الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
3 -
ثورة أحمد بو مزراق
(سور الغزلان وونوغة)
كان أحمد بومزراق، شقيق الباشآغا محمد المقراني، قائدا على عرش (ونوغة) بمنطقة سور الغزلان، وحمزة بجبال البيبان، وبقي في منصبه هذا حتى العام 1871. وعندما انفجرت الثورة، كلفه أخوه بقيادة الثورة في منطقة ونوغة وسور الغزلان نظرا لما توافر له من المعرفة بالإقليم وسكانه. فتوجه بو مزراق إليها، واصطحب معه ابن عمه (علي بورنان) قائد مزيتة، وعددا من فرسان الحشم ..
كان أول مكان استهدفه بو مزراق هو مركز (وادي أخريص) الواقع على بعد (28) كيلومترا من سور الغزلان، حيث كان يتمركز به قائد أولاد سالم، وعدد من العسكريين الأوروبيين، وجنود الزواف. فاتجه إليه وهاجمه صباح 16 - آذار - مارس. (في نفس الوقت الذي كان أخوه الباشآغا يهاجم مدينة برج بو عريريج) وأكم عليه الحصار؛ ولكنه لم ينجح في اقتحامه، لأن الإفرنسيين أرسلوا دعما عاجلا للحامية المدافعة عن المركز، مما اضطر بو مزراق لسحب قواته إلى (جبل العطوش) وأخذ يواصل من هناك هجماته وإغاراته ضد الإفرنسيين والمتعاونين معهم - خاصة الحداد بن قليل - قائد أولاد مسلم - الذي تمركز مع (قومه) على بعد (8) كيلومترات من المركز
المذكور. وقد نجح بومزراق في التغلب على ابن قليل، وانتزع منه مواقعه. مما جعل عرش أولاد سالم المجاورين يخافون من سيطرة بو مزراق عليهم. فحاولوا دعم مركزهم عن طريق زيادة التعاون مع الإفرنسيين، بينما انضم بعض سكان عرش أولاد سالم لقوات الثورة.
تمركز بومزراق يوم 21 آذار - مارس - في جبل السروج بثنية بوبصلة، وجمع سكان المنطقة بعض الأسلحة - البنادق - وقدموها له، كما انضم إليه عدد جديد من الأنصار. وخاض المجاهدون معه معركة ضد القوات الإفرنسية قتل خلالها ثمانية أوروبيين. ثم انتقل إلى ثنية أولاد داوود على بعد (20) كيلومترا من سور الغزلان وحاول مهاجمة مركز (وادي أخريص) مرة أخرى. ونشط في كتابة الرسائل إلى السكان المجاورين يحثهم على القدوم إليه ليشتركوا معه في اقتحامه. وبذل كل جهد مستطاع حتى أمكن له احتلال المركز يوم 26 آذار - مارس - بعد أن هرب كل من كان بداخله. فعمل (بومزراق) على تدميره، وأحرقه، وقطع خط الهاتف الذي يربط المركز بمدينة سور الغزلان. ثم عاد إلى ثنية أولاد داوود، وتوجه منها إلى جبل موقرنين الذي حوله منذ ذلك اليوم إلى معسكر كبير للثورة في منطقة ونوغة.
اشتدت حماسة الجزائريين في البداية لدعم الثورة والانضمام إلى صفوف المجاهدين. فانضم إلى (بومزراق) أولاد سيدي هجرس وأولاد عبد الله وأهل القصر وبني يعلي. وفي الوقت ذاته لم يقصر (بومزراق) في بذل كل جهد مستطاع لحشد القوى والإمكانات، والتحريض على الجهاد في سبيل الله - وكان فيمن استحثهم كبراء عرش مركالة والمدادرة. وحدد هدفه التالي بالاستيلاء على برجي (الأصنام) و (بني منصور) العسكريين. وهنا أيضا تصدى لمقاومة الثورة آغا البودرة (بو
المقراني بو مزراق
ESQUER، G، ICONOGRAPHIE HISTORIQUE DE L'ALGERIE T. III، PLANCHE. N. 996
زيد بن أحمد) وقائد أولاد بليل (محمد بن منصر) وأخذ بوزيد على عاتقه إعلام الإفرنسيين عن كل تحركات (بومزراق) وما تقوم به قوات الثورة من جهد في (برج الأصنام) وفي (جبل موقرنين) غير أن بومزراق لم ييأس من إمكانات التأثير على عملاء فرنسا وأنصارها والمتعاونين معها، واتبع في ذلك أسلوب (الترغيب والإرهاب) غير أن ما حققه من نجاح كان محدودا.
تمركز (بومزراق) في حمام أولاد زيان بأوساط بني يعلى وبني منصور على بعد ثلاثين كليومترا من سور الغزلان وذلك اعتبارا من يوم 5 نيسان - إبريل -. وأظهر المواطنون حماسة كبرى لمساعدته ودعمه من أجل مهاجمة برج البويرة ومعسكر بني منصور. وحاول الاستيلاء على مركز تخزين الحبوب خلال اليومين التاليين، ثم اتجه إلى بوجليل في السفوح الغربية لبني عباس، واستقر لدى ابن عمه (علي بن بورنات - قائد مزينة)، واتصل من هناك بكبار بني منصور والشرفة والسكان المجاورين. ودعاهم إلى إحكام الحصار على برج بني منصور حتى:(لا يفر من بداخله من الأوروبيين والحراس، ومتوعدا إياهم فيما إذا غفلوا وأفلت الأوروبيون منه). وقد تعاون ثوار الشرفة وبني منصور على محاصرة هذا البرج، تنفيذا لتعليمات بومزراق، وأحكموا الحصار عليه، وعزلوه عن سور الغزلان، ابتداء من يوم 8 نيسان - إبريل - (وهو اليوم الذي أعلن فيه الشيخ الحداد الجهاد - بصدوق). وفي يوم 10 نيسان - أبريل - عاد بومزراق إلى معسكر حمام أولاد زيان قرب (برج الأصنام) وخاض المعركة التي تحمل منذ ذلك الوقت اسم ذلك المكان (أولاد زيان) ولكنه لم يحصل على طائل، فغادر المكان، وعاد إلى معسكر ابن عمه (علي بن بورنان) في بو جليل الذي كلف
بحصار برج بني منصور. وبقي هناك عدة أيام، يستنهض همم الناس للثورة، إلى أن استدعاه أخوه الباشآغا المقراني إلى جبل مريسان ووادي الشعير.
عندما كان الثوار يخوضون صراعا مريرا في برج بني منصور، قام الجيش الإفرنسي بإحراق عدد من المنازل، وإتلاف مطامير الحبوب، كان من بينها برج بو مزراق الكائن قرب قبة سيدي داوود بالمنطقة.
عندما استشهد الحاج المقراني أسرع أخوه مزراق، فحاول إخفاء الخبر في البداية، غير أنه أدرك أنه من المحال الاستمرار في ذلك، فأشاع الخبر، غير أنه وجه في الوقت ذاته رسائل إلى كل الأنحاء - منها رسالته إلى أهل الشرفة:(أخبرهم بما حدث وأكد لهم اتحاد أولاد مقران وتصميمهم على متابعة الجهاد حتى الموت). وقد حاول الإفرنسيون معرفة مكان بو مزراق لمباغتته بهجوم حاسم، ومتابعة تحركاته ونشاطه، غير أن بو مزراق كان في حركة دائمة، مما ساعده على متابعة الصراع بعزم ثابت وإرادة صلبة.
انتقل بو مزراق بعد وفاة أخيه مباشرة إلى معسكر الشيخ محمد ابن الشيخ الحداد في قرية تيزي الجمعة قرب بجاية. ومن هناك اخترق بومزراق وأبناء عمومته وادي الساحل يوم 11 - أيار - مايو - والتحقوا ببرج بني منصور حيث كانت قوات الثورة تعمل على محاصرته (بأكثر من ثلاثة آلاف محارب) 0 وقد وفد على (بو مزراق) إلى معسكر بني منصور، سكان بني يعلي وأهل القصر ومشداله، ليعزوه في وفاة أخيه، ويتشاوروا معه في القدوم إلى ناحيتهم. واغتنم بومزراق هذه الفرصة، فاتصل بقائد الحامية المدافعة عن (برج بني منصور. وطلب
إليه إخلاء البرج وإجلاء الإفرنسيين المحاصرين داخله، ونقلهم إلى البويرة. غير أن (بومزراق) لم ينتظر نهاية المفاوضات، وغادر معسكر الثوار يوم 13 أيار - مايو -. واتجه إلى مسكر الشيخ محمد بن الحداد في تيزي الجمعة مرة أخرى - عن طريق مجانة - ليشترك في الهجوم الواسع على مدينة بجاية، والذي تم تنفيذه يوم 17 أيار - مايو -.
انتقل بومزراق وسي عزيز إلى جبال البابور بعد فشل الهجوم على مدينة بجاية، حيث اشتركا مع ثوار المنطقة في المعارك التي دارت هناك ضد القوات الإفرنسية، إبتداء من يوم 20 أيار - مايو - والتي كان من أبرزها معركة جبل منتانو يوم 25 أيار - مايو-، وقد استغل بومزراق الأوضاع الصعبة التي كان يعانيها قائد أولاد عامر الظهرة (أحمد باي ابن الشيخ مسعود)، فاستماله إليه وضمه إلى جبهة الثورة (1) مع بعض أفراد عائلة أولاد ويللسن، واشتركوا جميعا يوم 26 أيار - مايو - في كتابة رسالة إلى داوودي بن كسكاس المعارض للثورة طلبوا منه الانضمام إليهم، وهددوه بنسف منزله وإحراق قرية رأس الماء التي يقطن بها إن هو رفض ذلك، غير أن ابن كسكاس لم يستجب لندائهم.
انتقل بومزراق من جبال البابور إلى جبال قلعة بني عباس يوم 27 أيار - مايو - وهناك وافاه في اليوم التالي باشآغا شلاطة - ابن علي الشريف - بصحبة ابنه ليعزيه في وفاة أخيه المقراني، ولينصحه بالكف
(1) ثورة 1871 - الدكتور - يحيى بو عزيز - وفي الصفحة 288ما يلى: (كان أحمد باي مخلصا للسلطات الفرنسية، ولكن هذه السلطات أهانت الرسول الذي أوفده إليها ليحيطها علما بنشاطات الثائر السعيد بن دبيش، كما قامت القوات الإفرنسية بقتل حوالي ستين شخصا كانوا يحصدون زرعهم تحت حمايته ورعايته. ولهذا نجح بومزراق في ضمه إلى الثورة).
عن مواصلة الثورة التي لا طائل منها - في نظره - بعد أن أعادت فرنسا تنظيم قواتها العسكرية. واستعادت المزيد من كتائبها وقواتها من أوروبا. ولكن بومزراق رفض حتى مجرد السماع لمثل هذه الآراء والنصائح. فافترقا في الحين. ولم تدم المقابلة سوى وقت قصير في جو من البرودة والفتور والامتعاض.
كان بو مزراق على علم بتحرك قوات فرنسية إلى منطقة بني منصور للقضاء على الثوار فيها. فأخذ يستعد لمجابهتها، ويحث المجاهدين على الصمود وعدم الاستسلام. واعترض بومزراق هذه القوات قرب البويرة في يوم 29 أيار - مايو - ودارت رحى معركة قاسية استخدم المجاهدون فيها السلاح الأبيض. واستشهد عدد كبير منهم.
عاد بر مزراق من جديد إلى جبال البابور، في أول شهر حزيران - يونيو - للمشاركة في المعارك التي كانت محتدمة هناك تحت قيادة سي عزيز، بينما كان الثوار يتابعون صراعهم حول برج بني منصور خلال يومي 12 و13 حزيران - يونيو - ولم تطل إقامة بومزراق في البابور، فقد عاد بسرعة إلى البيبان. وهاجم يوم 15 حزيران - يونيو - دوار بني عامر وقرية الأصنام وقرية عين حازم، بسبب تعاون بعض سكانها مع الإفرنسيين. وتمركز بعض الوقت في عين تازة، في حين اتجه السعيد بن بوداوود قائد الحضنة إلى أولاد مسلم لجمع الأنصار الجدد، وتأمين متطلبات المجاهدين من الأعتدة والتموين. والتقى بومزراق مع محمد ابن عبد السلام والسعيد بن داوود في يوم 19 حزيران - يونيو - وخاضوا معركة (بو عساكر) في اليوم التالي، وقتلوا تسعة من الأوروبيين، وجرحوا تسعة.
استسلم أفراد عائلة الحداد واحدا بعد الآخر في أقل من نصف شهر (أواخر شهر حزيران - يونيو - وبداية شهر تموز - يوليو 1871 - على نحو ما سبق ذكره) وأدى استسلامهم على هذه الصروة، إلى استسلام عدد من القادة الآخرين الذين كان لهم دورهم الكبير في الثورة، وكان ذلك انتكاسة ثانية لمسيرة الثورة تزيد في خطورتها على استشهاد مفجر الثورة الحاج المقراني ذاته. ذلك لأن هذه الانتكاسة حولت مواقع الثوار من القوة والهجوم إلى الضعف والدفاع، وانتقل مسرح أعمالها القتالية بالتدريج من التل إلى أعماق الصحراء، وقد شعر بومزراق بخطورة هذا التحول، غير أن عزيمته لم تضعف، ولم يتسرب إليه الخور أو الوهن، وحاول أن يرمم ما تصدع من الجبهة. ومضى يحض الناس على متابعة الجهاد ويحفزهم للمزيد من الصمود والثبات.
مضى بومزراق إلى جنان البايليك بصدوق حيث أقام معسكره لإعادة تنظيم أمور الثورة، ثم انتقل إلى ذراع الأربعاء على ربوات الماتن، وعاقب بعض سكان بو جليل ممن استسلموا للسلطات الإفرنسية. وواجه القوات الإفرنسية في معركة قاسية يوم 12 تموز - يوليو - انسحب على أثرها إلى وادي الساحل - عبر بني عيدل وبني ورتلان، وتوقف يومين في قرى بني عباس المجاورة لحوض الوادي، بهدف حشد المزيد من المقاتلين. واتجه يوم 15 تموز - يوليو - إلى تيروردة ليعترض مسيرة رتل فرنسي كان في طريقه لغزو قلعة بني عباس - قاعدة المقرانيين - ثم اتجه من هناك إلى قرية (تيمثليت) أمام قرية (تازملت) ثم إلى جبل أزرو الحصين ببني ورتلان.
أعاد (بو مزراق) تنظيم بعض الكتائب العسكرية في جبل
أزرو، ثم غادره بسرعة بعد أن توافرت له المعلومات عن قيام الإفرنسيين بمحاولة لتطويقه، منطلقين في محاولتهم هذه من قرية (تاونساوت) غربا - عند ملتقى وادي بوسلام ومهاجر - وأخذ طريقه إلى الجعافرة، وعندما وصل إلى قرية (تاخراط) على الضفة اليسرى لوادي مهاجر، اعترضه عدد من جنود (القوم) والقوات الإفرنسية، فخاض ضد هذه القوات معركته يوم 20 تموز - يوليو - وهي المعركة التي اشتهرت باسم (يوم تاخراط).
غادر بومزراق (تاخراط) ومضى متنقلا بجبال بوندة وأوشانن، بين جبال قلعة بني عباس غربا وجبال تفرق والقلة شرقا، وهو يستحث المواطنين ويحرض المجاهدين، طالبا إليهم مجابهة رتل القوات الإفرنسية التي كانت تتقدم عبر مجرى وادي مهاجر - إلى الجنوب - حتى وصلت إلى قرية لشبور على أقدام مصب وادي زمورة يوم 28 تموز - يوليو - وقد تعرضت القوات الإفرنسية - في وادي الساطور بهذه المنطقة - طريق قافلة كبيرة للمقرانيين كانت متجهة من القلعة إلى جبال بوندة، محملة بما استطاعت أن تنقذه من الأمتعة والحبوب والحيوانات، بعد أن غزهها القوات الإفرنسية الأخرى يوم 22 من الشهر ذاته. بمساعدة ابن علي الشريف باشآغا شلاطة - ويظهر أن انسحاب المقرانيين من القلعة كان بأمر من بومزراق نفسه، الذي كان قد توجه إلى هناك بعد معركة تاخراط، غير أنه لم يكمل طريقه بعد أن علم بغزو الإفرنسيين للقلعة واحتلالها. وكان من ضمن من اعتقلهم القوات الإفرنسية في القلة، زوجة الباشآغا القراني وابنته وابنه بومزراق والشيخ جرابة ابن بودة الذي كان حارسا لأملاك عائلة المقراني. وعملت القوات الإفرنسية بعد ذلك على تدمير كل منازل المقرانيين والاستيلاء على كل
ما تحتويه من المتاع والأثاث ثم أحرقت القرية كلها، واستسلم أولاد حمادوش جميعا للإفرنسيين.
انسحب بو مزراق بعض الوقت إلى المسيلة بالحضنة، بعد معارك تاخراط وجبال بوندة والقلعة، ثم عاد مرة أخرى إلى منطقة مجانة وبني عباس، وجدد نشاطه الحربي ضد القوات الإفرنسية والقوات المتعاونة معها من الجزائريين. واستطاع يوم 26 آب - أغسطس - أن ينتزع من القوات الإفرنسية حوالي ثمانين بغلا في معركة بسهل مجانة، اتجه ببا إلى ونوغة، ليستغلها في وسائل النقل، وأشاع بين المواطنين هناك بأن الثورة مستمرة في جبال بو طالب والوادي الكبير وتبسة والصحراء وشرشال، وأن فرنسا عاجزة عن قمع الثورة، وقد كان لهذا الأسلوب دوره في رفع الروح المعنوية للمواطنين، واكتساب أنصار جدد. وتعرض الثوار يوم 9 أيلول -سبتمبر - لقافلة فرنسية بقرية عجيبة وقبوش، كانت متجهة إلى سور الغزلان بمغانم الحرب وضرائبها التي أخذت من سكان بني منصور وبني عباس. وهاجم بومزراق القوات الإفرنسية في سهل مجانة مرة أخرى، ونشط في تجنيد المواطنين ودعم الثورة بالمجاهدين من كل المنطقة الممتدة بين برج بني منصور وسور الغزلان. وكانت معركة أولاد سيدي إبراهيم بو بكر يوم 25 أيلول - سبتمبر - من أهم المعارك التي خاضها الثوار في هذه الفترة. ثم انتقل بومزراق إلى قلعة بني عباس يوم 30 آب - أغسطس - وكان الإفرنسيون قد انسحبوا منها، فعاد أولاد حمادوش إلى صفه، وقبلوا بالعمل معه. ولكن سكان (أغيل أعلى) و (بلعيال) و (بوجليل) رفضوا ذلك. واعترضوا طريقه بزعامة الصبايحي حميمي (الذي كان بومزراق قد أمره سابقا مدة من
الزمن مع الشيخ بشير بن كابة شيخ بوجليل) ولذلك هاجم بومزراق قرية أغيل أعلى يوم أول تشرين الأول أكتوبر - عقابا لأهلها. ووجه تهديده إلى بني عباس وسكان قرية بلعيال، غير أنه أدرك بأن هذه المنطقة قد باتت خارج قبضته، فغادر منطقة البيبان واتجه إلى جبل المعاضيد، حيث وصلها يوم 3 تشرين الأول - أكتوبر - وتسلم فيها رسالة من ابن عمه (السعيد بن بوداوود) ومن (أحمد باي بن الشيخ مسعود) فعلم بأن هناك ثلاثة أرتال إفرنسية تتجه إلى جبال بو طاب وبريكة لملاحقة الثوار ومحاصرتهم، بعد أن أخذ هؤلاء في مغادرة الشمال متجهين إلى الصحراء.
هنا قد يكون من المناسب التوقف قليلا، والعودة إلى جهد (السعيد بن بوداوود) الذي شارك بومزراق مصيره، وكان له دوره معه اعتبارا من هذه المرحلة.
كان السعيد بن بوداوود، بحسب مخطط المقراني، مكلفا بقيادة الثورة في جبال الحضنة وبوسعادة، فركز جهوده على إحكام الحصار على مدينة بوسعادة والمنطقة المحيطة بها. وأخذ في التردد باستمرار على منطقة ونوغة وجبال البيبان للاتصال بجماهير المواطنين وحثهم على حمل السلاح، والخضوع لتوجيهات بومزراق وسواه من قادة الثورة - المقرانيين - واهتم الإفرنسيون كثيرا بمتابعة نشاطاته وملاحقة أخباره عن طريق عملائهم الذين كان من أبرزهم:(الآغا بوزيد، والصخري بن بوضياف - قائد السوامة بمنطقة بوسعادة - والشلالي بن الدوسن - قائد السلامات).
انتقل (ابن بوداوود) إلى ونوغة للاتصال (ببومزراق) وغيره من قادة الثورة. ووصل إلى مجانة عبر جبال البيبان - ثم عاد إلى مدينة
المسيلة بعد معركة بو عساكر يوم 19 حزيران - يونيو - وبصحبته عدد من أفراد عائلة أولاد مقران الذين تجمعوا هناك رجالا ونساء وأطفالا، وأخذ من هناك يزود بومزراق بالفرنسان والجنود والمؤن. وشد قبضة الحصار على مدينة (بوسعادة) وهاجم أعوان الإفرنسيين في سيدي عيسى يوم 7 تموز - يوليو - والذين كانوا يستعدون لمهاجمته. وكاتب وجهاء المدية وبوغار بالتيطري محاولا استمالتهم، كما نشط دعاته في جمع الأنصار الجدد بقريتي قطيفة وسيدي بلخير. ولكي ينجح بو داوود في احتلال بوسعادة، قطع خط الهاتف الذي يربطها بالجلفة، وهاجم الإفرنسيين الموجودين في قرية العليق، وكرر هجماته على بوسعادة نفسها يومي 20 و21 تموز - يوليو - ثم عسكر في قصر الديس، وتجمع حوله ثوار المنطقة، واشتركوا معه في شن الهجوم الثالث الواسع على بو سعادة يوم 23 من الشهر ذاته - بأمر من بومزراق - واضطر الإفرنسيون أن ينجدوا أعوانهم وقواتهم المحاصرة بالمدينة، في حين انسحب ابن بوداوود وأتباعه إلى قرى أولاد جلال جنوب - شرق المدينة.
خاض الثوار المقرانيون عددا من المعارك بمنطقة بوسعادة في بداية شهر آب - أغسطس -، وامتد ميدان العمليات إلى (ملوزة). وتجمع الثوار بعد ذلك في (كاف العقاب) حيث اصطدموا بقوات الإفرنسيين، وخاضوا معها معركة كبيرة يوم 5 - آب - أغسطس - 1871 عرفت (بمعركة كاف العقاب). واتجه (ابن بوداوود) وأولاد مقران بعدها إلى أولاد حناش بالمعاضيد - إلى جوار آثار قلعة بني عباس - واتفقوا على مهاجمة مدينة المسيلة، لاعتراض القوات الإفرنسية. وكتب بو مزراق رسالة إلى جماعة مزيتة بالبيبان يعلمهم فيها بما اتفق عليه هو وكبار أهل الحضنة والسعيد بن داوود من مواصلة المعركة. وفي يوم 24 آب - أغسطس - اتجه بو مزراق وابن داوود وحمود
ابن بورنان إلى المسيلة، واشتبكوا مع القوات الإفرنسية في مجموعة من المعارك التي لم تكن نتائجها في مصلحة الثوار. فأقام ابن بوداوود معسكره في جنوب المسيلة بصحبة زعيم أولاد نجاح - الشيخ جنان بن دري - وانطلق للتنقل في المنطقة من أجل حشد المجاهدين وجمع المؤن والذخائر الحربية، واستمر في ذلك نحوا من نصف شهر عاد بعدها إلى المسيلة. أما بومزراق فقد اتجه إلى ونوغة لجمع الأنصار أيضا، ونشط حمود بن بورنان في منطقة مزيتة وبني منصور والصورة في أوائل أيلول - سبتمبر - ولم تطل إقامة ابن داوود في المسيلة، فقد عاد مسرعا إلى بلاد السوامع بالمعاضيد قرب قلعة بني حماد، بينما تمركز بومزراق في وراسن قرب أولاد خلوف بالبيبان.
اعترض ابن داوود طريق قافلة تموين فرنسية كانت في طريقها إلى المسيلة. وذلك في منطقة (بضاية العتروس) يوم (7) أيلول - سبتمبر - ثم انتقل بعدها إلى جهات ونوغة في منتصف الشهر بهدف حشد الأنصار والذخائر الحربية، وكلف عددا من المبعوثين بالتوجه إلى عدد من من المناطق للاضطلاع بتنفيذ المهمة ذاتها. وعاد هو بعد ذلك إلى المسيلة - عبر منطقة أولاد سيدي هجرس - فوصلها يوم 20 أيلول - سبتمبر -. وانصرف على الفور لوضع خطة العمل في جبال الحضنة، مع عدد من أبناء عمومته، واتفقوا على جمع المزيد من وسائط النقل، كالبغال والحمير والجمال، من أجل نقل أفراد عائلة أولاد مقران، وما بقي لهم من متاع، بعد أن ظهر تصميم الإفرنسيين على ملاحقتهم ومطاردة بومزراق - رأس الثورة بعد أخيه - ولم يتأخر بو مزراق عن الالتحاق بهم للاشتراك معهم في تدبير الأمور. وكان الاتفاق تاما بينهم على مغادرة الشمال والاتجاه إلى الجنوب بعد أن أخذ
الإفرنسيون في إحكام الحصار عليهم. فتجمعوا كلهم بجبال عياض وكيانة بالمعاضيد بما تبقى لهم من متاع وحبوب وحيوانات.
أخذ المقرانيون طريقهم صوب الجنوب، إلى أعماق الصحراء، يوم 8 تشرين الأول - أكتوبر -،وعندما وصلوا إلى (قبر السلوقي) بجوار قلعة بني حماد في سفح جبل الجفان بجبال عياض، باغتتهم القوات الإفرنسية، فخاضوا ضدها معركة ضارية (دعيت بمعركة قبر السلوقي). واستبسلوا في الدفاع عن حريمهم وشرفهم، وفقدوا أثناء المعركة معظم ما كان معهم من المتاع والحبوب والدواب والأغنام. وكانت هذه المعركة نهإية لقوة المقرانيين ونفوذهم في الشمال، وقررت مصيرهم النهائي. وأقنعتهم بالحاجة إلى الفرار بأنفسهم إلى خارج الوطن. فأسرعوا في الحال إلى مغادرة المكان، مخلفين وراءهم عددا من فرسان الحشم لحماية مؤخرتهم، وإشغال الإفرنسيين عن مطاردتهم. ومروا بالمسيلة، ووصلوا إلى سد الجير مساء يوم 9 تشرين الأول - أكتوبر - ووصلوا في اليوم التالي إلى (أوقلت البيضاء على شاطىء حوض الزاغر الشرقي). وكان في رأي بعضهم العودة لمجابهة القوات الإفرنسية في معارك أخرى، غير أن الأغلبية ومنهم بو مزراق، كانوا يريدون التوجه إلى تونس عبر تقرت وسوف ونفطة وتوزر.
انتقلت قافلة المقرانيين من شاطىء الزاغر إلى (وادي مجدل) وفشل الإفرنسيون في مطاردتهم على الرغم من كل الجهود التي
بذلوها، هم وعملأوهم من أمثال (بلقاسم بللحرش - باشآغا أولاد نايل) و (الصخري بن بوضياف - قائد السوامة). واخترق المقرانيون بسلام بلاد أولاد نايل وأولاد زكري خلال يومي 14 و15 تشرين
بوشوشة
ESQUER، G، ICONOGRAPHIE HISTORIQUE DE L'ALGERIE T. III PLANCHE N. 995
الأول - أكتوبر -. واعترض سبيلهم يوم 17 مخازنية أم العدم، غير أنهم تمكنوا من متابعة سيرهم إلى الجنوب حتى وصلوا (ورقلة) وحلوا بها يوم 20 تشرين الأول - أكتوبر - حيث استقبلهم بحفاوة بالغة كلا من (بوشوشة)(1) و (بن شهرة) و (الزبير ولد سيدي الشيخ) واتفق رأيهم على الهجرة إلى تونس، والأخذ باقتراح بومزراق.
تحركت معظم أرتال الإفرنسيين نحو الصحراء، واستعانت بأنصارها وأعوانها لمطاردة المقرانيين وعسكر هؤلاء في حاسي بوروبة مع ابن ناصر بن شهرة يوم 17 كانون الأول - ديسمبر - ومن هناك انتقلوا إلى (حاسي قدور) جنوبا، ثم إلى (حاسي تامزقيدة) حيث اشتركوا يوم 9 كانون الثاني - يناير - 1872 في مواجهة القوات الإفرنسية التي داهمت قافلة (بوشوشة)، واضطروا للتخلي عن معظم متاعهم وجمالهم المتعبة وقطعان مواشيهم حتى يستطيعوا النجاة بأنفسهم، ومع ذلك، أسر الإفرنسيون لهم شخصين هما: عبد العزيز
(1) كان (بوشوشة) لاجئا في عين صالح منذ أيار - مايو - سنة 1869، وقد استغل قيام الثورة، فزحف بأتباعه نحو الشمال، وهاجم في طريقه الشعانبة، المعارضين له في متليلي. وشجعته عائلة بوشمال (بتقرت) وبنو سيسين (بورقلة والرويسات) على مهاجة (تقرت وورقلة) وانتزاعهما من علي باي - الموالي للإفرنسيين في قاعدته سوف - كما وصلته رسائل من محيي الدين بن عبد القادر وابن ناصر بن شهرة يدعوانه للتوجه إلى الشمال، وفي يوم 5 آذار - مارس - سيطر على ((نقوسة وورقلة) بتأييد من المخادمة، وعاقب الميزابيين الذين لم يتحمسوا لسلطته وحركته. وقد عسكر المخادمة في قور بقرات شرق ورقلة، وخاصوا معارك ضد المخازنية الذي كان يقودهم الأخوان: نعمان بن ذباح وأخوه سليمان - بتأييد من الإفرنسيين، وعلي باي آغا توقرت وورقلة وفقدوا عددا من الرجال والجمال. وبذلك أصبحت منطقة الصحراء الشرقية أوائل عام 1871م مضطربة، لا كلام فيها إلا للأسلحة مع اختلاف الظروف والعوامل. (ثورة 1871 - الدكتور يحيى أبو عزيز - ص 193 و394 - 307).
ابن محمد - قاضي ساحل قبلي - ومحمد العربي بن حمودة - قاضي مجانة - أما بوشوشة فقد خسر كل زمالته خلال المطاردة، وكان تحت حوزته قبل ذلك آلاف القطعان والجمال والهوادج والزرابي والخدم.
انتقل المقرانيون من (قورد عيش) إلى (حاسي جريبية) ومن ورائهم القوات الإفرنسية تطاردهم، وعندما وصلوا إلى عين الطيبة، اصطدموا بمجموعة من القوم الذين كانوا يقومون بدورية استكشاف يوم 17 كانون الثاني - يناير - ومن هناك قادهم ابن ناصر بن شهرة إلى داخل الحدود التونسية. ولم يكن بومزراق حاضرا مههم معركة (عين الطيبة) لأنه تاه عن القافلة منذ يوم 14 كانون الثاني - يناير - هو وابن عمه مسعود بن عبد الرحمن عندما حاولا أن يقوما بعملية استطلاع لتأمين الطريق لها. وبقيا في الصحراء. وتعرضا للجوع والعطش طوال ستة أيام. وفي يوم 20 كانون الثاني - يناير - 1872، عثرت عليهما دورية استطلاع فرنسية، أمام بركة ماء قرب (واحة الرويسات) الواقعة على بعد كيلومترين اثنين من مدينة ورقلة، وهما في حالة إغماء، فحملتهما إلى المعسكر الإفرنسي بالرويسات حيث أسعفا حتى استفاقا وتم التعرف على (بو مزراق).
انطفأ لهيب الثورة - إلى حين - ومضت السلطة الاستعمارية الإفرنسية لتنفيذ مخططاتها، فأحالت زعماء الثورة إلى المحاكم أفرادا وجماعات. ووزعتهم إلى عدة مجموعات رئيسية في عدة محاضر وجلسات، أكبرها المحضر الذي أعد في محكمة الجزائر العاصمة ضد مائتين وثلاثة عشر متهما، بينهم أربعة وستون شخصا تمت محاكمتهم بصورة غيابية - وحول هذا المحضر إلى محكمة الجنايات بمدينة قسطينة يوم 21 أيلول - سبتمبر - 1872. وكان من بين المتهمين فيه الشيخ الحداد وابناه سي عزيز ومحمد، وتسعة عشر شخصا من المقرانيين
كلهم في حالة غياب ما عدا (بومزراق). وابن عمه (علي بن بوزيان) وابن عمه (مسعود بن عبد الرحمن) واستمرت المداولات حوالي ستة شهور.
وصدر الحكم على (بومزراق) بالإعدام يوم 27 آذار - مارس - 1873.
وصدر الحكم على الشيخ الحداد وابنيه يوم 19 نيسان - إبريل - 1873، فحكم على الشيخ الحداد - الذي كان يتجاوز الثمانين من عمره - بالسجن الانفرادي لمدة خمس سنوات، وعلى عزيز بالنفي العادي خارج البلاد، وعلى أخيه بالسجن الانفرادي عشر سنوات. ولم يعش الشيخ الحداد بعد صدور الحكم عليه. وروي عنه أنه قال عند سماعه للحكم (لقد حكمتم علي بخمس سنوات وأرادها الله خمسة أيام). وتوفي مساء الاثنين 29 نيسان - إبريل - 1873. وعندما وصلت هذه الأحكام إلى رئيس الجمهورية الإفرنسية للتصديق عليها، يوم 19 آب - أغسطس - 1873، تم تعديلها بالنفي للجميع في مدينة نومية عاصمة جزيرة (كاليدونيا الجديدة).وبلغ عدد المجاهدين الذين أبعدوا إلى المنفى في كاليدونيا (104) جزائريا.
أذنت السلطات الإفرنسية للجزائريين المنفيين (بكاليدونيا) بالعودة إلى الوطن في سنة 1882، غير أن بومزراق بقي في منفاه، وحاول إقناع بعض إخوانه بالبقاء معه، فرفضوا كما رفضت زوجاته الثلاث ذلك، وطلبن الطلاق منه. وبقي بالجزيرة ما يقرب من ربع قرن، إلى أن حصل له ابنه (الوانوغي بومزراق) مفتي الأصنام - إذن بالعودة إلى الجزائر، فوصلها في بداية شهر تموز - يوليو - 1904م. بعد غيبة واحد وثلاثين عاما. ووجد أن كل شيء قد تبدل وتغير. واستقر بالجزائر العاصمة ما يقرب من عام بعيدا عن ابنه بالأصنام
التي لم يستطع ان يتكيف مع مناخها وجوها، فقد رأى فيها جيلا من الأحفاد والأقارب لا يعرفهم إطلاقا، بعضهم تركهم صغارا، وبعضهم ولدوا بعد رحيله، وأصبحوا كلهم آباء لعائلات جديدة، ولم يعثر على أية زوجة من زوجاته. ولم يلبث أن توفي يوم 13 تموز - يوليو - 1905 عن ستة وستين عاما. ودفن بمقبرة الحامة التي تعرف اليوم باسم (مقبرة سيدي محمد).
أما (سي عزيز المقراني) فقد أقام بكاليدونيا وهو يتحرق شوقا للعودة إلى الوطن، حتى إذا ما أذنت السلطات الإفرنسية للجزائريين المنفيين بالعودة إلى الوطن ومنعته من ذلك سنة 1881، ركب سفينة إنكليزية بطريقة خفية حملته إلى سيدني باستراليا، وواصل رحلته منها إلى الديار المقدسة في الجزيرة العربية. وأمضى فترة متنقلا بين جدة ومكة المكرمة مع إرسال الرسائل إلى أهله وأقاربه في الجزائر. وفي الفترة الأخيرة من القرن التاسع عشر، حصل له أحد أبنائه على إذن بالعودة إلى الجزائر، فرجع عن طريق فرنسا، التي دست له السم فمات في مرسيليا، وتولى ابنه وأهله أمر نقل جثته إلى الوطن، وما أن علم شعب الجزائر حتى زحف إلى الميناء للمشاركة في دفن رفاته، وخافت السلطة الإفرنسية من وقوع صدام مع الجماهير الثائرة، فوجهت الباخرة إلى ميناء سكيكدة، حيث تم دفنه إلى جانب أبيه في مقبرة قسنطينة ، وأما أخوه محمد فقد بقي بجزيرة كاليدونيا يعيش حياة الهدوء والاستقرار ويظهر أنه توفي غريبا هناك بعد عام 1888.
ومضت السيوف المجاهدة في سبيل الله، إلى أغمادها، واحدا بعد الآخر ولكنها استطاعت شق الطريق أمام أجيال المجاهدين في سبيل الله، الذين توارثوا الشعلة - جيلا بعد جيل - حتى وصل جيل الأحفاد إلى هدف الأجداد.