الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
مقدمة:
على سبيل التقديم
أ. د/ عبد الصبور مرزوق
قضية الثروة في الإسلام تحكمها مجموعة من الضوابط الواقعية والأخلاقية العادلة التي تكفل لكل إنسان في أرض الله نصيبه -إلى مدار الكفاية- من رزق الله.
ونوجز هذه الضوابط فيما يلي:
أولا:
أن كل ما يدب على الأرض من خلق الله إنسانا أو حيوانا أو طيرا أو حشرا قد أخذ الحق سبحانه على نفسه أن يتكفل برزقه وذلك في قوله: {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا} 1.
ومفهوم هذا العهد الإلهي بالرزق بالنسبة للإنسان أن
1 هود: 6.
كل إنسان مسلما كان أو غير مسلم يصبح داخلا في هذا العهد ويكون له نصيب مشروع ومكفول في هذا الرزق بما يكفل استمرار حياته وبقائه في المستوى الذي جرى الاصطلاح عليه بأنه "حد الكفاية" والذي يختلف عن حد "الكفاف".
وحد الكفاية فيما يقرره الفقهاء هو ما يعني توفير الحاجات الأساسية للإنسان والتي تعني أن يكون للإنسان بيت يؤويه. وطعام يكفيه وخادم ودابة يقضي عليها حاجاته ثم زوجة تعفه عن الحرام.
يستوي في ذلك -كما أشرنا- المسلم وغير المسلم.
ورضي الله عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه يوم رأى يهوديا شيخا يتكفف الناس فلما عرف حقيقة حاله أخذ بيده وضرب له سهما -أي قرر له راتبا- في بيت مال المسلمين.
ثانيا:
لقد أعلن الإسلام في صريح آيات القرآن الكريم أن المال مال الله وأن الخلق جميعا مستخلفون فيه -أي في إنفاقه- وفق الضوابط الشرعية التي قررها الإسلام وذلك في مثل قوله سبحانه: {وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ} ثم قوله سبحانه: {وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيه} 2.
ومفهوم الاستخلاف يعني ما يشبه الوكالة عن الله منزل الرزق المالك الأصلي للمال وواجب الوكيل أن يلتزم أمر موكله ومستخلفه فيما أباحه وفيما حرمه.
وهنا نجد في آيات القرآن مجموعة الأحكام التي يجب التزامها في التعامل مع المال وجدير بالإشارة أنها في مجموعها تمثل إطارا أخلاقيا يضع المال في حجمه
1 النور: 33.
2 الحديد: 7.
الصحيح خادما للإنسان لا سيدا له كما تقول الآية: {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا} 1.
كما يلزم الإنسان في علاقته بما يؤتاه من مال أن يكون حريصا في اكتسابه على التزام الحلال حيث لا سرقة ولا غصب ولا أكلا لحقوق الضعفاء من المسلمين واليتامى.
وقبل هذا لا يكون مكتسبا من الربا أو احتكار أقوات الناس وحبسها حتى يرتفع أسعارها وغير ذلك مما حذرت منه الآيات الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في مثل قول الحق سبحانه عن الاستمتاع العادل بالمال: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ} 2 وقوله سبحانه عن ضرورة التوازن في الإنفاق بين الإسراف والتبذير {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} 3 وقوله سبحانه: {وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ
1 الكهف: 46.
2 الأعراف: 32.
3 الأعراف: 31.
مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} 1.
وهذه التوجيهات ليست مجرد مواعظ أخلاقية ولكنها ضوابط وقواعد اقتصادية تحدد بوضوح ما ينبغي للإنسان الفرد أن يأخذ من المال. لأن ما يزيد على الحاجات يدخله مع المسرفين. والمسرفون ومعهم المترفون يكون سرفهم وترفهم كأنه سرقة حق لفقير ومحتاج على نحو ما روي عن الإمام علي رضي الله عنه أنه قال: "ما أتخم غني إلا بعدوان على حق فقير".
أما تحريم الربا في المعاملات المالية فهو قضية اقتصادية واجتماعية وأخلاقية معا لعدة اعتبارات.
أولها: أنها محرمة تحريما قاطعا ينصوص القرآن
1 الإسراء: 29.
الكريم حيث يقول: {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} 1 وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ، فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ} 2.
فهذه الآيات ونظائرها تحدد الحكم الشرعي القاطع بتحريم الربا وإنذار المرابين بحرب من الله والرسول.
وحكمة التحريم فيما تؤدي إليه من الظلم والخراب الاقتصادي تعيشها جميع دول العالم المتخلف المسمى بالعالم الثالث -والذي نحن المسلمين جزء كبير منه- ويتضح الظلم ويتحقق الخراب في عجز الدول المدينة عن الوفاء بالفائدة التي هي عين الربا والتي تدفع بعض دول عالمنا
1 البقرة: 275.
2 البقرة: 278، 279.
مجمل دخلها ليس لسداد بعض الدين ولكن لسداد هذه الفائدة.
ولقضية الربا حديث يطول ولا يتسع المقام.
ونعود إلى حقوق عباد الله في رزق الله الذي يختصر في اللغة المعاصرة بلفظ المال فأقول: إن هذا الحق متعلق بضمان عدالة التوزيع بحيث يحصل كل مستحق على حقه.
وغني عن البيان أننا لا نعني هنا مطلق المساواة بين جميع الناس كما زعمت الشيوعية ذلك في فلسفتها المادية.
أولا: لأن الشيوعية لم تحقق أبدا مطلق المساواة بل كانت -وحتى انهيار الاتحاد السوفييتي- تضم في مجتمعها أربع طبقات متميزة لأبعد الحدود هي: طبقة اللجنة المركزية للحزب الشيوعي وطبقة العلماء المتخصصين في الشئون النووية وبحوث الفضاء ثم طبقة جنرالات الجيش وأخيرا طبقة الفنانين من راقصات البالية وغيرهم
ممن تقوم عليهم مهمة الدعاية للمبادئ الماركسية واللينينية.
ثانيا: لأن كتابنا الكريم الذي لم يخلق عباده متساوين في كل شيء بل يتمايزون بالقدرات الفردية الخاصة في الذكاء والعلم والمقومات الشخصية وغيرها مما يستحيل معه أن يتساوى الناس لأن مطلق المساواة يخل بتكوين المجتمع المدني الذي جعل عماده التوزع الهرمي والتنوع في الخبرات لتسير عجلة الحياة بهذا التنوع والتمايز الذي يضع كل فرد في درجات هذا الهرم الذي يكمل بعضه بعضا وهذا ما أشار إليه القرآن الكريم في قوله: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ} 1.
1 الزخرف: 32.
فالإسلام هنا لا يسوي بين الناس لاستحالة ذلك بحكم عدم تساوى الخلق في المواهب والقدرات، وهو أيضا لا يعترف بالطبقية البغيضة التي يحتلها بعض المحظوظين أو بعض الانتهازيين الذين أتيحت لهم فرص غير مشروعة لثراء غير مشروع.
كل ذلك لا يقره الإسلام ولا يعترف به، وإنما يدعو إلى التقريب بين الطبقات بحيث لا يكون ثمة أغنياء يتخمهم الترف وفقراء لا يجدون ما ينفقون.
وكل هذا وفق التوجيهات القرآنية والنبوية التي اعتمدت إطارا أخلاقيا للعلاقة بين الأغنياء والفقراء في مثل قوله سبحانه: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا، إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا} 1 وقوله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} 2.
1 الإنسان: 8، 9.
2 الحشر: 9.
إضافة إلى ما حثت عليه السنة النبوية من مثل قول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ليس منا من بات شبعان وجاره طاو جائع وهو يعلم". وغير ذلك مما امتلأت به كتب السنة والسيرة من حث على الإنفاق -فوق فريضة الزكاة.
على أن ثمة ملحظا تجدر العناية به وهو أنه عندما تطرأ على المجتمع المسلم حالة يستحيل فيها على الناس أن يجدوا ما ينفقون فهنا يصبح من حق ولي الأمر أن يفرض ما يشاء من أوجه التكافل بين الأغنياء والفقراء حتى ولو كان الأغنياء قد دفعوا الزكاة فيكون له أن يأخذ من أغنيائهم ليرد على فقرائهم حتى يكتفوا.
ولعل تجربة "المؤاخاة" التي أقامها الرسول صلوات الله وسلامه عليه بعد الهجرة إلى المدينة بين المهاجرين والأنصار أوضح نماذج التكافل الاجتماعي كما يراه الإسلام وهنا لا تفوتنا الإشارة إلى أن تحقيق الإسلام للعدل الاجتماعي -عدالة التوزيع- لا يستند إلى القهر أو المصادرة
أو التأميم وما إلى ذلك لمنافاته لاحترام الإسلام للملكية الشخصية وحمايتها إلى حد أن يقول الرسول صلوات الله وسلامه عليه: "ومن قتل دون ماله فهو شهيد".
وإنما يستند إلى منهج تربوي وإعداد نفسي ضخم قوامه العمل على تخليص النفوس من شحها وتأهيلها للخلاص من العبودية للمال إلى التعامل معه باعتباره وسيلة لخدمة الإنسان في الحصول على مرضاة الله وقضاء حقوق الآخرين فيه حتى يعتاد الإيثار ويكون ممن يصف القرآن سلوكهم ومواقفهم مع المال بقوله:
وهذا البناء التربوي والنفسي على الخلاص من شح النفس والإيثار عليها هو ما دفع القادرين من
1 الحشر: 9.
الصحابة على التضحية الضخمة بأموالهم في سبيل الله فنرى عثمان بن عفان "ذو النورين" وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما يجهزان جيش "العسرة" لغزوة تبوك من مالهما الخاص. كما نرى أبا بكر وعمر رضوان الله عليهما يضربان في الأمر ذاته مثلا عليا في البذل والعطاء.
بل نرى أحدهم لا يملك إلا درهما واحدا فيقدمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيقول الرسول معلقا على ذلك: "سبق درهم مائة ألف درهم".
وحديث التعامل مع "الثروة" أو المال أو الرزق في منظور الإسلام شامخ وعظيم ومشرف وعادل وتنفرد الرؤية الإسلامية -في ضبط علاقة الإنسان بالمال- تنفرد بتميز وتوازن عظيم يجمع بين حقوق الأفراد وحقوق المجتمع، الأمر الذي تفتقده النظريتان
الرأسمالية والاشتراكية.
وذلك لأن نظرية الإسلام تقوم على قاعدة عظمى قوامها، خصوصية الملكية وعمومية المنفعة.
من هنا يرحب المجلس الأعلى للشئون الإسلامية بنشر هذه الدراسة القيمة عن "الإسلام والتوازن الاقتصادي بين الأغنياء والفقراء للأستاذ الدكتور محمد شوقي الفنجري أستاذ الاقتصاد والوكيل الأسبق لمجلس الدولة".
راجين أن يفيد بهذه الدراسة كل دارسي الاقتصاد بوصف خاص لينقضوا على العطاء السباق للإسلام في ميادين العدل الاجتماعي والتوازن المنصف في مسائل "التنظير" الذي لم يره "المنظرون" في الشرق والغرب فاشتطوا ذات اليمين وذات الشمال مما شقيت به البشرية بين أهل "الربا" وأهل الإلحاد.
وراجين أيضا أن يفيد منها المعنيون بدراسة الاقتصاد في الإسلام ليقفوا منها على صواب الحكم ودقة البحث.
والله أسأل أن يجعل ما نقدمه وما يقدمه كل العلماء العاملين خالصا لوجهه وعلى الله اعتمادنا وهو دائما حسبي.
أ. د/ عبد الصبور مرزق