المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌[والجار الجنب] 12 - كانت أم أنس امرأة تقية صالحة جعلت - سلسلة أهل الذكر

[شريفة سلامة أبو مريفة]

الفصل: ‌ ‌[والجار الجنب] 12 - كانت أم أنس امرأة تقية صالحة جعلت

[والجار الجنب]

12 -

كانت أم أنس امرأة تقية صالحة جعلت من بيتها هي وزوجها جنة وارفة (1) الظلال يفيئون (2) إليها حين يشتد الهجير (3) . . وكان عماد هذه الجنة هو: طاعة الله، ومعرفة حدوده والوقوف عندها، واتباع هدي نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والعمل على التمسك بسنته. وقد اتفقا منذ بداية حياتهما على أن يعين كل منهما الآخر في هذا الطريق، وألا يرى أحدهما اعوجاجا من قرينه (4) إلا وقوَّمه بالموعظة الحسنة والقول اللين ابتغاء وجه الله، كما أخذا عهدا على نفسيهما بتنشئة أبنائهما على حب الله ورسوله، وأن يزرعا فيهم بذرة الخير منذ الصغر، وأن يهيئا لهذه البذرة التربة الخصبة تسقى بالحب والود والرحمة، مقترنة بالتوجيه السليم حتى إذا كبروا كانت هذه البذرة شجرة طيبة تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها.

اجتمع شمل الأسرة في جو بهيج فهذا أنس يروي لهم في

(1) نضرة شديدة الخضرة.

(2)

يرجعون.

(3)

الهاجرة: أي نصف النهار في القيظ أو شدة الحر.

(4)

زوجه.

ص: 114

انشراح ما حدث معه اليوم في المدرسة، وتلك أخته سلمى تتابع حديثه بتعليقات بريئة ضاحكة، أما خالد فقد أخذ ينصت إلى حديثهما متتبعا كل ما يقولانه بحس متوقد وقلب ذكي، فقد كان يبدو الاهتمام في عينيه بكل ما يقولانه فهما يكبرانه سنا ولديهما بعض الخبرات البسيطة التي لم تتوفر له، ثم هو لم يزل بعد في السنة الأولى من دراسته في حين أن أنس وسلمى قد تخطياه بمراحل كثيرة، وهو الآن في طور التعلم منهما والتزود من معارفهما. . أما زيد فقد أخذ مقعده دون أن ينم مظهره عن شيء.

دق جرس الباب وأسرع خالد ليرى من الطارق، وعاد وهو يحمل إناء به بعض الطعام وقدمه إلى والدته وهو يقول:

- انظري يا أماه لقد أحضره حذيفة ابن جيراننا.

ردت الأم قائلة وقد أظهرت سرورها بما أهدتها إياه جارتها:

- بارك الله فيهم، اذهب يا بني وضعه في الثلاجة.

نظرت سلمى نظرة عاجلة إلى ما يحمله الإناء وقطبت حاجبيها وهي تقول:

- ما هذا يا أماه، إن كمية هذا الطعام لا تكاد تكفي لشخص واحد، وتابعت بشيء من التأفّف (1) .

(1) تأفَّف أي: قال (أف) من الضجر والضيق.

ص: 115

- إن هؤلاء الجيران لا يكفون عن مثل هذه الأمور التي تثير السخط، فتارة يبعثون لنا بشيء لا قيمة له وأخرى بطعام قليل و. . . ولم تكمل حديثها إذ قاطعها والدها بهدوء وحزم قائلا:

- اصمتي يا سلمى، وأنت يا خالد اذهب بالإناء إلى المطبخ وضعه في الثلاجة كما أمرتك والدتك وعد هنا على عجل. . هيا. .

عاد خالد وأخذ مكانه وبدأ الأب حديثه وهو ينظر إلى ابنته سلمى قائلا بشيء من التأنيب (1) .

- تعلمون يا أبنائي كيف هي الطريقة التي ربيتكم عليها والنهج الذي ارتضيته نبراسا (2) لكم. . وتعلمون كيف كنت رفيقًا بكم غير زاجر ولا معنف، وإنما كنت آخذكم بالموعظة (3) الحسنة، ولم أكن فظا (4) غليظ القلب معكم، وما قصرت في أمر من أموركم، وزرعت فيكم حب الله وحب رسوله صلى الله عليه وسلم وحب الناس والتودد إليهم، والآن أخبروني هل كان لأختكم سلمى الحق فيما قالته؟

أجاب أنس قائلا:

(1) الملامة بعنف.

(2)

مصباحا، ويقال: اتخذ منه نبراسا أي: اتخذه قدوة ومثالا.

(3)

من الوعظ أي: الإرشاد والنصح.

(4)

غليظا سيئ الخلق خشن الكلام.

ص: 116

- لم يكن يا والدي في حديث سلمى أي شيء يبعث على الغضب، فهي رأت أن الطعام كان قليلا وقالت ما رأته وهو كذلك، فما الذي أغضبك من قولها يا والدي؟

أجاب الأب بصوت أشد حزما مما بدأ به قائلا:

- وأنت أيضا يا أنس لا ترى بأسا فيما قالته أختك! ! . . وتابع قائلا موجها حديثه لجميع أبنائه:

- إن هذا الطعام هدية من جيراننا لا بد من شكرهم عليها وما كان ينبغي لنا أن نقلل من شأن هذه الهدية أو أن نسخر منها، وإلا لكان في هذا استهانة بحقوق الجار ولذلك فإن استخفاف (1) أختكم سلمى بهدية جيراننا هو نوع من التقصير في حق الجوار.

والتقطت أم أنس دفة الحديث وتابعت حديث زوجها قائلة:

- يا أبنائي، إن للجار علينا حقوقا كثيرة، ومن هذه الحقوق كما ذكر والدكم عدم التقليل من شأنه أو من شأن ما يقدمه لنا، بل نشكر حرصه على تبادل الهدية معنا مهما صغرت هذه الهدية، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:«يا نساء المسلمات لا تحقرن جارة لجارتها ولو فرسن شاة» (2) . وهنا تساءلت سلمى قائلة وقد اعتراها الخجل مما

(1) استهانة.

(2)

متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه أول كتاب الهبة، ص 201، الجزء الثالث من كتاب الأدب، الجزء الثامن ص 12.

ص: 117

فعلت:

- وما معنى الحديث يا أماه؟

فأجابت الأم قائلة:

- إن ما يفيده هذا الحديث يا ابنتي هو استحباب تبادل الهدايا بين الجيران مهما قلت ولو فرسنا، والفرسن هو عظم فيه قليل من اللحم.

وبعد أن سمعت سلمى من والدتها هذا القول اعتذرت عما تفوهت (1) به معللة ما قالته بأنها كانت تجهل أن مثل هذا القول يمس ويخل بحقوق الجار وتابعت حديثها قائلة:

- لم أقصد الإساءة أو السخرية يا والدي، ولم أعلم أن قولي فيه استخفاف بحقوق الجار، فأنا أعلم حق الجار في نواح أخرى كأن: نحسن إليه، ونتودد له، ونكرمه، وندفع عنه الضر، ونعوده (2) عند المرض، ونهنئه عند المسرة ونعزيه (3) عند المصيبة، وإني لأحفظ ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث روى ابن عمر وعائشة رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مازال جبريل يوصيني بالجار

(1) نطقت.

(2)

نزوره.

(3)

نواسيه.

ص: 118

حتى ظننت أنه سيورثه» (1) " (2) .

أجاب الأب قائلا وقد فارقه غضبه بعد أن سمع من ابنته ما ذكرته:

- أحسنت يا ابنتي، وإني لأغفر لك جهلك وأذكرك بقول الله تعالى:{وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا (3) وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى (4) وَالْجَارِ الْجُنُبِ (5) وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ (6) وَابْنِ السَّبِيلِ (7) وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ (8) إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا} [النساء: 36](9) .

- والآن من يخبرنا بماذا بدأت الآية؟

(1) أي ترقبت أن يأتيني بجعل الجوار سببا للإرث.

(2)

متفق عليه، رواه البخاري في صحيحه، الجزء الثامن ص 12، ومسلم في صحيحه، الجزء الثامن ص 36.

(3)

برا وتكريما بالقول والفعل.

(4)

الجار الملاصق في المسكن.

(5)

البعيد مسكنه.

(6)

الرفيق الصالح في حضر أو سفر.

(7)

المسافر الذي انقطع عن بلده وأهله وهو يريد الرجوع إلى بلده ولا يجد ما يتبلغ به.

(8)

المملوكون من الإماء والعبيد.

(9)

سورة النساء، الآية:36.

ص: 119

أجاب أنس قائلا:

- لقد بدأت بذكر الإحسان إلى الوالدين.

ردت الأم قائلة:

- لقد أوصى الله جل وعلا في الآية الكريمة بالإحسان إلى الوالدين، وكثيرا ما يقرن الله سبحانه وتعالى بين عبادته والإحسان إلى الوالدين، ثم عطف على الإحسان إليهما الإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء، ثم قال تعالى " اليتامى " وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم وينفق عليهم، فأمر بالإحسان إليهم والحنو عليهم، ثم قال تعالى " والمساكين " وهم من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم، أما قوله تعالى " والجار ذي القربى والجار الجُنُب " فالجار ذي القربى أي: الذي بينك وبينه قرابة، والجار الجُنُب أي: الذي ليس بينك وبينهم قرابة، وقيل: الجار ذي القربى أي المسلم، والجار الجنب يعني اليهودي والنصراني، وقيل: إن الجار الجنب هو الرفيق في السفر، أما الصاحب بالجنب فقيل: هو الضيف أو الرفيق في السفر أو الجليس في الحضر، وهنا سأل خالد: وما معنى ما ملكت أيمانكم؟

أجابت أم أنس قائلة: هم المملوكون من العبيد والإماء، فرغم أنهم ملك اليمين إلا أنهم يتصلون معنا

ص: 120

بآصرة (1) الإسلام الكبرى.

وهنا سأل الأب قائلا:

- والآن يا أبنائي من يذكر لنا بعض حقوق الجار غير الذي ذكرت لنا أختكم سلمى؟

أجاب خالد قائلا:

- علينا يا والدي ألا نؤذي جيراننا بالقول أو الفعل، وأن نكفَّ الشر عنهم، فذلك من كمال الإيمان وكرم الأخلاق.

رد الأب قائلا بإعجاب:

- أحسنت يا خالد، وأذكركم هنا بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، والله لا يؤمن، قيل: من يا رسول الله؟ قال: الذي لا يأمن جاره بوائقه» (2)(3) .

وتابعت الأم حديث زوجها قائلة:

- ولعلي أضيف إلى ما ذكرتموه بعض الحقوق التي تجب علينا للجار مثل: التسامح بين الجيران، والتنازل عن بعض الحقوق

(1) رابطة.

(2)

غوائله وشروره.

(3)

أخرجه البخاري في صحيحه، الجزء الثامن، ص 12، ومسلم في صحيحه، الجزء الأول ص 49.

ص: 121

بما ينفع الجار ولا يضر الشخص الذي تنازل، فليس للجار أن يمنع جاره شيئا ينفعه ولا يضره سواء كان في البناء أو في غيره من مرافق الحياة، فتعاونُ الجيران يا أبنائي مظهر من مظاهر الإخوة الإسلامية وتكافل المجتمع.

وهنا سألت سلمى والديها قائلة:

- ولكن إنْ كَثر الجيران فهل نحسن إليهم جميعا ونتبادل معهم الهدايا؟

أجاب الأب قائلا:

- إن إجابة هذا السؤال يا ابنتي نستمدها من الهدي النبوي الكريم حين سألته عائشة رضي الله عنها قالت: «قلت يا رسول الله إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال: " إلى أقربهما منك بابا» (1) ففي هذا دليل على استحباب تقديم الجار الأقرب فالأقرب إذا لم يقدر الإنسان على الإحسان إلى جيرانه جميعا، وإن كان كف الأذى واجبا علينا عن جيراننا جميعهم مهما كثروا.

وهنا تابعت الأم حديث زوجها قائلة:

- لعل عظم حق الجار نلخصه ونوضحه فيما أُورِده من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه، ومن كان يؤمن بالله واليوم

(1) رواه البخاري في صحيحه: الجزء الثالث ص 115.

ص: 122

الآخر فليقل خيرا أو ليسكت» (1) ففي هذا الحديث تحريم إيذاء الجار، وأن إيذاء الجار مناف لكمال الإيمان، علاوة على الحث على إكرام الضيف التحذير من الخوض في الكلام الباطل كالغيبة (2) والنميمة (3) والترغيب بالسكوت عند عدم فائدة الكلام.

أجاب الأب بعد أن سمع حديث زوجته قائلا:

- بارك الله فيك يا أم أنس، والتفت إلى أبنائه قائلا: لعل فيما قالته والدتكم يا أبنائي خير ما نختم به حديثنا حول حقوق الجار، وآمل أن تكونوا جميعا قد وعيتم حق الجار عليكم، وأن يحاول كل منكم تطبيق ما علمه من هذه الحقوق، والآن انصرفوا راشدين إلى دراستكم بارك الله فيكم ورعاكم.

(1) رواه مسلم في صحيحه، الجزء الأول ص 49، والبخاري في صحيحه، الجزء الثامن ص 13.

(2)

ذكرك أخاك بما يكره.

(3)

النم هو رفع الحديث إشاعة له وفسادا وتزيين الكلام بالكذب.

ص: 123