الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
4 -
في أفق الثورة
وبعد، فقد اغتالت فرنسا الثورة الشهيدة، ودمرت أبطالها، فهل كانت تضحيات الشهداء وجهود الأبطال رخيصة؟ ولماذا كانت الثورة إن لم تترك على صفحات تاريخ الأمة بصماتها الواضحة؟ لقد مضت عشرات العقود من السنين، ولا زال سكان (ونوغة) يطلقون على عام 1871 (عام بومزراق).
ومضت عشرات العقود من السنين، وما تزال الأجيال في منطقة القبائل تتناقل كابرا عن كابر تلك الأغاني الشعبية التي تتحدث عن المقراني وأخيه بومزراق وثورة الشيخ الحداد وابنه سي عزيز. بل إن بعض أصداء الأشعار الشعبية التي قيلت في تلك الفترة ترددت بأصدائها القوية في قلب دمشق الشام، عن طريق مجاهدي الجزائر المنفيين إلى دمشق. وليس ذلك إلا برهانا على عمق أثر الثورة في النفوس وهو الأثر الذي رسم كل أبعاده على مسيرة الجهاد في المراحل التالية والتي انتهت ببلوغ الجزائر المجاهدة هدفها في الحرية والاسقلال سنة 1962.
لقد تعرضت ثورة سنة 1871 للكثير من الأبحاث والدراسات،
وانقسمت وجهات النظر في تقويمها انقساما كبيرا نتيجة الاختلاف في المنطلقات الأساسية لعملية تحليل هذا الحدث التاريخي: ولعلى من أبرز الإدانات التي وجهت إليها:
1 -
الاختيار السيء لتوقيت تفجير الثورة، بحيث كان لزاما تفجير هذه الثورة بتواقت واحد مع الحرب البروسية الإفرنسية حيث كانت القوات الإفرنسية منصرفة للحربة مع بروسيا.
2 -
غياب الحزم والتصميم عن أذهان قادة الثورة وذلك منذ اللحظات الأولى لتفجيرها (ويشمل ذلك كل القادة من المقرانيين وآل الحداد).
3 -
عدم تلاحم الجبهة الداخلية للجزائريين، وعجز القادة عن تحقيق مثل هذا التلاحم، بسبب تكوينهم القبلي (الارستقراطي) أو الانفعالي (الديني).
4 -
عدم توافر الكفاءة في إدارة الحرب، وعدم تطبيق مبادىء الحرب بدقة، مثل المباغتة، والمبادأة، وتحقيق أمن القوات.
5 -
عدم حرص قيادة الثورة على تأمين متطلبات الثورة - وبصورة خاصة ضعف الوسائط القتالية وعدم توافرها في قبضة المجاهدين.
6 -
اعتماد الثورة على عوامل التحريض الخارجي (البروسي - العثماني).
تلك هي أبرز الانتقادات الموجهة لثورة 1871 وقيادتها، وهي انتقادات تبرز بشكل واضح محاكمة الثورة تاريخيا في غير إطاريها التاريخيين الزماني والمكاني. ومن هنا تظهر الضرورة لمعاودة التقويم
على أساس موضوعي من جهة، وعلى أساس نتائج الثورة وما تركته من ظلال على أفق المستقبل من جهة ثانية.
لقد اعتمدت السياسة الاستراتيجية للاستعمار - عامة - والاستعمار الإفرنسي - خاصة على مجموعة من العوامل، أبرزها بشكل واضح العرض السابق لمسيرة الأحداث ومنها:
1 -
الإفادة من التفوق العلمي والتقني لإبراز - تفوق الرجل الأبيض، الأوروبي - ونشر القناعة بأفضليته للحكم، وقدرته على حكم البلاد.
2 -
تسخير - أو خلق - الظروف السياسية لعزل المسعمرات عن محيطها الجغرافي، وهكذا كانت الجزائر معزولة عن عالمها العربي - الإسلامي وحتى عن جوارها - المغرب وتونس.
3 -
الانتشار كبقعة الزيت، بالاعتماد على فئات مختارة يتم استخدامها مرحليا لضرب الفئات المناوئة.
4 -
افتعال الأزمات والأحداث لدفع أبناء المستعمرات للثورة والتمرد، من أجل استثمار نتائجها لإجراء التصفيات الاجماعية تمهيدا لتطوير الاستعمار الاستيطاني.
5 -
العمل على تدمير القيادات التقليدية والقواعد الصلبة (الدينية والاجتماعية) لتكوين قيادات عملية يقتصر دورها على تنفيذ المخططات الاستعمارية، الأمر الذي يضع هذه القيادات في حالة من العزلة عن جماهير الشعب، مما يدفعها إلى الاعتماد كليا والتبعية نهائيا للاستعمار وقادته.
6 -
تغطية وحشية الاستعمار بغطاء ميثولوجي، وستار من الفضائل الحضارية المزعومة ضمن إطار حرب صليبية - علمية. (وهذا أحد تناقضات الاستعمار). وتؤكد أحداث ثورة 1871، كل تلك الأسس الاستراتيجية، وهي الأحداث التي يمكن تلخيصها بالتالي:(كانت الثورة الدفينة منتشرة في كل مكان من الجزائر، فشكلت تيارا عاما، وكانت في حاجة للمفجر، فجاء المقراني وفجرها، وعمل الحداد على دعمها، ثم ظهر لقيادة الثورة صعوبة الاستمرار أمام أعداء الداخل والخارج وأمام ظروف العزلة الدولية، وأمام الضعف في وسائط القتال. وظن قادة الثورة أنهم يستطيعون إنقاذ ما يمكن لهم إنقاذه إن هم استسلموا لفرنسا على نحو ما فعله الأمير عبد القادر، في محاولة لتخفيف أعباء الحرب عن مواطنيهم، غير أن فرنسا مضت لاستثمار ظروف الثورة وتوظيف نتائجها لتطوير استعمارها الاستيطاني).
لم يكن أمام قيادة ثورة 1871 غير طريق الثورة، كما لم يكن أمامهم فيما بعد من طريق غير طريق الشهادة لمن استشهد والاستسلام لمن وقع في الأسر. تلك هي الخيارات الضيقة التي بقيت مفتوحة أمام أبناء البلاد التي خضعت للاستعمار - وفي طليعتها الجزائر المجاهدة.
وأكد الاستعمار الإفرنسي على طبيعته وعلى دوره في أحداث ثورة سنة 1871 من خلال ما ارتكبه من جرائم وحشية ضد المجاهدين الجزائريين. ومن خلال الأحكام القاسية على قادة الثورة وزعمائها، ثم من خلال أعمال المصادرة لممتلكات الجزائريين وأراضيهم وهو ما تبرزه المقولة التالية:
(كانت أعمال المصادرة في ثورة 1871، مصدرا لكسب المزيد
من الأراضي الجيدة وتوفيرها لصالح الاستعمار الأوروبي، خاصة بعد أن قويت حركة التهجير الأوروبي من الألزاس على أثر هزيمة فرنسا خلال حرب 1870 أمام بروسيا، وصدور قرار (15) أيلول - سبتمبر - 1871 القاضي بتخصيص مائة ألف هكتار لتوطينهم بالجزائر. وقراري 16 و28 تشرين الأول - أكتوبر - 1871 القاضيان بتنظيم عملية توزيع هذه الأراضي بعد أن وصل إلى الجزائر (2200) عائلة أوروبية تضم (10،500) أوروبي. وفي الحقيقة فإن الاستعمار الإفرنسي لم يتمكن حتى سنة 1870 من تأمين الأراضي لتطوير الاستعمار الاستيطاني الأوروبي. فتألفت لجان للتعجيل بالمصادرة، وتحولت في نهاية 1872 أكثر من (33) قبيلة وفرع قبيلة (أفخاذ وبطون) من مالكة لأراضيها إلى أجيرة بعد أن صودرت منها أراضيها
في حوض (وادي الساح). ولعل أصدق تعبير عن حالة البؤس التي عمت الأهالي نتيجة لقسوة المصادرة شهادة ذلك الفلاح من بني عباس، والذي قال:(بأن كثيرا من الناس اشتروا حياتهم وأرواحهم بكل ثرواتهم، وبقوا بعد ذلك كالجيف في حلوق حيوانات بني آوى. لا يسمع لهم ولا يلتفت أحد إلى احتجاجاتهم).
لقد تنوعت أعمال المصادرة فشملت الأملاك الشخصية لكل من مارس دورا في ثورة المقراني والحداد، كما شملت مصادرة جماعية لسكان الأعراش والدواير (القرى) الذين أرغموا على دفع جزء من أراضيهم الجيدة لصالح الاستعمار الأوروبي وحتى الذين لم يكونوا يملكون الأراضي صودرت أملاكهم الأخرى كالدور والأثاث والحيوانات وبيعت عن طريق البلديات ونتج عن ذلك:
آ - تغريم الثوار بمبلغ (38،325،914) فرنكا، خفض فيما
بعد إلى 36 مليون ونصف من الفرنكات. خصص قسم منها لتوطين مهاجري الألزاس واللورين.
ب - صودرت بصورة جماعية أملاك وأراضي (313) قبيلة ودوارا، تشتمل على (5948) رئيس عائلة عزلوا من وظائفهم بتهمة المشاركة في الثورة. وبلغ مجموع مساحات الأراضي المصادرة منها (611،130) هكتارا قدرت قيمتها الحقيقية نقدا بمبلغ (91،948،450) فرنكا.
ج - صودرت أملاك شخصية لعدد (360) رئيس عائلة، بلغ مجموع المساحات المصادرة منهم (54،461) هكتارا.
تلك كانت طبيعة المصادرات ضد الثوار بصورة عامة في ثورة 1871. والتي كانت ثورة طبيعية في مناخها الطبيعي، كما أنها التعبير الطبيعي والعفوي عن غضب الجماهير العربية - الإسلامية في مواجهة الغزو الغربي - الصليبي الأمر الذي عبر عنه ((بومزراق) في رسالة له إلى (كبراء عرش مركالة) جاء فيها: (وكما في علمكم، فوضنا أمرنا إلى الله لأجل الجهاد في سبيل الله) (1). وفي رسالة ثانية: (نخبرك بأننا قمنا للجهاد
…
ونحمد الله ونشكره على هذه الساعة بفتح أبواب الجهاد، حتى يغسل المسلمون ذنوبهم).
وفي رسالة ثالثة: (وبعد، أيها الأحباب، إننا نريد منكم الدخول في دين الله ورسوله، ولا تتركوا حقكم في الدين والجهاد في سبيل الله).
وبذلك، تكون ثورة سنة 1871 الرائدة نموذجا لتلك
(1) ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز. ص 100 - 101.
الثورات التي تمخض عنها العالم العربي - والإسلامي طوال فترة عهد الاستعمار، بداية من أفغانستان ومرورا ببلاد الشام ومصر والسودان ونهاية بالمغرب العربي - الإسلامي. كما أنها مشابهة أيضا في ظروفها ونتائجها لتلك الثورات كلها. ولقد ألقت ثورة سنة 1871 بظلالها على أفق المستقبل، وكان من أبرز نتائجها إسقاط مقولة (دمج الجزائر بفرنسا) وتعميق الهوة بين المجاهدين في سبيل الله والغزاة الغربيين - الإفرنسيين - تحت راية (لحملة الصليبية الجديدة).
لقد دفع ثوار سنة 1871، الثمن غاليا، من دمائهم وجهودهم وتضحياتهم. ولم تكن تنقصهم الكفاءة الإدارية أو الخبرة لإدارة الحرب، غير أن ما كان ينقصهم هو (الظروف المناسبة لانتصار الثورة)، فكانت تجربة ثورة سنة 1871 - بظروفها ونتائجها هي إحدى المنارات المضيئة، إن لم تكن من أكبر تلك المنارات على درب الثورة والجهاد.