الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
السياسات الاستعمارية
استسلم الأمير عبد القادر لفرنسا في سنة 1847، وتبعه باي قسنطينة بعد ثمانية أشهر، وظن الجنرال بيجو أن الأمور قد استقرت لفرنسا بصورة نهائية. فمضى يفرض الحكم العسكري في الأقاليم التي احتلتها القوات الإفرنسية. وبقيت مناطق القبائل الجبلية الممتدة بين سهل متوجة (متيجة) غربا، والقل شرقا وهي تنعم باستقلالها، وبعيدة عن الخضوع لسيطرة جيش الإحتلال. وأخذ المجاهدون في التوجه لهذه المناطق المستقلة ليجدوا فيها ملجأ وملاذا يحميهم من الخضوع (لأعداء الدين والوطن) أثناء ذلك، كانت الإدارة الإفرنسية العسكرية في الجزائر تتخبط باستمرار وهي في حالة من العحز عن تقديم الحلول المناسبة لما تجابهه من مشكلات ومصاعب، الأمر الذي عبر عنه أحد القادة الإفرنسيين في سنة 1851 بقوله: من سوء حظ مستعمرتنا - الجزائر - أنها تعرضت للتنظيم وإعادا التنظيم عشر مرات خلال فترة خمسة عشر عاما. وعلى الرغم من كل هذه التحولات المتتالية، فلا زال النظام يشكل المطلب الأول في طليعة الاحتياجات الرئيسية الكبرى للجزائر. وبات من المحال اليوم،
ضمان الاستقرار بدون إجراء تغييرات جديدة) (1).
استجابت حكومة الإمبراطور (نابليون الثالث) لمتطلبات التغيير، فعينت (الجنرال راندون)(2) حاكما عاما على الجزائر في كانون الأول - ديسمبر - 1851. وتقدم (راندون) بمشروع يربط فيه التشريع في الجزائر بهيئة مركزية، وعرض هذا المشروع على وزير الحربية (سانت أرنود) (3) في 14 كانون الثاني - يناير - 1852. وأدخل وزير الحربية تعديلات أعلنها في 26 نيسان - إبريل - فأصبح المشروع يتكون من 28 فقرة، وأهمها المادة الثامنة التي تعطي رئيس الجمهورية حق إصدار التشريعات التي لا تعرض على مجلس الشيوخ، وإخضاع المستعمرة الجزائرية لإدارة الإمبراطور مباشرة.
وعلى كل حال فقد رفض هذا المشروع يوم 7 تموز - يوليو - فتم وضع مشروع من 32 فقرة، يوم 13 تموز - يوليو - 1852 وعرض على مجلس الشيوخ للاطلاع عليه فقط، وقد تميز هذا المشروع بليبيراليته (تحرريته) وبمنح الأقاليم الجزائرية إدارة ذاتية (غير مركزية). ولكن (راندون) قيد هذا المشروع بأن فرض على حكام الأقاليم العودة إليه
(1) السياسات الاستعمارية في المغزب - شارل روبرت اغرون - من 47.
(2)
الجنرال راندون (RANDON CESAR ALEXANDRE MARECHAL DE FRANCE) من مواليد غرونوبل (1795 - 1871) برز اسمه في حروب الجزائر، وكان له دور أساسي في إخضاع مناطق القبائل الكبرى، وأصبح وزيرا للحربية من سنة 1815 حتى سنة 1867.
(3)
سانت أرنود (ماريشال فرنسا SAINT ARNAUD ARMAND LEROY) من مواليد فرنسا (1801 - 1854) وهو أحد المنظمين الأساسيين لانقلاب 2 كانون الأوله ديسمبر؛ انتصر على الروس في معركة ألما (1854) وهي المعركة التي اشتركت فيها القوات الإنكليزية أيضا.
في كل الأمور والالتزام بتعليماته التنفيذية. ثم استقال (سانت أرنود) في آذار - مارس - 1854 وخلفه على وزارة الحرب الماريشال (فايانت) الذي كان يتوقع أن يصبح حاكما عاما على الجزائر. فأخذ في الاستماع إلى وجهات نظر مرؤوسه من القادة (الجنرالات) في كافة المواضيع المتعلقة بإدارة الجزائر ومن هنا بدأ بالاصطدام مع (راندون) والتصدي لمشاريعه. وأخيرا، وعندما حاول (راندون) وضع موازنة مستقلة للجزائر، تدخل (فايانت). (1) وأحبط له مخططه، فما كان من راندون إلا أن أخذ بالاتصال بالإمبراطور نابليون مباشرة من أجل تنفيذ رغباته بإعادة تنظيم الجزائر. ومن أجل توسيع صلاحيات الحاكم العام للجزائر. وهذا، وبينما كان راندون يقدم مشروعه تحت عنوان مبسط:
(تحويل السلطات الإدارية المسندة حتى اليوم إلى وزير الحربية، ووضعها في قبضة الحاكم العام، كان فايانت يطرح مشروعه المضاد بالعبارات التالية: (لا يمكن للجزائر أن تكون إمبراطورية صغرى إلى جانب الإمبراطورية الإفرنسية
…
ولقد شعرت الحكومات في كافة العصور وفي كل البلاد بالحاجة لإجراء توازن مع السلطات التنفيذية لممثليها فيما وراء البحار وقد تم لها ذلك عن طريق إجراء رقابة فعالة ومركزية على تلك السلطات التنفيذية) (2) وأمام هذا التناقض والتضاد، قرر نابليون الثالث تعيين وزير في حكومته باسم (وزير الجزائر) وظيفته التنسيق الإداري بين الإدارة الجزائرية والحكومة الإفرنسية وتم تعيين الأمير نابليون لمنصب إدارة الجزائر في23 حزيران
(1) فايانت: (VAILLANT J.B. PHILIBERT) ماريشال فرنسا. ولد في ديجون (1790 - 1872) أصبح ماريشالا كبيرا في البلاط الإمبراطوري أيام نابليون الثالث، ثم وزيرا للحربية.
(2)
السياسات الاستعمارية في المغرب - شارل روبرت أغرون - ص 49.
- يونيو - 1858، غير أن هذا الأمير لم يتمكن من حل التناقضات القائمة بين هؤلاء المطالبين (بحكم مدني) وأولئك المطالبين (بحكم عسكري) فتم في21 تشرين الثاني - نوفمبر - 1858، تشكيل (هيئة استشارية عليا لشؤون الجزائر والمستعمرات). واستمر الأمير نابليون في عمله (وزيرا للجزائر والمستعمرات) مدة تسعة أشهر فقط، وجد نفسه في نهايتها عاجزا عن تحقيق أهدافه السياسية، فاستقال من منصبه وخلفه (شاملز لوبا)(1) الذي قام بتوسيع الحدود المحتلة، فزاد عدد المواطنين الخاضعين للاستعمار من (854،990) نسمة إلى مليون و (854،990) نسمة. واستعاض عن (المكاتب العسكرية العربية)(بالمكاتب المدنية العربية). كما عمل على إعادة تنظيم القيادات، واستبدال قادة بقادة. وكان ذلك كل ما فعله لتطوير نظام الإدارة في الجزائر الذي اعتبر إنتصارا للإدارة المدنية على الإدارة العسكرية. وتولى الماريشال راندون وزارة الحرب الإفرنسية في 5 أيار - مايو - 1859، فأخذ في العمل من أجل إعادة دور الإدارة العسكرية بحجة (الأوضاع الخاصة بالجزائر)؛ حتى إذا ما جاء يوم 24 تشرين الثاني - نوفمبر - 1860، ألغي منصب (وزير الجزائر)
(1) شاسلو لوبا: (CHASSELOUP - LAUBAT). لم تكن له قوة شعبية جماهيرية بين رجال الاستعمار في الجزائر الذين رفعوا عريضتين إلى الإمبراطور نابليون الثالث يطالبون بإعادة تعيين الأمير نابليون وزيرا للجزائر، غير أن شاسلو لوبا أصدر يوم 7 أيلول - سبتمبر - 1859 قرارا منع بموجبه رفع مثل هذه العرائض. كما منع إرسال البرقيات في هذا الموضوع ذاته. ثم لم يلبث أن أصدر ثلاث قرارات دعمت سلطة الرجال الاستعماريين. كان تاريخ القرار الأول 16 آب - أغسطس 1859 لتنظيم الجزائر، وقرار 11 كانون الثاني - يناير - 1860 لتنظيم إقليم وهران - وقرار 27 شباط - فبراير - 1860 لتنظيم إقليم قسنطينة.
وأعيد التنظيم العام للحكومة لمصلحة (الماريشال بيليسيه)(1) الذي أصبح حاكما للجزائر يعاونه جهاز إدارة مدني، مع نواب للحاكم العام في الإقاليم. وحصل (بيليسييه) على سلطات واسعة، بما في ذلك تنظيم موازنة مستقلة بالجزائر. على أن يكون اتصال الحاكم العام للجزائر بالإمبراطور نابليون الثالث اتصالا مباشرا. فنظم جهازا تشريعيا ومجلسا. استشاريا أعلى لمعاونة الحاكم العام للجرائر في إدارة الإقليم.
زاد من اضطراب الجرائر الأمر الذي دفع نابليون الثالث للقيام بزيارته الأولى للجزائر في الفترة من 3 أيار - مايو - وحتى 7 حزيران - يونيو 1865. وحاول خلال هذه الجولة معرفة المشكلات الاستعمارية على الطبيعة، وعندما عاد إلى فرنسا في 20 حزيران - يونيو - حاول بالتعاون مع (ماكماهون) وضع القوانين لجعل الجزائر جزءا من فرنسا بالإضافة إلى أمور تنظيمية أخرى (2) ومع (ماكماهون، أسسها وقواعدها غير أن الأمور على الساحة الجزائرية لم
(1) الماريشال بيليسييه: (PELISSIER AIMABLE JEAN JACQUES)
ماريشال فرنسا، ودوق مالا كوف (DUC DE MALAKOF) من مواليد ماروم في مقاطعة
السين السفلي (1794 - 1864) استولى على سيبا ستوبول سنة 1855 (أثناء حرب القرم) وأصبح سفيرا لفرنسا في لندن سنة 1858، وتم تعيينه سنة 1860 حاكما عاما على الجزائر.
(2)
ماكماهون: (MAC MAHON MARIE EDME PATRICE DE MAC)
ماريشال فرنسا، ودوق ماغينتا (DUC DE MAGENTA) من مواليد سولي (SULLY) مقاطعة السين واللوار (1808 - 1893) برز اسمه أثناء حرب القرم حيث استطاع احتلال مالاكوف، بمساعدة بيليسييه، وانتصر في معركة ماغنتا في إيطاليا، وأصبح حاكما على الجزائر من سنة 1864 حتى سنة 1870، هزمه البروسيون في معركة رايخهوفن:(REICHSHOFEEN) وأصيب في معركة ميدان (1870) بجراح. وعلى الرغم من كونه
ملكيا، فقد أصبح الرئيس الثاني للجمهورية الإفرنسية من سنة 1873 إلى سنة 1879.
تختلف باختلاف التشريعات أو تبديل الحكام والقادة. الأمر الذي أوصل الجزائر في النهاية إلى إعلان الثورة.
تثير مطالعة السطور السابقة دونما ريب مجموعة من التساؤلات عن وضع هذه الدولة التي امتلكت القوة الطاغية الوحشية، والتي أمكن لها بواسطتها الاستيلاء على الجزائر، ثم وقوف هذه الدولة عاجزة عن إدارة ما سيطرت عليه بالقوة. وتعبر ظاهرة الاضطراب المستمر، والتبديل المتتابع للأنظمة والقادة على مدى القصور الناجم بين القوة وبين القدرة على استخدام القوة بصورة صحيحة. وهو الأمر الذي أكدته مسيرة الأحداث بعد ذلك عندما اصطدمت القوة الإفرنسية، بقوة أكثر كفاءة منها، هي القوة البروسية، في ميدان (سيدان) سنة 1870، فسقطت القوة الإفرنسية ضحية تناقضاقها الذاتية. وفي الوقت ذاته، فإن بروز هذه التناقضات وظهورها، لم يكن في واقعه إلا نتيجة من نتائج ردود فعل مسلمي الجزائر، في مجابهتهم لقوة الاستعمار الوحشية ; وهنا أيضا وعلى الرغم من قصور الوسائط المادية، وعلى الرغم أيضا من عزلة مسرح العمليات، فقد استطاع المجاهدون في سبيل الله ممارسة دورهم في الدفاع عن ديار الإسلام. مما أوقع السلطة الاستعمارية في شباك تناقضاتها، وتأكدت مرة أخرى في التاريخ تلك الحقيقة الخالدة، وهي أنه من المحال قهر شعب مؤمن ومصمم على تحقيق أهدافه مهما بلغت به درجة الضعف، ومهما تعاظمت في مجابهته قوى الشر والعدوان.
المثير في الأمر هو أن تلك التناقضات كانت تعتمد باستمرار على اللعب (بورقة المواطنين الجزائريين)،و (المزاودة أو المناقصة على حقوقهم الإنسانية والدينية)، وعلى حقوقهم الطبيعية في (الأرض
والوطن). وهنا قد يكون من الضروري التعرض لبعض ما تم طرحه من مقولات أو بعض ما تم تنفيذه من ممارسات تؤكد على حل كل التناقضات في النهاية على حساب الجزائريين المسلمين.
لقد تصدى (راندون) طوال الفترة ما بين سنة 1854 وسنة 1858 لمقاومة عمليات استثارة المواطنين عن طريق الاستيلاء على أراضيهم وإقامة المستعمرات الإفرنسية فرقها: وجاء في رسالة (راندون) إلى قائد إقليم قسنطينة ما يلي: (إن عملية التهجير الجماعي للمواطنين هي عملية جائرة، علاوة على أنها عملية تتناقض مع السياسية التي يجب علينا تنفيذها. وأرى لزاما على أن أجعل هذه الفكرة مهيمنة على تفكير الوزير، والإلحاح في ذلك حتى يتم قبولها، ذلك لأنها تشتق وجودها من قوة الأشياء وطبيعتها)(1) غير أن (راندون) تعرض للضغوط التي ألزمته بتنفيذ السياسة الاستعمارية، مما دفعه إلى القول:(أرجو ألا نشعر بالندم في وقت لاحق لأننا لم نضمن للعرب حقوقهم في أرضهم التي يزرعونها ويعيشون عليها)(2).
صدر مرسوم 31 آب - أغسطس - 1858 بهدف إعادة ننظيم الإدارة في الجزائر، وتضمن التقرير الإيضاحي - التفسيري. لهذا المرسوم والذي تم إعلانه بوضوح تام (بأنه يجب على الحكومة من الآن فصاعدا، أن تجعل من الإستعمار والهجرة والاستيطان هدفا أساسيا لها، ومن أجل ذلك، يجب علينا إخماد المقاومة الصادرة عن شعب
(1) رسالة (راندون) في 21 آذار - مارس - 1855 محفوظات وزارة الحرب الفرنسية 264 و H. AG
(2)
السياسات الاستعمارية في المغرب. ص 48.
مسلح ويتمتع بالنشاط والحيوية. وهناك أمل في الواقع بأن يتم استخدام التمثيل الإداري، من أجل تهجير الشعب العربي، وتمزيق التلاحم القائم بين القبائل، ويجب العمل بدهيا من أجل إضعاف نفوذ الزعماء الكبار - البارزين - للوصول إلى درجة القضاء على هذا النفوذ تماما) (1). و (أن علينا تحرير الإفراد من سيطرة زعمائهم، وخلق ملكيات فردية متنافسة لدى الجزائريين. ويجب أن تتم عملية إقامة الملكيات الفردية عند العرب، عن طريق استيلاء الحكومة على مساحات واسعة من الأرض تعمل الدولة بعدها على طرح هذه الأرض للبيع بصورة مباشرة)(2) وعلى كل حال، وإذا لم يتوافر لوزير الجزائر في الحكومة الإمبراطورية ما يكفيه من الوقت لتنفيذ هذا الهدف، فقد أفاد المستعمرون من الفرصة التي أتيحت لهم بموجب مرسوم 16 شباط - فبراير - 1859، لينطلقوا في تحركهم عبر المناطق العسكرية، لتوسيع حدود ممتلكاتهم.
وعملت السلطات على إظهار حركة نشطة جديدة لدفع القبائل العربية وإبعادها عن أراصيها. مع تمليك بعض الأفراد ملكيات صغرى. وأدرك المسلمون بسرعة مضمون هذه السياسة الجديدة التي تعرض لها تقرير فرنسي بما يلي: (تهيمن على المسلمين في هذه الأيام فكرة ثابتة وقوية. وتتلخص بأن الإفرنسيين يريدون طردهم من بلادهم، وإبعادهم عن أرض أجدادهم. وتحويلهم إلى
أقنان - عبيد - يعملون في خدمة المستعمرين. وقد عمل المستعمرون بممارساتهم على تعميق هذه الفكرة وتثبيتها، ولم يحاول هؤلاء المستعمرون إخفاء أهدافهم أو التمويه على آمالهم. ويقف
(1) تعليمات الحكومة الإفرنسية بتاريخ 9 أيلول - سبتمبر - 1858.
(2)
السياسات الاستعمارية في المغرب - ص 52 و 53 و55.
الأوروبيون اليوم على حافة مرحلة ستقودهم إلى معاملة الوطنيين الجزائريين مثل معاملة المهاجرين للهنود الحمر في أمريكا
الشمالية) (1) وتجدر الإشارة هنا إلى تعميم صادر عن الإدارة الإفرنسية في الجزائر بتاريخ 7 أيلول - سبتمبر - 1859، جاء فيه ما يلي:(من الضروري الحرص على أن تكون الأراضي المخصصة لإقامة القبائل العربية، لا تزيد بحال من الأحوال عن احتياجاتهم، وأن تكون متناسبة مع عدد أفراد هذه القبائل. ويجب بذل العناية الممكنة لتمييز العائلات الأجنبية التي يمكن أن توجد مؤقتا في مناطق هذه القبائل. هذا وقد تم تكوين مراكز للمستعمرات في الفترة من سنة 1858 الى سنة 1860 بلغ عددها 27 قرية. تم منحها مجانا للمهاجرين الأوروبيين وبدون منح أي تعويض للمواطنين. أما نفقات هذه المستوطنات وتكاليف إقامتها فقد تحملها المواطنون أيضا عن طريق الموازنة الخاصة التي تم بموجبها فرض سنتيم إضافي على الضرائب التي يدفعها العرب. وهي الضرائب التي فرضها راندون لمصلحة المهاجرين المستوطنين حصرا).
لقد كان الصراع حادا بين المدنيين والعسكريين على إدارة الحكم في الجزائر، المستعمرة، وفقا لما سبقت الإشارة إليه، وكان كل طرف من الطرفين المتصارعين يتهم الآخر بالقصور الأمر الذي تبرزه المقولة التالية عن مصدر فرنسي: (ليس من واجبنا هنا الدخول في تفاصيل ما قام به المدنيون تجاه المواطنين الجزائريين؛ وتكفي الإشارة إلى عزل زعماء المسلمين وقضاتهم المرة بعد المرة، وحشد القبائل في معسكرات
(1) تقرير من محفوظات وزارة الحرب الإفرنسية - تموز - يوليو - 1860 (171 AG. H)
.
الجنود، وطرد المواطنين من بعض المناطق، مثيرين بذلك بحسب الشواهد الموثوقة حالة من الذعر بين المواطنين الذين ارتفع لديهم الحقد حتى بلغ ذروته. وقد عمل بعض العسكريين على قرع الأجراس، محذرين من الخطر الناجم عن قصور المدنيين إداريا وعدم، كفاءتهم. غير أن قادة الجيش - الضباط - يبتعدون بأنفسهم أيضا عن المسلمين، ويبعدون المسلمين عن مناطقهم. ويحرمونهم من رفع شكاواهم أو التذمر أمام محاكمنا، ولا يتورعون عن إزدراء زعماء المسلمين وتحقيرهم بصورة خطيرة).
وكانت الحكومة الإفرنسية تطالب رجال إدارتها في الجزائر بالاعتدال، وهو ما أكده (راندون) الذي أوضح هدف الاعتدال بقوله:(إن تكتيك الاعتدال هو أمر ضروري لسحق الأفعى أو خنقها) وكان المدنيون يهاجمون العسكريين: (بأنهم يعملون على إشعال نار الثورة، وإثارة الاضطراب، حتى يطيلوا أمد العداء ويزيدوا من عمقه). أما الإمبراطور نابليون، فكان يوصي حاكم الجزائر بقوله:(عليكم إجراء التغييرات بهدوء، ودونما أي ضجيج قدر المستطاع)(1) وعندما انفجرت الحرب الأهلية في لبنان والشام، إنعكست على صفحة الجزائر، حيث صرح حاكم الجزائر يوم 19 أيلول - سبتمبر - 1860 بما يلي:
(يتلخص واجبنا الأول بتأمين السعادة لثلاثة ملايين عربي، وضعتهم قوة السلاح تحت هيمنتنا
…
إن واجبنا هو الارتفاع بمستوى العرب إلى مرتبة الرجال الأحرار. ونشر التعليم فيما بينهم
(1) رسالة من محفوظات وزارة الحرب الإفرنسية تاريخها 14 تشرين الثاني - نوفمبر - 1860.
مع احترام دينهم، وتحسين مستواهم المعيشي - الحياتي - عن طريق استخراج الكنوز والثروات الباطنية التي أودتها العناية الإلهية في جوف الأرض. تلك هي مهمتنا التي سنضطلع بها) (1).
ويمكن أن يضاف إلى ذلك ما قاله نابليون الثالث عند زيارته للجزائر، وحديثه إلى جماهير المسلمين بقوله:(إنكم تعرفون أهدافي وما أنوي فعله؛ إنني أؤكد تأكيدا جازما حقكم في ملكيتكم للأرض التي تشغلونها. وقد عملت على معاملة رؤسائكم بشرف، واحترمت دينكم. وأريد زيادة رفاهكم وثروتكم، كما أريد زيادة اشتراككم في إدارة البلاد أكثر فأكثر لما فيه الخير للحضارة)(2).
ولكن، وبينما كان نابليون الثالث يطرح أفكاره ووجهات نظره بإدارة الجزائر، كان حاكم الجزائر يتابع أساليبه (لتدمير الأرستقراطية العربية - الإسلامية مصمما على عدم قبول أي إصلاح لأحوال العرب، وإخضاعهم لنظام إقطاعي لا يتعارض مع مصالح فرنسا) وأنه من واجب فرنسا العمل على (صهر القبائل، وتدمير الأرستقراطية العربية بحيث يمكن الوصول بالجزائر إلى إلغاء القضاء الإسلامي والتشريع الإسلامي وتحييد العرب)(3).
وهنا قد يكون من المناسب تجاوز كلمة (الأرستقراطية العربية) وفقا لمضمونها العلمي، والأخذ بما هو مقصود منها عمليا، من قضاء على القيادات العربية والإسلامية وترك الشعب محروما من القيادات
(1) السياسات الإستعمارية في المغرب ص 57.
(2)
خطاب نابليون الثالث في الجزائر يوم 6 أيار - مايو - 1865.
(3)
السياسات الاستعمارية في المغرب. ص 60 و69.