الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ج-
الارتفاع بالتنمية الاقتصادية إلى مرتبة الفريضة والعبادة:
اعتبر الإسلام تعمير الكون وتنمية الإنسان ليكون بحق خليفة الله في أرضه بقوله تعالى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} 1. هو غاية خلقه ووجوده بقوله تعالى: {هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا} 2، أي كلفكم بعمارتها. فلم يخلق الله تعالى الإنسان في هذه الدنيا عبثا أو لمجرد أن يأكل ويشرب، وإنما خلقه لرسالة يؤديها، هي أن يكون خليفة الله في أرضه: يدرس ويعمل، وينتج ويعمر، عابدًا الله شاكرًا فضله، ليقابله في نهاية المطاف بعمله وكدحه بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الْأِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ} 3، بل لقد جعل الإسلام صدق العمل والكدح أو بطلانه، هو سبيل سعادة المرء أو شقائه في الدنيا
1 البقرة: 30.
2 هود: 61.
3 الانشقاق: 6.
والآخرة، بقوله تعالى:{وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا} 1.
ولقد بلغ حرص الإسلام على التنمية الاقتصادية وتعمير الدنيا، أن قال الرسول عليه الصلاة والسلام:"إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة "نخلة صغيرة" فإن استطاع ألا يقوم حتى يغرسها، فليغرسها"2.
وساوى الإسلام بين المجاهدين في سبيل الدعوة الإسلامية وبين الساعين في سبيل الرزق والنشاط الاقتصادي بقوله تعالى: {وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} 3. أكثر من ذلك اعتبر الإسلام السعي على الرزق وخدمة المجتمع وتنميته من أفضل ضروب العبادة: فقد ذكر للرسول عليه الصلاة والسلام رجل كثير العبادة، فسأل: "من يقوم به؟ "، قالوا: أخوه، فقال عليه الصلاة والسلام: "أخوه أعبد منه" 4. وقد أراد أحد الصحابة
1 الإسراء: 72.
2 رواه البزار والطبراني.
3 المزمل: 20.
4 الجامع الصغير للسيوطي.
الخلوة والاعتكاف لذكر الله، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام:"لا تفعل فإن مقام أحدكم في سبيل الله -أي في خدمة المجتمع وتنميته- أفضل من صلاته في بيته ستين عامًا" 1، ويقول عليه الصلاة والسلام:"لكل أمة سياحة، وسياحة أمتي الجهاد في سبيل الله" 2، أي تعمير الكون وتنمية الإنسان ليكون بحق خليفة الله في أرضه.
ونخلص من ذلك أن التنمية الاقتصادية في الإسلام، هي فريضة وعبادة، بل هي من أفضل ضروب العبادة، وأن المسلمين قادة وشعوبًا مقربون إلى الله تعالى بقدر تعميرهم للدنيا وأخذهم بأسباب التنمية الاقتصادية وذلك بمفهومها الإسلامي الذي يميزها عن سائر المذاهب والأنظمة الاقتصادية السائدة، ذلك لأن التنمية الاقتصادية الإسلامية، بحسب تحليلنا لها، هي تنمية شاملة، ومتوازنة، وغايتها الإنسان نفسه ليكون بحق خليفة الله في أرضه.
1 المستدرك للحاكم النيسابوري.
2 المستدرك للحاكم النيسابوري.
1-
تنمية شاملة:
وذلك لأنها لا تستهدف رقي الإنسان ماديا فحسب وإنما روحيا بصفة أساسية، والروحانية في الإسلام، ليست كما يتصور البعض مسألة ميتافيزيقية أو غيبية، وإنما هي العمل الصالح إيمانا بالله واعتبارا أو مراعاة له تعالى سواء كان ذلك الإيمان أو تلك المراعاة والاعتبارات المتأصلة في العقل والنفس والمتمثلة في النشاط والسلوك مردها خشيته تعالى والخوف من عقابه، أو كان مردها ابتغاء مرضاته والفوز بجنته.
فالإسلام كما سبق أن وضحنا بكتابنا "ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية"، لا يعرف الفصل بين ما هو مادي وما هو روحي، ولا يفرق بين ما هو دنيوي وما هو أخروي. فكل نشاط مادي أو دنيوي يباشره الإنسان، هو في نظر الإسلام عمل روحي أو أخروي، طالما كان مشروعًا وكان يتجه به إلى الله تعالى1. فالله تعالى ما خلق
1 انظر كتابنا "ذاتية السياسة الاقتصادية الإسلامية وأهمية الاقتصاد الإسلامي"، مرجع سابق، ص54 وما بعدها.
الجنس والإنس إلا ليعبدوه، أي ليعملوا عملًا صالحًا، والإيمان في الإسلام ليس إيمانًا مجردًا Abstrait ولكنه إيمان محدد Concret مرتبط بالعمل الصالح.
وأن مبدأ الشمول في التنمية الاقتصادية الإسلامية، يقتضي أن تضمن التنمية كافة الاحتياجات البشرية من مأكل وملبس ومسكن ونقل وتعليم وتطبيب وترفيه وحرية العمل وحرية التعبير وممارسة الشعائر الدينية
…
إلخ، بحيث لا تقتصر التنمية على إشباع بعض الضروريات أو الحاجيات دون الأخرى، ومن هنا لا يقبل الإسلام "تنمية رأسمالية" تضمن حرية التعبير ولا تضمن لقمة الخبز، كما لا يقبل "تنمية اشتراكية" تضمن لقمة الخبز وتقتل حرية التعبير.
2-
تنمية متوازنة:
وذلك لأنها لا تستهدف زيادة الإنتاج فحسب بقوله تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} 1، وإنما تستهدف أساسًا عدالة التوزيع.
1 التوبة: 105.
بقوله تعالى: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} 1.
بحيث يعم الخير جميع البشر أيا كان موقعهم في المجتمع وأيا كان مكانهم في الكون، ذلك أن هدف الإسلام من التنمية الاقتصادية هو أن يتوافر لكل فرد، أيا كانت جنسيته أو ديانته أي بصفته إنسانًا، حد الكفاية لا الكفاف، أي المستوى اللائق للمعيشة بحسب زمنه ومكانه لا مجرد المستوى الأدنى اللازم للمعيشة. وذلك حتى يستشعر نعم الله وفضله، فيتجه تلقائيا إلى حمده تعالى وعبادته، هذا الحمد والشكر الذي لا يعبر عنه في الإسلام بالقول والامتنان فحسب وإنما بالعمل والإخلاص فيه لقوله تعالى:{اعْمَلُوا آلَ دَاوُدَ شُكْرًا} 2، وهذه العبادة التي لا تتمثل في الإسلام بالصلاة والتوجه إلى الله فحسب وإنما أساسًا بخدمة الغير ومد يد العون لكل محتاج لقوله تعالى:{لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 3.
1 المائدة: 8.
2 سبأ: 13.
3 النساء: 114.
فالإسلام على نحو ما سبق إيضاحه؛ إذ يتطلب زيادة الإنتاج، يستلزم في نفس الوقت عدالة التوزيع، بحيث لا يغني أحدهما عن الآخر، ومن ثم لا يقبل الإسلام "تنمية رأسمالية" تستهدف تنمية ثروة المجتمع دون نظر إلى توزيع الثروة، وإذا كانت "التنمية الاشتراكية" تؤكد العلاقة بين أشكال الإنتاج والتوزيع، إلا أنها ترى أن نظام التوزيع يتبع دائمًا شكل الإنتاج، في حين يرفض الإسلام هذه التبعية بحيث أيا كانت أشكال الإنتاج السائد فإنه يضمن أولا حد الكفاية لكل فرد وذلك كحق إلهي مقدس يعلو فوق كل الحقوق، ثم بعد ذلك يكون لكل تبعًا لعمله وجهده، وبحيث إذا لم يتوافر حد الكفاية لكل مواطن وهو ما لا يكون إلا في ظروف استثنائية كمجاعة أو حرب تأسى الجميع في حد الكفاف.
وإن مبدأ التوازن في المفهوم الإسلامي للتنمية الاقتصادية، يقتضي أن تتوازى جهود التنمية، ومن ثم لا يقبل في الإسلام أن تنفرد بالتنمية المدن دون القرى، أو أن تستأثر الصناعة بالتنمية دون الزراعة، أو أن تقدم
الكماليات أو التحسينات على الضروريات أو الحاجيات، أو أن تسبق الصناعات الثقيلة أو المستوردة الصناعات الاستهلاكية أو المحلية، أو أن يركز على المشروعات الإنتاجية دون الخدمات والتجهيزات الأساسية
…
إلخ من الأخطاء العديدة التي وقعت فيها مختلف الدول العربية والإسلامية. مقلدة دون وعي تجارب شرقية أو غربية، غافلة أو جاهلة الصيغة الإسلامية بضرورة "التوازن الإنمائي"، ولا شك أن التنمية الاقتصادية غير المتوازنة التي نراها في أغلب دول العالم الإسلامي مركزة على جزء من الاقتصاد القومي دون بقية الأجزاء هي تنمية مشوهة DEFORME بل هي في حقيقتها تنمية للتخلف إذ تزيد من تدهور بقية الأجزاء.
3-
تنمية غاية الإنسان نفسه:
ليكون بحق خليفة الله في أرضه، فذلك ما يحدد بواعث أو غاية التنمية الاقتصادية الإسلامية وآثارها.
التنمية الرأسمالية:
الباعث فيها هو تحقيق أكبر قدر من الربح، مما يؤدي عادة إلى الانحراف بالإنتاج عن توفير احتياجات المجتمع
الضرورية مع وفرة إنتاج السلع الكمالية التي يطلبها الأغنياء والمترفون، وما يصاحب ذلك من سيادة المادة ومختلف المساوئ الاجتماعية التي تعاني منها المجتمعات الغربية.
التنمية الاشتراكية:
الباعث فيها هو سد احتياجات الدولة وفق أطماع وسياسات القائمين على الحكم لا وفق احتياجات ورغبات المواطنين أنفسهم، مما يهدد كلية حرية الفرد ويجعل منه ترس أو أداة لا غاية.
التنمية الإسلامية:
الباعث فيها ليس الربح شأن الرأسمالية، ولا أهواء القائمين على الحكم شأن التنمية الاشتراكية، وإنما هو ضمان حد الكفاية لكل مواطن ليتحرر من أية عبودية أو حاكمية إلا عبودية وحاكمية الله وحده.
فغاية التنمية الإسلامية هو الإنسان نفسه لا تستعبده المادة شأن التنمية الرأسمالية، ولا يستذله الغير شأن التنمية الاشتراكية، وإنما محررًا مكرمًا يعمر الدنيا ويحييها بالعمل الصالح ليسعد في الأرض ويفوز بجنة الله في الآخرة.