الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[ولئن صبرتم]
13 -
حرص الشيخ إبراهيم على رعاية أبنائه منذ الصغر وتربيتهم التربية الصالحة على الفضائل الإسلامية في دوحة الدين، وجعل من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة هديهم في الحياة، وكان يرجو في قرارة نفسه أن ينشأ أبناؤه الثلاثة دعاة مخلصين لله، يجاهدون في سبيل الحق ورفعة راية الدين، ولقد جاهد وبذل ما استطاع من الوقت ليكونوا كما أراد لهم، فكان يقتطع ساعات من يومه يجمع فيها أفراد أسرته ليفقههم في أمر من أمور دينهم تارة بتلاوة القرآن وتفسيره وأخرى بحفظه وحفظ الأحاديث وشرحها وغيرها من علوم وأمور الدين التي لا بد للداعية أن يلمَّ بها، كما كان يروض (1) أخلاق أبنائه محمد وعلي وعمر على تحمل هذه المسؤولية الجسيمة.
وفي ذات يوم جاء محمد - وهو أكبر إخوته - إلى أبيه وقد ارتسمت علامات الألم والضيق على وجهه، وقد ظهر لوالده أن هناك أمرا ما يزعج ابنه ويقلقه ويود أن يفضي (2) به إليه فأشار لابنه
(1) يمرن.
(2)
من أفضى إفضاء بالأمر أي: بينه بصورة واضحة وأعلمه.
حين رآه أن يأخذ مكانه من المقعد المجاور له، وحين استوى محمد في جلسته سأله والده بلطف قائلا:
- ما بالك يا بني، أراك اليوم على غير عادتك فما الذي ألم بك؟
أجاب محمد قائلا - والضجر (1) مما أصابه يبدو من خلال حديثه -:
- لقد مللت يا والدي من رفيقي الذي يجلس بجواري في حجرة الدرس.
سأل الأب ابنه بتعجب قائلا:
- ولماذا يا بني هذا الضجر؟
رد محمد قائلا بصوت يخالطه بعض الألم:
- إنه دائم الإيذاء لي يا أبي مرة بالسخرية مني، ومرة بعدم التعاون معي إذا اعترضتني مشكلة، وأساليب أخرى قد لا يسعني الوقت لذكرها.
هدأ الأب الحكيم من روع (2) ابنه قائلا:
- لا عليك يا بني، لكل معضلة حل فلا تبتئس ولكن أخبرني
(1) الضيق.
(2)
الروع سواد القلب، وقيل: موضع الفزع منه، وهدأ روعه أي طمأنه.
كيف تصرفت معه؟
أجاب محمد قائلا:
- لم أحاول إيذاءه أو أن أرد الإساءة بمثلها، ولكني أحس بالملل من سوء سلوكه وعدم القدرة على الصبر، فلقد ضقت ذرعا لوجوده بجواري.
فكر الأب قليلا بعد أن سمع حديث ابنه ثم بادره قائلا:
- لا عليك يا بني، اذهب الآن إلى شأنك وسنلتقي إن شاء الله في المساء وستكون معضلتك (1) مع رفيقك هي مدار حديثنا، وسنجد الحل الذي يثلج صدرك بإذن الله.
غادر محمد والده وهو مطمئن النفس وقد ملأه شعور بالارتياح.
وحين اختلى الأب بنفسه قرر أن يكون حديث الليلة لأفراد أسرته حول فضيلة الصبر الذي هو من الفضائل الجليلة (2) والتي ينبغي للمؤمن أن يتحلى بها، فكيف بأبنائه وهو يأمل أن يراهم دعاة لله.
اكتمل شمل الأسرة في عقد جميل يجمع الأب والأم وأبناءهما الثلاثة محمدا وعليا وعمر وقد اكتست وجوههم بحلاوة
(1) مشكلتك.
(2)
العظيمة.
الإيمان ورقة الشعور، وأشرقت وجوههم بفيض (1) من نور غامر، فكانوا كأنما تحفهم الملائكة بالسكينة والأمن.
ابتدأ الأب حديثه بالصلاة والسلام على النبي المصطفى صلى الله عليه وسلم، وردد أفراد أسرته الصلاة على النبي، ثم بادر الأب بسؤالهم قائلا:
- لو أن أحدكم ألم به داء (2) عضال (3) لازمه طويلا، هل كان يشكو ويتذمر شاكيا لكل من رأى ألمه وبلواه؟
أجاب عمر قائلا وقد كان أصغر الأبناء:
- نعم يا أبي، فالمرض مؤلم فكيف وإن كان لفترة طويلة، فأنا لا أستطيع الصبر عليه لذلك لا بد وأن أشكو وأتألم.
أجاب الأب قائلا:
- حسنا يا أبنائي، لقد سمعتم قول أخيكم فهل أنتم موافقون على هذا القول؟
أجاب علي قائلا وقد كان يكبر أخاه عمر بثلاث سنوات:
- لا يا والدي، لا يحق لنا إظهار الشكوى والتذمر، فالمرض ابتلاء من الله سبحانه وتعالى يختبر عباده به؛ لذا علينا أن نصبر ونحتسب ابتغاء وجه الله.
(1) كثير.
(2)
مرض.
(3)
شديد غالب.
أجاب الأب قائلا وقد سر لإجابة ابنه علي:
- أحسنت يا علي فيما ذكرت، ونحن اليوم سنجعل حصتنا من الوقت للحديث عن فضيلة من أجلِّ الفضائل وأعظمها ألا وهي فضيلة الصبر. . ولقد أخبرني أخوكم محمد بالمعاناة التي يجدها في المدرسة من أحد رفاقه. . وبعد أن شرح لهم مشكلة أخيهم سألهم من منكم يعرف معنى الصبر؟
فلما لم يجد إجابة من أحدهم تابع قائلا:
- الصبر، يا أبنائي، هو حبس النفس على ما يقتضيه العقل أو الشرع، أو البعد عما يقتضيان حبسها عنه. . ثم عقب بسؤال آخر.
- بماذا يمكن أن يقابل أخوكم محمد إساءة رفيقه؟
في هذه اللحظة تدخل محمد ورد بأدب جم قائلا:
- أعرف يا أبي أن علي أن أصبر، ولكني مللت لكثرة ما تكررت منه الإساءة.
أجاب الأب قائلا:
- لا يا بني، يجب أن تروض نفسك على الصبر، وأن تحاول التحلي بهذه الصفة ما استطعت. . ولكن ما هي الأمور التي يجب على الإنسان أن يصبر فيها؟
أجابت أم محمد قائلة:
- على الإنسان أن يصبر على المصائب التي يبتليه بها الله كما
عليه أن يصبر على أداء الطاعات كأداء الصلاة والصوم وغيرها من العبادات، والصبر عن المعاصي كالغيبة والنميمة والكذب وغيرها.
أجاب أبو محمد قائلا:
- أحسنت يا أم محمد، وهناك مجالات أخرى يجب على المؤمن أن يصبر فيها كالصبر على مواجهة الكفار أعداء الدعوة الإسلامية، والصبر على الجهاد في سبيل الله لرفع راية الإسلام. . كل هذه أمور يحمد الصبر فيها، ولقد أمرنا الله تعالى في كتابه العزيز بالصبر وبين لنا أجر الصابرين، فهل منكم من يتذكر آية تحث على الصبر؟
أجاب محمد قائلا:
- إني لأحفظ يا أبي قول الحق تبارك وتعالى مما حفظت في المدرسة من الآية الكريمة: {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} [الزمر: 10](1) .
رد الأب قائلا:
- أحسنت يا محمد، ها أنت تحفظ من كتاب الله ما يحث على الصبر، أفلا تمنحك هذه الآية قوة هائلة للصبر، وتابع حديثه قائلا: وهناك يا بني الكثير من الآيات الدالة على فضيلة الصبر، ولعلي أذكر لك هنا قول الحق تبارك وتعالى في محكم تنزيله:
(1) سورة الزمر، الآية:10.
وبعد أن تلا الأب هاتين الآيتين الكريمتين سأل أبناءه قائلا:
- إلى أي نوع من أنواع الصبر تشير هاتان الآيتان الكريمتان؟
رد علي قائلا:
- إنه الصبر في مجال الدعوة لله سبحانه وتعالى.
أجاب الأب قائلا وقد استحسن إجابة ولده:
- أحسنت يا علي وبارك الله فيك، ولكن هل يوضح أحدكم أكثر؟ .
فلما لم يجد إجابة من أحدهم تابع قوله:
- إن القرآن يا أبنائي يرسي (2) دعائم الدعوة ومبادئها ويعين وسائلها ويرسم المنهج الكريم للرسول صلى الله عليه وسلم وللدعاة من بعده إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وتابع قائلا: ومن الآيتين الكريمتين هل تستطيعين يا أم محمد أن تذكري لنا بعض قواعد الدعوة إلى الله؟
أجابت أم محمد قائلة:
(1) سورة النحل، الآيتان: 125، 126.
(2)
يضع ويثبت.
- إنها الحكمة، فالدعوة بالحكمة مطلب ضروري لنجاح الدعوة والنظر في أحوال المخاطبين وظروفهم، فلا يثقل عليهم ولا يشق بالتكاليف بل يهيئ النفوس لها أولا بالطريقة التي تليق بأحوالهم.
أجاب أبو محمد قائلا:
- لقد أجدت في الحديث يا أم محمد وسأعيد تلاوة الآيتين حتى يتذكر الأبناء بقية تلك القواعد. . وبعد أن تلا الآيتين الكريمتين ثانية نظر في وجوه أبنائه يستحثهم على الإجابة.
وهنا أجاب محمد قائلا:
- إنه مبدأ أو قاعدة الموعظة الحسنة أي التي تدخل القلوب برفق لا بالزجر والتأنيب.
وهنا تابع الأب حديث ابنه محمد قائلا:
- نعم يا أبنائي، فالرفق يهدي القلوب الشاردة ويؤلفها، ولقد خاطب الله سبحانه رسوله محمدا بقوله تعالى:{وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159](1) والجدل بالتي هي أحسن أي بلا تحامل (2) على المخالف ولا تقبيح ولا شتم، وهذا منهج الدعوة مادام الأمر في دائرة الدعوة باللسان والجدل بالحجة.
(1) سورة آل عمران، الآية:159.
(2)
تحامل على فلان أي: جار عليه ولم يعدل.
سأل محمد قائلا:
- وهل هناك منهج آخر يا أبي؟
أجاب الأب قائلا:
- لقد أحسنت السؤال يا محمد، وهنا أقول لك: إنه إذا وقع الاعتداء على أهل الدعوة فإن الموقف يتغير، فالاعتداء لا بد أن يقابل بمثله اعتزازا لكرامة الحق ودفعا لغلبة الباطل على ألا يتجاوز الرد على الاعتداء حدوده، فالإسلام دين العدل والاعتدال ودين السلم والمسالمة، ويدفع عن نفسه وعن أهله البغي ولا يبغي، {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل: 126]
وهنا سأل علي والده قائلا:
- أي أن المرء يا أبي إما أن يصبر أو أن يعاقب بمثل ما عوقب به؟
أجاب الأب قائلا:
- نعم يا بني، فالقرآن يدعو إلى العفو والصبر مع إقرار قاعدة القصاص ووقف العدوان في الحالات التي يكون فيها الصبر أعمق أثرا وأكثر فائدة للدعوة.
ردت أم محمد:
- ما أجمل ما ذكرت يا أبا محمد! وأضيف هنا أن الصبر يحتاج إلى مقاومة للانفعال وضبط للعواطف وكبت للفطرة،
والقرآن يصل الصبر بالله ويزين عقباه {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النحل: 126](1){إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: 153](2) .
أجاب أبو محمد قائلا:
- نعم يا أبنائي، فالله سبحانه وتعالى يعين على الصبر وضبط النفس، والاتجاه إليه هو الذي يحد من الرغبة الفطرية في رد الاعتداء بمثله.
فعقبت أم محمد قائلة:
- نعم، هذا هو الصبر يا أبنائي، والصبر لا يقتصر على الداعية وطرق الدعوة فقط بل الصبر على كل ابتلاء، وقد حث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم على الصبر في أحاديث كثيرة أذكر لكم منها حديث أبي يحيى صهيب بن سنان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجبا لأمر المؤمن إن أمره كله خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له» (3) . فيا أبنائي حياة المسلم بما فيها من مسرة ومضرة كلها خير وأجر له عند الله.
أجاب الأب قائلا وقد ظهر الارتياح على وجهه عند سماع
(1) سورة النحل، الآية:126.
(2)
سورة البقرة، الآية:153.
(3)
رواه مسلم في صحيحه: الجزء الثامن ص 227.
حديث زوجته:
- نعم يا أبنائي، فالمؤمن الكامل الإيمان يشكر الله تعالى في السراء ويصبر في الضراء فينال خير الدارين، أما ناقص الإيمان فإنه يتضجر ويتسخط من المصيبة فيجمع الله عليه نصيبه منها ووزر (1) سخطه، ولا يعرف للنعمة قدرها فلا يقوم بحقها ولا يشكر الله فتنقلب النعمة في حقه نقمة.
رد محمد بعد أن سمع حديث أبويه قائلا بنفس مطمئنة:
- سمعا وطاعة، وسآخذ في ترويض نفسي أنا وإخوتي إن شاء الله على فضيلة الصبر بعد أن سمعنا عنه ما سمعنا منكما وعرفنا عاقبة الصابرين، فشكرا لكما على هذه الكلمات المضيئة.
(1) ذنب.