الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
1 -
الموقف على جبهة المشرق
كان احتلال فرنسا للجزائر بداية تفاعلات كثيرة تجاوزت حدود الجزائر، قدر تجاوزها لحدود فرنسا ذاتها، فقد كان من المحال على الإمبراطورية العثمانية (أو بالأحرى دار الخلافة) التسليم باقتطاع جزء من بلاد الاسلام ووضعه تحت سلطة دولة نصرانية. ولكن دار الخلافة في (استانبول) كانت عاجزة عن مجابهة القدرة الحربية الإفرنسية، لا سيما بعد أن تعاظم خطر والي مصر محمد علي باشا، وبات يتهدد عاصمة الدولة ذاتها باستيلائه على سوريا. وفي الوقت ذاته، أظهرت قدرة محمد علي باشا المتعاظمة مقدار ما وصلت إليه الخلافة العثمانية من الضعف والتمزق. فانطلقت الدول العظمى (الروسيا والنمسا وبريطانيا وفرنسا) للتحالف أحيانا والتناحر في أحيان أخرى من أجل فرض وصايتها على الخلافة العثمانية، والقيام بعمل متكامل لإضعاف دولة الإسلام من الداخل والخارج، وذلك عن طريق مراكز القوى غير الإسلامية في داخل الدولة، وعن طريق العدوان الخارجي الذي تزعمته روسيا القيصرية بقيادة نيقولا الأول (1). وأدى ذلك إلى بعث القومية العربية والقومية اليهودية في
(1) نيقولا الأول: (NICOLAS 1er) ابن بولس الأول PAUL ومن مواليد سانت =
وقت واحد. ومن الملاحظ أن هذه التفاعلات قد رسمت أبعادها بعمق على صفحة العالم العربي - الإسلامي. ويظهر ذلك حقيقة ثابتة وهي أن استعمار فرنسا للجزائر قد شكل رأس الحربة لتمزيق العالم الإسلامي، في إطار الهجوم الصليبي الشامل ضد العالم الإسلامي. ونظرا لأهمية تلك الأحداث في التأثير على الموقف الخاص بالجزائر من جهة، وتأثيره على العالم الإسلامي كله من جهة أخرى، فقد يكون من المناسب استقراء صفحة تلك الأحداث شيء من التفصيل والإسهاب.
توالى على حكم الدولة العثمانية في تلك الفترة محمود الثاني (1808 - 1839) ثم عبد المجيد الأول (1839 - 1861) ثم السلظان عبد العزيز (1861 - 1876) وجاء بعد ذلك السلطان عبد الحميد الثاني (1876 - 1909).
ومقابل ذلك، خضعت فرنسا للأنظمة التالية: النظام الملكي - شارل العاشر- (1824 - 1830) ثم النظام الملكي - لويس فيليب (1830 - 1848). ثم النظام الإمبراطوري - نابليون الثالث (1848) حتى الأول من أيلول - سبتمبر - 1870 (معركة سيدان مع بروسيا).
كانت الدولة العثمانية مشغولة بحرب المورة ومجابهة محمد علي عندما أرسلت فرنسا قواتها لحصار الجزائر، وفي الوقت ذاته، كان
= بيترسبورغ (1796 - 1855) أصبح قيصرا لروسيا سنة 1825؛ انتزع إقليم إبريغان من بلاد الفرس سنة 1826، وقاد التحالف مع فرنسا وإنكلترا للتدخل في بلاد اليونان ضد العثمانيين (1827 - 1829). كما دفع قواته لخوض حرب القرم، وهي الحرب التي لم تحقق فيها روسيا أهدافها بسبب وقوف فرنسا وإنكلترا إلى جانب العثمانين. كان من أشد أعداء الإسلام والمسلمين.
الباب العالي يعتقد أنه بالإمكان تسوية الخلاف الإفرنسي الجزائري بصورة سلمية، على نحو ما حدث في مرات كثيرة سابقة. وعندما أعلن عن اجتياح فرنسا للجزائر أخذت الدولة العثمانية في بذل الجهود - مع إنكلترا - لإقاع فرنسا بالانسحاب وأعلن الباب العالي من جهته:(حق الدولة العثمانية في الجزائر). كما أرسل مذكرات إلى فرنسا، من بينها المذكرة المرسلة في ذي الحجة 1246 هـ الموافق 13 أيار - مايو - 1831 والتي (تبين حقوق الدولة العثمانية في الجزائر، إذ بموجب المواثيق والأحكام المرعية بين الدولة العلية والدول الصديقة منذ القديم فإن حقوق الدولة السنية بالجزائر ثابتة في جميع الأزمان. ولهذا يجب استرداد الجزائر، إذ لا إشكال في أنها ملك موروث للدولة العلية). وانطلق السفراء العثمانيون في محاولاتهم للتسوية السلمية بشأن الجزائر، وأخذوا في العمل مع (بالمرستون)(1) في إنكلترا و (مترنيخ)(2) في النمسا.
قدم السفير العثماني (نامق باشا) مذكرات كثيرة للحكومة البريطانية من أجل (تخليص الجزائر من الإحتلال الإفرنسي، وكان من بينها مذكرة باللغة الإفرنسية مؤرخة في 2 آذار - مارس - 1833، وكان رد (بالمرستون) ورجال الدولة الإنكليز: (بأنهم لن يستطيعوا
(1) بالمرستون: (LORD PALMERSTON HENRY TEMPLES) رجل دولة إنكليزي، (1784 - 1860) قاد سياسة إنكلترا بعنف ضد فرنسا طوال أربعين عاما.
(2)
مترنيخ: (PRINCE DE METTERNICH WINNEBURG KLEMENS LOTHER WENZEL) رجل دولة نمساوي، من مواليد كوبلنز (1773 - 1859) عمل سفيرا لبلاده في باريس سنة1806 - 1809، قاد المفاوضات بشأن زواج ماري لويز من نابليون بونابرت وبعد سقوط نابليون، أصبح بموجب الحلف المقدس عمدة لأوروبا - ووصيا عليها - وفرض الحكم المطلق داخل بلاده - النمسا -.
قول أي شيء للحكومة الإفرنسية بخصوص) الجزائر دون تصفية قضايا بلجيكا والبرتغال، وهكذا رفضوا من البداية تكليف الدولة العثمانية).
أما النمسا، فكانت تتصرف بميوعة إزاء القضية الجزائرية، وعلى هذا كتب السفير العثماني إلى رئيس وزراء النمسا (مترنيخ) طالبا تدخله لدى الحكومة الإفرنسية (وكتب مترنيخ مذكرة سرية، أرسل الباب العالي نصها إلى السفير العثماني بباريس، وفيها يخمن أن الإفرنسيين لن يستطيعوا إدارة الجزائر مدة طويلة بعد فشلهم في قسنطينة، ويقترح على الباب العالي البقاء شاهدا - متفرجا - في الوقت الحاضر)(1).
أدرك رجال الدولة العثمانيون، وبشكل قطعي، أن استرداد الجزائر من فرنسا بالمباحثات السياسية فقط، هو أمر غير ممكن. وكان على الدولة العثمانية أن تسلك طرقا أخرى للوصول إلى الهدف. وأرسلت أسطولها إلى طرابلس الغرب، واقتربت كثيرا من الحدود الجزائرية. غير أن الحكومة الإفرنسية لم تتأخر في إتخاذ التدابير اللازمة. وأعلن قائد الأسطول الإفرنسي (الأميرال روسين) يوم 7 حزيران - يونيو 1835:(بأن أسطولا فرنسيا أقلع لحماية المصالح التجارية والسياسية الإفرنسية في حوض البحر الأبيض وشواطىء إسيانيا). وأمام هذا الموقف، وجد الصدر الأعظم - رئيس الوزراء العثماني - أنه من غير المناسب حدوث صدام بين الأسطولين الإفرنسي والعثماني. فأمر بعودة الأسطول إلى استنبول. وأعلن: (أن الدولة
(1) السياسة العثمانية تجاه الإحتلال الإفرنسي للجزائر - الدكتور أرجمند كوران - ص51 و66 و67.
العثمانية تحتفظ لنفسها بحقها في تلك البلاد) ورد (الأميرال روسين) على ذلك يوم 8 آب - أغسطس - 1836: (أن فرنسا لن تعيد الجزائر). و (أن فرنسا لن تغض الطرف أبدا عن وجود وال معاد لها في تونس ويجب على وزارة الخارجية العثمانية عدم التدخل في شؤون قسنطينة) حيث كان أحمد باي يتابع صراعه من قسنطينة ضد الإفرنسيين. ومعروف أن أحمد باي، قد طلب من الدولة العثمانية مساعدته ودعمه، وأعلن الباب العالي:(أن من حقه مساعدة أي قسنطينة) فردت فرنسا على ذلك بقولها (أنها تعتبر نفسها في حالة حرب مع الدولة العثمانية إذا ما أقدمت هذه على دعم باي قسنطينة). غير أن الأسطول العثماني غادر المياه التركية. وروصل إلى طرابلس، فقابلت فرنسا ذلك بإرسال أسطولها إلى الميناء - نفسه، وفقا للقرار الذي اتخذته حكومتها يوم 24 أيلول - سبتمبر - 1837. وأعلنت الدولة العثمانية:(أن لها الحق في منع الإفرنسيين من القيام بحملة على القسنطينة). وتدخل السفير البريطاني، فأعلن (وجوب عدم تدخل العثمانيين في تونس والجزائر). وأخذ الأسطول العثماني في الانسحاب والأسطول الإفرنسي يطارده حتى مضيق الدردنيل. وانتهت بالفشل محاولة إلحاق تونس مباشرة بالإدارة العثمانية لتأمين إمكانية إنقاذ الجزائر من الاحتلال الإفرنسي. ومعروف بعد ذلك أن أحمد باي قاوم بضراوة الحملة الإفرنسية على قسنطينة حتى يوم 13 تشرين الأول - أكتوبر - 1837، حيث استطاعت القوات الإفرنسية اقتحام قسنطينة، وبسط سيطرتها على المنطقة الشرقية من الجزائر بكاملها.
أرسل باي قسنطينة (الوالي) رسالة إلى الباب لعالي يوم 15
تشرين الأول - أكتوبر - 1837: (يعلم باسيلاء الإفرنسيين على المدينة، ويطلب المعونة،
…
وإذا لم يتمكن من إيصالها إليه فإنه يسترحم السلطان إذنا بالانسحاب لديار المسلمين) ولم تجد أركان الباب العالي إمكانية لمساعدة أحمد باي، ولم يكن باستطاعة السلطان محمود الثاني - في الوقت ذاته التخلي عن الباي وخذله بعد أن برهن على ارتباطه الثابت بالدولة العثمانية. فأصدر أمره بالتحقيق في القضية من جديد. وفي مجلس الشورى التي عقد بالباب العالي وضم وزير البحرية، تقرر إرسال أمر لباي تونس من أجل مساعدة باي قسنطينة. ولم يكن لهذا القرار من نتيجة إيجابية، ذلك أن باي تونس كان مرغما على عدم استثارة الإفرنسيين الذين وصلوا إلى حدود بلاده.
يذكر هنا أن الدولة العثمانية كانت تعتمد في مطالبتها بحقها في الجزائر، على المقاومة التي كان يقودها الأمير عبد القادر الجزائري من جهة وأحمد باي قسنطينة من جهة أخرى. وعندما أعلن عن اتفاق الأمير عبد القادر مع فرنسا، أرسل السفير العثماني في باريس رسالة بتاريخ 11 حزيران - يونيو - 1837، إلى وزير الخارجية الإفرسية، أظهر فيها (استغرابه وأسفه الكامل بسبب وضع شخص عادي تابع للسلطنة العلية، بشكل حاكم، وأن مصالحة دولة فرنسا مع الأمير عبد القادر هو أمر مخالف لأصول روابط الإخلاص والصفاء القائمة بين فرنسا والدولة العثمانية العلية) ورد وزير خارجية فرنسا على ذلك برسالة في 18 حزيران - يونيو - 1837؛ جاء فيها (أن فرنسا توضح بصراحة أنها لم تعترف مطلقا بحق أية دولة أجنبية في التدخل بشؤون الجزائر). المهم في الأمر هو أن الباب العالي لم يعترف باتفاقية فرنسا مع الأمير عبد القادر (معاهدة تفنا 30 أيار - مايو - 1838). ولم تلبث
فرنسا أن نقضت معاهدة تفنا، بعد أن فتحت قسنطينة. وعاد الأمير عبد القادر لحمل السلاح، كما استمرت الدولة العثمانية في تطوير الصراع السياسي، وأثناء ذلك، أخذت قضية تونس بالتدرج بعد قضية الجزائر، وحاولت الحكومة العثمانية فرض وجودها في تونس غير أن فرنسا أحبطت محاولاتها بالقوة. واستمر الموقف على ذلك حتى سنة 1847 حيث استسلم الأمير عبد القادر للإفرنسيين، وفي السنة التالية، ترك أحمد باي المقاومة. وودعت الدولة الثانية حقها في المغرب العربي - الإسلامي.
لقد برهنت هذه المرحلة من الصراع السياسي، أن الإمبراطورية العثمانية باتت تعتمد على التحالفات السياسية والتناقضات الدولية بأكثر من اعتمادها على قدرتها الذاتية. كما أن الصراع الداخلي الذي تزعمه والي مصر محمد علي باشا، قد أصبح المجال الواسع أمام الدول الأوروبية للمضي في سياستها من أجل استنزاف ما بقي لدى الدولة العثانية من القدرة. ولقد حاولت الدولة العثمانية إعادة بناء قدرتها الذاتية، والاعتماد على الخبرة العسكرية البروسية. غير أن الدول العظمى لم تترك لها الفرصة لذلك.