الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
اللعب بورقة الأمير عبد القادر
كان خروج قوات محمد علي باشا من سوريا هو البداية لمجموعتين من الأحداث المتتالية، أولاهما: مشكلة الأقليات في بلاد الشام، والثانية: المشكلة اليهودية. وارتبطت المشكلتان ارتباطا وثيقا بالأمن الذي باتت أعباء تحقيقه في سوريا ملقاة بكل ثقلها على الحكومة العثمانية. ومن المعروف أن معظم هذه الأقليات (الدروز والموارنة خاصة) كانت قد استقرت في جبال لبنان منذ أجيال وظهرت منها عائلات مارست دورا قياديا من أمثال المعنيين والتنوخيين والشهابيين. وظنت الحكومة العثمانية أن بوسعها كسر شوكة زعامة هذه العائلات بمثل الطريقة التي سبق للسلطان محمود اتباعها في آسية الصغرى، من أجل إخضاع لبنان مباشرة لسلطة الوالي العثماني. وكان الأمير بشير الشهابي، الذي أسلم البلاد يوما إلى إبراهيم باشا قد فر إلى مالطا في تشرين الأول - أكتوبر - 1840 على متن سفينة حربية بريطانية. وكان ابنه الأكبر ضعيف العقل، في حين كان ابنه الأصغر غير كفء لخلافته. ولكن فرنسا التي انتحلت لفسها حق حماية نصارى الشرق - والموارنة منهم بصورة خاصة، كانت غير مستعدة للموافقة على اضمحلال الإمارة المسيحية من غير أن تحرك ساكنا. ونزولا عند
ضغط الدول، عين الباب العالي أحد المتقدمين في السن من أبناء أخي الأمير بشير حاكما. ولكنه حرك الدروز في الوقت نفسه للثورة، مما اقتضى احتلال لبنان كله إحتلالا عسكريا. حتى إذا رفع النصارى صوتهم بالشكوى، عين الباب العالي لجنة أنهت أعمالها برفع شكوى إلى الباب العالي تلتمس فيها إقامة إدارة تركية في البلاد. واتخذت الدولة العثمانية قرارها في آب - أغسطس - سنة 1842 بتقسيم لبنان إلى منطقتين إداريتين، يحكم إحداهما زعيم من الزعماء الدروز، في حين يحكم الأخرى زعيم من زعماء الموارنة، يحمل كل منهما لقب، (قائم مقام) أما في المناطق المختلطة، مثل منطقة المتن الهامة الواقعة على طريق دمشق، حيث كانت أكثرية مارونية تعيش في ظل المشايخ الدروز، فقد توجب على كل قائم مقام تعيين نائب عنه. وحيث أن الدول العظمى كانت تلح على أن يدفع الدروز التعويضات عن الخسائر الناجمة عن ثورة 1842، فقد اندلعت نار الحرب الأهلية، من جديد، في نوار - مايو - سنة 1840. عندئذ عمد الباب العالي إلى نزع السلاح من الفريقين، وأقام إلى جانب كل قائم مقام مجلسا يتمتع بصلاحيات إدارية وقضائية، ويتألف من ممثلين عن مختلف طبقات الشعب.
مات محمد علي باشا سنة 1848، وكان ابنه إبراهيم باشا قد توفي قبله بثمانية أشهر. وخلفه ابنه عباس باشا، وكان مسلما حقا يزدري التربية الأوروبية ازدراء بعيدا. ولم يكد يرتقي العرش حتى وضع المشروع القاضي بشق قناة السويس لوصل البحر الأحمر بالبحر الأبيض المتوسط. وإذ كان أصحاب رؤوس الأموال من الإفرنسيين يبدون اهتماما بهذا المشروع فقد عارضه البريطانيون، وروجوا لمشروع مضاد يقضي بمد خط حديدي عبر برزخ السويس، وقد
بدىء بإنشائه فعليا سنة 1851. ومهما يكن من شيء فالحق أن مسألة المواصلات هذه، التي انتهت فيما بعد إلى أن تكون ذات أهمية عظمى بالنسبة إلى العالم كله، لم تكن هي التي قررت مصير الشرق في السنوات التالية. وإنما الذي قرر مصيره مسألة أخرى كان الباب العالي يعتبرها تافهة، ولكنها قدمت إلى الدول الأوروبية ذريعة لفرض سيطرتها على الشرق، ألا وهي مسألة الأماكن المقدسة الشهيرة.
كان الفرنج منذ أيام الحروب الصليبية القديمة يتخذون من قضية الأماكن المقدسة في فلسطين حجة للتدخل بشؤون المشرق الإسلامي، كلما أنسوا من أنفسهم قوة ومن العالم الإسلامي ضعفا، وذلك بزعمهم ان لمنطقة القدس وما يحيط بها مكانة دينية خاصة لهم، لما تحفل به من ذكريات عن حياة يسوع. وقد استقرت في هذه المنطقة جمع يمثل ست طوائف نصرانية هي: اللاتين - أتباع الكنيسة الرومانية - والروم الأرثوذكس، والأرمن والسريان والأقباط والأحباش وكانت الكنائس الثلاث الأخيرة قد دخلت بسبب من ضعفها تحت حماية الأرمن الذين لم يكن للباب العالي غنى عنهم، بسبب إخلاصهم للدولة، وبسبب دورهم الاقتصادي في العالم الإسلامي. ومهما كان عليه الأمر، فقد بقيت الكنيسة الأرثوذكسية أسمى هذه الكنائس رتبة بوصفها ممثلة لعشرة ملايين من رعايا السلطان الأرثوذكسيين، وبسبب حماية الروسيا لها أيضا. وكان رجال الأكليروس اللاتيني، ومعظمهم من أصل إسباني وإيطالي، يتمتعون بامتيازات أجنبية وبحماية وزارة الخارجية الإفرنسية. والواقع أن هذه الطوائف المختلفة كانت بحكم العادة، لا بحكم القوانين والأنظمة المكتوبة، تتمتع بحقوق متعارف عليها. ولم تكن هذه الحقوق على كل
حال محددة بعضها بالنسبة إلى بعضها الآخر، تحديدا واضحا، ومن هنا فكثيرا ما احتكمت الطوائف النصرانية إلى السلطات الإسلامية لحل خلافاتها. وفي كنيسة القيامة ببيت المقدس، وكانت ملكا مشتركا بين جميع الطوائف، لم يكن من النادر أن تنشب أعمال العنف والاقتتال بين رجال الدين، الذين تميز عددهم بالوفرة بقدر ما تميزت مهامهم بالضآلة، حتى لقد كان الحرس التركي هو المسؤول عن الأمن والنظام في القبر المقدس طوال أيام عيد الفصح.
حدث في صيف سنة (1847) أن فقدت في كنيسة المهد في بيت لحم نجمة مزخرفة بالنقوش الفضية، كانت معلقة فوق مسقط رأس المخلص، فاتهم الأرثوذكس بنزعها. ولكن السلطات التي كلفت بالتحقيق لم تقطع برأي جازم في هذا الحادث. وفي سنة 1849، وعندما تسرب النفوذ الأكليركي كرة أخرى إلى الحكومة الإفرنسية، اتخذت هذه الحكومة من ذلك الحادث ذريعة لمقاومة النفوذ الروسي في الشرق. وهكذا، أمرت سفيرها في إستانبول بأن يطالب، استنادا إلى إمتياز ممنوح منذ سنة 1740، بتوسيع حقوق اللاتين التقليدية توسيعا كبيرا. ولكن الروسيا تهددت الباب العالي بقطع العلاقات الديبلوماسية إذا ما أدخل أي تعديل على الوضع الراهن في الأماكن المقدسة. وبعد مفاوضات واجتماعات لجان تطاولت نحوا من سنتين، قرر السلطان إبقاء القديم على قدمه في القدس. على أن يعطي اللاتين المفاتيح الثلاثة الخاصة بالأبواب الرئيسة للكنيسة العذراء، وبالسراديب القائمه تحت كنيسة المهد، في بيت لحم. ورغم كل شيء، فقد ظل مفتاح المدخل الرئيسي إلى كنيسة المهد من جهة الغرب في غير حوزة اللاتين، ومع ذلك، فقد اضطر السفير الإفرنسي
إلى أن يعلن ارتياحه لهذا الإمتياز السخيف، وهو الذي أقام الدنيا وأقعدها قبل ذلك، منذرا بالويل والثبور وعظائم الأمور، لأن كرامة إمبراطوره قد امتهنت. ولكن الروسيا وطنت العزم على استغلال هذه الفرصة للقضاء على نفوذ عدوتها السياسي في الشرق. فاحتالت لحمل الباب العالي على أن يوعز لمتصرف القدس بأن يوضع للاتين في القدس لدن تسليمهم المفاتيح، أن هذا الإجراء لا يفيد أن لهم الحق في الدخول من الأبواب. ليس هذا فحسب، بل لقد أصدر السلطان أمره أيضا بتدوين جميع حقوق الأرثوذكس في الأماكن المقدسة، في سجلات محاكم المدينة، واعتبار كل مطلب آخر من مطالب اللاتين باطلا. حتى إذا مرت فرنسا بهذا التحدي أيضا مرا هادئا، طالب القنصل الروسي العام في فلسطين بأن يتلى فرمان الباب العالي. الجديد، في القدس، علانية. ولقد احتج السفير الإفرنسي على هذا، وتهدد الدولة بإلقاء الحصار على الدردنيل إذا ما نزلت بعد اليوم عند إرادة الروسيا. حتى إذا تجاهلت الدولة هذا الإنذار، وأذعنت لمطالب الروسيا، لم تجرو فرنسا هذه المرة أيضا، على أن تصنع شيئا.
لم تقنع روسيا بما أحرزته من نصر، فتمادت في طلباتها، وأرسلت سفيرا فوق العادة إلى إستانبول، طالب الباب العالي بتسوية مسألة الأماكن المقدسة عن طريق معاهدة خاصة مع الروسيا، وبأن يعترف بالبطريرك الأرثوذكسي رئيسا روحيا مستقلا. ورفض الباب العالي هذه المطالب التعسفية الجائرة، فغادر السفير (منشيكوف) إستانبول. وفي 26 حزيران - يونيو - 1852، وجه القيصر نيقولا الأول، رسالة إلى شعبه أعلن فيها: (أن الروسيا تضطلع منذ القدم بواجب الدفاع عن الأرثوذكسية. وإن هذا الواجب قد ألزمه، بعد أن
تدخل الباب العالي في حقوق الكنائس الشرقية، بأن يبعث بجيوشه إلى إمارات الدانوب، لا لكي تشهر حربا، ولكن لكي تحصل على ضمانة لإعادة هذه الحقوق السليبة) وبعد أسبوع عبرت الجيوش الروسية نهر البروات. وبدأت (حرب القرم) التي وقفت فيها إنكلترا وفرنسا إلى جانب تركيا، واستمرت الحروب حتى 28 تشرين الثاني - نوفمبر - 1855.
كانت نتائج حرب القرم كثيرة، لعل من أبرزها إفادة الدول الغربية من هذه الفرصة أيضا للمزيد من التدخل في شؤون الدولة الإسلامية. ففرضت على السلطان إصدار (منشور إصلاحي) عرف باسم (خط همايون) وذلك في شهر شباط (فبراير) 1856 وأكد السلطان فيه الحقوق التي سبق له أن منحها لرعايا الدولة في الخط الشريف المعروف باسم (كلخانة). وبموجب هذه الوثيقة، لم تبق المسائل المدنية الخاصة بالرعايا النصارى منوطة برجال الدين دون غيرهم، شأنها من قبل، بل عهد في إدارتها إلى مجلس مختلط من المدنيين والأكليركيين ينتخبه الشعب بنفسه. وأزيلت نعوت (التحقير) التي كانت تتردد حتى ذلك الحين على لسان الخطباء في يوم الجمعة ضد النصارى والكفار. ليس هذا فحسب، بل لم يعد بالإمكان إكراه المسلمين الذين يعتنقون النصرانية على الارتداد، كما كان عليه الموقف من قبل. وفتحت أبواب الإنتساب إلى معاهد التعليم الرسمية (الخاضعة لتوجيه المبشرين). وبالتالي إلى وظائف الدولة المدنية، في وجه النصارى، وفرضت عليهم الخدمة العسكرية أيضا. وكانت من قبل امتيازا خاصا بالمسلمين باعتبار الجهاد في سبيل الله فرضا من فروض الإسلام، ولكن النصارى منحوا حرية دفع البدل العسكري. ووعدوا بأن يمثلوا ثمثيلا أكثر فاعلية من قبل في
مجالس الولايات والمجالس المحلية. وسمح للأجانب بامتلاك الأراضي على شروط معينة. وأخيرا وضع السلطان نظاما للضرائب، وميزانية سنوية، مع اتخاذ التدابير لقطع دابر الرشوة.
لم تتقبل الرعية إعلان (خط همايون) بمثل الحماسة التي تقبلت بها الخط الشريف الكلخاني في الماضى. إذ وجد المسلمون فيه انتهاكا صارخا لحقوق المسلمين في ديارهم وأوطانهم. وأما النصارى فلم يتوقعوا الحصول على فوائد عملية من القوانين الجديدة. وزادت الشكوك بقيمة هذا المنشور وفائدته عند المسلمين والنصارى على السواء. لأن فرض مضمونه من قبل الدول الأوروبية لم يكن خافيا على أحد.
عقد بعد ذلك موتمر باريس في آذار - مارس - 1856 لتسوية المشكلات الناجمة عن حرب القرم. وظهر أن الشرق سيعيش فترة من الهدوء والاستقرار. غير أنه لم تمض أكثر من أربع سنوات حتى وجدت الدول الأوروبية فرصة جديدة للتدخل في شؤون الإمبراطورية العثمانية - الداخلية - وذلك بأن نظام الحكم الثنائي الذي أنشىء في لبنان، ساعد على قيام حالة من الصراع المستمر بين الدروز والموارنة. وانفجرت نار الحرب الأهلية كرة أخرى في نوار - مايو - 1860. وطغت على البلاد موجة من التقتيل والنهب دامت حتى شهر تموز - يوليو - وانتقلت الحرب الأهلية في لبنان من الجبل إلى السهل حتى وصلت دمشق. وانبرى الأمير عبد القادر الجزائري لبسط حمايته على النصارى، يساعده في ذلك إخوانه من المهاجرين الجزائريين. وترددت أصداء هذه الحرب في فرنسا بصورة خاصة. ووجه الباب العالي حاكما مزودا بسلطات واسعة (اسمه فؤاد باشا). كما أرسلت
فرنسا حملة إلى سوريا تضم ستة آلاف جندي. وأصدر القضاء أحكاما قاسية جدا على زعماء الثورة في لبنان ودمشق. ومهما يكن من شيء، فقد وجد الدروز تأييدا عند الإنكليز الذين كانوا في حاجة إليهم كقوة يلقونها في الكفة الأخرى من ميزان التنافس الدولي في لبنان، بعد أن شملت فرنسا النصارى بحمايتها. والواقع، فإن الاحتجاج البريطاني حال دون مواصلة حملة الإعدام التي كانت قد شنت على زعماء الدروز. وأبعد (2491) درزيا إلى طرابلس، ولكنهم ما لبثوا أن منحوا بعد خمس سنوات حرية العودة إلى بلادهم.
وجدت فرنسا في الحرب الأهلية في سوريا (طوشة النصارى 1860) فرصة لتحقيق هدف مزدوج أولهما: إحياء فكرة القومية العربية بالترويج لإقامة دولة عربية في بلاد الشام بعد أن فشل محمد علي باشا في تحقيقها. وثانيهما: دعم وجودها بالجزائر عن طريق دعم الأمير عبد القادر الجزائري وعن طريق تطوير نفوذها في المشرق الإسلامي.
وهكذا، وعلى أثر طوشة النصارى، وطوال الفترة ما بين سنة 1860 - 1865، اجتاحت فرنسا حملة سياسية صورتها المقولات التالية:(عبد القادر ملك مملكة عربية في المشرق) و (عبد القادر حاكم سوريا ونائبا عن الملك). ولقد كانت مثل هذه المقولات مرتبطة في أذهان رجال الصحافة والإعلام من الإفرنسيين بمبدأ (إقامة إمبراطورية عربية) أو التأكيد على فكرة (الحقوق الوطنية العربية). التي أخذت بالترويج لها - خاصة - صحيفة (بيرغس باريس)(1) غير أن
(1) POLITIQUES COLONIALES AU MAGHREB CHARLES ROBERT P.P 93 - 108
وفيها: ص93 - .............. إن مجلة بيرغس
هذه الصحيفة وما تحمله من أفكار لم تلق استجابة مناسبة في بلاد الشام، وهذا ما تؤكده رسالة الأمير عبد القادر للصحيفة المذكورة، والتي تم نشرها في عدد 10 حزيران (يونيو) وفيها: (لقد قدمتم نصائحكم الغالية، وعليكم سماع الرد:
لقد أسمعت لو ناديت حيا
…
ولكن لا حياة لمن تنادي
والتقطت صحيفة (لوكورييه دوهافر) هذه النقطة لتنطلق منها في حملتها الإعلامية لمصلحة الأمير عبد القادر. وذلك بعد أن عملت على نشر رده السابق في عددها الصادر يوم 13 تموز - يوليو - 1860. وهنا يمكن التسائل عما إذا كانت فكرة القومية العربية والدولة العربية التي ظهرت في هذه الفترة إنما هي نكوص للفكرة النابوليونية - البونابرتية - والتي وجدت لها طريقا في سياسة نابليون الثالث؟ كان نابليون بونابرت هو أول رئيس دولة في العالم الغربي فكر بإمكانية بعث
= باريس أو نسر باريس (L'AIGLE DE PARIS) BIRGYS PARIS: كانت مجلة تصدر باللغة العربية، ترأس تحريرها رشيد الدحداح، وكان يتم تقديمها على أنها صحيفة عربية وطنية، ولكنها كانت جريدة رسمية. وهو ما تؤكده قراءة هذه الصحيفة نصف الإسبوعية التي بلغ عدد نشراتها (179) عددا ما بين حزيران - يونيو 1859 وحتى 1866. حيث يظهر بوضوح أنها لم تكن أبدا صحيفة وطنية أو عربية - إلا في لغتها - وإنما كانت صوتا تابعا لجهاز الدعاية الكاثوليكية الموجهة إلى السوريين قبل كل شيء، ويديرها القس ف. بورغاد F.BOUGERDE مدير معهد سان لويس، في تونس، وقدأسس إتحاد سان لويس بهدف (نشر الحضارة المسيحية بين المسلمين) عن طريق المؤلفات المكتوبة أو الترجمات المنتقاة والمنقولة إلى اللغة العربية. وضمت جمعية سان لويس في عضويتها عددا كبيرا من القسس والشخصيات البارزة في الإمبراطورية الإفرنسية سنة 1860. وكانت صحيفة (برغس باريس) تترجم إلى اللغة العربية ما
…
يجب تقديمه للعرب والشرقيين (من أفكار فرنسية عالية) وقد طالبت الصحيفة السوريين (باتباع سياسة حضارية معتدلة إذا ما استمرت الأمور الراهنة على ما هي عليه. ذلك لأن الحكومة العثمانية تسير نحو الدمار، وستدمر معها سوريا، غير أن هذه ستعود بعدئذ إلى طريق الرفاهية - عدد 25 نيسان - إبريل - 1860).
إمبراطورية عربية ودولة يهودية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية. ولعل نابليون الثالث اعتقد أن من واجبه، ومن مصلحة فرنسا أيضا، المساعدة على بعث الإمبراطورية العربية. وإذا كان نابليون بونابرت قد عجز عن التعاون مع شخصية إسلامية مناسبة، للقيام بأعباء هذه الدولة تحت هيمنته. فإن باستطاعة نابليون الثالث (على ما يعتقد في نفسه) الاعتماد على عبد القادر حتى يصبح بطل هذه القضية. ولا بد من القول قبل كل شيء بأن تدخل الحكومة الإفرنسية في سوريا سنة 1860 (أثناء طوشة النصارى) قد اشتمل على مخطط (لإقامة مملكة عربية تحت حكم عبد القادر) أو (بعيينه قائدا لها ببساطة). وقد وضع نابليون الثالث باعتباره ما قام به الأمير عبد القادر أثناء الحرب الأهلية سنة (1860). ولقد ظهرت تناقضات كثيرة في تفسير علاقات الأمير عبد القادر بفرنسا، وزاد الأمر غموضا واضطرابا بسبب الترجمة الإفرنسية السيئة والمتعمدة لأعمال الأمير وأقواله ونواياه. المهم في الأمر؛ هو أن مذابح سنة (1860) في سوريا ولبنان قد أسقطت (21،900) قتيلا وفقا لما تذكره المصادر الكاثوليكية، أو (11،500) قتيلا بحسب ما تذكره المصادر العثمانية. وقد برز من خلال هذه المذابح اسم الأمير عبد القادر الذي استطاع إنقاذ (5 - 10) آلاف مسيحي في دمشق. وكان تدخله الشجاع سببا في حقن دماء الآلاف من المسيحيين ولم يزد عدد الجزائريين العاملين تحت قيادة الأمير عبد القادر على (800) رجل مسلح، بعضهم من الفرسان. واستطاع
هؤلاء بسط حمايتهم على ثمانية آلاف مسيحي، أرسل إلى بيروت منهم كل من رفض البقاء في مدينة دمشق. ومعروف أن وزير الحربية الإفرنسية آنذاك، سمح بتجنيد الجزائريين وإرسالهم كقوة جديدة
واجبها دعم الأمير في سوريا. هذا من جهة ومن جهة أخرى فقد أمنت السلطات المحلية (العثمانية) للمهاجرين الجزائريين كل التسهيلات الممكنة للوصول إلى سوريا. وبالإضافة إلى ذلك، فقد قدم القنصل الإفرنسي في دمشق إلى الأمير عبد القادر ما يكفيه من الأموال والبواريد لتسليح ألف جزائري. وعلى كل حال، فإن الأمير عبد القادر لم يكن يرمي إلى خدمة فرنسا أو خيانة المسلمين، وهو ما تؤكده رسالته التي كتبها في 15 آب - أغطس - 1860 وفيها:(إن ما قمنا به تجاه المسسحيين هو أمر يفرضه الدين وتفرضه الإنسانية) وكذلك قوله للمسلين الثائرين في دمشق: (حذركم مما تفعلون. إنكم تلطخون شرف الإسلام وستضيعون أنفسكم ومدينتكم معكم، إذ أن أوروبا لن تقف غير مبالية تجاه ما يرتكب هنا من الجرائم ضد المسيحيين. فكروا قليلا، ولا تسمحوا للفرصة حتى يأتي قسيس ليقيم في مسجدنا الكبير الذي كان كنيسة من قبل)(1).
غير أن فرنسا لم تكن تنظر لأعمال الأمير عبد القادر وأقواله، إلا من خلال أهدافها وسياساتها الخاصة. وهكذا أخذت الصحافة الإفرنسية في قرع الأجراس منذ يوم 9 تموز - يوليو - 1860 مطالبة بالتدخل العسكري في سوريا. وفي يوم 17 تموز - كتبت الصحافة الإفرنسية:(بأن التدخل الإفرنسي في سوريا إنما يعتمد على الأمير عبد القادر) وفي صحيفة: (لوكورييه دو هافر)(2) عدد يوم 13 تموز - يوليو - 1860 جاء ما يلي: (تقضي الظروف الراهنة، ويتطلب تحقيق العدالة (؟) العمل بسرعة لتسمية الأمير عبد القادر نائبا لملك فرنسا -
(1) السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت - ص 95 و 96.
(2)
LE COURRIER DE HAVRE
في سوريا) وتحت عنوان (صرخة الدم) في العدد ذاته جاء ما يلي: (سلموا الأمير عبد القادر قضية تهدئة سوريا بصورة فورية، وسينفذ ذلك بصورة ناجحة، وبأقل حد ممكن من العنف. إنه رجل مؤمن وعالم ومحارب، وإذن، فهو الرجل الذي يمكن للمسلمين الخضوع له. والذي يستطيع أن يفرض عليهم متطلبات العصر والحضارة).
تلقت الصحافة الباريسية هذا الموضوع، وأخذت في الترويج له، فطالب بعضها (بإقامة حكومة قوية ومتحضرة للعمل مع الأمير عبد القادر) في حين طالب بعضها الآخر:(بتنصيب الأمير عبد القادر نائبا لملك فرنسا على أن يبقى تابعا للسلطان). وكتبت صحيفة (بيرغس باريس) في عددها الصادر في نهاية شهر تموز - يوليو - ما يلي:
(ليس هناك من هو أجدر من الأمير عبد القادر برئاسة حكومة دمشق، إذ أنه يمتلك جميع الفضائل المناسبة للسلطة. إنه شجاع وحازم وعالم وسياسي وذكي وليس هناك من هو أفضل منه لتحقيق السلام في سوريا). ولقد عكست الصحافة الجزائرية أصداء هذه الدعاية الإفرنسية، فكان مما كتبته:(إن إقامة إمبراطورية جديدة في المشرق يكون الأمير رئيسا لها هو الحل للمسألة الشرقية التي تسببت في حدوث صراعات كثيرة، أهرقت فيها دماء غزيرة). وأخذت فكرة الدعاية: (لإقامة إمبراطورية عربية بقيادة الأمير عبد القادر) تنتشر في كل مكان. وظهر مشروع فرنسي أعلنته صحيفة فرنسية يقضي: (بقيام فرنسا ببذل الجهد لإقامة إمبراطورية عربية تضم من 10 - 12 مليون عربي، على أن تكون هذه الإمبراطورية معزولة عن مصر، وتحت قيادة الأميرعبد القادر، ويكون من واجبها ضمان الحقوق المدنية والسياسية لكل أفراد الشعب، للمسلمين كما لغيرهم، وفقا للنموذج الإفرنسي الذي وضعه نابليون بونابرت، ويكون لهذه الإمبراطورية عاصمتان،
إحداهما سياسية في بغداد والأخرى دينية في مكة ..
على هذا الأساس، وانطلاقا من هذه الفكرة، توجهت الحملة الإفرنسية إلى لبنان بقيادة الجنرال (بوفورت دوتبول)(1) بعد أن قابل قائد الحملة الإمبراطور نابليون الثالث وتلقى تعليماته يوم 2 أب - أغسطس - 1860. ولم تعرف هذه التعليمات، غير أن الأمر المعروف هو أن الحملة وصلت إلى بيروت يوم 20 آب - أغسطس -. ولما كان من الصعب على قائدها التوجه إلى دمشق لمقابلة الأمير عبد القادر. فقد أوفد إليه المقدم (شانزي)(2) يحمل رسالة إلى الأمير (يؤكد فيها رغبته بتوثيق عرى الصداقة معه).
ترى هل كان لدى فرنسا فكرة واضحة عن (الإمبراطورية العربية التي تزعم أنها تريد إقامتها؟) هذا ما تبرزه رسالة وزير الحربية الإفرنسية إلى (الجنرال بوفورت) بوم 22 أيلول - سبتمبر - والتي جاء فيها: (هل تعتقد إنه باستطاعة الأمير عبد القادر تشكيل حكومة في سوريا؟ وهل تعتقد أن مراكز القوى الممثلة في بيروت تريد - أو توافق على مثل هذا التعيين؟. إنني لا أبحث عن وسيلة لتحقيق تطلعاتنا في المستقبل، وهي التطلعات المرتبطة بامتلاكنا لأفريقيا. إنني لا أريد إلا وسيلة تضمن في الوقت الراهن الوصول إلى تسوية سلمية ودائمة في سوريا. ويخيل إلي انطلاقا من هذه الفكرة أن عبد القادر هو أفضل من يمكن اعتماده بسبب الشهرة التي اكتسبها في الجزائر، وبسبب دوره الشجاع في الظروف الأخيرة)(3) ويتابع الجنرال (بوفورت)
(1) بوفورت دوتبول: (BEAUFORT D'HAUTPOUL).
(2)
المقدم شانزي: (LT.COL.CHANZY).
(3)
السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت - ص 101.
تقويمه للموقف فيقول: (إني لا أعتقد بأن الدول الكبرى توافق عل إقامة حكومة برئاسة الأمير عبد القادر تشمل سلطتها سوريا كلها. كما أن الحكومة التركية لا توافق على ذلك أبدا. وقد يكون بالمستطاع تعيينه حاكما على (دمشق) وأن تمتد سلطته لتشمل عكا والجليل. غير أنه ما من وسيلة لإقناع أوروبا المسيحية بتسليم القدس لحكومة مستقلة. ويمكن للدولة العربية برئاسة عبد القادر أن تبسط نفوذها بعد ذلك على مدينة حلب وجزء من شمال سوريا، لتشكل نواة الإمبراطورية العربية التي تمتد بصورة تدريجية حتى بغداد والبصرة) أما بالنسبة للبنان:(فإنه يجب إقامة لبنان الكبير والمستقل، والذي تحكمه حكومة مسيحية برئاسة الأمير مجيد شهاب) ويذكر هنا أن أرملة بشير عمر شهاب كانت قد قدمت إلى الحكومة الإفرنسية قصرها وكذلك قصر (بيت الدين). وكتب بوفورت رساله في 6 تشرين الأول - أكتوبر - 1860 جاء فيها: (يجب ألا ننسى أن الأمير عبد القادر هو إنسان مسلم قبل كل شيء). ولقد أرادت فرنسا على ما هو واضح إسخدام الأمير عبد القادر كعميل لها، غير أن الأمير قاوم المحاولات الإفرنسية باستمرار. وهكذا فعندما استشير في أمر حضور قوة فرنسية إلى دمشق لإجراء عرض فيها، كان رد الأمير:(إن حضور قوات فرنسية إلى دمشق هو أمر خطير جدا، لأنه يستثير مشاعر المسلمين). غير أن فرنسا قد نجحت في الواقع - جزبيا - بتحطيم هالة البطولة والشرف التي أحاطت به، ففي الجزائر، أخذ الجزائريون من رجال القبائل يرددون:(إذا كان باستطاعة الأمير حماية المسيحيين في الشام، فلماذا لا يعمل على حماية الملمين في الجزائر). أما في دمشق، فقد قال المسلمون للأمير عبد القادر: (هل تريد تسليم بلدنا إلى الإفرنسيين
كما سلمت لهم بلادك الجزائر؟) (1) ولكن مقابل ذلك، فإن تعاظم قدرة الأمير حملت إلى القبائل الجزائرية، أو بعضها، الأمل في عودة عبد القادر للعمل مع إخوانه في قيادة الصراع ضد الإفرنسيين. وهنا يظهر سؤال وهو: إذا كانت فرنسا تريد إقامة إمبراطورية عربية، فلماذا لا تنفذ ذلك في الجزائر التي أصبحت تحت حكمها؟
لقد طرحت هذه الفكرة في الواقع، عندما قام الأمير عبد القادر بزيارة لفرنسا سنة 1865. وظهر بوضوح عندها أن كل ما طرحته حكومة نابليون الثالث في هذا المجال، إنما كان: (للإفادة من الأمير عبد القادر لدعم قضية فرنسا) وإن هدف الإمبراطور هو: (إقامة حكم عربي على أنقاض الحكم التركي - المسلم) أو (قيادة ثورة ضد تركيا). وقد اصطدمت كل هذه المخططات برفض الأمير عبد القادر الذي حدد بنفسه ما يريده وذلك بقوله: (لقد حاربت فرنسا طوال خمسة عشر عاما، لأنني كنت أؤمن بأنها إرادة الله لضمان إستقلال وطني وحماية ديني. وعندما وجدت أن قواتي قد استنزفت، وإن القبائل الجزائرية قد امتنعت عن دعمي وتأييدي، وأن المغرب تريد تسليمي لفرنسا، عرفت أن دوري قد انتهى. وأنها إرادة الله هي التي تفرض علي إلقاء السلاح. وقد فعلت ذلك راضيا ومصمما على التفرغ للعبادة وإقامة الصلاة والاستمرار في دراساتي الدينية طوال ما تبقى لي من أيام على هذه الأرض).
(1) المرجع السابق - ص 96 و103 و107
.
4 -
البدايات الأولى للصهيونية
وقف نابليون بونابرت أمام أسوار عكا، وقد عجز عن اقتحامها، فحاول الاستعانة بيهود يافا وحيفا والقدس لمساعدته من أجل فتح المدينة الصامدة، ووجه يوم 4 نيسان ; إبريل - 1799 بيانا جاء فيه:(.. يا ورثة فلسطين الشرعيين، يا أبناء الأمة العظيمة، هذا بيان أوجهه إليكم لاستعادة ما استلب منكم، أسرعوا، فقد أزفت اللحظة المناسبة حتى تستعيدوا حقوقكم المدنية، وحتى تنتقموا لأنفسكم، وتحققوا وجودكم السيايي كأمة، وإلى الأبد دونما ريب)(1) لقد كانت صرخة نابليون للاستغاثة باليهود واستخدامهم في الحملة الصليبية الجديدة، هي باكورة التطورات اللاحقة والتي تطورت بسرعة في إنكلترا، حيث ظهر كتاب يحمل عنوان (بعث اليهود - أزمة كل الأمم - لمؤلفه جيمس بيشنو)(2) وذلك في سنة 1800 وتضمن الكتاب نداءا لبعث اليهود اعتمادا على نبوءات التوراة، ويقدم الحل للأزمات التي كانت تأخذ بخناق البلاد المسيحية
(1) CITATION TIRE DE (A «OUI LA PALESTINE ?) DE.J.P.MIGEON ET . J. JOLLY EDIT: J. LANZAMANN، PARIS. 1970.
(2)
THE RESTORATION OF THE JEWS، THE CRISIS OF ALL NATIONS BY JAMES BICHENO.
والإمبراطورية العثمانية. وحتى يتم لفت أنظار الرأي العام البريطاني لمضمون هذا الكتاب، قام رجل اسمه (ويزربي) بوضع كتاب حمل عنوان (برسم اليهود - ملاحظات حول كتاب بيشنو)(1) وقد تضمن الكتاب رفضا لكل تغيير، أو تمردا على الكنيسة الرومانية. واعترض (ويزربي على رؤى بيشنو) غير أن هذا لم يستسلم، واستمر النقاش بينهما، فأمكن بذلك توسيع نطاق الجدل الذي اشتركت فيه دول وحكومات بات تزاحمها على الشرق واضحا جدا. وكان (بيشنو) قد عبر في كتابه الأول عن أمله في أن تكون فرنسا هي الأداة التي سخرتها (العناية الإلهية) لتحقيق هذه العودة إلى فلسطين، وفي رده على (ويزربي) الذي صدر سنة 1804 - في كتاب - حمل عنوان (محاولة لإزالة الإجحاف اللاحق بالأمة اليهودية)(2) سعى (بيشنو) إلى إحلال الحوار مكان الخصام. وكان قد تغير محط آماله السياسية. فلم يعد يبدو أن فرنسا نابليون ستوفر شروط تحقيق هذا العمل. كما ظهر أن رجوع كل اليهود إلى فلسطين غير ممكن. مما جعل القضية الآن قضية عودة جزئية فقط، وذلك بفضل (تقوى) الدول البروتستانتية هذه المرة، خاصة وإن مبادرة نابليون لجمع المجلس الأعلى لليهود القدماء، بغية تحويلهم إلى أداة لسياسته كانت قد انتهت إلى الفشل.
كانت هذه الأفكار التي تدور حول رجوع (الأمة اليهودية) إلى فلسطين، والتي بثت بين الجمهور الإنكليزي قد أخذت تشق طريقها وتستأثر بالاهتمام. ولم تكن الأوساط البريطانية الحاكمة وأجهزة
(1) DEDICATED TO THE JEWS OBSERVATION ON MR . BICHENO’S BOOK.
(2)
ANATTEMP TO REMOVE PREJUDICES CONCERNING .THE Jewish NATION
استخباراتها بعيدة عن تحريض هذا الموضوع وإثارته. وعلى كل حال، فقد يكون من غير المهم متابعة الحوار التمهيدي الذي كان يدور في أوساط الغرب، المهم في الأمر هو الانتقال لمسرح العمليات في فلسطين، حيث ظهرت البواكير الأولى لتنفيذ المشروع الصهيوني وذلك عندما قام المبشر الإنكليكاني (نيكولايسون) بشراء قطعة أرض في جبل صهيون لبناء هيكل عبادة إنكليكاني. (في 23 كانون الثاني - يناير - 1838) وتبع ذلك تعيين قنصل إنكليزي في القدس (19 أيلول - سبتمبر - 1838) وقد اصطدمت إقامة هاتين القاعدتين من قواعد النفوذ السياسي - الديني لبريطانيا في القدس، بعقبات كثيرة لكنها تمكنت من التغلب عليها وتجاوزها. ومن المعروف أن (نيكولاسون) ظل طوال أكثر من عشر سنوات وهو يمارس نشاطه في المدينة المقدمة بين اليهود، تحت إشراف (الجمعية اللندنية لنشر المسيحية بين اليهود)(1).
لقد حددت أهداف إقامة الدولة اليهودية في فلسطين منذ البداية وفقا لما تؤكده الكتابات التي طرحت في تلك الفترة من بداية القرن التاسع عشر، ومنها على سبيل المثال المقولة التالية:(عندما تصبح فلسطين المكان المميز والطبيعي لتجمع اليهود الجدد، وكمستعمرة للإقتصاد الإنكليزي الذي كان يسير في طريق التوسع) وعلى هذا الأساس أقيمت الكنيسة الإنكليكانية بهدف تحسين أوضاع اليهود اجتماعيا ودينيا، حتى تقام كل يوم الطقوس الدينية باللغة العبرية تشجيعا لهذا العمل
…
وأخذ العمل يسير على قدم وساق، حيث شكلت طائفة صغيرة ولكنها متدينة جدا، من اليهود -
(1) LONDON JEWISH. L.J.S
المسيحيين المهتدين، وأخذت تستمع يوميا في هذه المدينة المقدمة إلى الحقائق الإنجيلية بلغة الأنبياء وبروح الرسل. وهكذا كان إنشاء الكنيسة اليهودية - المسيحية الجديدة، هو:(أحد الأحداث الأكثر إثارة للاهتمام في التاريخ المعاصر، فإلى جانب الأرثوذكس والكاثوليك والأرمن والأتراك، جاء إبراهيم باشا وأعطى اليهود نفس الامتيازات. وبذلك كانت مذاهب الإصلاح الإنكليكانية الوحيدة التي لم تكن ممثلة حتى ذلك الحين بين كل هذه المذاهب الفاسدة) وأخذت وزارة الخارجية البريطابية في إظهار اهتمامها المتعاظم والشديد بمصر يهود فلسطين: (إذ أنه من حق الشعب اليهودي في أن يكون له مكان في الإمبراطورية العثمانية الشاسعة. وأنه ليس هناك شعب في العالم حتى الآن قد أسيء فهمه، وتجوهلت حقيقته كهذا الشعب. وبدأت مرحلة جديدة في العمل، ففي يوم 31 كانون الثاني - يناير - 1840، أعطى المسؤول عن الخدمات القنصلية، تعليمات محددة إلى نائب القنصل الإنكليزي الجديد في (القدس) بناء على تعليمات بالمرستون: بأن يعتبر حماية اليهود واجبا من واجبات الدولة البريطانية. وكان عليه، بالإضافة إلى ذلك، أن يزود وزارة الخارجية البريطانية بأسرع وقت ممكن بمعلومات دقيقة عن حالة السكان اليهود في فلسطين (1) وبدأت تقارير نائب القنصل البريطاني، تصل بشكل منتظم إلى وزارة الخارجية البريطانية، وهي تضم كافة المعلومات المتعلقة بأوضاع اليهود والبروتستانت التجارية منها
(1) أوروبا ومصير الشرق العربي - حجار - ص 230 - 1 23. ومن الملاحظ اعتماد السياسة البريطانية اصطلاح (الشعب اليهودي) الذي لم يكن له وجود، إلا على شكل أقليات ممزقة في العالم كله.
والسياسية، وعلى كل حال، فلم يكن القنصل هو الوسيلة الوحيدة التي اعتمدتها الخارجية البريطانية للحصول على ما تريده من معلومات، ففي تلك الفترة، كان هنالك إنكليز آخرون يجوبون فلسطين أيضا، وهم يقومون بتنفيذ مهمة مماثلة كلفوا بها من قبل الجمعية العمومية لكنيسة اسكوتلندا ; وكان هؤلاء يجتمعون بعضهم ببعض لتبادل المعلومات وتنسيق الأعمال وكتابة التقارير بصورة مشتركة. وكانت هيئة (الجمعية العمومية للكنيسة الإسكوتلندية) تعمل في فلسطين بالتعاون الوثيق مع (الجمعية اليهودية اللندنية) التي كان أفرادها يعملون كأدلاء، وكان من الواضح على هؤلاء سعادتهم بما كانوا يضطلعون به في عملهم التبشيري في كتاب بعنوان:(تقرير بعثة الكنيسة الإسكتلندية الاستقصائية حول أوضاع اليهود في العام 1839) ولاقى الكتاب نجاحا كبيرا، وأعيد طبعه ثلاث مرات في نفس السنة. وبالإضافة إلى ذلك، كانت الدعوات توجه من كل الجهات إلى المؤلفين للتحدث عن رحلتهم المثيرة وعن الاهتمام الذي كانوا يظهرونه تحبيذ للبعثة اليهودية في فلسطين، ولاستعمار هذه البلاد من قبل (الشعب المختار). ويظهر أن كل ذلك لم يكن كافيا لإثارة الانفعال على المستوى العالمي لجذب الانتباه نحو مشروع (الشعب اليهودي). فتم اللجوء إلى الوسيلة التقليدية التي أتقنت السياسة الاستعمارية البريطانية - خاصة - استخدامها، وهي (الاضطهاد والاغتيال السياسي). وحدث في مطلع شباط (فبراير) 1840، أن اغتيل رئيس دير الفرنسيسكان الإسبانيين في دمشق على يد يهود، قيل أنهم استعملوا دمه في إقامة طقوس سرية لها علاقة بعيد الفصح. وكان هذا الكاهن من التابعية النمساوية واستخدمت هذه الحادثة بمهارة عالية، لتحريك الرأي العام الليبيرالي في أوروبا، في
وقت كانت الأزمة الشرقية قد بلغت ذروتها. وقد تدخل مترنيخ شخصيا في هذه القضية. واغتنمت الديبلوماسية الإفرنسية هذه الفرصة لتؤكد حقها في حماية المسيحيين في الإمبراطورية العثمانية. وتشكلت محكمة ترأس القسم الأكبر من جلساتها قنصل فرنسا (راتي منتون)(1) وألقي بالعشرات من يهود دمشق في السجن وتعرضوا للتعذيب. وأفادت الأوساط اليهودية في أوروبا لتصعيد حملتها المزيدة لعودة اليهود إلى فلسطين، ووضعهم تحت حماية بريطانيا. وتزعمت (الجمعية اليهودية اللندنية) التظاهرة السياسية. وتحدت كل الذين كانوا يؤكدون بأن اليهود كانوا يقتلون المسيحيين ليستعملوا دمهم من أجل غايات دينية. وتضمن الاحتجاج الذي أصدرته هذه الجمعية:(إن هذه التهمة، التي كثيرا ما تأكدت في الماضي، ليست أكثر من كذبة غير معقولة. وقد أيد اليهود - المسيحيون (أو المهتدون الجدد) الإنكليز هذا الاحتجاج العلني الذي كان يحمل (57) توقيعا. وقد صاحبت هذه المبادرة حملة دعائية واسعة. فنظمت في لندن مظاهرات جماهيرية توجت بمذكرة وجهت إلى ملوك ورؤساء دول
إنكلترا وإيرلندا وبروسيا وهولندا والسويد والنروج والدانمرك وهانوفر وفورتمبرغ والمقاطعات السويسرية والولايات المتحدة الأمريكية. كما وجهت أيضا إلى كبار ممثلي البروتستانتية العالمية الزمنيين. وقد حدث ذلك قبل ثلاثة أشهر من التوقيع على الحلف الرباعي. وانطلقت الصحافة البريطانية، والتي كان يوجهها (بالمرستون) لتطرح المقولات المختلفة المتعلقة بإقامة (الدولة اليهودية) و (إعادة اليهود إلى فلسطين). ومما قيل بهذا الشأن: (أن الحكومات البروتستانتية
(1) راتي منتون (RATI - MENTON)
.
بتشجيعها لعودة اليهود وإقامتهم في فلسطين، تكون قد قامت بأحد التزاماتها الدولية وأسهمت بعودة السلام إلى الشرق) و (إنشاء أو بالأحرى إحياء، مثل هذه المملكة هو ضرورة من ضرورات السياسة الشرقية، وتخدم مصلحة المملكة المتحدة - بريطانيا) و (لقد مهد اتفاق لندن في 14 تموز - يوليو - 1860 الطريق أمام هذا الأمل - أمل إعادة إقامة الدولة اليهودية - ويتطابق ذلك مع كلام الكتاب المقدس: لقد مهدت الطريق أمام ملوك الشرق
…
اليهود) و (لقد تحمل اليهود في دمشق العقوبات التي نزلت بهم إثر اغتيال الأب الفرنسيسكاني توماس، غير أن العزاء في ذلك هو أن هذه القضية المحلية قد ساعدت على دفع الحركة الكبرى ليهود أوروبا من أجل الهجرة إلى فلسطين قدما إلى الأمام. وفي هذا المنظور كان دور محمد علي كحاكم عادل يفيد كثيرا هذا الشعب. أما العزاء الثاني فهو قيام بالمرستون بإرسال تعليماته للعمل لدى الباب العالي من أجل حماية اليهود وتشجيعهم). وقد استمرت البحوث والدراسات التي تسير في هذا الاتجاه، ومنها المذكرة التي تبناها (بالمرستون) وجاء فيها: (إن إقامة دولة يهودية في المنطقة الواقعة بين البحر المتوسط والفرات يضمن فرصا لتحقيق نمو اقتصادي كبير. ويمكن تجاوز الاعتبارات التاريخية والأخذ بالمعطيات الاجتماعية والبشرية التي ترتبط بوجود هذه المنطقة وازدهارها. لقد أفقرت الظروف هذا البلد وجعلت من المحال استقلاله فمصادر رزقه شبه ناضبة بالمقارنة مع الثروات التي قد تمتلكها هذه المنطقة فيما لو أدخلت إليها الصناعة. إلا أن هذا يطلب يدا عاملة ورؤوس أموال ورساميل في الوقت ذاته. ويتطلب توظيف الرساميل بدوره، ضمانات أمنية بالنسبة للممتلكات أو الأرواح. ومتى تأمنت هذه الضمانات فإن حب الربح سيكون دافعا قويا لهجرة
اليهود
…
وأن مثل هذه الفوائد المالية قد تكفي لتجذب إلى المنطقة أناسا يهمهم الثراء. وستفعل الدولة الكبرى التي ستحكم هذه البلاد حسنا إذا ما التزمت علانية بإدخال الإصلاحات الأساسية التي تساعد على إشاعة الثقة ونشر مبادىء الحضارة الأوروبية. وأخيرا، يجب أن ينظر إلى هذه البلاد من خلال (شعب محترم رغم أنه مشتت). إن الشعب اليهودي يميل إلى استرجاع أرض فلسطين ، ولقد كانت كل ذكرى من الماضي وكل تطلع نحو المستقبل يحركان هذا الأمل. ولم يكن يمنع تحقيق هذه الأمنية سوى الخوف على الحياة وعلى الممتلكات. فإذا ما أصدرت الدولة الكبرى التي ستحكم المقاطعة السورية تشريعا عادلا، وإذا ما تعهدت بمنح حماية متكافئة لليهود ولغير المؤمنين بكفالة دول الحلف الرباعي. فقد يمهد الطريق عند ذلك لعودة اليهود. وتعود الثقة من جديد وتمسح البلاد محط أنظار حملة لواء المبادرة في العالم بأسره وبشكل خاص محط أنظار ثروة الشعب اليهودي).
معروف بعد ذلك، إن الإمبراطورية العثمانية، على صعفها، وعلى تمزقها، قاومت بتصميم وعناد إقامة (الدولة اليهودية) أو السماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين تنفيدا للمخطط البريطاني. ولكن تبقى هذه المحاولات واستمرارها مرتبطة بظاهرتين تاريخيتين، ظهور محمد علي واستعمار فرنسا للجزائر.