المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ثورة محمد المقرني (مجانة) - سلسلة جهاد شعب الجزائر - جـ ٥

[بسام العسلي]

فهرس الكتاب

- ‌مقدمة الكتاب

- ‌الوجيز في مسيرة الأحداث التي كان لهادورها في ثورة السبعين

- ‌ثورة (الأخوان الرحمانيين) في سطور

- ‌الفصل الأولالوضع السياسي العام

- ‌ الموقف على جبهة المشرق

- ‌ عودة إلى محمد علي باشا

- ‌ اللعب بورقة الأمير عبد القادر

- ‌الفصل الثانيالوضع الخاص في الجزائر

- ‌السياسات الاستعمارية

- ‌آ - الهجرة والاستيطان:

- ‌ب - القضاء على مقومات الأمة العربية الإسلامية:

- ‌ج - المسألة اليهودية وقانون كريميو:

- ‌د - التحريض الخارجي (البروسي - العثماني)

- ‌ التحريض البروسي:

- ‌ التحريض الوطني الجزائري (محيي الدين بن عبد القادر):

- ‌ التحريض العثماني

- ‌هـ - الكوارث الطبيعية:

- ‌و - الثورات التمهيدية:

- ‌الفصل الثالثثورة 1871

- ‌ ثورة محمد المقرني (مجانة)

- ‌ ثورة الشيخ الحداد (صدوق)(أو ثورة الإخوان الرحمانيين)

- ‌ ثورة أحمد بو مزراق(سور الغزلان وونوغة)

- ‌ في أفق الثورة

- ‌قراءات

- ‌ 1 -نص القرار الخاص بمصادرةأملاك المقراني

- ‌ 2 -نص قرار مصادرة أملاكعائلة الشيخ الحداد

- ‌ 3 -مصادرة أملاك المقراني والحدادوأفراد عائلتيهما

- ‌آ - مصادرة أملاك المقراني وأفراد عائلته:

- ‌ب - مصادرة أملاك الشيخ الحداد وأفراد عائلته

- ‌ 4 -الحرب الصليبية في الجزائر

- ‌المراجع

- ‌الفهرس

الفصل: ‌ ثورة محمد المقرني (مجانة)

1 -

‌ ثورة محمد المقرني (مجانة)

.

يتفق معظم المؤرخين على أن نسب أسرة المقراني يعود إلى فاطمة بنت الرسول عليه السلام. ويذكرون أن أجدادها من قبائل

عياض هاجروا إلى إقليم المغرب العربي في القرن الحادي عشر الميلادي خلال الزحف الهلالي على الإقليم (تغريبة بني هلال) واستقروا بجبال قلعة بني حماد في المعاضيد شمال مدينة المسيلة، وجنوب شرق مدينة برج بوعريرج. وارتبط تاريخهم هناك بالأمراء الحماديين. وقبائل عياض، فرع من عرب اثبج من هلال بن عامر - من الطبقة الرابعة. وتفرعت بعد ذلك منهم بطون، مثل (بطن المرتفع) و (بطن الخراج - بكسر الخاء). وفي خلال النصف الثاني من القرن الخامس عشر الميلادي، ترك الأمير عبد الرحمن - جد المقرانيين - منطقة جبل عياض بالمعاضيد، وانتقل إلى جهات البيبان، فاستقر أولا بقرية موقة، ثم بالشواريخ، وأخيرا بقلعة بني عباس شمال غرب (سهل مجانة) داخل المنطقة الجبلية الغربية على الضفة اليمنى لوادي الساحل. وعاش هناك حتى توفي سنة (1500م) فخلفه ابنه أحمد الذي تلقب بالسلطان على المنطقة الواسعة بين واد الساحل والحضنة، وبعد وفاة أحمد خلقه ابنه عبد العزيز الذي اتخذ قرية (القلعة) عاصمة

ص: 119

له، وكون لنفسه نفوذا واسعا، واستعان بقوات الأخوين (عروج وخير الدين) اللذين كانا يتمركزان في (جيجل) ويعملان على طرد الإسبان من (بجاية). واشترك مع الوالي حسن بن خير الدين من أجل إنقاذ تلمسان من أطماع سلطان المغرب والإسبان معا. وتمتعت إمارة المقرانيين بالقوة وسعة النفوذ خلال عهد حكم عبد العزيز وأخيه أحمد أمقران، فمدت نفوذها إلى الهضاب العليا، وتحكمت في الطريق الواصل من الجزائر العاصمة وقسنطينة.

انقسم المقرانيون على أنفهم بعد وفاة أحمد أمقران، وظهرت منهم عدة فروع متناحرة فيما بينها على السلطة والنفوذ، فكان من أهمها: 1 - فرع أولاد الحاح. 2 - فرع أولاد عبد السلام. 3 - فرع أولاد بورنان. 4 - فرع أولاد بلقندوز. واستمر ذلك حتى قام الإفرنسيون بغزو البلاد.

كان باي قسنطينة متزوجا من (عيشوش) ابنة الحاج محمد عبد السلام العايب المقراني غير أن ذلك لم يمنع من قيام المشاكل بين الحاج أحمد باي قسنطينة وبين الحاج محمد عبد السلام. مما أدى إلى اعتقاله عام 1825، ولم ينقذ حياته إلا ابنته عيشوش في حين أعدم الآخرون من أقاربه. وخلال حملة الاحتلال الإفرنسية، شارك المقرانيون مع الباي الحاج أحمد في مقاومتها، وانسحبوا معه بعد ذلك إلى الشرق. وكان الزعيم البارز أنذاك هو أحمد المقراني من فرع أولاد الحاج، فقربه إليه وعينه شيخا على مجانة. حتى إذا ما قام الإفرنسيون بالغزو الثاني لمدينة قسنطينة عام 1837، اغتنم محمد عبد السلام العايب فرصة الفوضى التي حلت بالمدينة، فهرب من سجنه (سجن الكدية) يوم 13 تشرين الأول - أكتوبر - والتحق بمجانة مباشرة. واستحوذ على

ص: 120

السلطة بها في غياب شيخها أحمد المقراني الذي كان آنذاك يحارب على رأس قواته - مع الباي أحمد - قوات الغزو الإفرنسي.

عمل الأمير عبد القادر - بعد معاهدة تافنة عام 1837 - على تعيين محمد عبد السلام العايب المقراني أميرا على مجانة وإقليمها واستبعد أحمد المقراني نظرا لعلاقته بخصمه الحاج أحمد باي قسنطينة. وأفادت فرنسا من ذلك، حتى إذا ما تجددت الحرب، أصدر الفريق فالي قرارا بتعيين أحمد المقراني خليفة على مجانة، وتم تنصيبه رسميا يوم 24 تشرين الأول - أكتوبر - 1838 في قصر الباي بقسطينة. ونص قرار التعيين على أن يحكم المنطقة بنفس الشروط والأوضاع التي كانت لعائلته في عهد الأتراك. على أن يتصل مباشرة بالفريق الحاكم على مقاطعة قسنطينة. وحددت منطقة حكمه بين فرجيوة بالبابور شرقا والتيطري غربا ومنطقة شيخ العرب جنوبا. وخضع لسلطته سكان حمزة والجلفة والحضنة وبوسعادة وأولاده نايل وبسكرة وحوض واد ريغ.

كان لابد للخليفة أحمد مقراني من دفع الثمن، فعندما استأنفت فرنسا الحرب ضد الأمير عبد القادر، وأرادت اختراق مضيق (البيبان) في تشرين الأول - أكتوبر - 1839، استعانت بالخليفة أحمد مقراني وقواته، وأمكن لها بذلك تحقيق النصر على الأمير عبد القادر، وخليفته على مجانة (محمد عبد السلام العايب).

كان الخليفة (أحمد المقراني) يتوهم بأن السلطة الإفرنسية ستدعم نفوذه، فمضى للعمل بحماسة، غير أنه لم يكد يمضي عامان حتى أخدت السلطات الإفرنسية بمضايقته. فأقامت منطقتين عسكريتين في (سطيف) و (المسيلة) وأصبح الخليفة تابعا لحاكم

ص: 121

- مضيق البيبان الذي عبره الفرنسيون بمساعدة الخليفة أحمد المقراني في أكتوبر 1839 م.

ص: 122

سطيف، أما المسيلة فتم تعيين منافسه لحكمها (وهو بوضياف بن بوراس). وأرغمت السلطات الإفرنسية الحاج أحمد المقراني على التخلي عن أراضي أبناء عمومته؛ أولاد بورنان وأولاد بلقندوز وأولاد عبد السلام، حتى تضمن ولاءهم بعد أن استسلموا لها. كما انتزعت من الخليفة الحاج أحمد ثلاثة أرباع المنطقة الواسعة التي كانت تخضع له. واستمرت بعد ذلك المضايقات حتى وفاته في 4 نيسان - إبريل -1853 حيث عينت السلطات الإفرنسية ابنه محمد في مكانه، ولكن بلقب (باشآغا) وهو لقب دون لقب (الخليفة) وقد حاول الباشآغا الجديد (محمد المقراني) القيام بدوره، بما عرف عنه من الكفاءة والذكاء، وبدأ عهده بالحج إلى الديار المقدسة، ثم عاد عن طريق تركيا وفرنسا، حيث استقبل مثل أبيه من طرف أصدقائه الإفرنسيين.

ورجع إلى الجزائر مسرورا في العام 1855، وهو يرى نفسه أحد الممثلين الكبار للنظام والسلطة العسكرية بالجزائر. غير أن السلطات الإفرنسية لم تكن لتسمح له، ولا لسواه من الجزائريين، بزيادة قدرته الذاتية. فأخذت في إضعافه ماديا ومعنويا. وكان من جملة الإجراءات المتخذة ضده:

1 -

كان الخليفة في مجانة يعتمد في قوته على فرسان (الحشم) الذين ينتمون إلى قبيلة الحشم الهلالية، المستقرة في منطقة معسكر. وكان الجد (أحمد مقران) قد اصطفاهم لتحرير مدينة وهران من الإسبانيين في سنة 1563م. ووطنهم في سهل مجانة على سفج جبل مريسان، وأصبحوا منذ ذلك الوقت مصدر الفرق والحرس، وأعفاهم من الضرائب. واستمروا على ذلك حتى سنة 1858 حيث فرضت السلطات الإفرنسية عليهم الضرائب ويظهر أن وجود عدد كبير من الفرسان الحشم والصبايحية تحت تصرف الباشآغا محمد المقراني، قد

ص: 123

أثار قلق السلطات الإفرنسية، فعادت في سنة 1861 وفرضت عليه أن ينقص عددهم. فهاجر الذين سرحهم إلى تونس. وأبدى هو نفسه الرغبة في الهجرة إلى هناك غضبا من هذه السياسة.

2 -

استبدلت السلطة الإفرنسية وكلاء الباشآغا محمد المقراني، والمكلفين بجمع الضرائب. وقامت بتعيين شيوخ ووكلاء من قبلها لهذه الغاية. وفرضت عليه تحويل الأموال والضرائب إلى خزينة الدولة بعد أن كان يحتفظ بها لإدارة منطقة حكمه.

3 -

انتزعت من أبناء عمومته (أولاد بلقندوز) خمسة آلاف هكتار في منطقة البرج لتوطين المعمرين (المهاجرين) الأوروبيين.

4 -

عينت ضابطا صغيرا (نقيب - كابتن) من الجيش الإفرنسي حاكما للبرج، وألزمت الباشآغا محمد المقراني في الرجوع إليه بكل أموره. وقد عمل هذا الضابط (واسمه بيان) على مضايقة الباشآغا وإخضاعه للرقابة الصارمة.

5 -

وجهت السلطة الإفرنسية رسالة توبيخ (باسم الجنرال ديغو) إلى الباشآغا محمد، أثرت فيه لدرجة أنه اعتزل الناس عدة أيام من شدة الألم. وذلك لتعاطفه مع (بوعكاز بن عاشور) زعيم فرجيوة، والذي أودع عند الباشآغا بعض حوائجه بعد أن اتهمته فرنسا بإشعال الثوره في فرجيوه والزواغة بالبابور.

6 -

منعت السلطة الإفرنسية الباشآغا محمد المقراني من تطبيق نظام (التويزة) أو (السخرة) الذي كان متبعا للقيام بالأعمال التي تتطلب جهدا جماعيا

الحصاد الزراعة، أعمال البناء الخ ..

7 -

تشديد المراقبة على محمد المقراني، واستدعائه إلى مركز

ص: 124

(البرج) لاستجوابه عما دار من أحاديث بينه وبين أبناء عمومته أثناء زيارته لهم. وإثارة الشكوك حوله.

8 -

مضايقته لسداد ديونه المالية التي اقترضها لمساعدة الفلاحين والمواطنيين في سنوات (الجفاف - والجراد - والأوبئة) وإرغامه على بيع بعض أملاكه. وكان الحاكم العسكري ماكماهون قد وعده بالمساعدة، غير أن الحكومة التي جاءت في أعقاب أحداث سنة 1870 تنكرت للحكومة العسكرية التي سبقتها. وكان باستطاعة المقراني وفاء ديونه التي بلغت مليون وثمانمائة ألف فرنك لو أعطيت له الفرصة الكافية. غير أن الحكومة المدنية رفضت ذلك.

9 -

استثمار فرنسا للتناقضات القائمة بين الباشآغا محمد المقراني وخصومه من عائلته أو غير عائلته من أجل إضعاف نفوذ الجميع، وفرض السيطرة الإفرنسية عليهم.

10 -

نقمة الباشآغا محمد المقراني، على قانون تجنيس اليهود. وما كان ينزل بمواطنيه من مظالم.

تجدر الإشارة إلى أول رد فعل لمحمد المقراني تجاه قانون تجنيس اليهود (قانون كريميو) حيث أعلن المقراني: (.. لا أطيع أبدا يهوديا. وإذا كان جزء من بلادكم وقع تحت أيدي يهودي فقد انتهى الأمر، وسأضع عنقي بسرور تحت السيف ليقطع رأسي. أما تحت يهودي فلن يكون ذلك أبدا. وإني أعطيت كلمة شرف للحاكم العام، ولكن لم أعطها للحكم الذي خلفه وهو النظام المدني ..) وأخذ الجزائريون يتناقلون هذه الأقوال - في المقاهي والأماكن العامة - وانقسم الرأي بين ثلاث فئات: (فئة متنورة تقول أن فرنسا قد انتهى أمرها، ولم يبق لها شيء ما دام يحكمها يهودي. وفئة أقل منها وعيا: وتردد بأن الله قد

ص: 125

أعمى قلوب الإفرنسيين وهذا موعد رحيلهم وهو انتصار للإسلام وفئة ثالثة: كانت عارفة بحقائق الأمور وأخذ أفرادها يعدون العدة لحرب دينية مقدسة - وهي فئة المقراني والحداد). ويذكر أن الباشآغا محمد المقراني، كان يتوجس خيفة من قيام النظام المدني منذ البداية، فعندما قامت الحرب في شهر تموز - يوليو - 1870 طلب المقراني من الحاكم العام ماكماهون الإذن له بتسليح كتيبة من (القوم) تتألف من ألف وخمسمائة رجل يذهب على رأسهم للمشاركة في الحرب بأوروبا، فاعتذر له. غير أن المقراني ألح عليه في قبول الطلب، وقال:(إذا طالت الحرب، فإن المدنيين سيستولون على السلطة بالجزائر، وأنا الذي انحدر من سلالة الجنود، لا أطيع أبدا ولا أخضع لمن لا يكون عسكريا)(1) وعلى أي حال، فقد شارك عشرون ألفا من الجزائريين في الحرب. وقتل نصفهم على أرض القتال. وكانوا أبطالا ومغاوير وأشجع كل الفرق الأخرى باعتراف القادة الإفرنسيين ذاتهم، غير أن هؤلاء المقاتلين أصيبوا بجراح في أعماق نفوسهم بسبب إهانة الأوروبيين لهم، بعد سقوط الإمبراطورية بصورة خاصة.

لقد صح ما توقعه الحاج محمد المقراني (الباشآغا) من متاعب عند قيام الحكم المدني، وأصبح السخط عاما في منطقة البيبان بسبب سوء الإدارة الإفرنسية، وكانت السلطات الإفرنسية تقوم في تلك الفترة بفتح الطريق العام بين الجزائر وقسنطينة تحت إشراف مقاول

(1) طلب عدد من قادة الجزائر الإشتراك في الحرب إلى جانب فرنسا - ضد بروسيا - فبالإضافة إلى محمد المقراني تقدم ابن باحمد خليفة الأوراس بطلب مماثل. وكذلك فعل الأمير عبد القادر الذي كتب من دمشق رسالة إلى وزير الدفاع الإفرنسي أعلن فيها استعداده للحرب مع الإفرنسيين. (ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 129 - 131).

ص: 126

أوروبي، استخدم في عمله حوالي مائتين وخمسين عاملا بينهم أوروبيون ومغاربه، وتمركز هذا المقاول بجبال البيبان، واتبع سياسة غير عادلة تجاه العمال الجزائريين. فكان لا يعطيهم الأجور التي تتناسب مع ما يبذلونه من الجهد. كما كان يماطل في دفع الأجور لهم، على عكس العمال الأوروبيين. وفي أوائل عام 1871، مر أكثر من شهر دون أن يدفع أجورهم، فساءهم ذلك، وامتد الغصب إلى عائلاتهم وأقربائهم. وحدث في يوم 18 شباط - فبراير - 1871، أن قتل أربعة عمال أوروبيين في الغابة المجاورة لمكان العمل، ولم تتعرف السلطات على الجناة. وحاول محمد بن عبد السلام المقراني خصم الحاج محمد المقراني اسثمار الموقف. فأطلق أتباعه للإشاعة بأن هذا الحادث قد وقع بتحريض من الباشآغا محمد المقراني ذاته. وعلى أثر ذلك أرسلت المصالح الإدارية بسور الغزلان برقية إلى السلطات المحلية بالبرج تخبرها بأن المقراني بصدد إعداد ثورة مسلحة. فتخوفت من الأمر، وأصدر حاكم البرج وسطيف أمرا إلى المقراني نفسه يوم 25 شباط - فبراير - بإيقاف العمل في البيبان وإعادة العمال إلى بلادهم. وذهب المقراني إلى مكان العمل، صحبة أخيه (بومزراق) وابن عمه (حمود بودنات) فوجد الوضع مضطربا. واحتج لدى المقاول المذكور على عدم دفع أجور العمال، ودفع هو من ماله الخاص مبلغ ألف وخمسائة فرنك سلفة لهم. وجهز البغال والحمير التي حملت أمتعتهم إلى مدينة البرج تحت حراسة أخيه وابن عمه. وفي الوقت ذاته وقعت اضطرابات أخرى في مدينة المسيلة جنوب مدينة (برج بوعريرج) فقد تخوف الأوروبيون الموجودون بها، وشعروا بالخطر على حياتهم بسبب الظروف المضطربة، والإشاعات الكثيرة حول تصميم الجزائريين على القيام بالثورة. وقرروا الانسحاب إلى

ص: 127

مدينة بوسعادة الواقعة جنوبها، وحملوا معهم أمتعتهم واتجهوا إليها يوم 25 شباط فبراير - ورافقهم قائد الحضنة (السعيد بن بوداد المقراني) حتى أوصلهم إلى هناك سالمين وكان من المفروض أن ينسحبوا إلى البرج شمالا حيث يكثر الأوروبيون. ولكن أوضاع هذه المدينة كانت آنئذ مضطربة كثيرا، حيث أشيع بأن الجزائريين سيهاجمونها يوم 2 آذار - مارس - بمناسبة عيد الأضحى. ولذلك تم إرسال قائد الفرقة الثامنة بسطيف، وكلف بقيادة الحراسة والاستعداد للطوارئ. وتسبب هذا الإجراء في استياء المقراني، لا سيما وإن صحافة سطيف والأوروبيين أخذوا في المطالبة بإعدامه. وقد حدثت على أثر ذلك مجموعة من الحوادث في برج بوعريريج وسور الغزلان والمدية ودللس. مما يشير إلى الغضب الشامل والاستعداد العام للثورة. وأدى ذلك إلى نفاذ صبر الحاج محمد المقراني، فقدم استقالته من منصبه يوم 27 شباط - فبراير - وعاد فأكدها خلال حديثه - شهر آذار - مارس - (مع الكابتن أوليفي) حيث قال له:(كيف تريدون مني أن أخدم حكومتكم؟ أنني لا أعترف بجمهوريتكم لأنها منذ أن أعلنت وأنا أرى أشياء فظيعة، فأنت حاكم أعلى لمدينة البرج. ولكن أرسل إليها رئيس جديد لقيادة الكتائب، وحارس مدني ليراقب إدارتك. فإلى من أتوجه أنا؟ إليك أنت، أم إلى الرئيس الجديد؟ أم إلى الحارس المدني؟ في الحقيقة أنا لا أفهم شيئا من هذا، وفي الوقت الذي كنا نحن جميعا مطيعين لكم، عوضتمونا بالمركانتية (التجار الأغنياء) - واليهود، أنا لا أقبل هذا أبدا) وفي رسالة الاستقالة الثانية التي وجهها إلى الجنرال (لالمان) يوم (9 - آذار - مارس - 1871) - أكد فيها: أنه أصبح حرا طليقا بعد توقيع الصلح بين فرنسا وأعدائها، (وأنه لما أصبحت الحكومة مدنية في الجزائر، فإني أجدد

ص: 128

استقالتي الأولى من وظيفة الباشآغا) وفي رسالة 14 - آذار - مارس - التي بعثها إلى أوجورو، وأوليفي، ردا على رسالة الحارس الإداري - روستان - أعلن المقراني قائلا:(أني لا أقبل أن أكون تحت شخص من حكومة المدنيين يتهمني ويشيع عني بأني ثائر، ويعتقل أتباعي في سطيف وسور الغزلان). وحاول (الكابتن أوليفي) إقناع الباشآغا محمد المقراني بالعدول عن استقالته، غير أن المقراني:(عاد فأكد له بأنه لا يقدر منذ الآن أن يخدم فرنسا، لأنه يرفض الخضوع لحكومة الجمهورية، التي منذ أن تأسست وهو يعيش المقلقات. كما أضاف: بأنه لا يريد الثورة ضد فرنسا إلا إذا رفضت استقالته، وعندئذ سيجد نفسه مضطرا لحمل السلاح، لأن رفضها بالنسبة إليه يعني - الحكم عليه وبالإعدام).

أجاب المفتش الإداري - روستان - على استقالة الباشآغا يوم 12 آذار - مارس - بطريقة مثيرة، (إذ طلب إليه أن يحدد إليه استقالته كتابيا وبصورة رسمية، باعتباره المسؤول والممثل للنظام المدني في عمالة قسنطينة. وأنه يبقى بعد ذلك مسؤولا عن كل ما يحدث في منطقته طوال مدة انتظار الجواب بالقبول أو الرفض).

خلال ذلك، حاول شيخ فرجيوة بو عكاز بن عاشور إصلاح الموقف، وتطوع مرتين بقسنطينة أن يذهب بنفسه إلى مجانة لتسوية مشاكل المقراني. غير أن السلطات الإفرنسية رفضت طلبه. فماكان من المقراني إلا أن كتب رسالتين يوم 14 آذار مارس - إلى (أوجررو) وأوليفي حاكم مدينة البرج: (أكد لهما بأنه كان قد قدم استقالته إلى المارشال ماكماهون. وأنه كان قد قبلها منه. غير أنه بقي مستمرا في عمله بسبب انشغال فرنسا بالحرب. أما اليوم، وبعد أن عاد السلم،

ص: 129

- الحاج محمد المقراني، أحد أبطال ثورة 1871 م.

ص: 130

فإنه أصبح حرا طليقا، ورفض أن يتحمل مسؤولية ما قد يحدث بعد ذلك). ولكي يقطع صلاته بسلطات البرج، قطع خط الهاتف الذي ربط مجانة بالبرج. ودعا في مساء اليوم ذاته إلى اجتماع عام لكل أقربائه من أولاد الحاج وقواد الدواوير والأعراش التابعين له في منطقة مجانة والبرج وتدارس معهم الوضع الجديد والخطط الأولى لحركته المقبلة، وأعلن لهم أن الوقت قد حان للثورة ضد حكومة التجار واليهود ولقد تقرر في هذا الاجتماع على أن يزحف المقراني بنفسه على مدينة البرج بقواته يوم (16) آذار - مارس - وتطوير الحرب في غرب عمالة قسنطينه، في حين يتجه أخوه (بومزراق) للعمل في منطقة ونوغه وسور الغزلان، بينما كلف ابن عمه وصهره (السعيد بن داوود) بقيادة الثورة في منطقة الحضنة وبوسعادة وأولاد نايل الجلفة جنوب شرق سور الغزلان، وكان على ابن عمه الحاج بوزيد بن عبد الرحمن (شقيق السعيد بن داوود) أن يزحف من الحضنة على رأس حوالي خمسة عشر ألف رجل إلى البرج والمناطق الشمالية لتدعيم الثورة. (1).

تجمعت قوات المقراني في مجانة يوم الأربعاء 15 آذار - مارس -

(1) كان قاضي بني عيدل (الحسين بن حالة) من عرش الماين شمال مجانة، قد حضر اجتماع المقراني بمحانة مساء 14 آذار - مارس - وكان عميلا للإفرنسيين، فقام باليوم التالي بالتوجه لمدينة (البرج) وأبلغ المسؤولين الإفرنسيين عن خطة المقراني للهجوم على المدينة يوم 16 - صباحا - كما أعلم الإفرنسيين بأنه سيكون هو - أي الحسين بن حاله - على رأس أربعمائة رجل في مؤخرة المقراني، وإنه لن يتأخر في الانضمام إلى القوات الإفرنسية بعد ذلك. وهذا ما جعل الإفرنسيين يكافئونه بعد الثورة بتعيينه قائدا على عرش الماين والجعافرة. وبقيت أسرته تتوارث هذا المنصب حتى ثورة 1954 (ثورة 1871 الدكتور يحيى بو عزير - ص 206).

ص: 131

وقد أقبلت من كل الجهات بصورة مستعجلة، بعد أن توزع المبعوثون في كل أنحاء مجانة لإبلاغ الناس قرار الباشآغا وقواده بإعلان الثورة. وفي صباح يوم الخميس 16 آذار - مارس - استعرض المقراني رجاله الذين بلغ عددهم ستة آلاف رجل (بعين السريحة) وكان هؤلاء الرجال يرتدون أزياء مختلفة ومعهم أسلحة متنوعة، وما هو ضروري من متاع الحرب. وكان من ضمنهم (قوم) الحضنة الغربية وأولاد تبان، وأولاد إبراهيم والأربعاء بزعامة مقدميهم. ثم توجه المقراني بهذه القوات إلى البرج، حيث انضم إليه على الفور (القائد الصغير بن عدة) مع بعض أفراد (القوم) - بأسلحتهم - وكانوا ضمن قوات الحرس الإفرنسية. وفرض المقراني الحصار على المدينة - وسط زغاريد النساء - وبدأت الإشتباكات الأولى بالنيران حوالي الساعة التاسعة، ولكن القتال الحقيقي لم يبدأ إلا حوالي منتصف النهار. واستمر حتى غروب الشمس. وفي المساء أخذ اليهود الذي كلفوا بالحراسة، يفرون إلى داخل قلعة المدينة، بعيدا عن الأسوار. ووجهت السلطات داخل المدينة عدة رسائل استنجاد إلى عدة جهات، وخاصة سطيف، ومرت أربعة أيام من الحصار، بدون حوادث مثيرة، حاول الثوار بعدها تلغيم الجدران لفتح ثغرة فيها، غير أن الحامية المدافعة عن المدينة أحبطت هذه المحاولات. وبدأت قوات الدعم في الوصول، وكان في مقدمتها قائد عن تاغروط (محمد بن عبد السلام المقراني) الذي كان أول من وصل إلى البرج صباح يوم 26 آذار - مارس - وعندما اقترب من أسوارها، صاح في وجهه قائد حامية المدينة (دوشيرون) وطلب إليه الابتعاد حتى لا يضر به لأنه أصبح يشك في كل (لابس برنس) ولو كان خادما لفرنسا ومخلصا لها. وكان من حسن حظه أنه وصل معه ضابطان فرنسيان، فحالا دون تعرضه لأي أذى.

ص: 132

ووصلت بعد ذلك قوة دعم فرنسية تمكنت من رفع الحصار عن المدينة. وجهز الأوروبيون، وأرسلوا في اليوم التالي تحت حراسة فرقتين من الصبايحية والقوم بقيادة محمد بن عبد السلام المقراني - رافقتهم حتى سطيف.

انسحب المقراني بعد فشله في السيطرة على مدينة (برج بوعريريج) واستقر بقواته في جبل مريسان (أم الريسان) شمال شرق مجانة. وعسكر هناك في مكان مرتفع يطل على سهل البرج وعين السلطان ومجانة. وأخذ في بذل الجهود لإعادة تنظيم قواته، وتوسيع نطاق الثورة. فكان أول عمل له هو إرسال عدد من المبعوثين إلى جهات كثيرة من ولايتي الجزائر وقسنطينة; واقترح على رؤساء العائلات الكبيرة الذين وجه إليهم مبعوثين:(أن يتحدوا معه لتكوين جبهة قوية يقاومون بها النظام المدني، ويحمون سلطاتهم وامتيازاتهم). ونظم المقراني شبكة من الاستخبارات: (فكان لديه حوالي تسعمائة مخبر من بني عباس يقطنون بالمدن الساحلية، ويزودونه بانتظام بالأخبار والمعلومات الكافية عن الأوضاع). وكان المقراني في رسائله يركز على نقطتين: 1 - الجهاد في سبيل الله. 2 - أسفه على سلخ أيام من عمره في خدمة الاستعمار. وقد جاء في رسالته إلى الشيخ البشير بن كابة، وسكان بو جليل ببني عباس قوله:(وبعد، تتوكلوا على الله ورسوله، وتقدموا إلى الجهاد لنصرة دينكم عزما. وتأتوا لنا إلى برج مجانة) وفي رسالته إلى باشآغا تيطري (ابن يحيى بن عيسى) وقائد قواد أولاد مختار الشراقة ببوغار والمدينة (علي بن عبد الرحمن) جاء ما يلي: (لقد فتحت أبواب الجهاد في سبيل الله ويجب عدم تفويت هذه الفرصة، والإسراع بالانضمام إلى المجاهدين

وتحسر على ضياع حياته وحياتهم هباء في السابق دون فائدة).

ص: 133

المهم في الأمر. هو أن معظم جهود المقراني قد ضاعت، إذ رفض أكثر الذين اتصل بهم الاستجابة لدعوته، فأولاد بن قانة بالصحراء الشرقية أعلنوا معارضتهم له ولثورته في رسالة وجهوها إلى الحاكم الإفرنسي بقسنطينة منذ يوم 18 آذار - مارس - وأكدوا فيها استعدادهم لمحاربة المقراني الذي وصفوه بالمجنون وفعل مثلهم (محمد بن هني بن بوضياف) قائد صحارى بسكرة في رسالته إلى الحاكم الإفرنسي قسنطينة يوم 21 آذار - مارس وسلم بائآغا التيطري رسالة المقراني إلى الحاكم الأعلى الإفرنسي في المنطقة. وقاد (علي بن عبد الرحمن) حامل الرسالة، إلى رئيس المكتب العربي هناك وحتى وجهاء قسنطينة الذين نعتوا أنفسهم ((بالحضريين) وجهوا أيضا تأييدهم إلى نائب الأميرال - الكونت دوفيدون - يوم 26 نيسان - أبريل:(استنكروا فيها أعمال المقراني وأخوان الحداد الرحمانيين، الذين نعتوهم - بالبدويين - المحبين للتخريب وسفك الدماء والمعادين للخير والفلاح. وطالبوا بإنزال العقوبات القاسية ضدهم).

على أن المقراني، وإن فشل في استمالة رؤساء العائلات الكبيرة مثله، إلا أنه نجح في استمالة الشيح الحداد إليه بأتباعه، وهو مكسب هائل عوضه عن كل ما فقده في الآخرين من تأييد، ذلك أن انضمام الحداد إلى الثورة غير من طابعها واتجاهها، وجند لها ما عجز المقراني عن تحقيقه من تأييد شعبي واسع، نظرا لما كان للحداد من نفوذ معنوي قوي على سكان جرجرة والبابور وحوضي وادي الساحل ووادي الصومام.

ما أن علمت السلطات الإفرنسية بالجزائر العاصمة، باندلاع

ص: 134

ثورة المقراني منذ اليوم التالي لحدوثها، حتى كلفت الجنرال (سوسي) بمواجهته وملاحقته في منطقة مجانة. فتوجه (سوسي) إلى هناك، ووصل إلى البرج يوم 2 نيسان - إبريل - 1871 وضم إليه الحامية الموجودة في المدينة، فأصبح لدية خمسة آلاف جندي، ثم توجه صباح الثامن من الشهر إلى مجانة، وهو نفس اليوم الذي نجح فيه المقراني في ضم الحداد إلى الثورة هو وابنه وإخوانه، مما جعل الثورة تتخذ شكلا آخر وطابعا جديدا.

خاض الثوار معركة كبيرة في (ساقية الرحى) قرب جبل (تافرطاست) شمال مجانة يوم 12 نيسان - أبريل - وقامت القوات الإفرنسية التي يقودها (سوسي) بإحراق قرية صوناف وكل منازل مجانة - ما عدا قصر الباشآغا الذي تمركز فيه، ووقع الشريف بن عبد الرحمن قائد الدريعات، وقريب المقراني، في أسر القوات الإفرنسية. وترك الحاج المقراني قوة كافية لمناوشة الإفرنسيين بمنطقة مجانة ومريسان. وانتقل هو إلى (زمورة) ثم إلى (فمور) شرقي مدينة البرج لإجراء مفاوضات مع أبناء عمومته الذين كانوا معارضين له، بعد أن أصبح الوضع خطيرا. وعسكر (بعين التراب) وعقد يوم (14) نيسان - أبريل - اجتماعا مع كبار رجاله في (قبة سيدي علي بوناب) وتدارس الوضع معهم وفقا للتطورات الجديدة في سير حركة الثورة. وتم الاتفاق على ضرورة توحيد الصفوف فأجرى المقراني اتصالات مع أولاد عبد السلام وأولاد عبد الله وأولاد بلقندوز، ونجح في استمالتهم إليه بعد يومين من المفاوضات. وتبعهم عدد آخر من الناس، كانوا من قبل، خارج الصف معادين أو مترددين.

ص: 135

ظهرت نتائج هذا التحول بصورة فورية، فقد قام الثوار من (أولاد تبان) و (الأربعاء) و (ريغة) بقيادة محمد بن عدة، بالهجوم على عدد من المزارع حول العلمة، بعضها للأوروبيين، وبعضها للمتعاونين معهم أمثال (الزين بن أحمد وأولاد قليل)، وقتلوا ثلاثة أفراد. وتمركز محمد بن عبد السلام ومحمد الصغير بن الشيخ ساعد، في قرية رأس الواد بأمر المقراني. وحاولت مفرزة فرنسية (بقيادة النقيب ترانجان) تنفيذ المهمة التي أسندت إليها يوم 30 آذار - مارس - وهي حراسة الطريق بين سطيف والبرج، ودعم قوات (الجنرال سوسي) الذي كان يهاجم (مجانة). غير أن هذه المفرزة فشلت في تنفيذ مهمتها. وتعرضت للهزيمة يوم 18 نيسان - إبريل - في (عين تاغروط) واضطرت للانسحاب إلى سطيف. فاتهمت القيادة الإفرنسية قائد المفرزة (بتهمة التقصير في أداء واجباته العسكرية)، وقدمته إلى مجلس عسكري، والتي برأه من التهمة المسندة إليه وذلك يوم 21 آب -أغسطس - 1871.

أعادت القيادة الإفرنسية تقويم الموقف، على ضوء فشل مفرزة (ترانجان) في تنفيذ مهمتها، وتزايد ضغط الثوار في وادي الشعير، وأصدرت أمرها إلى (الجنرال سوسي) بالانسحاب من مجانة إلى البرج لنجدة سطيف التي أصبح الثوار يهددونها. فنسف (سوسي) قصر الباشآغا المقراني، وأحرقه يوم 15 نيسان - أبريل - ودمر بقية منازل القرية قبل أن ينسحب منها.

كانت خطط الثوار تعتمد على إخلاء مدن السهل وقراه. والاعتصام بالربوات الحصينة، فأخلوا رأس الواد، وعين تاغروط،

وتجمع عدد منهم في سهل سيدي مبارك شرق البرج، وفي عدة نقاط

ص: 136

أخرى. واعترضوا سبيل القوات الإفرنسية التي غادرت البرج متجهة إلى سطيف يوم 1871/ 4/20. وعلى أثر ذلك، عقد قادة الثورة اجتماعا لهم في (مصالتة - قرب عين مسعود) بهدف دراسة الموقف الجديد. وحضر هذا الاجتماع بو مزراق ومحمد بن عبد السلام وعبد الرحمن بلقندوز وعزيز الحداد ومحمد الصغير بن الشيخ ساعد والمقدمان الرحمانيان: قارة بن حباش من قرقور، ومحمد أكلي أو بوعرون من البابور. وتم وضع الخطة لمواجهة القوات الإفرنسية التي كانت تضايقهم من سطيف والبرج معا. وخاض الثوار بعد ذلك مجموعة من المعارك الناجحة في جبل طافات وثنية مقسم والعيون. وأحرقوا برج قائد وادي الساحل القبلي (السعيد بن عبيد في الماوكلان) ومزرعة قائد قرقور (أحمد بن زيدان) المواليين للإفرنسيين، وأكرهوا الأوروبيين في قرية وادي الذهب والوريسية والمهوان على الجلاء إلى العلمة وبقية المراكز الإفرنسية.

وأسند الحاج المقراني قيادة الأعمال القتالية في وادي الشعر، شرق بوعريرج، لأخيه بومزراق ومعه بعض المقدمين الرحمانيين بزعامة عزيز الحداد. وتوجه هو إلى بني عباس لتفقد أمور المنطقة، وبذل المزيد من الجهد لكسب الأنصار والمؤيدين. ويظهر أن نجاحه في ضم الإخوان الرحمانين إلى الثورة، وتوحيد صفوف أبناء عمومته على هدف الجهاد، هو الذي جعله يطمئن بعض الشيء للجبهة الشرقية، على الرغم من أن الأعمال القتالية في وادي الشعير لم تصل إلى مرحلة الحسم.

لم يتوقف الحاج المقراني طويلا في بني عباس، فاتجه إلى (أولاد جلال) يوم (25) نيسان - إبريل - ثم إلى جبل (موقرنين) بسور

ص: 137

- مدينة الجزائر وسهل متوجة (متيجة)

ص: 138

الغزلان الذي جعل منه بومزراق أكبر معسكر للثوار منذ اندلاع الثورة. وعقد هناك اجتماعا كبيرا مع قادة الثورة والمقدمين الرحمانيين بالمنطقة. وحاول أن يخطط معهم أسس العمل والطرائق التي يجب اعتمادها لمجابهة القوات الإفرنسية التي أخدت في غزو المنطقة منذ يوم 11 نيسان - إبريل - تحت قيادة الجنرال سيرير وبصحبة تروملي وفورشود، وبدعم من آغا البويرة (بو زيد بن أحمد)(1).

ثم انتقل الحاج المقراني بعد ذلك من (جبل موقرنين) إلى (عين الطاقة) ثم إلى (ثنية أولاد داوود) و (وادي الشعير) بين واد أخريص وسيدي بن داوود. وقضى هناك ليلة 27 نيسان - أبريل - وعاقب أولاد سالم الذين استسلم البعض منهم إلى الجنرال سيريز بتحريض من الآغا بوزيد. وحصلت في اليوم التالي (معركة طكوكة) على ربوات ذراع المؤمن جرح فيها عدد من الأوروبيين وقتل من الثوار ثلاثمائة رجل نظرا لتفوق الأعداء بالقوى والوسائط. ولم يحضر الباشآغا المقراني هذه المعركة، غير أن رجاله نجحوا في اعتقال سبعة رجال من أتباع بوزيد.

غادر الحاج المقراني منطقة ونوغة بعد معركة طكوكة مباشرة، فوصل إلى بني عباس يوم 29 نيسان - إبريل - وأخد في حشد الأنصار والأتباع بعد أن تأكد من عداء الآغا بو زيد الشدت للثورة، وعلم

(1) كان الآغا بو زيد بن أحمد - أحد أحفعاد محمد الطيب بن سالم خليفة الأمير عبد القادر على البويرة - وقد أصبح من عملاء الإفرنسيين. وشكل عقبه كبيرة ضد ثورة المقراني والإخوان الرحمانيين في منطقة ونوغة وسور الغزلان والبويرة، وزادت حماسته لمحاربة الثورة حماسة الإفرنسيين ذاتهم. وحرص باستمرار على تزويدهم بأخبارها منذ بدايتها وحتى نهايتها (ثورة 1871 - الدكتور يحيى بو عزيز - ص 22).

ص: 139

بزحف قوات كبيرة من الجزائر العاصمة نحو ونوغة (تحت قيادة سيريز). وقد استدعى أخاه (بومزراق) من الماوكلان لمعالجة الموقف والاستعداد للمجابهة.

نجح الحاج المقراني بجمع حوالي أربعة آلاف محارب، وعاد بهم بسرعة إلى الجبهة الغربية عبر جبال البيبان وانضم إليه في الطريق عدد كبير من رجال بوخليل وبني مكيلش وبني عباس وبني يعلى وبني منصور. وأخذ طريقه إلى مدينة البويرة (مركز قيادة الآغا بوزيد بن أحمد)، وذلك في اليوم الأول من أيار - مايو - بينهما كان الثوار الآخرون يواجهون قافلة من القوات الإفرنسية - يقودها تروملي - على الضفة اليسرى لواد سفلات. بالإضافة إلى قافلة ثانية على الضفة اليمنى لواد الجمعة - بقيادة قورشود - وكان الثوار يهيمنون عليها من ربوات سلامات.

وصل الحاج المقراني بقواته إلى مدينة البويرة يوم 2 أيار - مايو - وفرض عليها الحصار. وحاول اقتحامها، غير أن الآغا بوزيد وأنصاره من أولاد بليل وأولاد عريب بزعامة القائد محمد بن منصور والقائد محمد بن إبراهيم قاوموه بشدة، فتراجع عنها إلى قرية (بوشرين) وعسكر بقواته في اليوم التالي بتسالة في أوساط بني مناد، وأخذ يستعد لمواجهة قوات سيريز التي كانت تتابع تحركاته، والتي اعترضتها قبائل صنهاجة واشتبكت معها ورفضت الاستسلام لها هي وأولاد سالم. وكانت صدمة المقراني كبيرة نتيجة فشله في إخضاع خصمه (الآغا بوزيد)، وكان قد حصل على ستة من رجاله في معركته، فحاول الإفادة منهم لمساومة (الآغا بوزيد) والاتصال به وبذل كل جهد مستطاع لاستمالته وضمه إلى صفوف الثورة، غير أن (الآغا بوزيد) كان مصمما على متابعة طريقه في خدمة الإفرنسيين، ومحاربة المقراني وأنصاره الرحمانيين. على كل حال، لم يكن باستطاعة الحاج المقراني

ص: 140

- خريطة واحات الصحراء الشرقية التي كانت مسرحا لمطارة المقرانيين إلى داخل الحدود التونسية أوأل 1872 م.

ص: 141

التوقف طويلا في (تسالة) فغادرها بقواته التي بلغ عدد أفرادها ثمانية آلاف مقاتل، واتجه إلى الربوات المحيطة (بوادسفلات) عبر واد الجمعة في اليوم الرابع من أيار - مايو - وانتشر الثوار في وادي سيدي سالم بينما أقام الحاج المقراني معسكره في (وادي الرخام) الرافد الأيسر لوادي الجمعة، عند مصب (وادي غالو) على ربوة تدعى (كدية المسدور).

وكان اختيارد هذه المنطقة ناجحا، ذلك لأنها كانت منطقة وعرة المسالك ذات خوانق ضيقة، وربوات صخرية، وهضاب معقدة التضاريس، يصعب على الإفرنسيين التنقل فيها بدون أدلاء من أبناء المنطقة. غير أن (الآغا بوزيد) تكفل بحل هذه المشكلة، وأخذ على عاتقه إمداد الإفرنسيين بسيل من المعلومات عن تحرك الباشآغا المقراني، كما تعهد بتوجيه القوات الإفرنسية في تحركها عبر المناطق الصعبة. وبذلك استطاعت القوات الإفرنسية الوصول في يوم 5 أيار - مايو - إلى (دارع بلخروب) غير بعيد عن معسكر الحاج المقراني، وأخذت هذه القوات بدفع مفارز الاستطلاع لتحديد مواقع الثوار، فاشتبكت معهم منذ طلوع الفجر، واستمرت حتى منتصف النهار بصورة متقطعة وعلى الرغم من أن الإفرنسيين كانوا على علم بوجود الحاج المقراني في تلك المنطقة، إلا أنهم لم يكونوا على علم بوجوده في ذلك المكان بالذات.

خفت حدة الاشتباكات في فترة الظهيرة حتى كادت تتوقف تقريبا. فمضى الحاج المقراني ورفاقه لأداء فريضة صلاة الظهر، ويظهر إنه لم يتخذ الاحتياطات الكافية، ولم يكن يعرف بوجود عدد من جنود (الزواف) الإفرنسيين يترصدونه هو ورفاقه على بعد أقل بن ألف متر. وبينما هو يصلي رماه أولئك الزواف بأربع رصاصات أصابته في جبهته، فسقط شهيدا على الفور وهو يردد شهادة التوحيد،

ص: 142

كما سقط معه ثلاثة من إخوانه. وتوقف الرمي تماما لهول الصدمة التي نزلت بأتباعه. وحمل الثوار في الحال جثة المقراني إلى (قلعة بني عباس) ودفنوه بمسقط رأسه.

حاول (بومزراق) وقادة الثورة، إخفاء خبر استشهاد الحاج المقراني في بدايه الأمر. وأشاعوا أنه جرح جروحا بليغة بسبب انفجار قنبلة بين يديه، غير أن ثلاثة أشخاص من الستة الذين اعتقلهم في معركة 2 أيار - مايو - فروا أثناء استشهاده مستغلين فرصة ما حدث من هيجان واضطراب، والتحقوا (بالآغا بوزيد) وأحاطوه علما بالأمر. فقام هذا بواجبه وأبلغ ذلك إلى السلطات الإفرنسية.

وهكذا اختفى الحاج محمد المقراني من ميدان الجهاد سرعة، وبعد واحد وخمسين يوما فقط من بداية ثورته. ولم يعش خلالها أحداثا حاسمة. وكان من نصيبه تذليل العقبات والاصطدام بالصعوبات، ومعاناة مرارة الفشل، وفقد قصره بمجانة وكل أثاثه وأملاكه، وفشل في احتلال (برج بوعريريج) و (البويرة). ولم يتمكن من إخضاع (الآغا بوزيد)؛ كما رفض أصدقاؤه القدامى (أمثال ابن علي الشريف) أن ينضموا إليه ويدعموا جبهته.

ومقابل ذلك، حقق نجاحا رائعا في إيقاد جذوة الثورة، وتوحيد جبهة أبناء عمومته ضد المستعمرين. ودعم الثورة بتعاونه مع الشيخ الحداد، وإقناعه برفع راية الجهاد في سبيل الله، مما ضمن للثورة القدرة على الصمود والاستمرار.

مضى الحاج محمد المقراني للقاء ربه صابرا مجاهدا، وترك جذوة الثورة متوهجة في قبضة المجاهدين، ومنهم بصورة خاصة (الإخوان الرحمانيين).

ص: 143