الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[واخفض جناحك]
11 -
قرع جرس الباب فهرعت (1) حفصة لترى من الطارق، وإذا بجارتهم أم حسان قد جاءت لزيارتهم وقد اصطحبت معها ابنتها ميمونة، فرحبت بهما على مضض (2) وقادتهما إلى حيث حجرة الضيوف، وأسرعت تنادي والدتها، ثم اتجهت إلى حجرتها وأغلقت عليها بابها ولم تكلف نفسها عناء مجالسة ميمونة ابنة جارتهم أو حتى دعوتها للجلوس معها في حجرتها بل بقيت قابعة (3) هناك حتى خرجت جارتهم وابنتها عائدتين إلى منزلهما.
لم يرق (4) لأم حفصة ما فعلته ابنتها مع الزائرتين وشق عليها امتعاض (5) والدة ميمونة من هذا التصرف، ولم تشأ الأم أن تسأل ابنتها أول مرة عن سر عدم رغبتها في مخالطة تلك الفتاة ظنا منها أن هذا أمر طارئ، ولكن حين تكرر سلوك ابنتها وحين رأت استياء (6) جارتهم طرحت الصمت جانبا وقررت أن تعرف الباعث على هذا
(1) أسرعت.
(2)
كرها ورغما.
(3)
منزوية.
(4)
لم يعجبها.
(5)
امتعاضا (معض) من الأمر أي: غضب منه.
(6)
عدم الرضى.
التصرف، فحين انصرفت الزائرتان نادت الأم ابنتها بصوت يشوبه (1) الغضب والضيق، فأتت حفصة على عجل وقد دهشت لغضب والدتها دون سبب وبادرت أمها قائلة:
- خيرا يا أماه ما لي أراك غاضبة؟
أجابت الأم وقد حاولت التخفيف من ثورة غضبها قائلة:
- ألا تدرين يا حفصة ما فعلت حتى أغضبتيني؟
ردت حفصة قائلة وقد عجبت لقول والدتها:
- أنا لم أفعل شيئا يا أماه.
أجابت والدتها:
أخبريني لماذا لا ترغبين في مجالسة ابنة جيراننا ميمونة حين تأتي لزيارتنا مع والدتها، فهي فتاة لطيفة مؤدبة حسنة الحديث، فما الذي يجعلك تنفرين من صحبتها؟
ردت حفصة قائلة:
- إني أعرفها يا أماه وأنت تعرفين أنها معي في المدرسة، بل وفي نفس الفصل، وأنا أرى أنها فتاة مملة وغير ذكية وينقصها الكثير من الصفات حتى تكون مثلي، فكيف أجالس من هي أقل مني حظا في كل شيء فأنا أبزُّها (2) كثيرا فكيف أرتضي صحبتها؟ !
(1) يخالطه.
(2)
من بز أي: غلب.
أجابت الأم وقد أحزنها ما قالته ابنتها:
- لا يا ابنتي، إن تربيتي لك لم تكن على هذا الخلق ولم أرض يوما أن توصفي بالكبر (1) والتعالي.
سألت حفصة مندهشة:
- وهل أكون متكبرة ومتعالية حين أرفض صحبة من هم أقل مني منزلة؟ !
- نعم يا ابنتي، وإن في تصرفك وتبريرك لهذا التصرف ما يدل على كبر في النفس وتفاخر لا يحبه الله ورسوله الكريم. ثم أخبريني كيف عرفت بأنها أقل منك منزلة؟
أجابت حفصة:
- إنني أعرف أنها من عائلة فقيرة، ثم كما قلت لك هي غير ذكية كما أن حظها من الجمال قليل.
- يا ابنتي، تلك أمور دنيوية لا تفاضل فيها، فالتفاضل الحقيقي بالتقوى، فالله تعالى يقول:{إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13](2) ثم كيف عرفت بأنها أقل منك منزلة! ! ليس لك أن تزكي نفسك ولا أن تصفيها بما تحبين من الصفات الحميدة، فقد نهانا الله عز وجل أن نزكي أنفسنا حين قال في محكم تنزيله:{فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى} [النجم: 32](3) .
(1) التكبر.
(2)
سورة الحجرات، الآية:13.
(3)
سورة النجم، الآية:32.
تساءلت حفصة قائلة:
- ما معنى ما تقولين يا أماه؟
أجابت والدتها قائلة:
- أي لا يذكر المرء حسناته ويعدها فالله يعلم من الذي يتقيه.
أجابت حفصة:
- حسنا يا أماه، وإذا كنت أكره مخالطتها فهل هذا كبر مني؟
أجابت الأم:
- نعم يا ابنتي؛ لأنك تبتعدين عنها وأنت ترين نفسك في منزلة أعلى من منزلتها، فهذا ينافي صفة التواضع التي حث الله عز وجل رسوله عليها ورغب الرسول صلى الله عليه وسلم في هذه الصفة، فقد قال تعالى مخاطبا رسوله الكريم:{وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ (1) لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: 215](2) وهو خطاب للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عامة.
سألت حفصة قائلة وقد شد انتباهها ما تقول والدتها:
- ما معنى {وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ} [الشعراء: 215] ؟
أجابت الأم قائلة وقد سرت لسؤال ابنتها:
- لقد أمر الله رسوله صلى الله عليه وسلم بالتواضع واللين والرفق وصور هذه
(1) ألن جانبك وتواضع.
(2)
سورة الشعراء، الآية:215.
الصفات في كتابه العزيز بصورة حسية مجسمة هي صورة خفض الجناح أي: كما يخفض الطائر جناحيه حين يهم بالهبوط، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كذلك مع المؤمنين طوال حياته، وكيف لا وقد كان خلقه القرآن، وكان هو الترجمة الحية الصادقة الكاملة للقرآن الكريم.
سألت حفصة قائلة:
- هل يعني هذا أن الأمر في الآية للرسول صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين؟
- نعم يا ابنتي، إن الرسول صلى الله عليه وسلم هو قدوتنا في كل أمور حياتنا وحين يأمره الله بأمر وينهاه عن أمر ففي هذا أمر ونهي للمؤمنين جميعا.
سألت حفصة قائلة وقد اعتدلت في جلستها وبدا الاهتمام عليها أكثر فأكثر.
- وهل هناك آيات أخرى تدل على وجوب التواضع يا أماه؟
أجابت الأم قائلة:
- نعم يا ابنتي، ففي آية أخرى يقول الله عز وجل:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ (1) وَيُحِبُّونَهُ (2) أَذِلَّةٍ (3) عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ (4) عَلَى الْكَافِرِينَ} [المائدة: 54]
(1) يهديهم ويثيبهم.
(2)
يطيعونه.
(3)
عاطفين متواضعين.
(4)
أقوياء متغلبين.
(1)
وتابعت الأم حديثها قائلة:
- انظري يا ابنتي وتأملي في قول الله تعالى.
سألت حفصة والدتها قائلة:
- كيف يكونون أذلة وأعزة في نفس الوقت يا أماه؟
ردت الأم قائلة:
- إن الله في هذه الآية الكريمة يهدد من يرتد عن دينه، فإنه ليس عند الله بشيء وليس بمعجز ولا ضار بدينه، وإن لدين الله أولياء وناصرين مدخرين في علم الغيب إن ينصرف هؤلاء يجيء بهؤلاء ويصور ملامح هذه الجماعة المختارة المدخرة في علم الله لنصرة دينه وهي ملامح جميلة ومحببة.
- وما هذه الملامح يا أماه؟
- إن أول هذه الملامح المشرقة الجذابة الحبيبة للقلوب هي الحب والرضا المتبادل بينهم وبين ربهم، الحب هذا الروح الساري اللطيف المشرق الرائق البشوش هو الذي يربط القلوب بربهم الودود.
سألت حفصة والدتها قائلة وهي متشوقة لمعرفة المزيد:
(1) سورة المائدة، الآية:54.
- وكيف يكون الحب بين الله وعباده المؤمنين؟
- إن حب الله لعبد من عبيده أمر لا يقدر على إدراك قيمته إلا من عرف من هو صانع هذا الكون الهائل وعرف الله سبحانه وتعالى بصفاته كما وصف نفسه، وخالق الإنسان الذي يعرف أنه الله الجليل العظيم الحي الدائم الأول والآخر والظاهر والباطن.
ردت حفصة قائلة وقد استشعرت روحها حلاوة ما ذكرته والدتها من قول:
- الله يا أماه، ما أعظم هذا الحب! ! .
أجابت الأم قائلة:
- نعم يا ابنتي، إن حب العبد لربه نعمة لهذا العبد لا يدركها إلا من ذاقها، وإذا كان حب الله لعبد من عبيده أمرا هائلا عظيما وفضلا غامرا جزيلا (1) فإن إنعام الله على العبد بهدايته لحبه وتعريفه هذا المذاق الجميل الفريد الذي لا نظير (2) له هو إنعام هائل عظيم، فانظري إلى قول الله تعالى:{قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31](3) وغيرها الكثير من الآيات، ولكن علينا أن ندرك يا ابنتي أنها
(1) عظيما.
(2)
النظير: المثيل المساوي.
(3)
سورة آل عمران، الآية:31.
علاقة ود وحب كما أنها علاقة تنزيه (1) .
- إذا أفهم من كل ما قلته سابقا وجوب التواضع، وأن الحب بين من ذكرتهم في الآية وبين ربهم هو أول الملامح التي يتصفون بها.
أجابت الأم قائلة وهي تربت على كتف ابنتها:
- أحسنت يا حفصة، أما الملامح الأخرى فهي صفة الذل، وهي صفة مأخوذة من الطواعية واليسر واللين وهذا الذل للمؤمنين، فالمؤمن لأخيه المؤمن غير عصي عليه ولا صعب بل هو هين لي مستجيب سمح ودود، وهذا معنى الذلة للمؤمنين.
أجابت حفصة:
- إذا فهي ذلة مع المؤمنين فقط.
ردت الأم قائلة:
- نعم يا حفصة، إنه التواضع الواجب المحمود الذي يقصد به وجه الله تعالى. . ومن كان كذلك أعلى الله قدره وطيب ذكره، أما التواضع لأهل الظلم فذلك الذل الذي لا عز فيه.
ردت حفصة متسائلة:
- وما معنى أعزة على الكافرين؟
أجابت والدتها قائلة:
(1) تعظيم وتقديس لله تعالى.
- أي أن فيهم إباء واستعلاء على الكافرين ولكنها ليست العزة للذات ولا الاستعلاء للنفس إنما هي العزة للعقيدة والاستعلاء لراية الإسلام التي يقفون تحتها في مواجهة الكافرين. . إنها الثقة بغلبة دين الله على الأهواء، وبغلبة قوة الله على كل القوى، وبغلبة حزب الله على أحزاب الجاهلية فهم الأعلون حتى وهم ينهزمون في بعض المعارك في أثناء الطريق الطويل.
- إذا يا أماه علينا أن نكون متواضعين مع المؤمنين مستعلين على الكافرين؟ .
- أحسنت يا ابنتي، ولعلك فهمت معنى الاستعلاء على الكافرين والتواضع للمؤمنين، وفي سيرة رسولنا العطرة ما يجعله خير قدوة لنا.
- هل لك يا أماه أن تخبريني عن تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
أجابت الأم قائلة:
- اسمعي يا ابنتي، فلقد قال رجل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم:«انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يخطب، فقلت: يا رسول الله رجل غريب جاء يسأل عن دينه لا يدري ما دينه، فأقبل علَيَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وترك خطبته حتى انتهى إلي، فأتى بكرسي فقعد عليه وجعل يعلمني مما علمه الله، ثم أتى خطبته فأتم آخرها» (1) .
(1) رواه مسلم في صحيحه: كتاب الجمعة، الجزء الثالث ص 15.
والآن بعد أن سمعت الحديث يا ابنتي هل تستطيعين أن تذكري لي شيئا مما يفيده الحديث بعد كل ما دار بيننا آنفا (1) .
أجابت حفصة قائلة بحماس ظاهر:
- نعم يا أماه، فالحديث يفيد كمال تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم ورفقه بالمسلمين وكمال شفقته عليهم وخفض جناحه لهم، كما يفيد الحديث حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تعليم الناس أمور دينهم.
أجابت الأم بسرور قائلة:
- أحسنت يا ابنتي، كما أن هناك فائدة لا تقل أهمية وقيمة عصا ذكرت ألا وهي المبادرة إلى جواب المستفتي وتقديم أهم الأمور فأهمها، أن كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذا الغريب اعتبر من الخطبة فلم يقطعها، وقد اتفق العلماء على أن من جاء يسأل عن الإيمان وكيفية الدخول في الإسلام وجبت إجابته وتعليمه على الفور.
أجابت حفصة قائلة:
- الله يا أماه! لم أعلم أن التواضع صفة مهمة من صفات المؤمنين، ولم أكن أعلم أن الله حث على هذه الصفة وكذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجابت الأم قائلة:
- آخر ما أقوله لك يا ابنتي في هذا الموضوع هو حديث
(1) سابقا.
رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه عنه أبو هريرة رضي الله عنه: «ما نقصت (1) صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله» (2) فالتواضع يا ابنتي يزيد الإنسان رفعة عند الله وعند الناس.
- كم أنا شاكرة لك يا أماه أن أنرت بصيرتي بهذا القول، وإن شاء الله ستجدينني من الغد كما تحبين، وسأحاول جاهدة أن أكون كما ذكرت ولن أسيء ثانية لميمونة أو غيرها بالكبر أو التعالي وغيرهما من الصفات المذمومة.
(1) أي ما قللت منه وأذهبت.
(2)
رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 21.