الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
حيث ترك الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك للأنصار، ومبدأ الشورى من المبادئ الدستورية الرئيسة في النظام الإسلامي.
و تضمنت البيعة الثانية تنظيم وتحديد أطراف المعاهدة التي على أساسها ستنشأ الدولة، فرسول الله صلى الله عليه وسلم نائب عن قومه، والنقباء نائبون عن قومهم، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنقباء:«أنتم على قومكم بما فيهم كفلاء، ككفالة الحوارين لعيسى بن مريم، وأنا كفيل قومي» (1) .
[الوثيقة الدستورية التي وضعها الرسول صلى الله عليه وسلم]
بعد هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة، آخى بين المهاجرين والأنصار، ووادع اليهود، وكتب في ذلك وثيقة بين سكان الدولة الجديدة اعتبرها بعض الكتاب (2) دستورا للدولة الإسلامية في ذلك العهد، وهي بلا شك وثيقة دستورية بالغة الأهمية، بما احتوته من تنظيمات عادة ما تكون الدولة الناشئة في حاجة لها، إضافة إلى تميزها بصياغة قانونية شاملة ودقيقة، لا مجال للاختلاف حول مفهومها وتطبيقها، وتعد هذه الوثيقة أهم واقعة دستورية في العهد النبوي، وسنورد نص الوثيقة مفصلة في فقرات، وسنحلل فقراتها ذاكرين الأحكام الدستورية المتضمنة لها.
(1) الحديث عن عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه: أخرجه ابن إسحاق (1 / 277، المرجع السابق.
(2)
مثل: د. محمد حميد الله - مجموعة الوثائق السياسية في العهد النبوي والخلافة الراشدة، د. محمد سليم العوا - النظام السياسي للدولة الإسلامية، د. منير البياتي - الدولة القانونية والنظام السياسي الإسلامي، د. عون الشريف قاسم - دبلوماسية محمد، د. أحمد حمد - الجانب السياسي في حياة الرسول. . وآخرون غير هؤلاء.
أ - نص الوثيقة:
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين من قريش ويثرب، ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم.
2 -
إنهم أمة واحدة من دون الناس.
3 -
المهاجرون من قريش على ربعتهم (1) يتعاقلون (2) بينهم وهم يفدون عانيهم (3) بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
4 -
وبنو عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.
6 -
وبنو الحارث على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالقسط والمعروف بين المؤمنين.
7 -
وبنو جشم على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
8 -
وبنو النجار على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
9 -
وبنو عمرو بن عوف على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
10 -
وبنو النبيت على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
(1) ربعتهم: حالتهم وشأنهم، والمعنى: الحال التي جاء الإسلام وهم عليها.
(2)
يتعاقلون: من العقل وهو الدية، المعاقل: الديات واحدتها معقلة.
(3)
العاني: الأسير.
11 -
وبنو الأوس على ربعتهم، يتعاقلون معاقلهم الأولى، وكل طائفة تفدي عانيها بالمعروف والقسط بين المؤمنين.
12 -
وإن المؤمنين لا يتركون مفرحا (1) بينهم أن يعطوه بالمعروف في فداء أو عقل.
13 -
وإن لا يحالف مؤمن مولى مؤمن دونه.
14 -
وإن المؤمنين المتقين على من بغي منهم أو ابتغى دسيعة (2) ظلم، أو إثم أو عدوان، أو فساد بين المؤمنين، وإن أيديهم عليه جميعا، ولو كان ولد أحدهم.
15 -
ولا يقتل مؤمن مؤمنا في كافر ولا ينص كافرا على مؤمن.
16 -
وإن ذمة الله واحدة، يجير عليهم أدناهم، وإن المؤمنين بعضهم موالي بغض، دون الناس.
17 -
وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصرة والأسوة، غير مظلومين ولا متناصرين عليهم.
18 -
وإن سلم المؤمنين واحدة، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله، إلا على سواء وعدل بينهم.
19 -
وإن كل غازية غزت معنا، يعقب بعضها بغضا (3) . 20 - وإن المؤمنين يبيء (4) بعضهم عن بعض بما نال دماءهم في سبيل الله.
(1) المفرح: المثقل بالدين، وتروى بالجيم، وهي بنفس المعنى.
(2)
الدسيعة: العظيمة، وهي في الأصل: ما يخرج من حلق البعير إذا رغا، وأراد بها هنا: ما ينال عنهم من ظلم.
(3)
أي يتناوبون فإذا خرجت طائفة غازية ثم عادت تكلف أن تعود ثانية حتى تعقبها أخرى غيرها.
(4)
يبيء: من البواء وهو المساواة.
21 -
وإن المؤمنين المتقين على أحسن هدي وأقومه.
22 -
وإنه لا يجير مشرك مالا لقريش ولا نفسا، ولا يحول دونه على مؤمن.
23 -
وإنه من اعتبط (1) مؤمنا قتلا عن بينة، فإنه قود به، إلا أن يرضى ولي المقتول، وإن المؤمنين عليه كافة، ولا يحل لهم إلا قيام عليه.
24 -
وإنه لا يحل لمؤمن أقر بما في هذه الصحيفة، وآمن بالله واليوم الآخر أن ينصر محدثا، أو يؤويه، وأن من نصره فإن عليه لعنة الله وغضبه يوم القيامة ولا يؤخذ منه عدل ولا صرف.
25 -
وإنكم مهما اختلفتم فيه من شيء فإن مرده إلى الله عز وجل والى محمد صلى الله عليه وسلم.
26 -
وإن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين.
27 -
وإن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم مواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ (2) إلا نفسه وأهل بيته.
28 -
وإن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف.
29 -
وإن ليهود بني الحارث مثل ما ليهود بني عوف.
30 -
وإن ليهود بني ساعدة مثل ما ليهود بني عوف.
31 -
وإن ليهود بني جشم مثل ما ليهود بني عوف.
32 -
وإن ليهود بني الأوس مثل ما ليهود بني عوف.
(1) اعتبطه: أي قتله بلا جناية توجب القتل.
(2)
يوتغ: يهلك.
33 -
وإن ليهود بني ثغلبة مثل ما ليهود بني عوف، إلا من ظلم وأثم، فإنه لا يوتغ إلا نفسه وأهل بيته.
34 -
وإن جفنة بطن من ثعلبه كأنفسهم.
35 -
وإن لبني الشطبية مثل ما ليهود بني عوف.
36 -
وإن البر دون الإثم.
37 -
وإن موالي ثعلبة كأنفسهم.
38 -
وإن بطانة يهود كأنفسهم.
39 -
وإنه لا يخرج منهم أحد إلا بإذن محمد صلى الله عليه وسلم.
40 -
وإنه لا ينحجز على ثار جرح (1) .
41 -
وإنه من فتك فبنفسه فتك، وأهل بيته، إلا من ظلم.
42 -
وإن الله على أبر هذا (2) .
43 -
وإن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم.
44 -
وإن بينهم النصر على من حارب أهل هذه الصحيفة.
(1) الحجز: المنع، وحجز عليه ماله أي حبسه، وفي الحديث لأهل القبيلة أن يتحجزوا الأدنى فالأدنى، أي يكفوا عن القتال، والانحجاز مطاوعة، وكل من ترك شيئا فقد انحجز، أي لا يترك ثأر جرح، وذكر ثأر الجرح لبيان أخفى أفراد القود، لبيان شدة الأمر وأنه لا يغمض عن أدنى جناية، ولا يعفي، ويمكن أن تكون هذه الجملة كناية عن التشديد في مواد العهد، أي لا يترك شيء من مواد العهد، فتكون الجملة كالمثل السائر يستعمل في أمثال المقام، وعلى هنا بمعنى من كما في قوله تعالى: وإذا اكتالوا على الناس يستوفون ولعل هذا التأكيد والتهديد، من أجل علمه صلى الله عليه وسلم بغدر اليهود وغوائلهم وقلة مبالاتهم بعهودهم، وشدة عداوتهم للإسلام والمسلمين. على بن حسين علي الأحمدي، - مكاتيب الرسول - ص 255 - 256 جـ 2، دار صعب بيروت.
(2)
علي أبر هذا: أي علي الرضا به.
45 -
وإن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإثم.
46 -
وإنه لا يأثم امرؤ بحليفه، وإن النصر للمظلوم.
4 -
وإن يثرب حرام جوفها لأهل هذه الصحيفة.
48 -
وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم.
49 -
وإنه لاتجار حزمة إلا بإذن أهلها (1) .
50 -
وإنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدث أو اشتجار يخاف فساده، فإن مرده إلى الله عز وجل، وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
51 -
وإن الله على أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره.
52 -
وإنه لا تجار (2) قريش ولا من نصرها.
53 -
وإن بينهم النصر على من دهم يثرب وإذا دعوا إلى صلح يصالحونه ويلبسونه، فإنهم يصالحونه ويلبسونه.
54 -
وإنهم إذا دعوا إلى مثل ذلك فإن لهم على المؤمنين - إلا من حارب في الدين - على كل أناس حصتهم من جانبهم الذي قبلهم.
55 -
وإن يهود الأوس، مواليهم وأنفسهم على مثل ما لأهل هذه الصحيفة مع البر المحض من أهل هذه الصحيفة.
56 -
وإن البر دون الإثم، لا يكسب كاسب إلا على نفسه.
57 -
وإن الله على أصدق ما في هذه الصحيفة وأبره.
(1) أي لا تعطى ذمة ولا عهد، والمراد بالحرمة هنا الجوار، فلا يجير الجار مستجيرا إلا بإذن مجيره.
(2)
أي لا تعطى عهدا ولا ذمة، والذمة الأمان.
58 -
وأنه لا يحول هذا الكتاب دون ظالم وآثم وأنه من خرج آمن ومن قعد آمن بالمدينة، إلا من ظلم أو أثم.
59 -
وإن الله جار لمن بر واتقى، ومحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. انتهى نص الوثيقة (1) .
ب - تخرج الوثيقة: وردت هذه الوثيقة بهذا النص المطول عن ابن إسحاق مرسلة، كما ذكر ذلك ابن كثير في البداية، وابن هشام في السيرة، وابن إسحاق هو أول من أورد نص الوثيقة كاملا، وقد ذكر ابن سيد الناس أن ابن أبي خيثمة أورد الوثيقة في تاريخه بهذا الإسناد، حدثنا أحمد بن خباب أبو الوليد حدثنا عيسى بن يوسف حدثنا كثير بن عبد الله بن عمرو المزني عن أبيه عن جده: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار فذكر بنحوه، أي بنحو ما أورد ابن إسحاق.
ويبدو أن الوثيقة وردت في القسم المفقود من تاريخ ابن أبي خيثمة (2) كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لأبي عبيد القاسم بن سلام بإسناد آخر هو: حدثني يحيى بن عبد الله بن بكير وعبد الله بن صالح قالا حدثنا الليث بن سعد قال حدثني عقيل بن خالد عن ابن شهاب أنه قال: بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بهذا الكتاب وسرده (3) .
(1) السيرة النبوية لابن هشام، ص 501 - 504، جـ ا، البداية والنهاية لابن كثير جـ 3، ص 346 - 347، ط بدون، مكتبة الفلاح، الرياض، تم نقلها كما وردت في سيرة ابن هشام مع تفصيلها على شكل مواد.
(2)
مقال بعنوان: أول دستور أعلنه الإسلام، للدكتور أكرم العمري، كلية الإمام الأعظم، عدد "1 "، 1392 هـ، ص 37.
(3)
المرجع السابق، ص 38.
كما وردت الوثيقة في كتاب الأموال لابن زنجويه من طريق الزهري أيضا (1) .
هذه هي الطرق التي وردت بها الوثيقة بنصها الكامل، وهي متطابقة إلى حد كبير سوى بعض التقديم والتأخير أو اختلاف بعض العبارات مما لا يؤثر على مضمونها (2) .
ويذكر أحد الباحثين (3) أن الوثيقة موضوعة، وذلك لعدم ورودها في كتب الفقه والحديث الصحيح على الرغم من أهميتها التشريعية، بل رواها ابن إسحاق دون إسناد معتمدا على رواية كثير المزني حاذفا إسناده، وقد نقلها عنه ابن سيد الناس، وأضاف أن كثير بن عبد الله روى هذه عن أبيه عن جده وقد ذكر ابن حبان أن كثير المزني روى عن أبيه عن جده نسخة موضوعة لا يحل ذكرها في الكتب ولا الرواية عنها إلا على جهة التعجب، وسبب الحكم على الوثيقة بالوضع هو تصور أنه لم يروها غير ابن إسحاق، وأنه لم يعثر على إسناد لها سوى ما ذكره ابن سيد الناس من رواية ابن أبي خيثمة من طريق كثير المزني.
ولكن أبا عبيد القاسم بن سلام أوردها من طريق الزهري، وهي طريق لا صلة لها بكثير هذا، ونظرا لكون ابن إسحاق من أبرز تلاميذ الزهري، فإن ثمة احتمالا كبيرا أن يكون قد أوردها من طريقه، ثم كون كتب الحديث لم ترو نص الوثيقة كاملا لا يعني عدم صحتها، فكتب الحديث أوردت مقتطفات كثيرة منها تشمل جزءا كبيرا منها (4) بأسانيد متصلة وبعضها أوردها البخاري ومسلم، فهذه النصوص من الأحاديث
(1) المرجع السابق، ص 38.
(2)
المرجع السابق، ص 38.
(3)
المرجع السابق، ص 39.
(4)
المرجع السابق، ص 39.
الصحيحة، وقد احتج بها الفقهاء وبنو عليها الأحكام، كما أن بعضها ورد في مسند أحمد، وسنن أبي داود وابن ماجه والترمذي بطرق مستقلة عن الطرق التي وردت منها الوثيقة (1) ومن ذلك ما يلي:
«عن علي رضي الله عنه لما سئل هل عندكم من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء بعد القرآن، قال: لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة إلا فهم يؤتيه الله عز وجل رجلا في القرآن، أو ما في الصحيفة، فقلت: وما في الصحيفة، قال: العقل، وفكاك الأسير ولا يقتل مسلم بكافر» (2) قال على رضي الله عنه: «ما عهد إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا خاصة دون الناس، إلا شيء سمعته منه فهو في صحيفة في قراب سيفي، قال: فلم يزالوا به حتى أخرج الصحيفة قال: فإذا فيها من أحدث حدثا أو أوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه صرف ولا عدل، قال: وإذا فيها إن إبراهيم حرم مكة، وإني أحرم المدينة حرام ما بين حريتها، وحماها كله، لا يختلي خلاها، ولا ينفر صيدها، ولا تلتقط لقطتها، إلا لمن أشار بها، ولا تقطع منها شجرة، إلا أن يعلف رجل بعيره، ولا يحمل فيها السلاح لقتال، قال: وإذا فيها المؤمنون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، ألا لا يقتل مؤمن بكافر ولا ذو عهد في عهده» (3) .
وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب كتابا بين المهاجرين والأنصار، أن يعقلوا معاقلهم وأن يقدوا عانيهم بالمعروف والإصلاح بين المسلمين» (4) .
(1) المرجع السابق، ص 39.
(2)
مسند الإمام أحمد (1 / 79) ، الطبعة الخامسة، المكتب الإسلامي، بيروت، 1405 هـ.
(3)
المرجع السابق (1 / 119) .
(4)
المرجع السابق (1 / 271) ، ورواه بنحوه بسنده عن ابن عباس رضي الله عنهما (1 / 271) .
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال: «كتب النبي صلى الله عليه وسلم على كل بطن عقوله، ثم إنه كتب أنه لا يحل أن يتوالى مولى رجل مسلم بغير إذنه، قال روح: يتولى» (1) .
وقال رافع بن خديج رضي الله عنه قال: «إن مكة إن تكن حرما فإن المدينة حرمها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو مكتوب عندنا في أديم خولاني» (2) .
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «. . . ثم نظر إلى المدينة قال اللهم إني أحرم ما بين لابتيها بمثل ما حرم إبراهيم مكة. .» (3) .
وعن علي رضي الله عنه قال: « (من زعم أن عندنا شيئا نقرأه إلا كتاب الله وهذه الصحيفة (قال: وصحيفة معلقة في قراب سيفه) فقد كذب، فيها أسنان الإبل، وأشياء من الجراحات، وفيها قال النبي صلى الله عليه
(1) المرجع السابق (3 / 321) ، وصحيح مسلم رقم (1507) ، ومسلم عن أبي هريرة رضى الله عنه رقم (1508) .
(2)
مسند الإمام أحمد (4 / 141)، وانظر: كذلك المرجع السابق (1 / 122) ، (2 / 178، 180، 194، 204، 211، 215) ، (242 / 3، 342) .
(3)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من غزا بصبي للخدمة (3 / 255) .
(4)
رواه البخاري، كتاب الجهاد والسير، باب ذمة المسلمين وجوارهم واحدة، ويسعى بها أدناهم (4 / 67) .
وسلم: (المدينة حرم ما بين عير إلى ثور، فمن أحدث فيها حدثا أو آوى محدثا، فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ولا يقبل الله منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا، وذمة المسلمين واحدة، يسعى بها أدناهم، ومن ادعى إلى غير أبيه أو انتمى إلى غير مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين لا يقبل منه يوم القيامة صرفا ولا عدلا) » (1) .
وعن كعب بن مالك رضي الله عنه في قصة قتل كعب بن الأشرف، وقال في آخر الحديث:«. . . ثم دعاهم إلى أن يكتب بينه وبينهم كتابا، ينتهون إلى ما فيه، فكتب بينه وبينهم وبين المسلمين عامة صحيفة» (2) وعن عاصم بن سليمان الأحول قال: قلت لأنس: «أبلغك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لا حلف في الإسلام؟ فقال: قد حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين قريش والأنصار في دارى» (3) .
وفي رواية قال: (سمعت أنس بن مالك يقول: «حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم في دارنا، فقيل له: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا حلف في الإسلام؟ فقال: حالف رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار في دارنا، مرتين أو ثلاثا» (4) .
وذكر ابن القيم رحمه الله: «أن الرسول صلى الله عليه وسلم صالح اليهود وكتب بينهم وبينه كتاب آمن» (5) وقال ابن حجر: وذكر ابن إسحاق
(1) رواه أبو داود، رقم (1370) .
(2)
رواه مسلم، رقم (3000) .
(3)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الإخاء والحلف، وكتاب الكفالة باب قول الله تعالى: والذين عقدت أيمانكم وكتاب الاعتصام، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وخص على اتفاق أهل العلم، ورواه مسلم رقم 2529) ، ورواه أبو داود رقم (2926) ، ورواه أحمد (3 / 111، 145، 281) .
(4)
رواه البخاري، كتاب الأدب، باب الإخاء والحلف، وكتاب الكفالة باب قول الله تعالى:(وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ) وكتاب الاعتصام، باب ما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم وخص على اتفاق أهل العلم، ورواه مسلم رقم 2529) ، ورواه أبو داود رقم (2926) ، ورواه أحمد (3 / 111، 145، 281) .
(5)
ابن القيم، زاد المعاد في هدي خير العباد، ص 71، ج2، طبعة ثالثة، 1362هـ.
أن النبي صلى الله عليه وسلم «وادع اليهود لما قدم المدينة، وامتنعوا من اتباعه، فكتب بينهم كتابا» (1) .
وقال ابن القيم رحمه الله في أحكام أهل الذمة: «. . . إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة وادع جميع اليهود، الذين كانوا بها موادعة مطلقة، ولم يضرب عليهم جزية» ، وهذا مشهور عند أهل العلم بمنزلة التواتر بينهم، قال الشافعي رحمه الله: لم أعلم مخالفا من أهل العلم بالسير أن الرسول صلى الله عليه وسلم لما نزل المدينة وادع يهود كافة على غير جزية، وهو كما قال الشافعي رحمه الله تعالى، وذلك أن المدينة كان فيما حولها ثلاثة أصناف من اليهود: بنو قينقاع، وبنو النضير، وبنو قريظة، وكانوا (بنو قينقاع وبنو النضير) حلفاء الخزرج، وكانوا (قريظة) حلفاء الأوس، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم هادنهم ووادعهم مع إقراره لهم ولمن كان حول المدينة من المشركين من حلفاء الأنصار على حلفهم وعهدهم الذي كانوا عليه حتى أنه عاهد اليهود أن يعينوه إذا حارب، ثم نقض العهد بنو قينقاع، ثم النضير، ثم قريظة.
قال محمد بن إسحاق: وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني أول ما قدم المدينة كتابا بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم وأموالهم واشترط عليه وشرط لهم. قال بن إسحاق حدثني عثمان بن محمد بن عثمان بن الأخنس بن شريق قال: (أخذت من آل عمر بن الخطاب هذا الكتاب كان مقرونا بكتاب الصدقة الذي كتب للعمال)(2) ثم ذكر نحو نص الوثيقة التي نحن بصددها الآن، ثم قال:
(1) ابن حجر، فتح الباري شرح صحيح البخاري: ص 275، جـ7، نشر الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، الرياض.
(2)
ابن القيم، أحكام أهل الذمة، ج 2 ص 834 - 835، طبعة ثانية، دار العلم للملايين ببيروت 1401هـ.
(وهذه الصحيفة معروفة عند أهل العلم)(1) ثم استشهد بحديث جابر بن عبد الله الذي رواه مسلم «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب على كل بطن عقولة» والذي ذكرناه سابقا.
ثم قال: " فكل من أقام بالمدينة ومخالفيها غير محارب من يهود دخل في هذا، ثم بين أن ليهود كل بطن من الأنصار ذمة من المؤمنين، ولم يكن أحد من اليهود إلا وله حلف إما مع الأوس أو مع بطون الخزرج، وكان بنو قينقاع وهم المجاورون للمدينة رهط عبد الله بن سلام حلفاء بني عوف بن الخزرج رهط البطن الذي بدئ بهم في هذه الصحيفة "(2) .
وبذلك يتبين أن القول بأن الوثيقة موضوعة مجازفة وذلك للأسباب الآتية:
1 -
ثبوت المحالفة بين المهاجرين والأنصار، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
2 -
ثبوت موادعة اليهود، وكتاب الرسول صلى الله عليه وسلم في ذلك.
3 -
أن الوثيقة وردت من طرق عديدة تتضافر في إكسابها القوة.
4 -
أن الزهري علم كبير من أعلام الرواد الأوائل في كتابة السيرة النبوية.
5 -
أن أسلوب الوثيقة يدل على أصالتها، فنصوصها مكونة من جمل قصيرة وغير معقدة، وفيها كلمات وتعابير كانت مألوفة في العهد النبوي.
(1) المرجع السابق، ص 838.
(2)
المرجع السابق، ص 838.
6 -
أنه ليس في الوثيقة نصوص تمدح أو تقدح فردا، أو جماعة، أو أي قرينة يمكن القول معها بأنها مزورة.
7 -
التشابه الكبير بين أسلوبها، وأساليب كتب النبي صلى الله عليه وسلم الأخرى يعطيها توثيقا آخر.
8 -
أن الأحكام المستنتجة من الوثيقة يمكن استنتاجها من عموميات النصوص الثابتة في الصحاح والسنن والمسانيد التي ذكرنا طرفا منها (1) .
جـ - أهم ما احتوته الوثيقة من أمور دستورية: وقد احتوت هذه الوثيقة على عدة أحكام دستورية أهمها ما يلي:
1 -
الإعلان عن قيام الدولة الإسلامية، وأن شعبها يتكون من: مهاجري مكة وأنصار المدينة، مضافا إليهم كل من أبدى استعدادا للتبعية لهذه الوحدة، وخضع لقيادة دولتها من الأقليات الأخرى القاطنة المدينة كما في الفقرة (1) ، والفقرة (2) .
2 -
نصت الوثيقة على مبدأ الانضمام إلى المعاهدة بعد توقيعها، وهو مبدأ دستوري مهم، ومازال العمل يجري به إلى يومنا هذا، ولعلها أول وثيقة في التاريخ تقر هذا المبدأ (2) كما في الفقرة (1) والفقرة (17) .
3 -
نصت الوثيقة على مواد في التكافل الاجتماعي بين أفراد الدولة، كما في الفقرات من (3) إلى (13) .
4 -
نصت الوثيقة على إقامة العدل، وتنظيم القضاء، ونقله من الأفراد والعشيرة إلى الدولة دون محاباة، ودون السماح لأحد بالتدخل وتعطيل القانون، كما في الفقرة (14) .
(1) أول دستور أعلنه الإسلام، د. أكرم العمري، ص 39 - 40.
(2)
محمد العوا، في النظام السياسي للدولة الإسلامية، ص 56، 57، طبعة خامسة، 1981م، المكتب المصري، القاهرة.
5 -
قررت الوثيقة مبدأ شخصية العقاب كما في الفقرة (46) والفقرة (56) .
6 -
أوردت الوثيقة نصوصا في بيان مركز الأقليات الدينية، كما في الفقرات (71) ، (26) ، (27) ، (43) ، (44) ، (53) .
7 -
أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحقوق، كحق الحياة، كما في الفقرة (23) ، وحق الملكية، كما في الفقرة (58) وحق الأمن والمسكن، والتنقل، كما في الفقرتين (47) ، (58) .
8 -
أوردت الوثيقة نصوصا في بيان الحريات والحقوق كحق احترام عقيدة الآخرين، وعدم الإكراه في الدين، كما في الفقرة (27) ، وبالتناصح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، كما في الفقرة (45) .
9 -
حددت الوثيقة أساس المواطنة في الدولة الناشئة، وهو الإسلام، فأحلت الرابطة الدينية بدلا من الرابطة القبلية، حيث نصت الفقرة (2) ، من الوثيقة على أن المسلمين أمة من دون الناس، وليس معنى ذلك حصر المواطنة في المسلمين وحدهم، بل نصت الوثيقة على اعتبار اليهود المقيمين في المدينة من مواطني الدولة، وأوضحت حقوقه وواجباتهم (1) كما في الفقرات من (27) إلى (41) .
10 -
عينت الوثيقة أن المرجع عند الاختلاف رئيس الدولة، كمما في الفقرة (25) ، والفقرة (39) والفقرة (50) بمعنى أن الوثيقة حددت سلطة تفسير النصوص.
11 -
قررت الوثيقة مبدأ المساواة كما في الفقرات (16) ، (18) ، (20) ، (53) ، (54) ، فالناس سواء في الحقوق والواجبات.
(1) المرجع السابق، ص56 ـ 57.