الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[حتى تستأنسوا وتسلموا]
7 -
اعتاد جابر أن يسأل والده عن كل صغيرة وكبيرة تعرض له في شؤون حياته الدينية والدنيوية، فكان لا يترك شيئا إلا يحاول فهمه في أمور دينه ودنياه، فهو يسأل ويسأل حتى يصل إلى نور المعرفة ويحتضن ضياء الحقيقة فينير قلبه الغض الصغير بكل المعاني السامية النبيلة، شب (1) جابر على هذا النهج الذي أعانه عليه والده كثيرا؛ إذ لم يكن الأب ليضيق ذرعا بالأسئلة التي يلقيها ابنه عليه مهما كثرت وتنوعت هذه الأسئلة، ومهما تشعبت دروب معرفته لئلا يتركه نهبا للقلق والحيرة ولئلا يزيغ عن الطريق ويضل في متاهات الأسئلة فتزل قدم بعد ثبوتها؛ لذا فقد كان يعطي من وقته الكثير لفلذة كبده الذي رعاه منذ الصغر خير رعاية، وحاول تنشئته تنشئة سليمة قوية تشرب فيها حب الله وحب رسوله، فكان هذا الحب محور حياته ومنبع سلوكه وتعامله مع نفسه ومع الآخرين.
جاء جابر يوما إلى والده محاولا فهم آية قرأها في كتاب الله، فهم معناها ولكنه لم يصل إلى مغزاها ولم يدرك الحكمة من وراء النهي الذي اشتملت عليه الآية الكريمة، وبعد أن ألقى تحية
(1) شب الغلام: صار فتيا أو كبر.
الإسلام على والده ورد والده التحية بأحسن منها بادر جابر أباه قائلا:
- لقد كنت أتلو الحزب الذي قررته لنفسي كل يوم من كتاب الله فاستوقفتني آية في سورة النور أود أن أسألك عنها يا أبي.
- فما هي هذه الآية يا بني؟
- إنها الآية التي نهى الله فيها عباده المؤمنين عن دخول بيوت الغير حتى يسلّموا.
- ألا تحفظ الآية يا بني؟
- لا يا والدي، لم أحفظها بعد.
فرد الأب قائلا: تقول الآية الكريمة يا بني: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 27](1) .
- نعم يا والدي، هذه هي الآية التي ذكرت.
- اعلم يا بني أن سورة النور قد اشتملت على الكثير من الآداب والأخلاق النفسية والعائلية والجماعية، إنها آداب تنير القلب وتنير الحياة ويربطها بذلك النور الكوني الشامل، إنها نور في الأرواح وإشراق في القلوب وشفافية في الضمائر.
- ولماذا سميت سورة النور بهذا الاسم؟
(1) سورة النور، الآية:27.
- لقد ذكر في هذه السورة النور بلفظه متصلا بذات الله في قوله سبحانه وتعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النور: 35](1) .
كما ذكر في السورة النور بآثاره ومظاهره في القلوب والأرواح ممثلة هذه الآثار في الآداب والأخلاق التي يقوم عليها بناء هذه السورة.
- نعم يا والدي، إني لأذكر بعض الآداب التي وردت في السورة وإن كنت لا أحفظ هذه الآيات ولكنني خرجت منها بفائدة عظيمة وهي أن القرآن الكريم يهتم بأخلاق الناس وآدابهم وسلوكياتهم.
- أحسنت يا بني، ولعلك لو تذكرت كيف بدأت السورة بقول الله تعالى:{سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النور: 1](2) .
- ما العلاقة إذًا يا والدي بين صيغة البدء الذي افتتحت به السورة وما اشتملت عليه من آداب؟
- أجاب الأب قائلا وقد سر لفهم ولده وسعة مداركه.
- إن السورة يا بني تبدأ بإعلان قوي حاسم (3) بفرض هذه السورة بكل ما فيها من آداب وحدود وتكاليف وأخلاق، فيدل هذا
(1) سورة النور، الآية:35.
(2)
سورة النور، الآية:1.
(3)
قاطع.
البدء الفريد على مدى اهتمام القرآن بالعنصر الأخلاقي في الحياة، ومدى عمق هذا العنصر وأصالته في العقيدة الإسلامية وفي فكرة الإسلام عن الحياة الإنسانية.
- ما أجمل هذا القول! ! ولكن أيعني هذا أن سورة النور فرضت علينا بأكملها؟
- يا بني، إن المطلع الذي افتتحت به السورة مطلع فريد في القرآن كله، الجديد فيه كلمة فرضناها والمقصود بها توكيد الأخذ بكل ما في السورة على درجة سواء. . ففرضية الآداب والأخلاق فيها كفرضية الحدود والعقوبات. . هذه الآداب والأخلاق المركوزة في الفطرة الإنسانية. . والتي ينساها الإنسان تحت تأثير المغريات (1) والانحرافات فتذكرهم بها تلك الآيات البينات وتردهم إلى منطق الفطرة الواضح المبين.
- لَكَم أودُّ يا والدي لو تشرح لي السورة بأكملها لأفوز بما زخرت به من آداب وأخلاق وأعلم ما نصت عليه من حدود وتشريعات.
- حبا وكرامة يا بني، ولكن الوقت قّد لا يسعفنا الآن فيما نبغي فدعنا نكتفي هذه الليلة بالآية التي شغلت خاطرك وأثارت استفهامك ثم نعرج في ليلة أخرى على بقية السورة، والآن افتح
(1) المغري: الجاذب والفاتن.
كتاب الله واقرأ الآية.
قرأ جابر الآية، بعد أن استعاذ بالله من الشيطان الرجيم، فأحسن قراءتها وترتيلها، ثم وضع القرآن في مكان يليق بقدسية كتاب الله.
وشرع الأب في تفسير الآية لابنه وشرح الحكمة من تنزيلها بادئا بالقول:
- يا بني، إن الإسلام لا يعتمد أول ما يعتمد على العقوبة في إنشاء مجتمعه النظيف بل يسبقها بوسيلة أنجع منها.
- وما تلك الوسيلة يا أبي؟
- إن هذه الوسيلة الناجعة هي الوقاية، فالإسلام لا يحارب الدوافع الفطرية ولا يكبتها، ولكن ينظمها ويضمن لها الجو النظيف الخالي من المثيرات المصطنعة.
- وكيف يكون ذلك؟
- إنه يا بنى يجعل للبيوت حرمة لا يجوز المساس بها، فلا يفاجأ الناس في بيوتهم بدخول الغرباء عليهم إلا بعد استئذانهم وسماحهم بالدخول؛ وذلك خشية أن تطَّلع الأعين على خفايا البيوت وعلى عورات أهلها وهم غافلون، فهذه بعض الضمانات الواقية التي يأخذ بها الإسلام.
- ولماذا خص البيوت بالذكر في الآية الكريمة؟
- لقد جعل الله البيوت سكنا يفيء إليها الناس فتسكن
أرواحهم وتطمئن نفوسهم، فيأمنون فيها على عوراتهم وحرماتهم، ويلقون أعباء الحذر والحرص، ولا تكون البيوت كذلك إلا حين تكون حرما آمنا لا يستبيحه أحد إلا بعلم أهله وإذنهم، وفي الوقت الذي يريدون وعلى الحالة التي يحبون أن يلقوا عليها الناس.
- وهل كان الاستئذان يا أبي من آداب العرب في الجاهلية؟
- لا يا بني، لم يكن الاستئذان من آداب العرب في الجاهلية، لقد كان الزائر منهم يدخل البيت ثم يقول: لقد دخلت، وكان يحدث ألا يرضى أهل الدار عن حالهم التي رآهم عليها هذا الزائر؛ من أجل هذا أدب الله المسلمين بهذا الأدب العالي، أدبُ الاستئذان على البيوت والسلام على أهلها؛ لإيناسهم وإزالة الوحشة من نفوسهم قبل الدخول.
سأل جابر والده وهو متلهف لسماع المزيد من الشرح حول هذه الآية:
- ألهذا ذكر الله كلمة تستأنسوا قبل كلمة وتسلّموا؟
- نعم يا بني، إن الإيناس في هذه الآية يوحي بلطف الاستئذان ولطف الطريقة التي يجيء بها الطارق، فتحدث في نفوس أهل البيت أنسا به واستعدادا لاستقباله، وهي لفتة دقيقة لطيفة لرعاية أحوال النفوس ولتقدير ظروف الناس في بيوتهم وما يلابسها من ضرورات، لا يجوز أن يشقى بها أهلها ويحرجوا أمام الطارقين في ليل أو نهار.
- إذا يدخل المرء يا أبي إن أذن له أهل المنزل؟
سر الأب لسؤال ابنه لأنه سأل عن شيء كان لا بد من توضيحه فأجابه قائلا:
قد يستأذن المرء ولا يكون في البيوت أحد من أهلها، وهنا لا يجوز اقتحام هذه البيوت بعد الاستئذان، وهذا مأخوذ يا بني من قول الله تعالى بعد الآية السابقة:{فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [النور: 28](1) فإن كان فيها أحد من أهلها فإن مجرد الاستئذان لا يبيح الدخول إنما هو طلب للإذن، فإن لم يأذن أهل البيت فلا دخول كذلك. . ويجب الانصراف دون تلكؤ أو انتظار؛ ائتمارا بأمر الله إذ يقول جل وعلا:{وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28]
سأل جابر بشيء من الدهشة قائلا:
- ألا يحس المرء بالحرج يا والدي إن لم يؤذن له بالدخول؟
رد الأب وقد استحسن سؤال ابنه قائلا:
- ولماذا الحرج يا بني! فالامتثال لأمر الله فوق كل أمر، ثم إن الله تعالى يقول:{هُوَ أَزْكَى لَكُمْ} [النور: 28] إذا فارجعوا دون أن تجدوا في أنفسكم غضاضة ودون أن تستشعروا من أهل البيت الإساءة إليكم
(1) سورة النور، الآية:28.
أو النفرة منكم، فللناس أسرارهم وأعذارهم، ويجب أن يترك لهم وحدهم تقدير ظروفهم وملابساتهم في كل حين، ثم أجبني يا بني أليس لنا في رسول الله قدوة حسنة؟ !
- بلى يا أبي، وليتك تحدثني في هذا الأمر ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
أجاب الأب:
- الله يا للروعة. . هكذا رد جابر وهو يستشعر عظمة خلق
(1) رواه النسائي في سننه ص 511 - 512 برقم 1111/ 5185.
النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، ثم تابع قائلا: وكيف يكون الاستئذان يا والدي؟
- سأرد على سؤالك هذا بقول الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو معلمنا وهادينا:«فقد أتى رجل من بني عامر فاستأذن على الرسول وهو في بيته فقال: أألج (1) ؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم لخادمه: اخرج إلى هذا فعلمه الاستئذان، فقل له: السلام عليكم. . أأدخل؟ فسمعها الرجل فقال: السلام عليكم. . أأدخل؟ فأذن له النبي صلى الله عليه وسلم فدخل» (2) .
فانظر يا بني إلى هذا الحد من اللطف والدقة، بلغ حس رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته بما علمهم الله من ذلك الأدب الرفيع الوضيء المشرق بنور الله.
- ولكننا لا نرى اليوم يا أبي من يستأذن فلا يؤذن له منعا للحرج أو خجلا من هذا الطارق.
- نعم يا بني، فنحن اليوم مسلمون، ولكن حساسيتنا بمثل هذه الدقائق قد تبلدت وغلظت، وإن الرجل ليهجم على أخيه في بيته في أي لحظة من لحظات الليل والنهار يطرقه ويطرقه ولا ينصرف
(1) أأدخل.
(2)
رواه أبو داود بإسناد صحيح في صحيح سنن أبي داود مجلد 3 ص 972 - 973 رقم 4312 5177. قال الألباني في حديث صحيح في سلسلة الأحاديث الصحيحة برقم 818.
أبدا حتى يزعج أهل البيت فيفتحوا له، وقد يجيء هذا الطارق في موعد الطعام فإن لم يقدم له الطعام وجد في نفسه من ذلك شيئا. . وربما يطرقهم في الليل المتأخر، فإن لم يدعوه إلى المبيت عندهم وجد أيضا في نفسه من ذلك شيئا دون أن يقدر أعذارهم من هذا وذاك.
- ولكن يوجد اليوم يا أبي ما يسمى بالهاتف فلم لا يكون وسيلة استئذان بين الناس؟
- نعم يا بني، قد يكون في البيت هاتف يمكن أن يستأذن الزائر عن طريقه قبل أن يجيء ليؤذن له أو يعلم أن الموعد لا يناسب أهل البيت، ولكنه يهمل هذا الطريق ليباغتهم في غير أوان وعلى غير موعد، ثم لا يقبل العرف والعادات أن يرد عن البيت وقد جاء مهما كره أهل البيت تلك المفاجأة بلا إخطار.
- ولماذا يا أبي لا نحاول أن نتمسك بما أمرنا به الله تعالى في كل أمر من أمور حياتنا؟
- أحسنت يا بني. . إننا لا نتأدب بأدب الإسلام في كل شيء ولا نجعل هوانا تبعا لما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم دائما، إنما نحن نتبع في بعض الأحوال عرفا خاطئا أو عادة ذميمة ما أنزل الله بها من سلطان، ومما يؤسف له يا بني أن غيرنا ممن لم يعتنقوا الإسلام يحافظون على تقاليد في بعض سلوكهم تشبه ما جاء به ديننا ليكون
أدبا لنا في النفس وتقليدا من تقاليدنا في السلوك، فيعجبنا ما نراهم عليه أحيانا ولا نحاول أن نعرف ديننا الأصيل فنفيء إليه مطمئنين. .
فهل فهمت الآن يا بني الحكمة في النهي الذي اشتملت عليه الآية التي جئت تسألني عنها؟ .
أجاب جابر في امتنان (1) وقد سر للفوائد التي جناها قائلا:
- شكرا يا أبي لقد أثريتني هذه الليلة بالعظيم من الفوائد وإني إن شاء الله عاقد العزم على أن أبثها بين أصدقائي ما استطعت إلى ذلك سبيلا.
- بارك الله فيك يا بني وأعانك على الخير دائما.
- أستأذنك الآن يا والدي فقد حان موعد النوم.
- اذهب يا بني على بركة الله، واحرص على الأذكار (2) التي تقولها قبل النوم.
ومضى جابر إلى حجرته بعد أن ألقى السلام على والده.
(1) شكر واعتراف بما قدمه له والده من خير.
(2)
الأدعية.