الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وكونوا مع الصادقين]
4 -
الله أكبر الله أكبر، حي على الصلاة، حي على الفلاح، هاهو النداء الخالد ينساب عبر المآذن يعلن دخول وقت صلاة الفجر فيلقي في النفوس الأمن والطمأنينة ويغسل القلوب من أدران (1) الهموم ويزرع السكينة في الأرواح المتعبة، وهاهي خيوط الفجر الندية تعانق المدينة الهادئة وتدعوها بحنان لنفض غبار الكسل عن جفونها واستقبال بشائر يوم جديد، وهاهم المؤمنون يسارعون إلى المساجد ملبين ذلك النداء وهم يعلمون روعة هذه التلبية ليؤدوا صلاة الفجر جماعة. . حتى الطيور هجرت أعشاشها لتشارك بقية الكائنات في موكب التسبيح (2) والتهليل (3) لعظمة الخالق فأخذت تغرد بصوت شجي (4) يأسر (5) الألباب (6) .
(1) جمع درن وهو الوسخ.
(2)
قول سبحان الله.
(3)
قول لا إله إلا الله.
(4)
الشجو: الهم أو الحزن أو الشوط من البكاء، يقال: بكت الحمامة شجوها.
(5)
من أسر أسرا أي شده بالآسار، قبض عليه وأخذه أو قيده.
(6)
العقول.
ولم تبخل الأزهار التي بللها الندى فعطرت الأرجاء بشذاها الندي. . ورغم روعة هذا الاحتفال إلا أن أحمد لم يعتد أن يحضر هذا المشهد الرائع لميلاد يوم جديد؛ إذ لم يكن تلميذا نشيطا، فاستيقظ من نومه كعادته متثاقلا حين غمرته أشعة الشمس المتسللة عبر النافذة تدعوه للنهوض، فاتجه إلى الحمام وغسل وجهه ويديه وعاد إلى غرفته وارتدى ثيابه على عجل، وأخذ في رحلة البحث عن حذائه الذي لم يجده في مكانه، فخرج من غرفته مسرعا حيث والدته تعد طعام الإفطار وبادرها قائلا:
أمي لم أجد حذائي في غرفتي.
نظرت الأم إلى ابنها نظرة ملؤها العتاب وأجابت برفق:
يا بني إن أول شيء كان يجب عليك بدء حديثك به هو إفشاء (1) السلام، ألم تتعلم في المدرسة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي يروى فيه عنه أنه قال:«لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا، أولا أدلكم على شيء إذا فعلتموه تحاببتم أفشوا السلام بينكم» (2) .
آسف يا أماه. . السلام عليكم.
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
(1) أفشى: نشر وأذاع. يقال: أفشى سره وخبره أي أذاعه.
(2)
رواه مسلم في الجزء الأول ص 53.
وتابعت الأم حديثها قائلة. . ألم أعلمك أن ترتيب الأشياء والمحافظة عليها في مكانها يوفر عليك الكثير من العناء (1) والوقت الذي سيسألك الله عنه يوم القيامة، فإلى متى تظل هكذا لا تدرك قيمة الوقت، ومتى تبتعد عن الفوضى والإهمال؟ .
سأفعل إن شاء الله في المرة القادمة، ولكن أين حذائي الآن لقد تأخرت عن المدرسة؟ .
ابحث عنه في الحديقة فلعلك نسيته ليلة البارحة حين كنت تلعب مع أخيك.
خرج أحمد إلى الحديقة يبحث عن حذائه فوجده وقد اتسخ فعاد مسرعا إلى غرفته يحاول تنظيفه، ثم قام بترتيب كتبه في حقيبته التي لم يعدها بالأمس، فقد اعتاد أن يؤجل عمل اليوم إلى الغد. . وأخذ يفكر في عذر يقدمه لمعلمه هذا اليوم حين يسأله عن الواجب المدرسي الذي أهمله ولم يكتبه بالأمس، فهو يكره مادة التعبير فما عساه يقول للمعلم. . ما عساه يقول؟ ! .
ظل أحمد يردد هذا السؤال بينه وبين نفسه وأسرع لتناول طعام الإفطار مع أسرته، وشرع في تناول الأكل دون أن يسمي الله فوبخه (2) والده بلهجة قاسية على هذا التصرف وذكره بقول رسول
(1) التعب والجهد.
(2)
لامه وعذله، والتوبيخ: التأنيب واللوم.
الله صلى الله عليه وسلم حين نصح غلاما: «يا غلام سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك» (1) .
ودع أحمد والديه وانطلق مسرعا حين سمع صوت حافلة المدرسة وهي تقف أمام الباب.
قرع جرس المدرسة معلنا بدء اليوم الدراسي، ومضت الحصة الأولى فالثانية فالثالثة. . تدافع التلاميذ بعدها إلى الساحة الخارجية لتناول إفطارهم، ولكن أحمد لم يخرج مع أصدقائه إلى الخارج بل بقي قابعا في مقعده يفكر فعاد إليه صديقه علي ودنا (2) منه وسأله باهتمام وود صادق:
- ما بك يا أحمد ألا تخرج معنا لتناول إفطارك؟
- لا، إني متعب وأريد البقاء في حجرة الدراسة.
- أترغب في مساعدة أقدمها لك؟
أجاب أحمد وقد بدا عليه الضجر (3) .
- لا أريد شيئا، يمكنك الانصراف فأنا أستطيع تدبر أمري. .
- لا بأس عليك أستودعك الله.
(1) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الأطعمة، الجزء السابع ص 77. ومسلم في صحيحه: كتاب الأشربة، السادس ص 107.
(2)
اقترب.
(3)
التبرم والضيق.
وانطلق علي إلى الخارج وبقي أحمد وحيدا في قاعة الدرس.
دخل المعلم الفصل وألقى السلام على التلاميذ وسألهم عن الواجب المنزلي، وذهل علي حين فتح كراسته ولم يجد ما كتبه بالأمس فسأله المعلم:
- أين واجبك يا علي؟
- لقد كتبته ليلة البارحة ولكني لا أجده الآن.
- فأين هو إذا. .
رد علي بأدب وقد استبدت به الحيرة والانزعاج:
- إني في حيرة من أمري يا معلمي ولكني متأكد أنني كتبته.
- أتكذب يا علي وأنت من التلاميذ المجدين؟ ! . . سأسامحك هذه المرة لأنها المرة الأولى التي تهمل فيها أداء واجبك وأرجو ألا يتكرر منك ذلك.
وبدأ المعلم في سماع التلاميذ وهم يقرؤون موضوعاتهم واحدا واحدا حتى جاء دور أحمد وحين انتهى من قراءة موضوعه استأذن علي معلمه في الحديث، وذكر أن ما قرأه أحمد عليهم هو موضوعه الذي لم يجده في كراسته وأن أحمد سرقه بلا شك. . فالتفت المعلم إلى أحمد يسأله إن كان ما ذكره صديقه علي حقا.
فأجاب أحمد وقد خشي أن يفتضح أمره:
- لا، ليس حقا ما يقوله علي، فقد سهرت ليلة البارحة من أجل إعداده فكيف له أن يدعي أنه صاحب الحق في هذا الموضوع.
وأمام إصرار أحمد وتمسكه بقوله توجه المعلم بحديثه لعلي يعنفه على كذبه ثانية وإهماله ومحاولته سرقة تعب غيره، ثم أثنى على براعة أحمد في طرح الموضوع وطلب منه الاستمرار على هذا المستوى فهو يرى أنه قد تحسن كثيرا.
عاد علي إلى المنزل حزينا متألما، وحين سأله والده عن سبب حزنه ذكر له ما حدث معه في المدرسة. . وكان والد علي رجلا عاقلا رزينا لا يترك الغضب يستولي عليه ويفقده القدرة على التفكير السليم والتروي (1) في حل المعضلات (2) وقد أدرك صدق ما رواه ابنه؛ فقد رباه فأحسن تربيته، وبكلمات ملؤها الرضا والثقة بالله طمأن الأب ابنه بقوله:
- لقد ظلمت يا بني وإن الله على نصرك لقادر، فاجعل توكلك عليه وكن على ثقة به، فقد قال تعالى في كتابه العزيز:{وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3](3) .
(1) التمهل والتأني.
(2)
المشكلات.
(3)
سورة الطلاق، الآية:3.
- هل تعني يا والدي أن أحمد سيقر (1) غدا بما فعل؟
- قد يكون هذا يا بني وقد يحدث أمر آخر يظهر به صدقك، فأنت صدقت المعلم القول وصديقك أحمد كان كاذبا، والصدق طمأنينة والكذب ريبة كما ذكر رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف:«دع ما يريبك (2) إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة (3) والكذب ريبة» (4) . فكن مطمئنا؛ لأن كذبه سينقلب عليه ويظهر الله الحق الذي لك فلا تعجل.
- آه يا والدي لقد أثلجت صدري بهذه الكلمات المضيئة، وإني لعلى يقين بأن الله معي. . وفيما هما يتحادثان لمع في ذهن الأب خاطر (5) ذكي فسأل ابنه على الفور:
- هل قمت بكتابة الموضوع في الكراس من المرة الأولى أم أنك كتبته في ورقة خارجية أولا؟
رد علي بحماس ظاهر وقد قفز إلى ذهنه ما يفكر فيه والده:
(1) يعترف.
(2)
بفتح الياء، من راب وهو ما تيقن فيه الريبة.
(3)
اطمأن القلب أي سكن ولم يقلق، والاسم الطمأنينة.
(4)
رواه الترمذي وقال: حديث صحيح، في أبواب صفة القيامة، الجزء الرابع ص 77، رقم الحديث 2637.
(5)
الخاطر ما يخطر في القلب من تدابير أو الهاجس.
- تذكرت يا أبي لقد استعنت بورقة خارجية قبل كتابته في الكراس.
- أطلع معلمك غدا على هذه الورقة ودعه يقارن بين ما كتبته فيها أنت وما قرأه زميلك.
وسترى يا بني كيف أن الله مع عباده الصادقين لا يخذلهم (1) .
فرد علي ولكن الفرح لم ينسه شكر الله وحمده على هذه النعمة بإظهار الحق واستشعر عظمته وقدرته فهو يعلم خائنة (2) الأعين وما تخفي الصدور (3) .
وفي اليوم التالي قدم علي لمعلمه الورقة، وحين قرأها وجد أن الموضوع مطابق لما ادعى أحمد أنه كتبه، وحين أعاد المعلم الكراسات للتلاميذ خاطبهم قائلا:
لقد كان صديقنا علي صادقا فيما رواه بالأمس عن موضوعه الذي كتبه واختفى من الكراس. . وطلب منه أن يقرأه أمام التلاميذ، وحين بدأ بالقراءة أحس أحمد بالخوف والخجل وأدرك أن أمره قد افتضح وأنه سيعاقب على فعلته الشنيعة. وحين أنهى علي القراءة
(1) خذل فلان فلانا، أي ترك نصرته وعونه.
(2)
العين الخائنة بمسارقتها النظر إلى المحرمات.
(3)
أي القلوب التي في الصدور.
سأل المعلم أحمد بشيء من القسوة:
- أنت تزعم أن هذا الموضوع بفضل جهدك وسهرك، فهل تفسر لنا كيف حصل صديقك على هذا الموضوع الذي قرأه الآن والذي يتطابق تماما مع موضوعك؟ ! .
أدرك أحمد أنه لا فائدة من الإنكار بعد أن وصلت الأمور إلى هذا الحد، فاعترف لمعلمه بما اقترفته يداه وكيف قام بسرقة ما خطه صديقه علي في غفلة منه. فسأله المعلم بتعجب:
- أتبحث عن النجاة من عقاب المعلم ولا تخاف عقاب الله الذي لا مفر منه؟ ألم تقرأ قول الله تعالى في كتابه العزيز: {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ} [الحديد: 4] سورة الحديد، الآية:4. أي أنه يعرف كل صغيرة وكبيرة تقوم بها، أنت كذبت وخالفت أمر الله حين قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: 119] (1) . . ألم تعلم أن الكذب خصلة من النفاق؟ فقد روي عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أربع من كن فيه كان منافقا خالصا ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا اؤتمن خان وإذا حدث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر» (2) .
(1) سورة التوبة، الآية:119.
(2)
متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 15. ومسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، الجزء الأول ص 56.
اعلم يا بني أن الصدق فضيلة امتدحها القرآن الكريم وذم أهل الكذب، ولقد كان رسولنا الأمين صلى الله عليه وسلم لا ينطق إلا صدقا ولا يقول إلا حقا، فما أحرانا ونحن خير أمة أخرجت للناس أن نتلمس دربه وأن يكون هو مثلنا الأعلى وقدوتنا في كل أمورنا وألا نستمع لوساوس الشيطان، فهل تعدني يا بني أن تترك الكذب وتتخذ من الصدق شعارك؟ . .
أجاب أحمد وهو منكس رأسه خجلا مما اقترف:
- أعدك يا معلمي، فقد كان هذا درسا قاسيا.
- والآن بقي عليك أمر آخر وهو الاعتذار لصديقك عما بدر منك في حقه.
- آسف يا علي لقد كنت مخطئا فيما فعلت فسامحني.
فرد علي بلطف وقد نسي إساءة أحمد له:
- لا بأس عليك يا صديقي إني أسامحك فنحن أخوة بيننا كل الود الذي يسمح لنا بالتسامح. سعد المعلم بهذه الخاتمة وشكر عليا على نبله وتحدث للتلاميذ قائلا:
- هاهو صديقنا علي يذكرنا بفضيلة أخرى وهي التسامح بين الإخوة ونسيان الإساءة. . آمل أن نكون جميعا مثله.
وأصبح أحمد بعد ذلك يتحرى الصدق في كل ما يقول ويعمل.