الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وكان بين ذلك قواما]
6 -
عاد الأب من عمله والأبناء من مدارسهم، اكتمل شمل الأسرة حول المائدة التي كانت عامرة بما لذ وطاب من أصناف الطعام، حيث تعددت الأطباق واختلفت الأنواع حتى ليخيل للرائي أن هذه المائدة قد أعدت لعشرين شخصا لا لأربعة أشخاص، فما كان من عبد الرحمن حين رأى ذلك إلا أن هتف ببراءة الأطفال:
سلمت يداك يا أماه على كل هذا الطعام. . آه كم أنا جائع.
ردت الأم بحنو ظاهر: لقد قضيت اليوم كله وأنا أعد هذه المائدة التي ترونها الآن وآمل أن تحوز على رضاكم وألا يضيع جهدي هباء (1) .
أجاب الأب وقد بدا الوجوم على وجهه:
سلمت يداك يا أم عبد الرحمن، حقا إنها مائدة شهية عامرة بأصناف الطعام اللذيذ، ولكنني لا أتذكر أنني أخبرتك بأنني دعوت أحدا للغداء.
أجابت الأم وقد اعتراها الزهو لهذا الإطراء:
(1) الهباء: دقائق التراب ساقطة ومنثورة على وجه الأرض، ومنه يقال ذهب هباء منثورا أي ذهب ضياعا.
أعلم ذلك يا أبا عبد الرحمن ولكنني أحببت أن أسعدكم اليوم بهذه المفاجأة بعد عناء (1) يوم طويل من العمل والدراسة.
لم يجب الأب ولكنه وجه حديثه إلى أفراد أسرته قائلا:
سموا الله واشرعوا في تناول طعامكم.
قضت الأسرة وقتا ممتعا على الغداء تتخلله الأحاديث الشيقة، ثم اتجه كل إلى حجرته لأخذ قسط من الراحة بعد الغداء. . وحين جن (2) المساء اجتمعت الأسرة في حجرة الجلوس، دأبها (3) كل ليلة بعد أن يفرغ الأبناء من أداء واجباتهم؛ ليتناقشوا في أمور دينهم ودنياهم، وليتزودوا بما ينفعهم، حيث يقرأ عليهم والدهم أحيانا شيئا من أحد الكتب القيمة. . قامت الأم بإعداد الشاي لهم واتجهت به حيث يجلس أفراد أسرتها وبادرت الأب قائلة:
ماذا أعددت لنا من حديث في هذا المساء يا أبا عبد الرحمن؟
أجاب الأب:
سيكون حديثنا حول حدث دار في هذا المنزل لمسناه بأيدينا ولاحظناه بأعيننا سنستخلص منه العظة والعبرة.
تساءلت فاطمة بفضول ظاهر:
(1) تعب.
(2)
أظلم أو اختلطت ظلمته.
(3)
شأنها أو عادتها.
لقد شوقتني يا أبي لهذا الحديث فما الموضوع يا ترى؟
مضى والد عبد الرحمن مخاطبا أفراد أسرته:
فعلَّكم لاحظتم اليوم على مائدة الغداء التي أعدتها والدتكم أن بعض الأطعمة التي تعبت في إعدادها لم تمسها أيدينا، كما تبقى الكثير من الطعام الذي تناولنا منه، ونحن نشكر لوالدتكم اجتهادها ومحاولتها إسعادنا ولكن هذا لا يمنع أن نقول لها بأنها أخطأت من حيث لا تدري؛ فأنتم تعلمون أن مثل هذا الأمر يعد إسرافا (1) فمن منكم يا أبنائي يذكر لنا موقف الدين الإسلامي من الإسراف.
أجاب عبد الله:
إن ديننا القويم ينهانا عن الإسراف، وقد تعلمنا ذلك فيما تعلمناه في المدرسة، وإني لأذكر قول الحق جل وعلا:{وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67](2) .
أردفت عائشة متسائلة بحماس ظاهر. . لم أفهم ما تعنيه الآية الكريمة التي ذكرها أخي، فهل لك يا والدي أن توضح لنا ما تعنيه؟
أجاب الأب وقد سعد لحماس ابنته وذكائها:
يقول الله تعالى في هذه الآية الكريمة إن من صفات عباده
(1) تبذيرا.
(2)
سورة الفرقان، الآية:67.
حين ينفقون في شتى مناحي حياتهم أنهم لم يسرفوا أي لم يبالغوا في هذا الإنفاق ولم يبذروا، حيث إنهم لا ينفقون أكثر من حاجتهم ولكنهم في ذات الوقت عباد لا يقترون، أي: لا يبخلون على أنفسهم أو على غيرهم، فهم يلتمسون طريقا وسطا بين هذا وذاك، أي: لا تبذير ولا بخل، لا إسراف ولا تقتير، وهذا ما يحبه الله في عباده الذين أسماهم عباد الرحمن في محكم تنزيله.
فالمسلم يا أبنائي مأمور بالتوسط؛ لأن الإسراف مفسدة للمال والنفس والمجتمع، والتقتير مثله حبس للمال عن انتفاع صاحبه به وانتفاع الجماعة من حوله. . فالمال كما تعلمون أداة اجتماعية لتحقيق خدمات اجتماعية. . والإسراف والتقتير يحدثان اختلالا في المحيط الاجتماعي والمجال الاقتصادي، والإسلام يريد أن يقيم بناءه على التوازن والاعتدال، ويبدأ بهذا البناء من نفس الفرد الذي هو أساس المجتمع، فيجعل الاعتدال سمة (1) من سمات الإيمان بقوله تعالى:{وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [الفرقان: 67] وتابع الأب حديثه وهو ينظر إلى أفراد أسرته فردا فردا ما أحرانا (2) أن نتلمّس طريق الحق وننتهجه منهاجا مستمدين النور من القرآن والسنة.
تابعت فاطمة حديث والدها ثم أردفت قائلة: إني لأحفظ
(1) علامة.
(2)
أجدرنا.
من القرآن يا والدي آية عن التبذير، وذلك من سورة الإسراء التي حفظتها كاملة هذا العام، وهي قول الله تعالى:{وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا - إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا} [الإسراء: 26 - 27](1) .
- أحسنت يا فاطمة، بارك الله فيك، فهل لك أن تفسري لنا هاتين الآيتين الكريمتين. .
هزت فاطمة رأسها بالإيجاب ومضت تقول:
لقد وردت هاتان الآيتان في سورة الإسراء حيث أمر سبحانه وتعالى بالإنفاق على ذي القربى والمساكين وابن السبيل، وهذا حق فرضه الله تعالى وليس تفضلا من أحد على أحد، كما ينهى في هذه الآية عن التبذير وهو الإنفاق في غير حق، ووصف المبذرين بأنهم إخوان الشياطين؛ وذلك لأنهم ينفقون في الباطل وينفقون في الشر وينفقون في المعصية، لا ينالون خيرا بهذا الإنفاق، فهم رفقاء الشياطين وصحبهم. . ثم يوضح الله سبحانه وتعالى حال الشيطان فيصفه بأنه كان لربه كفورا أي: كافرا بالنعمة، فهم مثله لا يؤدون حق النعمة التي أنعمها الله بها عليهم، وحقها أن ينفقوها فيما شرعه الله من الطاعات والحقوق غير متجاوزين ولا مبذرين.
كان الأب يسمع لفتاته في إعجاب ظاهر بما سمعه منها
(1) سورة الإسراء، الآيتان: 26، 27.
فأثنى عليها حين انتهت من حديثها وسألها بانشراح كيف استطعت تفسير هذه الآيات يا فاطمة؟
ردت فاطمة وهي سعيدة لسعادة والدها قائلة:
لقد درسنا هذا في المدرسة حين حفظنا سورة الإسراء وكذلك تفسير آياتها، وقد وعيتها (1) جيدا، وقد اشتملت على العديد من صفات عباد الرحمن، وحرصت أن أظل محافظة على ما وعيته منها وبقيت أتعهدها دائما بالقراءة.
أحسنت يا ابنتي، فعلينا أن نتعهد ما حفظناه من القرآن بالمداومة عليه حتى لا يتفلت منا تفلت الإبل من عقالها، كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ولعلي أوضح لكم شيئا قبل أن نختم حديثنا حول الإسراف.
سأل عبد الرحمن: وما هو يا أبي؟
أجاب الأب قائلا:
إن النهي عن الإسراف لا يعني الشح والتقّتير، فالإمساك حيث يجب البذل بخل، والبذل حيث يجب الإمساك تبذير، وبينهما وسط وهو المحمود، وقد قال تعالى:{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [الإسراء: 29](2) فللمنفق حالتان:
(1) فهمتها.
(2)
سورة الإسراء، الآية:29.
تبذير واقتصاد، والمحمود هو الاقتصاد.
كانت الأم تستمع بكل اهتمام للحديث الدائر بين زوجها وأبنائها وقد امتلأت نفسها حبورا وزهوا لما من الله به عليها من أسرة تسعى جاهدة لتلمس دروب الحق والانضمام تحت لواء (1) عباد الرحمن، فسألت زوجها وقد بدا التأثر ظاهرا في قسمات (2) وجهها:
يا أبا عبد الرحمن، هل يعد ما فعلته اليوم من التبذير الذي نهانا منه الله عز وجل؟
- نعم يا أم عبد الرحمن، وإني لأرجو أن تكوني قد خرجت من حديثنا هذه الليلة بعظة وعبرة وفائدة تعود عليك بالخير في الدين والدنيا.
- أجل يا أبا عبد الرحمن، لقد وعيت ذلك جيدا، فبارك الله فيك وغفر لي ولن تجدني بعد اليوم - إن شاء الله - مقصرة أو مبذرة.
(1) راية.
(2)
محاسن الوجه.