الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الموقف من أرضية واقعية - ولمصلحة فرنسا أيضا - فكتبت ما يلي: (وجد الأهالي - الجزائريون - أنفسهم، وهم مرغمين على البقاء تحت أشواك المسيحيين واليهود لأنهم لم يبق فيهم أي غني بورجوازي، وحولت مساجدهم إلى كنائس، واضطر الكثيرون منهم إلى الهجرة نحو المغرب وتونس. أما ما بقي لأهالي الجزائر من الأعمال، فهي: السخرة والإغارات والضرائب والجفاف والسلب والنهب والربا وكروب الجوع والثورات، ونطلب منهم بعد ذلك كله أن يبقوا أصدقاء لنا في حالة الحروب)(1).
لقد وضح للجزائريين من خلال الصراع الدائر بين مراكز القوى الاستعمارية، أن شعب الجزائر ومشكلاته لم تكن تعني بالنسبة للإستعماريين شيئا. وأن كل اهتمام هؤلاء موجه لتجنيس الجزائريين وصهرهم في بوتقة المجتمع الإفرنسي، بعد إعادة تشكيلهم، سواء كان ذلك بصورة بطيئة أو مستعجلة وكان لا بد لذلك من أن يثير كوامن الغضب في أعماق نفوس المسلمين المؤمنين.
ج - المسألة اليهودية وقانون كريميو:
استقبل اليهود في الجزائر جحافل الغزو الاستعماري الإفرنسي بالفرحة والابتهاج (سنة 1830) حتى أنهم (ركعوا على ركبهم لتقبيل أقدام ضباط وجنود الحملة وأيدتهم) وأصبحوا بعد ذلك وسيلة الإفرنسيين للسيطرة على البلاد. ووثقوا روابطهم بهم، وبدأ البعض منهم في الحصول على الجنسية الإفرنسية بصورة شخصية. حتى إذا ما أقبل العام 1843، تم وضع أول مشروع لتحقيق تجنيس جماعي
(1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز ص 37 - 38.
لهم. واتضح بعد ذلك أن من مصلحة فرنسا ربط يهود الجزائر بها وتحويلهم إلى فرنسيين. واقترح المجلس العام لمدينة قسنطينة عام 1858 تجنيسهم بصورة جماعية، ووجه يهود الجزائر عام 1864 مذكرة إلى مجلس السيناتوس كونسولت بفرنسا في الموضوع ذاته حتى يحصلوا على حق الإنتخاب والعضوية في المجالس العامة. ولم يطل الأمر كثيرا، ففي 14 تموز - يوليو - 1865 صدر قرار من المجلس نص على منح الجنسية الإفرنسية لليهود والمسلمين معا بصورة شخصية مع إحتفاظهم بأحوالهم الشخصية (حيث نصت المادة الثانية من قرار التجنيس على أن الأهالي اليهود يصبحون فرنسيين مع احتفاظهم بالشخصية الموسوية. ولهم الحق في العمل بالجيش والوظائف العامة بالجزائر). واكتسب اليهود بعض الحقوق المدنية. وأخذت المجالس العامة بالجزائر، تطالب كل سنة إبتداء من هذا التاريخ بتحقيق الجنسية الجماعية لهم. وقد حمل المحامي (كريميو)(1) على عاتقه
(1) كريميو - أدولف: (CREMEUX ADOLPHE ISAAC MOISE) محام
يهودي وسياسي إفرنسي، من مواليد نيم (NIMES)(1796 - 1880) أصبح نائبا في سنة 1842 و1846، عمل مستشارا (يساريا) للملك لويس فيليب. وتآمر ضده في انقلاب سنة 1848، كما أسهم في انتخاب لويس بونابرت (وثلاثتهم من المحفل الماسوني الإفرنسي). وانتخب نائبا عن اليسار المتطرف في باريس سنة 1869، وبذل نشاطا كبيرا من أجل إعلان الحرب على بروسيا. وعندما اجتاحت القوات البروسية فرنسا وطوقت باريس شكل كريميو مع رفاقه حكومة (تور). ولم يلبث أن أصبح في 20 تشرين الأول - أكتوبر - منتخبا عن الجزائر. وفي 24 تشرين الأول - 1870 - أعلن قانونه المشهور بمنح الجنسية لليهود. وأصبح عضوا في مجلس الشيوح - السيناتور - مدى الحياة في سنة 1875. ومن أعماله أنه فرض على الجزائر بعد قمع ثورة سنة 1871 قانونا بتجريد الجزائريين من ممتلكاتهم التي بلغت مساحتها (446،406) هكتارا منها (301،615) هكتارا من الأراضي الزراعية، بالإصافة إلى غرامات بلغت (64،739،75) فرنك إفرنسي، أوما =
تحقيق هذا الهدف منذ عهد ملكية لويس فيليب، ووثق صلاته بيهود الجزائر خلال عهد الإمبراطورية. وقام بحوالي سبع عشرة رحلة إلى الجزائر للاتصال بزعمائهم والاتفاق معهم على الإطار الذي يتم فيه مشروع التجنيس. واستمر في بذل الجهد وتذليل الصعوبات، حتى إذا ما أتيحت له الفرصة في حكومة تور وبعد سقوط نابليون الثالث، استغل الظروف الصعبة التي تمر بها فرنسا آنذاك لتحقيق ما دعاه (أكبر حلم في حياته) فأصدر قانون 24 تشرين الأول - أكتوبر - 1870 الذي يقضي:((بتجنيس اليهود في الجزائر بصورة جماعية وإجبارية) ونزع اليهود عنهم ثيابهم القديمة - العربية - ولبسوا لباس الأوروبيين، بعد أن تطبعوا بأخلاقهم وعاداتهم.
اختلفت ردود الفعل تجاه (قانون كريميو) حتى بين يهود الجزائر. ومن المقولات التي طرحت في هذا المجال: (لقد رأينا كثيرا من اليهود متألمين من ذلك الأمر، لأنه أوقعهم فيما ليسوا أهلا له من حمل السلاح والتوجه إلى الحرب وغير ذلك، مع أنهم لا يقدرون على شيء منه. وقد شوهد من حالهم الأمر الغريب عندما زجوا في معركة (المليلة) وصاروا عبرة لكل من رآهم) ورفع كبار الدين في ولاية - إيالة - وهران - عريضة للسلطات الإفرنسية جاء فيها:
(تتصل قضية التغيير في الشريعة الإسلامية وعوائد المسلمين بمرسوم التجنيس. الذي ينص - من بين ما ينص عليه - على استحداث محاكم الجنايات بالجزائر، وإسناد وظيفة القضاء للمحلفين
= يعادل 70 بالمائة من رأس المال المتوافر في الجزائر).
LE DEFI ISRAELIEN (LUCIEN CARVO DEMARS) LIBAN 1971 P.P.44 - 45.
الأوروبيين واليهود، والاستغناء بالتدريج عن المحاكم الإسلامية
…
لقد علمنا بطلب تغيير أحكام شرعنا، فلم نقبل هذا الطلب، وعارضناه بالكلام والكتابة. ورفعنا شكايتنا إليكم نطالب بالإبقاء على شريعتنا وعلى أصلها، وأن لا يقع فيها تبديل ولا تغيير، وفاء بالعهد الصادر من الدولة يوم استيلائها على الإقليم الجزائري في 5 تموز - يوليو - 1830. وكذلك العهد الواقع بين كبراء مخزن وهران وبين الدولة يوم 6 حزيران - يونيو - 1835 .. ونحن معشر المسلمين لا عمدة عندنا سوى ديننا وهو رأس مالنا، ولا يخفى أن الشرع عندنا هو الدين، والدين هو الشرع، فلا فرق بينهما كما يتوهمه بعض الناس، وإذا وقع أقل القليل من التغيير في شرعنا فقد تغير ديننا لأنهما شيء واحد
…
) (1).
أما (ابن علي الشريف باشآغا شلاطة) المشهور بعمالته لفرنسا، فقد صرح أمام قائد فرنسي بما يلي:(كم نحن مجروحون من تجنيس اليهود بالجملة، دون تفريق أو تمييز بين الرجال الفاهمين وبين اليهود الذين تعرفهم مثلي، وتعرف أننا رافقناكم في كل المعارك، وبدلا من أن تشجعونا، أبقيتمونا مرؤوسين محتقرين. إن الصحافة تتهمنا باطلا وتشتمنا وتهددنا في أملاكنا وشرفنا. ولقد حملنا السلاح لندافع عن أنفسنا). ونقلت (صحيفة الشمال) عن أحد الزعماء الجزائريين قوله: (إن الجزائريين كلهم على كلمة واحدة، في إنه ليس اليهود هم
(1) تاريخ الرسالة 1 كانون الثاني - يناير - 1872 وهي تحمل تواقيع: أحمد ولد القاضي باشآغا فرندة بمنطقة معسكر؛ ومحمد عبد الله بن والي خليفة ميرا والشلف بمنطقة مستغانم. وحامد بن حامد آغا أولاد رباح بتلمسان. وعبد القادر ولد الدين آغابني عامر ببلعباس. وبذلك فهم يمثلون كل سكان ولاية - إيالة - وهران. (عن ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 145 - 146) فصل الموقف من تجنيس اليهود.
الذين أصبحوا فرنسيين، ولكن فرنسا هي التي أصبحت يهودية). (1) وحاول (كريميو) الدفاع عن مشروعه بقوله:(كيف تمنح جمهورية 1848 الحرية والقوانين للسود، ولا تعطي جهورية 1870 التجنيس لليهود الذين يرتدون الثياب الإفرسية منذ سنوات، قبل أن يرتدوا البذلة الشرقية) غير أن (كريميو) اعترف أن قرار 24 تشرين الأول - أكتوبر - هو الذي جعل اليهود قضاة، وهو الذي دفع المسلمين إلى الثورة. وقال:(نعم هذا هو الواقع). وعلى غرار (كريميو) دافع المجلس الملي المركزي الإسرائيلي في فرنسا، على القرار باعتباره (ضرورة اجتماعية) ونفى أن يكون سببا في ثورة الجزائريين. وادعى أن الأسباب المادية لثورتهم تكمن في أنهم كانوا على استعداد في كل وقت للثورة ضد المسيحيين.
واعتبر أحد القادة العسكريين المعاصرين للحادث: (بأن قرار التجنيس الكئيب النتائج هو الذي أشعل النار في كل مكان ويجب إعدامه. وروي عن بعض الأهالي قولهم: (بأن اليهود الذين لا يدفعون الضرائب. ولا يشمون رائحة البارود، أصبحوا مساوين للإفرنسيين. ونحن الذين قدمنا عشرين ألفا من أبنائنا للحرب، وأعطينا شرفنا، نعامل هكذا كالمغلوبين).
أما الحاكم العام للجزائر سنة 1871 (الأميرال الكونت دو غيدان) فقد رفع تقريرا إلى وزير الداخلية الإفرنسية في 29 نيسان - إبريل - 1871 جاء فيه: (لقد جرح العرب في أعماق قلوبهم وفي وطنيتهم النظيفة بسبب تجنيس اليهود الجماعي الذي سمح لليهود باحتلال مناصب عالية إدارية وقضائية).
(1) LE NORD DU 9 ET LE 10 MAI 1871.
وصرح حاكم (تيزي أوزو): (بأنه استمر طوال ثلاثة سنوات وهو يسأل الناس ويستفسرهم عن سبب ثورتهم، وأنه خرج بالنتيجة التالية: لقد ثار المسلمون ضد السوقة اليهود وضد التصرفات الحمقاء لحكومة الرابع من أيلول - سبتمبر -).
واستنكر (قارو)(1) قرار التجنيس بقوله: (حصل أربعون ألف يهودي في يوم واحد، وهو يوم النكبة والكارثة، وبواسطة الغش والخداع، على المزايا التي لم يحصل عليها اللاتين في روما إلا بعد نضال قرنين من الزمن) وأكد أن: (قرار 24 تشرين الأول - أكتوبر - هو غلطة ضد الوطن، وحرض الجزائريين على الثورة).
تلك هي بعض المقولات التي طرحت في مجال (قانون كريميو) لتجنيس اليهود جماعيا، وتقابلها مقولات كثيرة للدفاع عن هذا القانون. المهم في الأمر هو أن هذا القانون قد أخذ طريقه للتنفيذ، رغم معارضة المسلمين في الجزائر ومقاومتهم له، وعلى الرغم أيضا من تصدي بعض الإفرنسيين من مدنيين وعسكريين - وحتى اليهود لمعارضته ومقاومته. وهناك من ينكر أن يكون لهذا القانون علاقة بثورة 1871 - في حين يرجع آخرون لهذا القانون سبب الثورة وذريعتها. والأمر الذي لا يقبل الجدل هو أن هذا القانون قد ترك أثرا عميقا في نفوس الجزائريين المسلمين المجاهدين في سبيل الله، ودفعهم لحمل السلاح دفاعا عن مقدساتهم.
المهم في الأمر بعد ذلك، ربط هذا القانون بما كان يحدث على جبهة المشرق (في بلاد الشام) وفقا لما سبق ذكره، وكذلك ربط هذا
(1) GARROT
(LA MYSTIFICATION DU DECRET CREMIEUX) ALGER 1898 P.P.14 - 21، 38، 65 - 68.
القانون بما تم تطبيقه عند احتلال تونس، وفقا لما أورده الشيخ المجاهد أحمد توفيق المدني، ومنه ما يلي: (كانت بتونس خاصة، وبمختلف بلاد المملكة التونسية يومئذ عامة، طائفة يهودية كبيرة العدد، مسالمة، تشتغل في أمان وفي حرية مطلقة بالتجارة. وأخرجت المدرسة الحديثة طائفة من الشبان اليهود تعلموا وأصبحوا محامين وأطباء وصيادلة. وأخذ الشيطان ينفخ في أوداجهم، فأنفوا البقاء رعايا تونسيين، وراموا الإحراز على الجنسية الإفرنسية أسوة ببني ملتهم في الجزائر منذ صدور قانون كريميو سنة 1872، فأصبحوا حاكمين بعد أن كانوا محكومين. ورفعوا عقيرتهم يومئذ. وتوالت إجتماعاتهم وأخذوا في أقوالهم وفي
بعض كتاباتهم يمتهنون جنسية تونس، ويفحشون القول للتونسيين .. (وتحدثت إلى أحد اليهود في الأمر، فقال لي: نحن اليوم
نجتمع حول ثلاث من النقط لا خلاف بيننا فيها إطلاقا؛ اليهودية والتوراة وأورشليم - القدس. ونحن رعاية لمصالحنا، وصونا لتجارتنا، وحفظا لأموالنا، نريد أن نكون دوما مع الغالب لا مع المغلوب
…
ونحن نرى أن نكون من الآن فرنسيين حتى لا يسير الركب الفرنسي الجامح بدوننا
…
ومآلنا المحتم هو أن نرجع لفلسطين وأن نبني دولتنا من جديد على أنقاض دولة داوود. وعندئذ يعود لأورشليم عزها وازدهارها ويكون لليهود صوت في العالم
…
وعندئذ يحكم سلطان التوراة) (1).
ويكمل (لوسيان كورفو) صورة الموقف ونتائج (قانون كريميو) على أفق المستقبل بقوله: (ولنتذكر أيضا أن هناك ثمانون بالمائة من
(1) حياة كفاح (أحمد توفيق المدني) الشركة الوطنية للنشر والتوزيع - الجزائر /417 - 76/ ص 51.