الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وإيتاء ذي القربى]
3 -
أخذت الشمس تلوذ بأحضان الأفق شيئا فشيئا مودعة أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك ونسيمات رقيقة تداعب الأشجار هنا وهناك فتضفي الكثير من الجمال على هذا الأصيل الأخّاذ الذي ألقى بظلال السكينة على مدينة الرياض الهادئة، شأنها شأن كل البقاع الإسلامية في ذلك الوقت من أيام رمضان، حيث خلت الشوارع من المارة إلا القليل منهم، وأخذ العاملون في الأسواق والدكاكين يستعدون لإغلاق أبوابها تأهبا لمغادرتها لتناول الإفطار وأداء صلاة المغرب.
وفي منزل الشيخ عبد الله كان الأبناء في حركة دائبة يساعدون والدتهم في إعداد الطعام وتجهيز المائدة، في حين اتخذ الأب ركنا قصيا من أركان حجرته مختليا بنفسه مع كتاب الله يتلو بكل خشوع متدبرا فيها بقلب حاضر وذهن صاف حتى إذا وصل في تلاوته قول الله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90](1) . صمت هنيهة (2) ثم أعاد قراءة الآية ثانية وثالثة
(1) سورة النحل، الآية:90.
(2)
تصغير هنه أي صمت ساعة يسيرة.
فطفرت الدموع من عينيه وبللت لحيته، فقد هزت تلك الآية وجدانه بما تحمله من أمر ونهي عظيمين، وحركت معانيها كوامن الشجن فيه، وزلزلت أعماقه الراكدة الآسنة (1) كل هذه السنين فكأنه يقرأ هذه الآية لأول مرة في حياته، آه لقد تذكر في تلك اللحظة أخاه الأصغر عبد الرحمن الذي لم يره منذ خمسة أعوام حين وقع بينهما ذلك الخلاف الذي أدى إلى هذه القطيعة التي طال أمدها، وخيم الحزن على عبد الله وسربله الأسى وهو يتذكر ذلك، وندم على ما فرط في حق أخيه، فكيف لم يزره كل هذه السنين الطوال وقد علم بمرضه مرضا شديدا، وكيف لم يسأل عنه ويتفقد أحواله وهو يعلم رقة حال أخيه وكثرة عياله. . مضى عبد الله يعاتب نفسه ويسأل بمرارة كيف يصل القريب والغريب، والقاصي (2) والداني (3) وينسى أخاه أحق الناس ببره وصلته وإحسانه، هذه الصلة التي هي من المبادئ الأساسية التي أقرها الإسلام للتكافل بين أفراد المجتمع عامة وأفراد الأسرة خاصة. . كيف له أن ينسى أخاه من بره وقد حفظ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه أنس رضي الله عنه أنه قال: «من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل
(1) أسن الماء أي تغير لونه وريحه.
(2)
البعيد.
(3)
القريب.
رحمه» (1) . يا إلهي لعل كساد تجارتي كل هذه الأعوام هو عقاب من الله تعالى على ما فرطت في أمر أخي. هكذا مضى عبد الله يحادث نفسه وتابع حديثه متأملا فيما وصل إليه حاله مع أخيه: لعلها تذكرة لي لأفيق من غفلتي التي طال ليلها. . لقد حفظت كتاب الله تعالى ووعيت أحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم وعملت جاهدا أن امتثل بهما. . فكيف أقطع أخي وقد وعيت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى خلق الخلق حتى إذا فرغ منهم قامت الرحم فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، قال: نعم، أما ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك. قالت: بلى. قال: فذلك لك» (2) .
سرت رعدة في جسد الشيخ عبد الله حين تذكر هذا الحديث خوفا من عقاب الله على هذا الذنب، وأي عقاب أشد من أن يقطعه الله، لقد ظل سادرا في غفلته كل هذه السنين لم يوقظه منها إلا رحمة الله تعالى حين كان يتدبر قرآنه. . فانتهى به التأمل ومحاسبة النفس إلى العزم على زيارة أخيه بعد صلاة العشاء، فشهر رمضان هو شهر الخير والبر والصلة، وسيبدأ إن شاء الله هذه الليلة وصل ما كان مقطوعا بينه وبين أخيه. . وظل هذا الشيخ غارقا في تأملاته وأفاق
(1) متفق عليه، أخرجه البخاري في كتاب الأدب، الجزء الثامن ص 6. ومسلم في كتاب البر والصلة، الجزء الثامن ص 7.
(2)
رواه البخاري، الجزء الثامن ص 6. ومسلم، الجزء الثامن ص 8.
من حديثه مع النفس على صوت زوجته تدعوه للانضمام إليهم على المائدة.
رفع المؤذن صوته مؤذنا بدخول وقت صلاة المغرب، ودوّى مدفع الإفطار، وشرع أفراد الأسرة في تناول حبات الرطب بأناة غير أن محمد بادر في تناول الطعام على عجل، فهذا اليوم هو أول عهده بالصيام وقد أمضّه الجوع، فتبسم والده شفقة عليه حين رأى منه ذلك وخاطبه برفق قائلا:
سم الله أولا يا بني ثم ابدأ إفطارك بتناول حبات من الرطب اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم وعملا بسنته، فقد أخبر أنس رضي الله عنه:«أن رسول الله كان يفطر قبل أن يصلي على رطبات، فإن لم يكن رطبات فتميرات، فإن لم تكن تميرات حسا (1) حسوات (2) من ماء» (3) .
وتابع الأب حديثه قائلا:
ولا تنس يا بني أن تدعو بعد إفطارك بعض الدعاء المأثور عن رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن تقول: " اللهم إني لك صمت وعلى رزقك
(1) شرب بتمهل.
(2)
جمع حسوة بفتح الحاء، المرة الواحدة من الشراب.
(3)
رواه أبو داود في الصيام، والترمذي في الصيام: باب ما يستحب عليه الإفطار رقم 696، وقال: حديث حسن.
أفطرت وعليك توكلت وبك آمنت، ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله " (1) .
استمع محمد إلى حديث والده بأدب جم ووعده بأن يحفظ هذا الدعاء وأن يدعو به كل ليلة بعد الإفطار وأن يكون إفطاره تأسيا برسول الله، واعتذر لوالده عن هذه العجلة التي التهم بها طعامه قائلا:
لقد أهلكني الجوع يا والدي لذا لم أستطع صبرا.
وهنا عاتبته والدته بتفضيله النوم حين أيقظته لتناول طعام السحور ونبهته إلى أهمية هذه الوجبة وبركتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تسحروا فإن في السحور بركة» (2) .
أعلم يا أمي ذلك وسأحاول التغلب على النعاس ومشاركتكم طعام السحور إن شاء الله.
اتجه الأب وأبناؤه إلى المسجد لأداء فريضة المغرب، وحين عادوا كانت الأم قد أعدت لهم الحلوى والشاي وجلسوا يتسامرون
(1) فقه السنة لسيد سابق، مجلد 1 ص 458، روي مرسلا أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول: اللهم لك صمت وعلى رزقك أفطرت.
(2)
متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه: كتاب الصوم، الجزء الثالث ص 37، ومسلم في صحيحه: كتاب الصيام، الجزء الثالث ص 130.
في جو عائلي مفعم بأريج الحب والتفاهم والود الصادق. . وحين انقضى بعض الوقت طلب الأب من زوجته وأبنائه التهيؤ لأنه سيصحبهم في زيارة، وحين سمع الصغار ما ذكره والدهم قفزوا فرحا والتفوا حوله متسائلين بلهفة وسعادة.
إلى أين يا أبي؟
رد الأب وقد كسا الحزن وجهه:
لزيارة عمكم يا أبنائي. .
تساءل أصغر أبنائه: أي عم يا أبي؟
أجاب الأب بصوت كساه الانكسار وبعض الخجل: عمك عبد الرحمن يا بني فأنت لا تعرفه.
ولماذا يا أبي لم نره أبدا؟ .
حاول الأب أن يشرح لابنه بكلمات بسيطة سهلة كيف أنه أخطأ في حق أخيه حين بادر بالقطيعة والهجر كل هذه المدة. . وواصل حديثه مبينا لأبنائه الأجر الذي أعده الله لمن يصل رحمه، حيث يزيد في عمره ويبارك له في رزقه، وأن من قطع هذه الرحم وهجر أهله وقرابته وذوي رحمه فجزاؤه قطيعة من الله.
فرحت الأم فرحا شديدا وحمدت الله على أن هدى قلب زوجها إلى الحق وأنار بصيرته ليعرف حق ربه عليه، وأخذت تتهيأ هي وصغارها للذهاب مع زوجها لزيارة أخيه.
وفيما كانت الأسرة في شغل شاغل من أمر الإعداد لهذه الزيارة التي أضفت جوا عامرا بالسعادة على جميع أفرادها قرع جرس المنزل، ولم يصدق الشيخ عبد الله نفسه حين رأى أخاه عبد الرحمن أمامه وقد جاء لزيارته وتعانقا طويلا وتصافحا بحرارة، ولم يتعاتبا على ما بدر منهما من تفريط في حق الإخوة وقطع الرحم التي بينهما، فقد كان هذا اللقاء كفيلا بأن يمسح كل ما كان من أثر لتلك القطيعة والبغضاء.
هرع الصغار للسلام على عمهم والتفوا حوله بكل حب وذكروا له كيف أنهم كانوا يستعدون لزيارته بناءً على طلب والدهم لولا أنه سبقهم، نظر عبد الله إلى أخيه بإشفاق وقال:
دائما أنت سباق للخير يا أخي رغم أنك تصغرني سنا بارك الله فيك.
رد عبد الرحمن وقد استكثر على نفسه هذا السبق: لقد كنت أنت أيضا يا أخي عازما على زيارتي فكلانا كان سباقا للخير وما يعنينا الآن هو أن نبدأ عهدا جديدا بعيدا عن القطيعة والشحناء (1) والتدابر (2) فذاك أمر يحبه الله ورسوله الكريم.
(1) العداوة امتلأت منها النفس.
(2)
التقاطع والتعادي.
أمضى الشيخ عبد الله وأبناؤه مع أخيه هزيعا من الليل في سمر حتى دخل وقت صلاة العشاء فاتجهوا إلى المسجد لأداء صلاة العشاء والتراويح.