الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
[وهنا على وهن]
2 -
أخذت أسماء تتقلب في فراشها يمينا وشمالا متمتمة بكلمات تعكس مقدار تذمرها من عدم استطاعتها النوم في دعة وهدوء. . مظهرة التأفف من والدتها المريضة التي قطعت عليها لذيذ نومها بالسعال الذي لازمها طويلا، لم تنهض أسماء من نومها لمساعدة والدتها وسؤالها عما ألمَّ بها أو حتى إحضار كوب من الماء لها يريحها من هذا السعال. . بل ظلت تتقلب في الفراش وكأن أمر هذه المرأة الراقدة لا يعنيها في شيء.
كانت الأم تعاني من داء في صدرها أوهن جسدها وتركها طريحة الفراش تلازمه أياما وتغادره أياما أخرى، بعد أن كانت مضرب المثل بين جاراتها في الحيوية والنشاط والإقبال على العمل، فقد توفي زوجها منذ عشر سنوات ومنذ ذلك الوقت وهي تعمل بلا كلل (1) أو ملل، لم تركن إلى الكسل ولم تقبع في دارها منتظرة هبات (2) المحسنين وأعطياتهم. . ورضيت بقضاء الله وقدره، فلم تسخط ولم تتذمر، وهذا هو شأن المؤمنين في كل
(1) تعب.
(2)
هدايا وأعطيات.
أحوالهم، الرضا بما قسم الله لهم من خير ومن شر، مؤمنين حق الإيمان بقول الله تعالى:{قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا} [التوبة: 51](1) . فشمرت هذه المرأة الصابرة عن ساعديها وعملت مستخدمة في مدرسة بالقرب من منزلها. . فلم تدّخر جهدا ولم تتوان عن تلبية احتياجات صغيرتها وتوفير سبيل العيش الكريم لها. وظل هم هذه الوالدة الطيبة هو أن تعيش ابنتها في جو من الأمن والأمان بعيدا عن الخوف من النائبات وما قد تأتي به الأيام من معضلات.
انقطع صوت السعال ولم ينقطع تفكير أم أسماء في حالها وحال صغيرتها بعد أن أقعدها المرض وازدادت حاجات ابنتها حتى أرهقتها مطالبها. . وأخذت تضيق عليها غير آبهة بظروف والدتها.
لم تنم الأم في تلك الليلة بل لعلها لم تغف لحظة واحدة، وكيف لقلبها المؤرق أن يغفو ولعينها الباكية أن تنام، ومر الليل عليها ثقيلا حتى ارتفع صوت المؤذن في جلال وخشوع ينبه الغافلين ويوقظ النائمين لأداء صلاة الفجر، فنهضت الأم متحاملة على نفسها متكئة بإحدى يديها على الجدار وباليد الأخرى تحاول بعث القوة في ظهرها الذي أضعفه المرض.
(1) سورة التوبة، الآية:51.
أدت أم أسماء الصلاة وأخذت تناجي ربها بذلة وخضوع ودمع يبلل خديها، سائلة إياه أن يعينها على تربية ابنتها وأن يهبها الصحة وأن يهدي قلب هذه الفتاة الصغيرة العاقة إلى طريق الحق؛ لتعرف عظم مسؤوليتها تجاه والدتها التي تعبت من أجلها كثيرا وأن يزيل الغشاوة (1) عن عينيها لترى ما خفي عليها من واجبات تجاه أمها.
اتجهت أم أسماء لإيقاظ ابنتها التي كانت تغط في نوم عميق، ناسية أن لها والدة مريضة يتعين عليها النهوض باكرا لمساعدتها وإعداد طعام الإفطار بدلا عنها، وترك الاعتماد على والدتها في كل شأن من شؤون حياتها.
أحضرت الأم الطعام وقدمته أمام ابنتها ولكنها عجبت حين رأتها لا تمد يدها إليه فسألتها بحنان الأم ولهفتها.
- ما بالك يا ابنتي؟ لم لا تأكلين؟
أظهرت أسماء عدم الرضا وردت بغلظة: ما هذا يا أماه ألا يوجد لدينا غير هذا الطعام الذي تقدمينه لنا كل يوم؟ .
ردت الأم وقد آلمها ما تفوهت به ابنتها من حديث يسخط الله: احمدي الله يا ابنتي على هذا النعيم الذي أمامك فغيرك قد لا يجد ما تجدين الآن.
(1) الغطاء.
أجابت أسماء وكأنها لم تسمع ما قالته والدتها. . وما شأني بغيري. . ألا تكسبين مالا. . ألا تملكين نقودا. . فلماذا التقتير (1) والتضييق علينا؟
فما كان من الأم إلا أن تجاهلت حديث ابنتها الذي لا طائل (2) منه وحثتها على الإسراع حتى لا تتأخر عن المدرسة. . وحين رأت أسماء أن والدتها سترافقها إلى المدرسة شأنها قبل أن تأخذ إجازة بسبب المرض. . سألتها وقد قطبت حاجبيها: ما هذا يا أماه هل ستذهبين معي اليوم أيضا. . ألم تقولي بأنك ستغيرين مكان عملك وتبحثين عن عمل في مكان آخر بعيدا عن المدرسة التي أنا فيها؟ .
لم تجب الأم على سؤال ابنتها بل تمتمت وهي تدفعها برفق إلى الباب:
- هيا يا ابنتي هداك الله وأنار بصيرتك.
ظلت الأم تفكر طوال الطريق في طلب ابنتها الذي لا يخلو من القسوة، وتمنت لو أنه كان باستطاعتها العمل بعيدا عن ابنتها، ولكن لا يوجد في الحي الذي تقطنه غير هذه المدرسة وليس لديها القدرة على تأمين أجرة حافلة تقلها إن هي انتقلت للعمل بعيدا عن
(1) البخل.
(2)
لا نفع منه.
المنزل. . كانت الأم في قرارة نفسها تشعر بأسى (1) بالغ لهذه القسوة التي تتجلى (2) في طلب ابنتها. . ولكنها كانت تتمنى لو استطاعت البعد عن المدرسة وإسعاد فتاتها وتجنيبها الخجل الذي تحسه حين ترى والدتها وهي تعمل كخادمة في المدرسة.
وفي هذا اليوم قامت المعلمة بإعطاء الطالبات بطاقات الدعوة لأمهاتهن لحضور الحفل الذي سيقام تكريما للأمهات بعد أسبوع. . ووجدت المعلمة أنها فرصة سانحة لحث الطالبات على بر أمهاتهن والعمل على توفير الراحة لهن، والتنبيه على عظم فضل الأم وحقها عليهن، وذكرتهن بقول الله تعالى في محكم تنزيله:{وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ} [لقمان: 14](3) . وأوضحت لهن أن معنى وهنا على وهن أي ضعفا على ضعف، ولفتت أنظارهن إلى أن توصية الولد بالوالدين قد تكررت كثيرا في القرآن الكريم وفي وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم، ولكن توصية الوالد بولده لم تتكرر كثيرا؛ لأن الفطرة تقتضي أن يكون الأب مشفقا على ولده فهو لا يحتاج إلى تلك التوصية في حين أن الولد لا يكون في مشاعره وعواطفه
(1) بحزن.
(2)
تتضح وتظهر.
(3)
سورة لقمان، الآية:14.
وسلوكه نحو والديه كما هما معه لذلك فهو في حاجة إلى الوصية المكررة. . كما بينت لهن المعلمة عظم المسؤولية الملقاة على عاتق الأم من حمل وإرضاع وتربية، وما تقدمه من بذل وما تحتمله من نصيب أوفر في العطاء والتضحية، وكيف أن الله قد قرن رضاه برضا الوالدين في الآية السابقة.
كانت أم أسماء امرأة يحبها الجميع لدماثة خلقها وطيب معشرها وإخلاصها في عملها، وكانت مديرة المدرسة تعلم مقدار التفاني (1) الذي تظهره هذه المرأة لخدمة الجميع بنفس راضية، وما تقدمه في سبيل تربية ابنتها تربية صالحة قويمة. . وما أشد دهشة أم أسماء حين استدعتها المديرة في ذلك اليوم وسلمتها بطاقة دعوة خاصة تقديرا من إدارة المدرسة لجهودها ونشاطها وشددت عليها في الحضور وأعفتها من العمل في ذلك اليوم، فما كان من أم أسماء إلا أن شكرت المديرة على هذه البادرة الطيبة ووعدت بالمجيء.
توالت فقرات الحفل من أناشيد وخطب وأحاديث تحث على بر الأم وتبرز دورها العظيم وحقها الكبير من البر والصلة (2) . . ندمت أسماء على فعلتها المشينة حين أقدمت على
(1) التفاني في العمل: بذل الجهد والإخلاص فيه.
(2)
العطية والإحسان.
تمزيق بطاقة الدعوة الخاصة بوالدتها، وانهمرت الدموع من عينيها حين رأت الطالبات وهن يتقاطرن للسلام على أمهاتهن، وازداد نحيبها وهي تتذكر سوء سلوكها مع والدتها مع ما هي عليه من ضعف ومرض، وأخذت العزم على أن تعوض والدتها ما فرطت معها في أمرها وأن تكون الابنة البارة التي لم تكنها يوما.
بقيت أسماء غارقة في لجة أفكارها ولم ينتزعها منها إلا صوت مقدمة الحفل وهي تعلن اسم الأم المثالية التي اختارتها المدرسة لتكريمها هذا العام، ولَشَدِّ ما كانت عليه دهشتها وفرحتها حين سمعت اسم والدتها يجلجل في أنحاء القاعة وما أكبر اعتزازها حين رأتها وهي تقطع خطواتها بكل ثقة وهدوء وآثار المرض بادية عليها، وقد ارتدت ثوبا بدا عليها جميلا في تلك اللحظة رغم أنها قد ارتدته كثيرا قبل اليوم لكنها لم تره عليها بمثل هذه الروعة وهذا البهاء (1) .
هرعت أسماء حيث والدتها وأخذت تقبلها والدموع تفر من عينيها وقد فارقها إحساسها بالخجل والضعة وحل محلهما شعور الفخر والاعتزاز بهذه الأم الرءوم، ولم تكن سعادة الأم بأقل من سعادة ابنتها بهذا التغير الذي من الله عليها به مستجيبا لدعائها راحما لحالها. . ومنذ ذلك اليوم وصديقتنا أسماء تحاول جاهدة
(1) الحسن.
إرضاء والدتها والسهر على راحتها والعمل بقول الله تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا - وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّي ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 23 - 24](1) .
(1) سورة الإسراء، الآيتان: 23، 24.