباحث أن الحياة كانت ترهص للجديد الذي يترقّب اللحظة المناسبة ليخرج من القوة إلى الفعل، وهذه الحياة نفسها هي التي تفسِّر اختيار العرب للشعر كأداة تعبيرٍ عن عبقريتهم في واقع وفترة محددين، كما تفسِّر كيف أن هذه العبقرية

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي ص24، 25.

2 المرجع نفسه ص75.

ص: 233

تلونت بمقومات وسمات أخرى عندما أصبح بالإمكان بعد الانطلاقة العربية الإسلامية1.

وفي رأيه أن الشعر كان مرحلة في تكامل الشعب العربي، قامت قدرته على ما كان له من تأثير عام في بلورة وعي الشعب وتلاحمه، وإن كثيرًا من الباحثين لم يجدوا تعليلًا كافيًا للتأثير الذي يخلفه الشعر في نفس العربي2، ويعترف الباحث في الوقت نفسه أن الشعر لم يبلغ مبلغًا كبيرًا في الانطلاق الفكري وراء تصور الحياة وتولينها بألوانٍ من الوهم لا يكون لها وجود في الواقع كالخرافات والأساطير التي هي ثمرة من ثمار العقل الحائر ومن عجزه، لأن الحياة نفسها هي التي كانت تتحرك ضمن نطاق الدورة المغلقة.

وهكذا ركز العربي دائمًا وجوده في كلمته؛ لأنها أكثر ديمومة من الصروح ومظاهر الحياة الأخرى التي تشوبها الهشاشة وعدم الثبات، وأضحى الأدب الجاهلي هو التعبير الأدبي عن نقطة التوازن الجديد بين انكفاء قسري إلى حياة القبيلة، وبين تطلع إلى كيان سياسي واجتماعي أبعد شوطًا في مطمار الحضارة، وهو صراع متوازن ومتداخل، صراع داخلي ضد الحياة القبلية دون التفريط بها، لانعدام البدليل المتحقق في الفعل، والمستقر المستمر خارج حدود الصحراء في عملية التخطي إلى عالم أرحب يمكن أن تقوم فيه الحضارة وتنمو وتزدهر. وبدون هذا التصور يظل الأدب الجاهلي في مجال التقييم يبدو أرفع مستوى مما يمكن أن تعكسه حياة قبيلة بدوية، مما يجعله قيد الشبهة الوضع اللاحق بعد قرن أو قرنين من ظهور الإسلام3.

وخلاصة القول: إن الأدب الجاهلي قد عكس لنا "تأرجح العربي في تلك الفترة بين قطبين مكملين لموقفه من الحياة القبلية والحضارية، فقد كان طوع فردية تحاول أن تدفعه إلى رفع كل ضغط، وتثبيت الحقوق الدائمة للأنا الذاتية تجاه الحقوق الجماعية، وتعلق من ناحية أخرى بجماعته بصورة عميقة وذاتية، قد تصل إلى حد التضحية بالنفس"4.

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي 96.

2 المرجع نفسه 97.

3 المرجع نفسه 99-100.

4 مدخل إلى الأدب الجاهلي 104-105.

ص: 234

والشعر الجاهلي يمثل شعر شهادة على عصره، فغايته التحدّث عن الواقع ووصفه والشهادة عليه أو له، ولا يحاول الشاعر أن يرى في الواقع أكثر مما فيه، وإنما يحاول أن يراه بكل ما فيه. وهذا الشعر هو جزء هام من الأيديولوجية1، وهو يصدر عن واقع القبيلة ومناقبها وإنسانيتها في حلة شاعرية نستطيع أن نقدِّر أنها كانت مجافية لذلك الواقع رغم البرود الإشراقية التي تتلبسها، والتي تجعل الحاجة إلى الشعر أبدًا مردها أن الخليقة لم تبلغ الكمال في أي عصر. وأن شعرًا هذا شأنه "هو صنيع الإخلاص للحياة، تحدده رؤية واقعية في التماس المباشر بالعالم والإنسان على قدر ما تطيقه الحياة في تلك الحقبة التاريخية، ومن هذا التماس أخذ الواقع المأساوي شكلًا شاعريًّا ملحميًّا أو مسرحيًّا؛ لأن الحياة الصحراوية لا تستقر على حال"2.

ويذهب إلى أن محاولات قد جرت لتطوير المفهوم القبلي من خلال القبيلة، والخروج على الحياة القبيلة، وأهم هذه الظواهر الدعوة إلى السلم بين القبائل المتنازعة، وكراهية الحرب الداخلية، والرضى بالتحيكم فيما يشجر من خلاف، واستشعار كل قبيلة قدرًا من التعاطف مع القبائل الأخرى. وربما كان الإحساس بضرورة الخروج من أسار مؤسسة الثأر كان يشكّل حاجة نفسية بقدر ما كان يمثل حاجة اجتماعية3.

والظاهرة الثانية: هي الشعور بالحاجة إلى حكومة تسوس الناس وتمكِّن الفرد من التزام موقف شخصي لا يتضامن مع القبيلة في كل ما ترتكبه مما قد يخالف صوت الضمير أو العقل، وهذا دليل على أن حياة العرب بدأت تتطور، ولو ببطء، في مكوناتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية4.

ويرى الباحث في تردد الشعراء بين القبائل أو رحلة الشاعر الضرورية إشكالية انتقالية، ويفسر ذلك بأن الشاعر المداح يبقى في نظر حاميه الدافع عن مصلحة إخوانه، ولا ينفصل عن قبيلته، ولكن الجديد أن الشاعر أخذ يخدم سيدًا ترتبط فيه بالأفضلية مصلحته وثروته5.

1 المرجع نفسه 109.

2 المرجع نفسه 113.

3 المرجع نفسه 127-129.

4 المرجع نفسه 130-131.

5 مدخل إلى الأدب الجاهلي 156-157.

ص: 235

وحينما يحاول الباحث تعليل هذه الظاهر وإرجاعها دواعٍ، وبواعث فإنه يراها فيما يلي1:

1-

الشعور بشيء من الوحدة الفكرية أو الروحية، وبقدر من الانتساب إلى رهط أو شعب واحد، أي: الشعور بوجود رابط يسمو على الروابط القبلية أو يتعايش معها.

2-

شيوع اللغة الواحدة واستقرارها كأداة للتواصل.

3-

التخمر الاجتماعي والسياسي والمحاولات القائمة والمستهدفة الخروج من الحياة القبلية إلى حياة اجتماعية وسياسية متقدمة.

4-

الإحساس بالانتماء إلى ما هو أكثر، أو أكثر من القبيلة.

5-

نقل الصور الحضارية التي تتلامح لهم في تجوالهم وترددهم على مواطن أخذت بنصيب من التقدم والعمران.

6-

قيام الشاعر برحلة ضرورية تخرجه من إطار حياة ضيقة للقاء عالم أرحب.

7-

نمو فردية جديدة لدى هؤلاء الشعراء تختلف عن فردية القبيلة، وهي فردية ترهص لمجتمع جديد أو تتطلع إليه.

ويختار الباحث نماذج للدراسة والتحليل والتدليل على منطلقاته، وهذه النماذج هي: الأعشى والنابغة وحسان2، وهؤلاء الثلاثة الذين اختارهم اتفقوا في أمور واختلفوا في أمور، فهم قد تجاوزوا القبيلة ورئيسها إلى مديح ملوك أو رؤساء آخرين، وهم تنقَّلوا في مناطق مختلفة وبعيدة عن مواطنهم، وهم تمثلوا خلائق وعادات ومذاهب غريبة عن محيطهم، وهم طوَّعوا أساليب خاصة بهم مختلفة عمَّا ألفه الشعر الجاهلي.

وفي معرض حديثه عن "الخارجين عن القبيلة أو على تقاليدها"3 يرى أن الخروج يأخذ معنيين: معنى فردي يلتزم به فرد أوفر إحساسًا بضيق الحياة ولا معناها، فينعكس ذلك في سلوكه وشعره على شكل من الاستبطان والمشاقة اللذين يعبران عن حدَّة التشوق مع استشعار العجز عن تبديل الواقع أو تطويره، فلا يجد صاحبها

1 المرجع نفسه 157-158.

2 المرجع نفسه 158-180.

3 المرجع نفسه 181-182.

4 مدخل إلى الأدب الجاهلي 181-182.

ص: 236

سوى عدم الانتماء المتمثّل في الموقف السلبي أو اللامبالي.

وأما أن يتحسس المشكلة بإحساس أو بوعي، فيلمس ما بدأ يظهر من تناقض بين ظاهر تلك التقاليد وبين ممارساتها في الواقع النامي، فيدرك أن إنسانية القبيلة بدأت تخلي المكان لأشكالٍ من التمايز أو التفاوت، ويبدأ هذا الإحساس بوطأة هذه الظاهرة يقترن بوعي جديد لمشكلة تباين الناس من حيث الفقر والغنى، الوفرة والحرمان، ومن حيث تمركز السلطة أو الزعامة، وفي أيدي الأثرياء على حساب المحرومين، فيمضي في أول سعيه لإقامة حوار مع المجتمع المتمثل في القبيلة، يبدؤه بالكلام وقد ينتهي به إلى امتشاق السيف ليبتّ حبل الصلة التي ترطبه بهذا الكيان المرافق لأزلية الصحراء، وإن الخارج على القبيلة من منطلق اجتماعي لا يتمثّل نفسه منفصلًا عن واقع القبيلة فحسب، وإنما يتصور مجتمعًا آخر لا بُدّ أن تقوم به جماعة من الناس، ويظل هذا تعبيرًا عن الحلم بمكمن ما.

ومن النماذج التي اختارها معبرة عن هذين النمطين من الخارجين: طرقه بن العبد، وعنترة بن شداد، وبعض شعراء الصعاليك.

أما طرفة فيرى في معلقته أمرين يستحقان التوقف عندهما: شكواه من ابن عمه الذي لم يدفع إليه وإلى أخيه حقوقهما، والتشهير بالبخلاء وتحذيرهم من أن الموت إذا اصطفى الكرام فإنه يصطفي أموال البخلاء، وهو أيضًا يحاول عن طريق الحس الجمالي أن يعبر عن حقيقتين متعارضتين، الأولى: ما في إنسانية القبيلة من سجايا، والثانية: ما في الحضارة من مناعم ورفاه ومتع وتفتح فردي، ولكن الجمع بينهما مستحيل، فلدخول الناس عتبة التقسم الطبقي لا بُدّ من ثمن تؤديه أكثرية الناس1.

وأما عنترة فيرى الباحث أنه يوافق طرفة من جانب ويباينه من جانب آخر، كما يرى أن الظروف قد طبعته بطابع فريد، فهو يحمل أفضل خلال القبيلة: الشجاعة وكبر النفس والعفة ورحابة الصدر، حدبًا على أمه وعطفًا عليها، فضلًا عن رقة في الطباع بالرغم من شدة بأسه، ولكن عنترة وإن ظل في رحاب القبيلة، فقد يسر له لونه إمكان الإنفكاك عنها، كما هيأ له بعدًا ذاتيًّا منها، جعله ينظر إلى نفسه ووالدته

1 المرجع السابق 186-187.

ص: 237

من خلال طبقة كبيرة من الناس تستحق الرفق بها، وهو مطالب بالذود عنها وعن أصولها بالمفخارة والاعتداد بالنفس.

وأما موقفه من وضعه ولونه فقد كان فيه كبرياء الرجولة والإيمان بحقيقة إنسانية سامية، ولذا كان يرد على التعريض واللمز بمزيد من الاعتزاز والفخر بهذا اللون، منطلقًا من فردية متكاملة، ومن موقف فيه رفض التقاليد التي تجعل ابن الأمة الأسود اللون دون غيره من الناس. وكانت هذه الفردية تحمل خلال القبيلة كما تحمل شوقًا إلى وضعٍ إنساني أرفع يقاس المرء فيه بمزاياه وصفاته لا بنسبه ولونه، ولكنه بالرغم من سورة التمرد المتمثلة في موقف الإباء والرجولة كان يحس إحساسًا خفيًّا بأن على المرء أن يكون بطلًا، ولكن ذلك قد جعل نفسه تنطوي على قدر كبير من المرارة إزاء يأسه من تبديل الناس ومفاهيم المجتمع، لهذا قد ينفع التحدي الفردي في طرح المشكلة، ولكنه لا يحلها كقوله:

أذكر قومي ظلمم في وبغيهم

وقلة إنصافي على القرب والبعد

بنيت لهم بالسيف مجدًا مشيدًا

فلما تناهى مجدهم هدموا مجدي

وقد جعله ضيقه بالناس يخلع شيئًا من إنسانية الإنسان على جواده، فيحبوه بعض صفات الآخر ليقيم معه حوارًا. وهو يرى في شعر عنترة تميزًا قلَّ نظيره في الأدب العربي القديم، بل في الآداب العالمية القديمة1.

أما الصعلكة2: فيرى أنه لا يمكن رصد الظاهرة دون تعمّق أسبابها الاجتماعية والاقتصادية، كما لا يمكن اعتبار الصعاليك ذوات متمردة على مالوف القبيلة وعاداتها وتقاليدها؛ لأن التمرد لا يمكن أن يقوم ويستمر إلّا في إطار وضع تاريخي معين، ومن البداهة أن أكثرية الصعاليك لم تكن تهمها العودة إلى القبيلة؛ لأنها لم تخرج عليها بطارئ فردي، كما أنه لم يكن بهمِّها الانتماء بالولاء أو الاستجارة إلى قبيلة أخرى؛ لأن الشعور بالدونية سيكون في الحالة الثانية أَمَرّ وأدْهَى. ويميز صورتين لأنموذجين من الصعاليك: صورة الفردية الناقمة المكابرة التي تستشعر مهانة الفقر والمكانة الاجتماعية ويمثلها الشنفري، والثانية صورة الفردية الاجتماعية التي تحسن تخلخل البنية القبلية والتفاوت في الأرزاق والظلم الذي ينزل

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي 188-192.

2 المرجع نفسه 192-212.

ص: 238

بساح الفقراء والمستضعفين، فتحمل لواء الدعوة إلى التمرد، ويمثلها عروة.

وبالرغم من اختلاف الدوافع التي دفعتهم إلى حياة التصعلك، فإنهم جميعًا فقدوا توافقهم الاجتماعي، وهو الأساس الذي تقوم عليه الصلة بين الفرد والمجتمع، وهذا الفقدان ينتهي بالفرد عادة إلى أن تكون صلته بمجتمعه قائمة على أساس "السلوك الصراعي".

ويفرد الباحث الفصول الثلاثة الأخيرة من كتابه للحديث عن "المصير والصيرورة"1 و"مواقف ذاتية ووجودية"2 و"تقاصر الشعر في بعض المواطن"3.

ويتساءل الباحث: لماذا لا يكون للإنسان العربي، وهو يشير إلى الدهر، مصير مستمد من طبيعة بيئته وحياته، وكأنه يبثّ حوارًا مع بيئته الصحراوية من خلال حوراه مع القبيلة التي لا يستقيم بقاؤها إلّا في بيئة صحراوية، وفي نظام اجتماعي قبلي يقوم على الرعي لا الزراعة، وكأن الشاعر يودّ برغبة غامضة تبديل المجتمع، يتوافى معه في علاقة إغراءٍ كتلك التي تكون مع شخص غير راضٍ عن القيام بعمل ما، ولعل فكرة الدهر أو القدر تقترن بما انطوى عليه الشعر الجاهلي من حديث الفراق والارتحال والبكاء على الأطلال، حيث يخالط الذاتي الوجودي اندماجًا وتباعدًا ليظل له تفرده، حتى أضحت هذه الطريقة في تناول الموضوع مدرسة أدبية يغلب عليها التقليد أكثر من الإحساس الذاتي والوجداني.

ولكنه يستدرك بأن شعوبًا أخرى عرفت مثل هذه الحياة دون أن يجري على السنة شعرائها مثل هذا التفجع. ويتساءل بعد ذلك: فهل أتى هذا التفجع نتيجة اندثار الحضارة الجنوبية، فارتحلت تلك القبائل تحمل معها ذكرى مواطنها، وتردد على ألسنة شعرائها، ثم لاقى ذلك هوى في نفوس القبائل الأخرى فتبنته حتى أصبح مدرسة أدبية تعبر عن الحضارة التي أفلتت من اليدين أكثر من تعبيرها عن خيمة ونؤي؟.

أما المواقف الذاتية والوجودية التي عرض لها، فأولها موقف الشاعر الجاهلي من الجنس والمرأة، ويرى أن للعصر الجاهلي موقف من الجنس كله حرية وانطلاق،

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي 213-227.

2 المرجع نفسه 228-249.

3 المرجع نفسه 250-258.

ص: 239

فما كان يتحرّج من الحديث عن المرأة وعن الجنس وتضمينها للقصائد بما في ذلك المعلقات. وما دام الجاهلي يستقبي الحياة بالتقدم للقاء المخاطر، وحتى الموت، فإن إقدامه هذا أو تصوره الإقدام يؤجج فيه اللذة؛ لأن الذين يخشون الموت هم الذين يخشون اللذة، وتأتي الصحراء الممتدة أفضل بيئة لإثارة الغرائز، ولئن كانت اللذة هي الحرية في الفعل، فهي من وجه آخر تجيء عزاء عن فقدان الجواهر والحرمان الملازمين لتلك الحياة المحدودة.

وفي تلك البيئة، فإن كل شيء يتغير وتظل المرأة أكثر إخلاصًا للثبات من خلال التغير، فهي كالطبيعة تظل مخلصة للتاريخ، وهي في الوقت نفسه رمز الخصب والطمأنينة، ولعل الشعور بتملكها يحمل بجانب المفهوم الأبوي في الملكية حسّ السيطرة على الطبيعة نفسها أو امتلاكها، وموقفه منها هو صورة انعكاسية لما يريده الرجل عن نفسه، ولعل من الفريد والطريف في تلك الحياة أن تتوافى جميع هذه الانعكاسات في الغزل: بداوة ورقة، قبيلة وحضارة، سبي يصل إلى حد امتهان المرأة، وسموّ يصل بها إلى حالة مثالية، معاشرة عارضة أو آنية ومفارقة، أو تسريح، ومن ثَمَّ حنين لا ينتهي، ولكن النغمية العامة قائمة على الشكوى، وثمة استحالة الأحلام بسبب معارضة الناس والقدر. وإن مثل هذه النفس القلقة لا بُدَّ أن تجنح بما لها من حسٍّ شاعري، نحو ملاذ أو ملجأ، ويظل الجنس خير ملاذ في مواجهة إشكاليات التاريخ.

والموقف الذاتي الثاني: الموقف من الميسر والخمرة: وهو يرى أن شيوع الخمرة لدى العرب في الجاهلية ظاهرة تستوقف المرء، ويعطينا الشعر الذي قيل فيها شيئًا من التفسير لما مكّن لها في النفوس، فجاءت في مؤثراتها الصورة المقابلة لكلِّ ما يختلج في ضمير المجتمع عن طريق هذا الشعور بالاستقلال الذي تخلقه، وهذا المؤشِّر عون ثمين للفردية المتململة، كما أنه يمثل لحظة الانفصال عن الواقع، حامل معها الإحساس المريح المهدئ للنفس إزاء ما ينتابها من قلق وضيق.

ويلخص رأيه بقوله: "إن كل أسلوب أو شكل أدبي بارز يعرض لنواظرنا نقطة اهتزاز مشع، وهي، لدى الجاهلي تتمثل في الحوار بين البطولة واللذة، بين الجبرية والمصادفة، وبين التقاليد القبلية والتطلعات الفردية. وكل ذلك يمثل في معناه البعد التاريخي والبعد الذاتي في لحظات التوقد، أية كانت الهزة أو النشوة

ص: 240

وأية كانت بواعثها: في وقفة بطولة أو موعد حب أو كأس خمرة أو قدح معلى. لهذا كان الشعر الجاهلي في تعبيره عن هذه الحاجة يمضي حتى بلوغ نقطة التوازن أو التوتر أو التقابل بين المصير والصيرورة، وهذه وقفة جدية تحتفظ بكل طاقات النفس المترجمة بين حالين متعارضين. وملاحظة أخيرة أن الشعر الجاهلي خالٍ من السخرية؛ لأن السخرية تقتضي انفصالًا عن الواقع وبعدًا نفسيًّا عنه، وصيرورةً ما تمكّن السخرية منه ماضيًا، آخذ طريقه لأن يصير ماضيًا في طريق ذي اتجاه واحد1.

وآخر قضية يعرض لها هي "تقاصر الشعر في بعض المواطن"، ورأيه أن الخروج من الاقتصاد القبلي إلى شكل اقتصادي أرقى يجرّ معه تبدلًا في الحياة الاجتماعية والنفسية، إذ تستجد علاقات تتميز من العلاقات القبلية بكل ما تخلفه من مؤثرات في أوضاع الأفراد تعكس في شكل أوضح من التفاوت، كما تستجد روابط جديدة تحل تباعًا محل الروابط القبلية.

وأما يوسف اليوسف فله دراستان: "مقالات في الشعر الجاهلي"2 و"بحوث في المعلقات"3 ففي دراسته الأولى يعلن في المقدمة أن هدفه الأساس هو عرض الشعر الجاهلي على محك المعاصرة4، وذلك لأنه يرى أن الشعر الجاهلي يقدم ميدانًا رحبًا للدراسات الأنثروبولوجية، بينما لا نجد من ألقى ولو نظرة عابرة على هذه الناحية من الشعر الجاهلي إلّا نادرًا. أما المنهج الاجتماعي والمنهج النفسي والمنهج الفلسفي فتكاد تكون عديمة الوجود.

وأما الباحث فهو يقول: إنه قد وظَّف أكبر قدر ممكن من المناهج في دراسة الشعر الجاهلي، ودمجها مع بعضها، بحيث يمكن أن تتعايش جميعًا في المقال الواحد، بالرغم من طغيان هذا المنهج أو ذاك في بعض الأحيان، وذلك ما يمكن أن ندعوه منهجًا متكاملًا في النقد، وكان يمكن أن نصنِّفه مع المنهج التكاملي في النقد، لولا أنه يقرر أنه شدد على أهمية كون الشعر إفرازًا اجتماعيًّا، مع الاعتراف والأخذ بعين الاعتبار أن القصيدة تبدعها نفس معينة لها أحوالها المعينة وحاجاتها

1 مدخل إلى الأدب الجاهلي، 248-249.

2 صدرت عن دار الحقائق، ط2:1980.

3 صدرت عن وزارة الثقافة بدمشق 1978.

4 مقالات في الشعر الجاهلي ص10.

ص: 241

الشخصية1. وينطلق الباحث من مبدأ أن أنماط الإنتاج هي الحوامل الاجتماعية، وأن درجة تطور مجتمع ما تتحدد بأنماطه الإنتاجية بالدرجة الأولى، لذا فهو يشدد على الطابع التاريخي والطابع الاجتماعي.

ولكن الباحث يؤكد كثيرًا ويكرر على أن المجتمع الجاهلي هو مجتمع أدنى من الحضارة المتطورة، وهو مجتمع انبثق عن البدائية، وراح يندرج في التاريخ سعيًا وراء تجاوز ذاته. والجاهلية ومن جهة نظره قطرة ضوء ممتازة، تنكشف فيها بدايات الوعي المتحضر والمتجاوز للمرحلة الوحشية من مراحل التطور البشري بأشواط مديدة، ومن جهة أخرى حضارية وتاريخية، فالجاهلية حجر الأساس في صرح الثقافة والحضارة العربيتين2.

وفي "مقدمة الشعر الجاهلي"3 في دراسته الأولى يقرر الحقائق التالية:

1-

إن أول انطباع تخلفه القصيدة الجاهلية على صفحة الوعي هو أنّ جدلية الذات - الصحراء، هي العلاقة الأولى التي تؤطر مجمل العلاقات، وتصنع القيم الاجتماعية والأدبية. والصحراء سمة تحايث الذات وتلازمها؛ بحيث تمتزج وإياها في وحدة عضوية لا فكاك لأواصرها، إذ الترامي الصحراوي مسئول عن الانفلات والحرية4.

2-

إن العنصر الطلل هو توليف اندغامي للحظات الثلاث: التهدم الحضاري والقمع الجنسي وقحل الطبيعة، وهو ترجمة لا شعورية للرغبة في الخلاص من ظرف حضاري متهدم، والتحول إلى مرحلة حضارية أرقى5.

3-

إن القصيدة الجاهلية برمتها تنطوي على العنصر الطللي بحيث يسعنا القول بأن "الضمير التعيس" وهو المضمون الأساسي للوقوف على الأطلال يباطن القصيدة الجاهلية على كافة امتداداتها وأصدائها، ويسكن معظم جزئياتها وعناصرها6.

1 مقالات في الشعر الجاهلي 11.

2 نفسه ص17.

3 نفسه ص15-80.

4 نفسه 18.

5 نفسه 19.

6 نفسه 20.

ص: 242

4-

إن الشاعر الجاهلي حافظ على نرجسيته وغيريته في آنٍ معًا1.

5-

إن القصيدة الجاهلية تراجيديا حقيقية، لا من حيث الشكل والمنهج، بل من حيث الجوهر فقط، ويتضح هذا كمًّا من خلال شعر عروة بن الورد، والشنفري "لوحة الذئاب"2.

6-

التأكيد على وجود نفس ملحمي في القصيدة الجاهلية لا سيما معلقتي عنترة وعمرو بن كلثوم3.

7-

إن الشاعر الجاهلي الذي يمارس البطولة الصدامية يوميًّا لا يستطيع أن يتصوّر للفروسية سوى شكل واحد هو شكله نفسه4. وهكذا فإن الممارسة الفعلية للفروسية التي يعيشها الشاعر هي التي أعاقت ظهور الشعر الملحمي؛ لأنه لا حاجة به إلى ممارستها في الخيال، فهو يعيش الملحمة صداميًّا، وبعبارة أخرى: فإن العاملين النفسي والاجتماعي هما المسئولان عن غياب الأدب الحدثي بعامَّة والملحمي بخاصة، فالملاحم الإغريقية هي نتاج تطور المجتمع التجاري وبلوغه مرحلة معينة في سلم الحضارة، وكما أن المجتمع الجاهلي أميّ يفتقر إلى الكتابة، وهي أكبر حاجز أمام إنتاج نصوص أدبية مطولة.

8-

إن الأساس الاجتماعي لنفسية الشاعر وهو عدم التنازل عن الذات والإسراف في عشقها، الشيء الذي يذكرنا بحسِّ الاغتراب لدى الشاعر5، وفي مجتمع كالمجتمع الجاهلي نواجه رفضًا مزدوجًا: رفض المجتمع إنسانية الفرد، أي: استلابه وتغريبه، ورفض الفرد للمجتمع بالمقابل، ومثال هذا عنترة.

9-

لقد ولدت ظاهرة الصعلكة نتيجة ذلك التغريب الذي مارسته الحياة على الفرد، فبادر إلى السلاح6.

1 مقالات في الشعر الجاهلي 21.

2 نفسه 23.

3 نفسه 23.

4 نفسه 26.

5 نفسه 30.

6 نفسه 34.

ص: 243

10-

لئن كان الإنسان طليلة حياته يمارس نفي الطبيعة عبر التأثير عليها من خلال العمل والنشاط الاجتماعي ابتغاء الانعتاق من ربقتها وإخضاعها له، بدلًا من خضوعه لها، وهذه هي الحضارة، فإن البدائية هي تقديم الولاء وكافة ضروب الطاعة للطبيعة، والانضواء تحت لوائها1.

11-

الظاهرة البادية في الشعر الجاهلي أن موجودات العالم الخارجي حاضرة دومًا، وبكامل ثقلها في روح الشاعر، الأمر الذي يستدعي بدروه التعامل مع هذا الخارج تعاملًا حسيًّا مباشرًا، ويؤدي إلى تقديم صورة تجسيمية تجعلك تشمّ الأشياء الموضوعية وتسعمها وتراها وتلمسها. ومن هنا جاءت النزعة الحسية إلى الشعر الجاهلي2.

12-

من مظاهر تمثل الجاهلي لبيئته الطبيعية ما يبديه من عطفٍ على الحيوان واهتمامٍ به، فالحيوان يداوم على الظهور كواحد من أبطال القصيدة الجاهلية.

13-

جاءت الحكمة الجاهلية محاولة لتنفيذ الواقع في الوعي، ونزوعًا نحو تكثيف الموضع في الحس، لا تجريدًا لهذا الواقع وهذه الموضوعات، وذلك لأن البدائي يحيا في فجر الوجدان لا في ظهريته. ويرى الباحث أن سرَّ خلود الشعر الجاهلي أنه لا يكتفي بإحالة البعد العقلاني للحياة إلى بعدٍ وجداني فحسب، ولا هو الذي يعقِّلَنَّ الوجداني ويضيفي عليه التَّذَهُنَ، بل هو يملغم كلا البعدين في سياق متناغم؛ بحيث يتوحدن في كيان لا يعرف النشاز3.

14-

تبدو الصورة الجاهلية في كثير من الأحيان ترتيبًا للواقعة لا للمشاعر، ونشعر حينما نقرأ القصيدة الجاهلية أن الصورة لا تعدو كونها تابعًا للواقعة، شيئًا ملحقًا بها، وليس صميمًا، بينما ينبغي في الشعر الآبد أن تكون الصورة غلافًا يغشى العاطفة ويبطنها من الداخل، بل تنحل فيها العاطفة انحلال النسغ في النبتة، وذوبان الحمرة في الوردة4.

15-

نحس الخواء العاطفي في كثير من الصور الشعرية الجاهلية، هو ما يحرم.

1 مقالات في الشعر الجاهلي 41.

2 نفسه 42.

3 نفسه 51.

4 نفسه 547-58.

ص: 244

هذه الصور من الشاعرية في الكثير من الحالات، ومواضعة أكثر من أن تحصى1، ويحدد أسباب في هذا الخواء في: مباشرة الحسّية، وتقديمه الموضوعات كحضور مرئي، بحيث تغدو القصيدة سيالة وقائع متلاحقة، تقرن البسيط إلى المعقد، وتلحمهما في نسيج واحد.

ومن الأسباب كذلك النزعة الخبرية والوصفية، واللتان تثقلان العقل البدائي، فهو يتوخَّى الدقة في وصف الأشياء؛ لأنه يدرك الجزئيات قبل الكليات، أي: هو قليل القدرة على التعميم والتجريد2.

16-

الذي أوجد واقعية الشعر الجاهلي وصدقه في الانفعال هو أن الوقائع الخارجية كثيرًا ما تظهر وكأنها امتداد لذات الشاعر، أي: إنه كثيرًا ما يلون الأشياء بروحه وأعصابه، وبذلك يحول العالم المثالي، أو عالم الروح والأعصاب، أن يتشخص في الموجودات الموضوعية، وأن ينشكف بها، أو من خلالها3.

17-

إن جوهر وهن الشعر الجاهلي لا يتمثَّل في حسية صوره، وعيانية مضامينه، وتقنياته التعبيرية المباشرة، ولكن هذا الجوهر كامِن في كونه يقدِّم مشاهده الواقعية تقديمًا وصفيًّا يعترف بموضوعية الحقيقة الزمانية4.

18-

يشعر المرء أن القصية الجاهلية بينة موسيقة متناسقة ومتكاملة، وصورة إيقاعية تعين القارئ على ترتيب وعيه لمحتوياتها، وأهم خصيصة لموسيقى القصيدة الجاهلية هي أنها ذات جلجلة تتناسب مع جلجلة الحرب. إنها موسيقى القوة اللازمة للجاهلي، التي تلائم موضوعات الاعتزاز والتحمس5، وكأنما الشاعر يعوّض عن تفكك أجزاء القصيدة بهذه الكلية الموسيقية التي تلمُّ شتاتها في وحدة عضوية.

19-

ليست الأنثروبولوجيا العربية، أو المتفرعة عن الدراسات الجاهلية، معنية بالأسطورة فحسب، بل هي تطوي في دائرتها مسائل اجتماعية واقتصادية

1 مقالات في الشعر الجاهلي 62.

2 نفسه 63.

3 نفسه 67-86.

4 نفسه 69.

5 نفسه 73.

ص: 245

وعقائدية ونفسية كثيرة أيضًا، ولعل من بينها مسألة وأد البنات في العصر الجاهلي1.

وفي "اللحظة الطللية في القصيدة الجاهلية"2 من كتابه يتبنى مجموعة الأفكار لا بأس من إيجازها هنا:

1-

لعل اللحظة الطللية هي واحدة من الشذرات المضيئة التي يمكن أن نصل عبرها إلى إحباطات مكبوتات المجتمع الجاهلي وإلى تطلعاته وأشكال انسلابه معًا، أي: هي وسيلة من وسائل إغناء فهمنا لمجتمع معين. وإن الشاعر الجاهلي يبدع عبر الطللية ماضيه وواقعه شعرًا، ويتحفز لمعانقة مستقبله. أي: يودع في هذه الوقفة أبرز أشكال الحالات الجماعية، ويخثر عبر بضعة أبيات من قصيدته كل حاجات الجماعة، فهو يعبِّر عن الكلي الاجتماعي لا الكوني خلال ومضة وجيزة3.

2-

في ميسورنا التعرف إلى الذات الجاهلية عبر تحليل المطالع الطللية للشعر الجاهلي، بوصفها رموزًا تقبل التفسير والقراءات التحتانية4.

3-

إن الماضي يجب أن يفهم بوصفه مستقبلًا أرقى، لا من الحاضر وحده، بل ومن الماضي نفسه، أي: إن الماضي - المستقبل، ينبغي أن يغدو تجاوزًا ونقيضًا للماضي المنطفئ، الذي لا تستحيل استعادة نسيجه فحسب، بل الذي لا يحتاج إلى هذه الاستعادة5.

4-

إن خلاصة ما يمكن أن يوجّه إلى تفسيرات اللحظة "ابن قتيبة، فالتر بروانه، عز الدين إسماعيل، يوسف خليف، حسين عطوان" يمكن إجمالها في أمرين أساسيين: قصور هذه التفسيرات لأنّ كلًّا منها أحادي النظرة، وإهمالها إلى حدٍّ كبير العامل الاجتماعي والتاريخي لتشكيل الطللية، علاوة على النظرة الخارجية المسطَّحة، وعدم الغوص في أعماق المطالع، والبحث فيها كتعبيرات عن مكبوتات

1 مقالات في الشعر الجاهلي 76.

2 نفسه 117-205.

3 نفسه 115.

4 نفسه 119.

5 نفسه 122.

ص: 246

نفسانية عميقة أنتجتها وقائع فعلها في النسيج الاجتماعي1.

5-

خلاصة رأيه أو نظريته في البرهة الطللية: إنها التغام لثلاث لحظات يقوم بينها تجادل تمثلي يذوب ويصهر كل واحدة في الأخرى، فيفضي إلى اندغامها جميعًا في تركيبة كلية البنية، يعسر فرز أقانيمها الثلاثة كلًّا على حدة، وهذه العناصر الثلاثة: القمع الجنسي، والاندثار الحضاري، وقحل الطبيعة. فالشاعر يوحد بين القمع الذي تتعرض له الطبيعة، وتقوم به في الوقت نفسه، بفعل القحل وانحباس المطر، وهو ما ينعكس بدوره على الفرد والجماعة، وبين الهدم الذي يصيب الحضارة من جراء ذلك القحل، وكذلك بين القهر الذي يتعرض له البدوي، بفعل الرقابة الاجتماعية الكابحة، أو بفعل ما تمارسه التقاليد من حظر وكظم عليه، فالرسم الدارس لحظة ممتازة ينكشف فيها الجدب والتدمير معًا، يحلق بالفرد مأخوذًا على أنه كلية مجردة، من احتجاز جنسي يحول دون التلبية المباشرة، وتفريغ المشحون الجنسي2.

ويقدم الباحث، انطلاقًا من هذه النظرية، دراسة تطبيقية حيث يحلل طلليات كل من زهير ولبيد والنابغة3.

6-

يثير قضايا طللية منها: عدم التوازن بين اللحظات الثلاث، وطللية الحضريين، وحنان الحيوانات على صغارها، وتشبيها لطلل بالكتابة، والخصيصة الإطلالية للطبيعة.

وخلاصة ما يراه: إن الطللية تلقيد شعري لا يشترط أن يكون للشاعر محبوبة مهاجرة، ومما يؤكد هذا أن شعراء المدن لم يختلفوا عن شعراء البوادي من حيث الإكثار من الوقوف على الأطلال، وإن كان ثمة فارق مضموني بينهما، فشعراء البادية هم الأكثر عمقًا والأبعد غورًا في طللياتهم؛ لأنهم ألصق بالظروف التي عملت واستمرت تعمل على إفراز الشعر الطللي4.

1 مقالات في الشعر الجاهلي 122-123.

2 نفسه 140-141.

3 نفسه 147-180.

4 نفسه 183.

ص: 247

أما حنان الحيوانات على صغارها، فإنها تعكس حاجات ودوافع أبوية وأمومية لدى الشاعر، وربما رأينا فيها نهجًا لفض نزعة التوالد والإخصاب1. أما الطلل والطبيعة فيرى الباحث أنه غالبًا ما يتبدَّى الطلل كأنه فعل من أفعال الطبيعة، أو نتيجة من نتائج فعلها، فعناصر الطبيعة دومًا صافعة وهادمة بالنسبة للجاهلين، وهذا في مجمله جزء من العلاقة العدائية القائمة بين الإنسان الخالي من التقنية والصناعة وبين الطبيعة، وربما كانت الطللية بمجملها لا تحمل إلا غاية واحدة هي التعبير عن اغتراب الإنسان في مملكة الطبيعة العاتية التي تعجز أدوات البدائيين عن تدجينها2.

7-

وفي مجال حديثه عن اللغة الطللية وتحليلها، يرى أن "في كون الطللية تفريغًا لمقولة التضاد بين الذات وموضوعها الساحق لها، وفي اتخاذ هذا التضاد شكل قطبين متنازعين: الشاعر والواقع، يكمن العامل الاساسي الذي أملى على اللغة الطللية أن تستوعب السلب وتشعه وتعمل على تخطيه. لذا، فقد جاءت حاملة للموقفين الداخلي والخارجي، ومعبرة عنهما.

ولقد عكست هذه اللغة القطب الأول للتناقض "روح الشاعر" عَبْرَ ألفاظ رقيقة ذات طابع عاطفي وعربي مشبع بمكونات الوجدان الإنساني، في حين عكست القطب الآخر عبر ألفاظ هي في الغالب إحالة إلى يبوسة الواقع وفظاظته، وإلى مذاق القحل وهمجية الطبيعة، ولهذا كانت اللغة الطللية تغالي في استقطاب المتعارضات، ولكنها لا تصهرها في وحدة تصويرية. وتتجلى هذه النثائية للفظة الطللية خير تجلِّ في أنها حين تصف الاقفرار تلجأ إلى مفردات من المعجم الغريب، في حين تلجأ إلى المعجم الفعال المألوف أو إلى المفردات الرقيقة الدالة على ليونة النفس عندما تعبِّر عن الموقف الإنساني النقيض3.

ويقدم الباحث انطلاقًا من المنطلقات النظرية التي عرضنا لها آنفًا تحليلًا للامية العرب للشنفري4، وقد أسهب في تحليلها تطبيقًا على منجهه الذي تبناه، ولعل من المفيد أن نورد خاتمة تلك الدراسة الجيدة للامية، يقول: "لئن كان

1 مقالات في الشعر الجاهلي 185.

2 نفسه 187.

3 نفسه 187-188، الجاهلي 187-188.

4 نفسه 209- 293.

ص: 248

المعنى الكلي والنهائي للامية العرب هو الجوع، ولمعلقة امرئ القيس هو القهر، ولمعلقة النابغة هو الخوف، ولمعلقة طرفة هو القلق، فإن الكليّ والشمولي للشعر الجاهلي هو التعبير عن حالة اللا تكيُّف مع الحياة، وبالتالي الرغبة في انتقاض التواكب مع الشروط القائمة، والانتكاث عن القبول بالمعطى. إنه الرفض وتنمية مفهوم النقض، وخير شعر يتنامى عبر هذا المفهوم هو شعر الفرسان وشعر الصعاليك، لا سيما شعر عروة. وينعكس مفهوم النقض عبر الثنائية التي يبرزها بجلاء الشعر الجاهلي، فلامية العرب تطرح الذات في وجه المجتمع، متمردة، نزاعة نحو الهدم، مظلومة، مقموعة، ولهذا فهي تثير مشاعر الشفقة دون أن تحرك فينا الشعور بالخوف"1.

وفي دراسته الثانية "بحوث في المعلقات" يعرض للموضوعات التالية:

المحتويات التحتانية للمعلقات ص39-94.

الواقعة والمفهوم في المعلقات ص95-116.

تحليل معلقة النابغة ص197-232.

المرأة في المعلقات ص233-278.

ويحدد الغاية الأولى التي يزعم أن دراساته في الشعر الجاهلي قد بلغتها، وهي أن "القصيدة الجاهلية، وبخاصة المعلقة، وتنطوي على مكمونات نفسانية شديدة الخفاء على النظرة الأفقية المسطحة، ولا يمكن لهذه المخبوءات أن تستسلم إلّا أمام العقل التحليلي، أي: النظرة العمودية الغارزة للغة غرزًا2".

وقد حاولت بحوثه الخمسة في تلك الدراسة أن "تريق شيئًا من النور على المعلقات، ومن جهة نظر جديدة"3، ويزعم بأنه طبَّق في تحليله معلقة امرئ القيس "المنهج المتكامل على درجة لا بأس بها"4 ويرى أن "تحليل معلقة امرئ القيس" و"اللحظة الطللية في القصيدة الجاهلية" و"تحليل لامية العرب" تمثل ثلاثة

1 مقالات في الشعر الجاهلي 326.

2 بحوث في المعلقات 7.

3 نفسه8.

4 نفسه7.

ص: 249

نماذج تطبيقية على القصيدة التراثية تحاول أن ترى في النص الأدبي وحدة متكاملة، وأن تبحث فيه مضمرات أو مكونات مستبطنة، وأن تخضعه إلى علوم مختلفة ولا سيما الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والتحليل اللغوي1.

ومن الفائدة أن نعرض لخلاصة آرائه في المعلقات بإيجاز:

1-

إن السر الكامن خلف رسوخ المعلقات واستمرارها حتى اليوم يكمن في أن الشعر الجاهلي ككل فنّ بدائي عظيم قادر على تحريض النواة البدائية للروح، وهذه النواة المدفونة تحت ركام حضاري كثيف سرعان ما تزيحه المعلقة لتنفذ إلى الأولاني الراقد فينا، وتغذيه فيتوهج2.

2-

ومن أسرار خلودها أيضًا أنها تنسج الدرامي والغنائي معًا، أي: تلمهما وتدغمهما في تركيبة عضوية واحدة3.

3-

من أهم المفاهيم بؤروية في الشعر الجاهلي برمته، هو أن الطبيعة تقطع الحضارة "تدمرها، تنفيها" بسبب من انقطاع الدفق الحيوي في التربة، مصدر كل حياة بشرية، وهذا يعني أن ثنائية الحضارة -الطبيعة، هي من أهم التصورات المستنبطنة في اللاوعي البدائي4.

4-

إن الأزمة المركزية الفارزة لكل توتر في الشعر الجاهلي، هي عدم استقرار الحضارة الآمنة والملبية للحاجات النفسية، أي: أزمة الحياة بأبعادها الثلاثة: الحضارة، الأمن، العشق5.

5-

إن معلقة امرئ القيس هي أعظم العلقات طرًا؛ لأنها أكثر قدرة على مخاطبة مكوناتنا النفسية المؤسسة بفعل القهر التاريخي المزمن6.

6-

من أسباب قصور الدراسات السابقة في الشعر الجاهلي أنها "عزفت عن إحالة الظاهر على باطن يسكنه بعمق، أي: هي لم تتعامل مع الأشكال الفنية

1 بحوث في المعلقات8-9.

2 نفسه 9.

3نفسه 9.

4 نفسه 24.

5 نفسه 25.

6 نفسه 33.

ص: 250

الجاهلية من حيث هي رموز تضمر ما لا يبتبدّى على سطحها"1.

7-

ثَمَّة ثلاث علاقات تؤلف واقع المعلقات الأعمق، هذا الواقع المنفتح على الخارج الاجتماعي والطبيعي، والعلاقات الثلاث هي:

أ- حسّ الافتراس والصراع الدائر في طبيعة ماهيتها الشح من جهة، والنقض من جهة أخرى، أي: إن الجاهلي يسكنه شعور فحواه أن الطبيعة عبر قحلها تفترس الإنسان، وأن الإنسان يفترس الإنسان كذلك عبر التصاول الاجتماعي اليومي.

ب- انبساط النزعة الفردية في تضخماتها واعتدالاتها، من حيث هي ردّ الفعل النفسي على الشعور باللا أمن.

ج- الموقف النقدي من الحضارة وقيمتها القمعية العاملة على إقامة جدار من اللا تلبية أمام الغرائز المندفعة نحو الإشباع "معلقتا امرئ القيس وطرفة"2.

8-

إن الشعر الجاهلي هو بمعنى ما مقاومة الطبيعة للتاريخ، استعصاء الإنسان على الاصطناعي وتمنعه، وبالتالي فهو صيحة أصيلة تبتغي التحرر وحماية الحياة3.

9-

لئن كانت النزعة العشائرية قابلة للاختفاء في بعض المعلقات، فإن النزعة الفردية قلَّمَا تغيب عن المعلقة، بل وعن الشعر الجاهلي بوجهٍ عام، فمعلقتا امرئ القيس وطرفة تمثلان ترسيخ الخصوصية الفردية والتشبث بها ورفض التنازل عنها إزاء حركة الدغم الاجتماعية. وأما معلقة زهير فتمثل أعلى درجات الانصياع الفردية للكلية، وكذلك النزوع نحو أرقى حالات الالتئام الاجتماعي ككل، ويعكس لبيد جنوحه للسلم وإدانته للعدوان، وضرورة ارتداد الشر على البادئ، وذلك عبر قصة البقرة الوحشية. وتأتي معلقة عمرو بن كلثوم كتعبير عن النزوع الجامح نحو تأييد العشائرية والرفض المطلق للتنازل

1 بحوث في المعلقات 35.

2 نفسه 46-47.

3 نفسه 49.

ص: 251

عنها. وأما معلقة عنترة فهي بحث الخصوصية عن الاندماج في الكلية "الفرد في الجماعة" شريطة ألّا يتعارض هذا الاندماج مع الهوية الفردية النزاعة نحو التحقق عبر الفعل، وإن عنترة هو الفرد كما يريده المجتمع الجاهلي. وأما معلقة النابغة فتمثل الفردية في رضوخها للسلطة دون قيد أو شرط، وأما معلقة الأعشى فتمثل الفردية فيها حضورًا متكامل الثقل، ولكنها في الوقت نفسه فردية بعيدة عن الإشكالية والتنفج، وتختفي الفردية في معلقة عبيد بن الأبرص اختفاء كليًّا تقريبًا1.

10-

نشعر من خلال مطالعتنا للمعلقات أن المحتوى النفساني للجاهلي يمكن تقليصه إلى مخزونين أساسين:

أ- حسّ الافتراس الدائر في الطبيعة والمجتمع.

ب- الشعور باضطهاد الأعراف الاجتماعية للغرائز البشرية2.

11-

إن أهم ما نلاحظه على قصص حمار الوحش في الشعر الجاهلي يتبدَّى في نقطتين:

أ- الربيع هو الإطار الزمني للقصة.

ب- غاية حركة الحيون هي الماء3.

12-

الحيوانات حوامل لخصائص بشرية محضة4.

13-

ربما كان الصيد، كشكل فني، هو أقدر الأشكار الأدبية على فض ورسم صورة الصراع وتنازع البقاء5.

14-

إن البرهة الدفاعية التي تخوضها البقرة هي رمز لغربة الإنسان في المجتمع، وفي المجتمع حصرًا، لأن علاقتها الآن قد تحولت عن الطبيعة الإنسان6.

1 بحوث في المعلقات 50-54.

2 نفسه 66.

3 نفسه 73.

4 نفسه 73.

5 نفسه 79.

6 نفسه 81.

ص: 252

15-

العصر الجاهلي عصر بطولي حقًّا، فيه يغدو الموت في قبضة الإنسان مثلما أن الإنسان في قبضة الموت، ولذا غدت في هذا العصر الفروسية قيمة مثلى1.

16-

الفرق الأساسي بين الشاعر الجاهلي والشاعر في أية مرحلة يكمن في أن الجاهلي يستهدف أن يخزن إنجازاته في مستودع القصيدة، بينما الآخر ينبغي أن يخزن ذاته خارج التاريخ2.

17-

وأخيرًا أن موضوعات المعلقة ليست بسيطة، كما يبدو للوهلة الأولى، إنها أشبه بالأسطورة التي تبدو مجرد مادة للتسلية، ولكنها في الحقيقة صورة فنية لمعنى الغور يربض في أعماق الذاتية البدائية3.

وقبل أن يشرع في تحليل معلقة أمرئ القيس يقرر منهجه بمطالبة حركة النقد الأدبية "بتحليل المورثات الجاهلية والتراثية بعامة بغية استبار المعنى الكلي المستتر في أعماق جزئياتها، وبغية ربطها بالشرط التاريخي والاجتماعي والبيئي الذي أثمرها، من أجل الوصول إلى الكيفية التي أثر بها تقدم التاريخ على مضمون الإنسان"4.

ويؤكد بعد ذلك بأن "المضمون التحتاني لمعلقة هذا الشاعر هو الاستنكاف الذي أبداه الإنسان منذ الأيام الأولى لنشوء القهر واضطهاد الحرية"، وأن هذه القصيدة هي "أعظم احتجاج على الحظر قدمه الشعر الجاهلي قاطبة"5.

وحتى نستوعب قيمتها كأدب مقاوم، فإن علينا "أن نربطها بالتغيرات التاريخية العميقة التي كانت قد ترسخت في المرحلة الجاهلية، والتي كانت تنحو نحو تأسيس أخلاق جماعية لها قوة إقحام التاريخي على الغرائز أو قوة إملائه"6.

وتبدأ المعلقة بالبرهة الطللية حيث يتجلى "قمع العلاقات العشقية على أشده، وحيث يتبدى الألم في كلية حضوره"7، وتشغل البرهة الطللية الأبيات "1-

1 بحوث في المعلقات 105.

2 نفسه 19.

3 نفسه 115.

4 نفسه 119.

5، 6 نفسه 121.

7 نفسه 122.

ص: 253

8) والشاعر الجاهلي إذ ينطلق من البرهة الطللية، إنما يتخذ قاعدة له أكثر الموضوعات الخارجية والواقعية تأثيرًا على معاصريه الذين يتحسسون فعلًا، لعل أكثر الأمور دلالة في براهة الطوفان هي "مسألة النور التي تطرح في البيتين 74، 75 عبر مجموعة كبيرة نسبيًّا من المفردات: برقًا، وميضه، لمع، يضيء سناه، مصابيح، السليط، الذبال، ولنلاحظ كذلك أن مصابيح الراهب تكرر هنا مرة ثانية"1.

والملاحظ أن السيل ينبثق تمامًا عن نفس الحاجة التي انبثقت منها برهة الصيد والحصان، ومعنى هذا أن القسم الثاني من المعلقة ردٌّ غير مباشر على القهر الذي يهيمن عليه ويرضخه، والذي تجلى بوضوح في براهة الليل2.

ولا يمكن للنظر الأعمق إلّا أن ترى في لوحة المطر تركيبه من عدة عناصر "موتيفات" هي3:

1-

النزعة التدميرية للشاعر والطبيعة، وهنا يتوافق وعي الذات ووعي الموضوع.

2-

البحث عن الوفرة والخصب كرد فعل على القحل والتدمير الذي تمارسه الطبيعة على الطلل "الحضارة".

3-

حرف الجنسية عن نزعة نقض السائد من خلال الممارسة الاجتماعية، وإشباع حس النقض إشباعًا خياليًّا.

وهكذا نجد في لوحة المطر جملة من الصور الذهنية المجرَّدة واللاشعورية تتناسج إضماريًّا وخفية لتؤلف شكلًا فنيًّا لبرهة المطر، وهي بهذا تتحكم بالعلاقات الأعمق لهذا الشكل، وعلاوة على ذلك نجد لحظة السيل جاءت استجابة للحاجتين الأساسيتين اللتين تتأسس عليهما المعلقة جملة، وهما: الخصب وتوكيد الذات أمام القهر عبر التدمير والإرضاخ4.

ويلخص الباحث النظرة الشمولية لمعلقة امرئ القيس بأن "الخيط الناظم لها هو انقهار الذات أمام كل من الطبيعة والمجتمع، وانتصار لها من خلال توكيدها المباشر وغير المباشر"5، كما يؤكد بأن امرئ القيس هو "رافع أول صيحة تحرر في

1 بحوث في المعلقات 181.

2 نفسه 185.

3 نفسه 188.

4 نفسه 189.

5 نفسه 194.

ص: 254

تاريخ الثقافة العربية، وأنه المكمل الحقيقي، مضافًا التدمير في حياتهم. فليس عبثًا أن يستهل الشاعر البيت التاسع بحرف "الكاف" الذي يحتاج إلى كثير من الانتباه، لكونه يوحي مباشرةً ودون إضمارية بأنّ الشاعر لا يعرض إلّا سلسلة من الإحباطات والإخفاقات التي مُنِيَ بها، والتي من شأنها أن تعكس المدى الذي بلغه الكبح في المرحلة الجاهلية، والمدى الذي سيبلغه في التاريخ الوسيط1.

ويتضح أن البيت التاسع الذي بدأه بالكاف لربط الجزئيات اللاحقة بالبرهة الطللية التي يرغب في عبورها إلى ما يؤكد الذات ويرد على القهر، ويشغل المقطع الثاني من المعلقة الأبيات "9-33"، وفيه يتسلل الشاعر خفية لينتقل من عرض القهر إلى حالة توكيد الذات أو الرد على القهر. لذا فإن ما يمكن أن ندعوه مجون امرئ القيس، كما هو في ظاهره، لا يعدو كونه في الحقيقة محاولة لا واعية يقوم بها الشاعر لتحقيق أمرين متعارضين2:

1-

توكيد ما يعانيه من القمع والاحتجاز الجنسي، مما يوثّق ارتباط هذه الأحداث بالبرهة الكلية للمعلقة.

2-

توكيد الذات من خلال التبجح وتحقيق الرغبة.

وتدخل المعلقة بعد ذلك "الأبيات 34-46" في برهة تنزع نحو الوصف السكوني الخالص من الحادثة والساعي نحو تقديم مثالية للمرأة كما يراها هو وكما تراها الجاهلية بعامة. وهذه البرهة في نظر الباحث "تبدو مفككة تفكيكًا داخليًّا، هي جماعية علائق تأتي من مجملها دلالة مترابطة من الداخل، وهذه الدلالة هي سعي الشاعر نحو تجسيد مثال المرأة في عيان موحّد، أو في تشخيص قائم عيانيًّا، وتبدو المرأة الآن أقرب إلى المثال منها إلى الحقيقة"3.

ويذهب الباحث إلى تعليل التجسيمات المادية المحسوسة في وصف المرأة بأنها ترد إلى أمرين: النزوع الشهوي لدى الشاعر، والقداسة التي كانت يضفيها الوثنيون على المادة، فالوثنيون والبدائيون لا يملكون أن يروا المعنى مخلوعًا عن حامله المادي4.

1 بحوث في المعلقات 128.

2 نفسه 140.

3 نفسه 149.

4 نفسه 150.

ص: 255

وتمثل الأبيات "47-51" لوحة فنية نفسية رائعة، تنبش شعور الشاعر بالاجتياح الذي تمارسه الحياة عليه، وذلك من حيث أن الليل لم يكن ليبتليه بالهموم فحسب، وإنما هو الصورة الخارجية لحسّ الهم القابع في داخله1.

ويبحث الباحث عن رابط يربط بين اللحظات السابقة من المعلقة، ويراها في أن "اللحظة الطللية اندغمت فيها عناصر ثلاثة: الحاجة إلى العشق، والانهدام الحضاري، وقحط الطبيعة، وتلا ذلك سلسلة مغامراته بمثابة توكيد على أن الحال هي دومًا هكذا "مقهورة"، وأن الماضي ميت كالحاضر تمامًا، على الرغم من أن هذه المغامرات تنطوي على تعويض واضح يؤكد رجولته وقدرته على الاجتياز"2.

وفي البيت "52" يحاول الشاعر أن يشعرنا بأهميته وبرد فعله على الليل أو على البديل، القهر والحصار، إلّا أنه يسقط من جديد تحت وطأة الهموم، لكنها الآن هموم الآخرين التي ينوء تحتها كما ناء تحت حمل الليل الذي يشبه حيوانًا خرافيًّا3.

وفي الأبيات التالية "53-55" يستمر الموقف عينه في البيت "53" بحيث ظلّ مثابرًا على التغطية على اتضاح الأنا وقهرها.

وتأتي بعد ذلك لوحة الحصان تحرف النزوع الذي عن وجهة الشبقية، ولكن دون أن يخسر خصوصية اللذية لتوجهه إلى موضوع آخر يتسم بكونه لذيا وغير مقموع، على الرغم من أن لذيته ليست من النمط الشبقي "الأبيات 56-66". وامرؤ القيس لا يريد من حصانه إلّا أن يروي تعطشه إلى القوة، والصفة الجوهرية لحصانه هي حسّ الحياة المنطوية على الحركة والحاملة لمنازع جنسية، وهذا الحس نقيض لكل قهر. ولا تقع لوحة الحصان بمنأى عن نزعة توكيد الذات. وإن المعلقة عند لحظة الحصان تعد تحولًا جدليًّا كبيرًا بل تحقق وثبة نوعية تقلب الموقف رأسًا على عقب؛ إذ هي تنتقل من الشيء إلى ضده، أو من الدفاع إلى الهجوم4.

1 بحوث في المعلقات 155.

2 نفسه 169.

3 نفسه 161.

4 نفسه 167، 170.

ص: 256

ومن أبرز تحولات هذه البرهة أو اللحظة الاستقلابية العظيمة إننا نجد عنصرًا جدليًّا هو عنصر الدم، والدم متعدد المدلولات: فهو إشارة إلى النزعة التدميرية التي ستعبِّر عن نفسها خير تعبير من خلال برهة المطر القادمة، وهو إشارة إلى الحياة التي حضرت بحضور الماء والحركة، وهو ثالثًا إشارة إلى الاخضلال والليونة اللتين يطرحهما في وجه اليبوسة والتصخر1.

وتدخل المعلقة في طور جدلي أعلى، والصيد والشاعر لا يخرجان في ذلك عن الجوهر الحركي لحيوانه، ولا عن كونه حاملًا لصورة القوة، بل نجد القوة في حالة التطبيق والممارسة "الأبيات 67-73"،ويلاحظ أن الشاعر أسبغ حرزًا على تلك الحيوانات العذارء، وذلك عبر وصفها "بالجزع المفصل" أي: بالخرز الأبيض والأسود، الذي من شأنه أن يصد الأذى عن حامله، ومن شأنه أن يصون قداسة العذراء التي تلبسه. ولكي يؤكد هذا التحرز والمنعة فقد شبهه بنساء لهن أعمام وأخوال يحمونهن من الاستلاب. وهذا يعني أنه الذي اعتاد انتهاك الحرمات دون أيّ إحساس بالإثم يتحول الآن إلى أخلاقي نموذجي يلتزم بأعراف عصره، وذلك بسبب من ارتباط هذه المسألة بالألوهة، بل بسبب من العلاقة اللاشعورية التي تقيمها المجتمعات البدائية والزراعية بين العذرية في النساء والخصوبة النمائية في التربة. وبما أن العذرية ذات علاقة بالقحط والخصوبة، أي: بالطعام والشراب، أول أسس الحياة، فإن أمرأ القيس الذي يبكي الجفاف وتصخر الطبيعة، لا يسعه إلى أن يقدس العذرية كأي بدائي2.

وبالرغم من أن برهة الصيد تبدو بحثًا عن الوفرة، تمامًا كما هو حال المطر في اللوحة القادمة، إلّا أنه بوسعنا القول: إن هوية اللذة قد أخذت تنحل في شكل ممارسة لفعل الصيد "الافتراس"، كما سبق لها أن انحلت في الحصان3. ولا تقف هذا النزعة الافتراسية عند تخوم لوحة الصيد، بل إنها تتمطى لتغمر لوحة المطر، ولكن بعد أن تتحول من هيئة الافتراس إلى هيئة تدمير "الأبيات 74-85".

1 بحوث في المعلقات 173.

2 نفسه 176.

3 نفسه 178.

4 نفسه 195.

ص: 257

أما في "صورة المرأة في المعلقات"1، فإن الباحث يرى أن المرأة في المعلقة ضرورة تؤدي وظيفة تغطية حسّ الافتراس والاستجابة للتحديات، وإنها شكل فني يتخذ ذريعة للرد على التحدي الخارجي، وصورة المرأة الفنية في المعلقات في معظم الأحيان توليف من عناصر البيئة الخارجية ولا سيما عناصر الطبيعة.

وحضور المرأة في المعلقات ترجح بين أكثر الأشكال إمعانًا في الفحش وبين أعمق حالات التلوع المقدس لحظة الفراق والحرمان من المرأة المنشودة التي تصورها المعلقة في بعض الأحيان تصويرًا ممعنًا في العذرية. والمرأة -حتى في شعر امرئ القيس- توليف من الغريزة الجنسية والحلم الجنسي مصاغين صياغة مادية، لها القدرة على تأسيس انفعال داخلي يسمو على ما هو شهوي، ويرتقي إلى ما فوق الحسي، وإن الصورة الفنية للمرأة في المعلقات هي الأساس الذي بني عليه الغزل الأموي الشديد الارتقاء، ولكن الفارق الجوهري بينهما أن الغزل الجاهلي تعامل مع المرأة تعاملًا وصفيًّا ينزع نحو التجسيم الحسي لجسد المرأة، بينما ينزع الغزل الأموي، إذا استثنينا مدرسة عمر بن أبي ربيعة، نحو التمركز حول الحالة الداخلية للشاعر المتفاعل مع وضعه العشقي الشديد التحجيب للجنسية، والحاذف للشبقية حذفًا تامًّا.

وخلاصة صورة المرأة في المعلقات بخاصة، والشعر الجاهلي بعامة: إنها تنطوي على عنصرين أساسين: جسد المرأة منظورًا إليه من الخارج، وعلاقة الرجل بالمرأة من حيث هي الشق الآخر للوجود البشري. ولعل السمة الأكثر طغيانًا على التقنية الشعرية المتعاملة مع العنصر الأول هي النظر إلى المرأة من خلال الكائنات الطبيعية وعناصر البيئة، الأمر الذي من شأنه أن ينمّ عن علاقة من نوع ما بين الطبيعة والجنس، وأما ما يتميز به العنصر الثاني فهو تقديم مواقف الفراق واختلال العلاقات العشقية، وهو ما قد يوحي بالحرمان من الإشباع العشقي في مجتمعٍ قد ثبت أعرافًا قمعية صارمة.

والشاعر الجاهلي بعامة قد جاء بصورة المرأة متطابقة تمام التطابق مع مثال المرأة في الذهن الجاهلي، وأنه دمج هذه الصورة بأشدِّ حاجاته إلحاحًا، وهي توكيد الذات.

وفي ختام حديثنا عن المنهج الاجتماعي لا بُدَّ من إشارة، ولو موجزة، لباحث

1 نفسه 235 وما بعدها.

ص: 258

عرض للشعر الجاهلي من وجهة النظر هذه، وإن كان قد غلب عليه التنظير ولم يفصل في تطبيق منهجه، بل اكتفى بذكر رءوس موضوعات، ذلك هو الباحث حسين مروة في كتابه "النزعات المادية في الفلسفة العربية"1، ونورد هنا أهم ما جاء في الفصل الذي عقده للجاهلية بعنوان:"في الجاهلية".

1-

إن الفارق الحضاري بين عرب الشمال وعرب الجنوب يكشف عن حقيقة "أن تاريخ العرب قبل الإسلام تعرّض لحالة من الانقطاع التاريخي في حركة تطوره، ربما كان لها أمثالها في مراحل سابقة أيضًا"2، وإن هذا الانقطاع قد نشأ إما "عند منعطفات التعاقب بين الدول التي عرفها التاريخ في القديم، وإما من أثر الصراع بين هذه الدول من جهة، وبينها وبين الدول الخارجية بأشكال متنوعة من جهة أخرى"3.

2-

من أبرز الظواهر التاريخية التي تتجلى في المرحلة الجاهلية الأخيرة4.

أ- ظهور علائم الانحلال في النظام البدائي للانتقال من الاقتصاد الطبيعي إلى الاقتصاد البضاعي، حتى التبادل النقدي، ومن أبرز هذه العلائم: تقلص المشاعية البدائية، وظهور الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج.

ب- بداية تحوّل سلطة رئيس القبيلة عن أساسها القديم، وهو مراعاة التقاليد القبلية فقط، إلى أساس جديد هو مراعاة الوضع الاقتصادي للرئيس إلى جانب الواضع القبلي التقليدي.

ج- زوال الوضع الأمومي "الطوطمي" في العلاقات العائلية وسيادة العلاقات الأبوية "البطريركية".

4-

يجب النظر إلى الأهمية البالغة لوجود لغة عربية وشعر عربي في المرحلة الأخيرة للجاهلية، هي على مستوى متطور يكاد يتخطى مستوى النظام الاجتماعي القبلي في تلك المرحلة، بالرغم من كونهما يحملان انعكاسات أمنية لمختلف ظاهرات هذا النظام5.

1 صدر عن دار الفارابي، بيروت، 1979م، الجزء الأول، وقد خصص الصفحات من 175-326 للحديث عن الجاهلية.

2، 3 نفسه 180.

4 نفسه 183.

5 نفسه 184.

ص: 259

5-

إن الاتجاه الذي كان يتخذه التطور الاقتصادي كانت له ظاهراته المعبرة عنه، والتي تؤكد أنه أصبح الاتجاه الحتمي تاريخيًّا، وإن هذه الظاهرات كانت تحمل في أحشائها بذور تناقضات بين هذا الاتجاه للتطور الاقتصادي والبنية الاجتماعية للنظام البدائي1.

6-

لم يكن الصعاليك سوى فئة من فقراء القبائل المختلفة عبَّرت بانسلاخها عن واقعين اثنين لهما دلالة واحدة: عبَّرت أولًا عن خروجها عن الانتماء الذي يلزمها الالتصاق بحياة القبيلة والانقياد لأوضاعها وأعرافها مهما لقيت من عوز واضطهاد، وعبَّرت ثانيًا عن حاجة مادية لم تستطع احتمالها في ظل القبيلة2.

7-

إن دليل أهمية عامل المال عند الجاهليين فوق الاعتبارات القبلية التقليدية في تولية المناصب الرئيسية قول حاتم:

يقولون لي: أهلكت مالك فاقتصد

وما كنت -لولا ما يقولون- سيد3

8-

إن العلاقة بين الوجود الاجتماعي والوعي الاجتماعي "الفكر" علاقة موضوعية شمولية، وهي لا تختلف في بعض الشعوب أو المجتمعات عنها في البعض الآخر، ونعني بها العلاقة التي تحتم انعكاس الوجود المادي بمختلف أشكاله ومظاهره على وعي الإنسان: كل إنسان في كل زمان ومكان4.

9-

إن الانقطاع التاريخي النسبي بين المراحل القديمة للتاريخ العربي الجاهلي ومرحلته الأخيرة هو الذي أحدث تلك الفجوة بين الأشكال الثقافية والبنية الاجتماعية في المرحلة المذكورة، حتى بدت الأشكال الثقافية كأنها مستقلة عن شرط وجودها "البنية الاجتماعية" استقلالًا يكاد يكون تامًّا من حيث التفاوت الهائل بين مستوى تطور كلٍّ منهما بالقياس إلى مستوى تطور الأخرى5.

10-

تتميز المعرفة ببطء حركيتها، أي: بزمنيتها الخاصة التي لا تقاس بالزمن

1 النزعات المادية في الفلسفة العربية 203.

2 نفسه 209.

3 ديوانه.

4 النزعات المادية 241.

5 نفسه 242.

ص: 260

الخارجي، زمن الواقع الاجتماعي نفسه، ومن هنا لا تتشكل المعرفة بأشكالٍ ثقافية معينة تنتمي إلى بنية اجتماعية معينة إلّا بعد وقت قد يتأخَّر كثيرًا عن وقت تشكل البنية الاجتماعية هذه التي تنتجها1.

11-

حدد الباحث المعالم الثقافية الجاهلية بـ: المعلم اللغوي، والمعلم الشعري، ومعلم الأمثال، ومعلم المواسم الأدبية، ومعلم الخطابة، والكهانة، والمعلم الميثولوجي2.

أما اللغة: فلا بُدَّ من النظر إليها على أساس ارتباطها العضوي هذا بتاريخ المجتمع الذي تنتمي إليه، وعلى أساس أن هذا الارتباط ذاته يضعها في علاقة حتمية مع ثقافية المجتمع نفسه؛ من حيث أن ثقافته هي نتاج تاريخه أولًا، ومن حيث أن لغته هي الأداة التعبيرية لهذا النتاج الثقافي ثانيًا.

وأما الشعر: فالذي يعنينا من دلالاته هو ما تتضمنه تلك الدلالات من أبعاد يحدها اثنان: البعد الاجتماعي والبعد المعرفي، والظاهرة الشعرية الملازمة لتلك السمة التاريخية هي سيطرة العلاقة الاجتماعية -القبلية- على الآلية الداخلية للشعر الجاهلي سيطرة مطلقة، بحيث لا تبدو علاقته مع ذات الشاعر إلّا كمظهر تكويني لتلك العلاقة المسيطرة، لهذا سقطت الحدود داخل هذا الشعر بين ما هو صوت الشاعر في القبيلة، وما هو صوت القبيلة في الشاعر، وبمعنًى آخر: كان الشعر شعر القبيلة العربية قبل الإسلام. أما الصعاليك فقد تميز شعرهم بمفارقة من أبرز الدلالات التاريخية التي يحملها الشعر الجاهلي، فشعرهم مسكون في وقت واحد بكل مقومات شعر القبيلة العربية قبل الإسلام من جهة، وبكل مقومات الرفض لهذا العنوان من جهة أخرى، لكن هذه المفارقة لا تبلغ حد التعارض أو التناقض بين الوجهين، فهم لم يقولوا شعرهم خارج العلاقات اللغوية -الفنية لشعر القبيلة العربية في جاهليتها، ولا خارج العلاقات الاقتصادية -الاجتماعية لذلك العصر، ولكنهم قالوه في حالة لهم، هي شكل من التعبير السلوكي عن بداية التفكك التاريخي لمجمل تلك العلاقات، فكان شعرهم شكلًا من الوعي الأولي العفوي لتلك الظاهرة التاريخية، أي: ظاهرة الاهتزاز والتخلخل التي كانت قد بدأت تهز الأساس المادي للعلاقات القبلية في مجتمع شبه الجزيرة العربية آنذاك.

1 النزعات المادية في الفلسفة العربية 242.

2 نفسه 245-291.

ص: 261

غير أن الطبيعة الحدسية للوعي في تلك المرحلة تختلف جدًّا عن طبيعة الحدسية في سياق المراحل المتقدمة لتطور المجتمعات البشرية، فميثولوجيا الجاهلية العربية هذه كانت التعبير التاريخي عن تطلعات هذا النموذج المعين من المجتمع القلبي إلى ما وراء المحسوس تفسيرًا لبعض الظواهر الكونية التي كان يتعذر عليهم تفسيرها بشكل آخر عقلاني في تلك المرحلة من تاريخهم.

والسمة البارزة لهذه المثيولوجيا هي الطبيعة الحسّية التي يخعلونها على المعاني، أي: على غير الحسية، ولهذه السمة أساسها الواقعي المرتبط بالمستوى التاريخي لتطور الوعي؛ فوعي الجماعة القبلية الوثنية لم يكن في مستوى من التطور يرتفع به إلى درجة الاستيعاب التجريدي للمسائل الكونية، أي: لتصور المعاني والأفكار تصورًا مجردًا من علاقاتها المادية بالواقع المحسوس.

وأما الظاهرة التي بدأت تبرز خلال الفترة المقاربة لظهور الإسلام واعدة بأنها ستتخطَّى تلك الظاهرة الوثنية المتجذرة، فهي ما كان يتمثّل حينذاك في ملامح جديدة للوعي العربي الجاهلي، كانت تنمو بوتيرة تثير انتباهنا الآن إلى درجة الاندهاش: ملامح تطور يعتمل في داخل البنية السائدة لهذا الوعي.

وقد كان الاتجاه نحو انفجار هذه الاطر المتعددة يعني من حيث دلالته الواقعية - التاريخية، حركة ديالكتيكية تتضمّن الهدم والبناء في عملية واحدة، بمعنى: أن يتحول التعدد إلى التوحد، أي: إنه سيولد مجتمع يحتويه إطاره التوحيدي.

ص: 262