المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[قرضا حسنا] 5 - اعتاد الأب أن يصحب ابنه عبد الله - سلسلة أهل الذكر

[شريفة سلامة أبو مريفة]

الفصل: ‌ ‌[قرضا حسنا] 5 - اعتاد الأب أن يصحب ابنه عبد الله

[قرضا حسنا]

5 -

اعتاد الأب أن يصحب ابنه عبد الله في نزهة إلى إحدى الحدائق عصر يوم الجمعة بعد أن يكون قد أنهى واجباته المدرسية وأدى ما عليه من مهام تتعلق بالأسبوع الدراسي المقبل. . ولم يكن الأب يقوم بهذه النزهة مع ابنه إن قصر في بعض واجباته أو أهمل شأنا من شؤونه أو ارتكب ذنبا كأن يغضب أحد والديه أو يعصي أوامرهما، فكانت هذه النزهة بمثابة مكافأة لعبد الله على حسن سلوكه في شتى أموره. . فإن قصر في شيء أو أظهر سلوكا لا يرضي والديه كان الحرمان من تلك المكافأة هو خير عقاب له.

خرج عبد الله عصر ذلك اليوم كالمعتاد مع والده وقد سمعه يتمتم بكلمات بصوت خافت حين غادرا المنزل، وكان كثيرا ما يسمع والده يتمتم بها ولكنه لم يسأله عنها قبل اليوم، فالتفت تجاه والده يسأله بفضول ظاهر:

ما الذي تقوله يا والدي كلما خرجنا من المنزل؟

انفرجت أسارير (1) والد عبد الله عندما سمع سؤال ابنه الذي بدأ يتشوق إلى المعرفة، وقد كان الأب حريصا كل الحرص على أن

(1) محاسن الوجه.

ص: 46

ينشأ ابنه على حب الله ورسوله واتباع سنة نبيه والاقتداء بهداه في كل شأن من شؤون حياته. . ولكن عبد الله مازال صغيرا ولم يكن الأب يرغب أن يثقل عليه بكثرة الأوامر والنواهي حتى لا يمل قلبه الغض الصغير، وإنما كان يلقنه ما يراه مناسبا لسنه ومداركه شيئا فشيئا كنبتة صغيرة تروى بالماء قطرة قطرة. . ولكن الفتى الصغير هو الذي يسأل الآن، يحدوه الشوق إلى المعرفة، ولعل ما سيقوله الوالد الآن سيكون أجمل وقعا وأقوى أثرا في نفس هذه الطفولة الصافية التي تتشوق لمعرفة كل ما تقع عليه عيناها وما تسمعه أذناها وما يعيه عقلها.

رد الأب بفرح ظاهر.

إنه دعاء الخروج يا بني، وهو دعاء كان يدعو به رسول الله صلى الله عليه وسلم. .

رد عبد الله. . هل لي أن أسمعه منك يا والدي؟

سأل الأب ابنه برفق: وهل تحب أن تحفظه يا بني؟

رد الفتى: نعم يا والدي، وإن كان دعاءً مطولا فسأقسمه إلى أجزاء حتى يتسنى لي حفظه كاملا. .

- بارك الله فيك يا بني. . إن من يهم بالخروج من منزله عليه أن يقول: «بسم الله، توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، اللهم إني أعوذ بك أن أضل أو أضل أو أزل أو أزل أو أظلم أو أظلم أو

ص: 47

أجهل أو يجهل علي» (1) . هذا هو الدعاء الذي أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم بالدعاء به عند الخروج من المنزل.

رد عبد الله مبتهجا:

سأبدأ بحفظه - إن شاء الله - يا والدي، ولكن لماذا نقول هذا الدعاء قبل أن نخرج من المنزل؟

يا بني حين يخرج المرء من منزله يقابل الكثير من الناس ومن هؤلاء من يتغلب الشر في داخله على الخير، فقد يتعرض للظلم والإساءة منهم، وقد يكون هو بنفسه ظالما لغيره إن تغلب الشر في داخله، فالإنسان في هذا الدعاء يطلب من الله أن يعصمه من الزلل (2) والوقوع في الخطأ. . كما يطلب من الله الحماية من ظلم الآخرين له أو جهلهم عليه. .

وهكذا قطعا الطريق إلى الحديقة وهما يتحادثان. . حتى إذا وصلا انطلق عبد الله يلهو هنا وهناك، تارة يلعب الكرة وتارة أخرى يعتلي الأرجوحة وقد امتلأ سعادة وحبورا، وبينما كان الأب يرقب ابنه بحنان الأب ولهفته مر به رجل مسن رث الثياب غائر العينين يمشي بخطى متثاقلة وشيئا فشيئا اقترب من والد عبد الله ومد يده على خجل وأخذ يشكو له ضعف

(1) حديث صحيح، رواه النسائي في سننه، الجزء الثامن ص 268.

(2)

عند ارتكاب الذنوب يقال: " أستغفر الله من زللي " أي من ارتكابي الذنوب.

ص: 48

حاله وقلة حيلته في الحصول على مال يعول به نفسه وقد أسلمه المرض للضعف وعدم القدرة على السعي في مناكب الأرض يأكل من رزقها. . فما كان من والد عبد الله حين سمع شكوى الرجل إلا أن أدخل يده إلى جيبه بدافع الشفقة والرحمة وأخرج بعض المال وقدمه للرجل معتذرا عن عدم استطاعته تقديم المزيد طالبا من الدعاء له بالخير والبركة. . سر الشيخ بهذا العطاء ورفع يديه إلى السماء يدعو لهذا المحسن الذي لم يبخل عليه بل أعطاه الكثير ويرى أنه شيء قليل، ومضى هذا الشيخ يغذ السير بخطى بدت لوالد عبد الله وكأنها أشد ثباتا من خطواته الأولى، وكأن هذه الصدقة البسيطة ألقت عليه رداء الأمن والأمان. . حمد الأب وشكر الله على هذه النعمة حيث جعله قادرا على الإحسان للفقراء والمساكين.

كان عبد الله يرقب ذلك المشهد بصمت وقد توقف عن اللعب حين رأى والده يتحدث مع ذلك الشيخ ويمد يده إليه بشيء ما لم تبيُّنه من بعيد، وحين مضى الشيخ أسرع إلى والده وسأله بدهشة.

من هذا الذي كنت تتحدث معه يا والدي؟

إنه رجل مسكين يا بني.

لقد رأيتك تعطيه شيئا فما هو يا أبي؟

ص: 49

يا بني لعلك لاحظت كيف كانت هيئة الرجل وما كانت عليه حاله من ضعف ومرض وفقر. . لقد كان محتاجا لما يسد به رمقه، فلقد داهمه المرض نتيجة الجوع، وأحمد الله على أن ساعدني على أن أعطيه بعض المال يحسن به شيئا من أحواله.

أردف عبد الله متسائلا بقلق:

وهل أعطيته كل ما معنا يا أبي؟

ولماذا تسأل يا بني؟

لأنني أخشى أن تكون قد أعطيته كل ما معنا من النقود فلا نجد ما نشتري به الحلوى والسكاكر والعصير.

- يا بني إن ما قدمته للشيخ هو صدقة والصدقة لا تنقص مال المرء، بل تعمل على زيادته من حيث لا يحتسب وقد قال رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم:«ما نقصت صدقة من مال، وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا، وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله عز وجل» (1) . أي أن الصدقة لا تنقص المال، فلا يخاف أحدنا حين ينفق ابتغاء وجه الله، فالله يخلف للمرء ما أنفقه، فالمال لا يذهب بالإنفاق إنما هو قرض حسن لله، مضمون عنده يضاعفه أضعافا كثيرة، يضاعفه في الدنيا مالا وبركة وسعادة وراحة، ويضاعفه في الآخرة نعيما ومتاعا ورضا وقربى من الله، استمع يا بني إلى قول الله تعالى:{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [البقرة: 245](2) .

(1) رواه مسلم في صحيحه: كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 21.

(2)

سورة البقرة، الآية:245.

ص: 50

إن الله يا بني يضاعف للمرء أضعاف ما ينفقه ولم يقل ضعفا أو ضعفين، بل هي أضعاف كثيرة.

فالمال مال الله استخلف فيه الإنسان فلا أقل على هذا الإنسان أن يضحي بجزء يسير من هذا المال دون أن يكون له منّ ولا فضل ولا مفخرة يتيه (1) بها، فالله يقول:{وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [الحديد: 7](2) ويقول تعالى: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} [النور: 33](3) ومع هذا فقد كرم الله الإنسان حتى سمى ما ينفقه المسلم في سبيل الله ويساعد به عباد الله قرضا حسنا.

سأل عبد الله وقد اطمأن بعض الشيء عند سماع حديث والده:

- أيعني هذا يا والدي أن ما لدينا من المال لن ينفد إن نحن تصدقنا منه؟

- يا بني إن الصدقة لا تنقص المال كما ذكرت لك في بداية

(1) يفخر.

(2)

سورة الحديد، الآية:7.

(3)

سورة النور، الآية:33.

ص: 51

حديثي معك وقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «ما من يوم يصبح العباد فيه إلا ملكان ينزلان فيقول أحدهما: اللهم أعط منفقا خلفا، ويقول الآخر: اللهم أعط ممسكا تلفا» (1) .

- وما معنى ذلك يا والدي؟

رد الأب: أي أن الله يخلف للمرء ما أنفقه، فحين ينفق المرء من ماله يوسع الله عليه في رزقه ويخلفه عوض ما أنفقه.

رد عبد الله وقد عاوده القلق:

ما يهمني ألا ينفد مالنا.

أجاب الأب: ما لي أراك يا بني قلقا تخاف أن ينفد ما معنا من مال؟ وتابع قائلا:

اعلم يا بني أن أرفع درجات الإنفاق والسخاء (2) هو الإيثار.

- وما الإيثار يا أبي؟

أجاب والد عبد الله:

إن الإيثار يا بني هو أن تجود بالمال مع الحاجة إليه، وليس بعد الإيثار درجة في السخاء، وقد أثنى الله على الصحابة رضي الله عنهم فقال:{وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9](3)

(1) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الزكاة، الجزء الثاني ص 142، ومسلم في صحيحه: كتاب الزكاة، الجزء الثالث ص 83.

(2)

الجود.

(3)

سورة الحشر، الآية:9.

ص: 52

فقد روي: «أنه نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عند أهله شيئا، فدخل عليه رجل من الأنصار فذهب بالضيف إلى أهله، ثم وضع بين يديه الطعام وأمر امرأته بإطفاء السراج، وجعل يمد يده إلى الطعام كأنه يأكل، ولا يأكل حتى أكل الضيف الطعام، فلما أصبح قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد عجب الله من صنيعكم الليلة مع ضيفكم» (1) . ونزلت: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9] أردف عبد الله بشيء من الزهو:

لولا النفقة التي قدمتها يا والدي لهذا الرجل ما استطاع أن يتدبر أمره.

أجاب الأب وقد استاء من الصورة التي جاء عليها حديث ولده:

- لا يا بني، لا يحق لنا أن نمن بما أعطينا للرجل، فالمن عنصر كريه لئيم، وهو نوع من الاستعلاء الكاذب، ونحن توجهنا بعطائنا لله لا للناس. . فالمن مشاعر بغيضة لا يجيش بها قلب المؤمن.

أجاب عبد الله وقد اعتراه بعض الخجل:

(1) متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: مناقب الأنصار، الجزء الخامس ص 42. ومسلم في صحيحه: كتاب الأشربة، الجزء السادس ص 127.

ص: 53

- لم أقصد يا أبي المنّ بقولي.

- تذكر يا بني أن الصدقة والإنفاق تهذيب وتطهير لنفسر المعطي وتذكير له بنعمة الله عليه وعهده معه في هذه النعمة أن يأكل منها في غير سرف ولا خيلاء وأن ينفق منها في سبيله في غير منع ولا منِّ، وهي توثيق لصلة الإنسان بأخيه في الله لتقوم الجماعة المسلمة كلها على أساس من التكافل والتعاون الذي يذكرها بوحدة اتجاهها، وأذكرك أن الله نهانا عن أن نبطل صدقاتنا بالمن والأذى. . فهل وعيت الآن يا بني؟

- نعم يا أبي وإني إن شاء الله لمقتد بك وجاعل من السخاء شيمتي (1) ولن أمن أبدا بما أعطي.

- بوركت يا بني.

وقضى عبد الله ووالده وقتا ممتعا في الحديقة ثم عادا أدراجهما.

(1) طبعي وخلقي.

ص: 54