الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
العطف
هذا هو النوع الثالث من أنواع التابع، وهو العطف، إلا أن العطف على وجهين، عطف بيان وعطف نسق. فلذك قسمه أولا فقال:
العطف إما ذو بيان أو نسق
والغرض الآن بيان ما سبق
وذكره كل قسم وأحكامه بعد ما أشعر بأنه يبتدئ بذكر عطف البيان بقوله: "والغرض الآن بيان ما سبق" والذي سبق في ذكره هو عطف البيان، فأخذ أولا في التعريف به فقال:
فذو البيان تابع شبه الصفة
حقيقة القصد به منكشفة
فقوله: "تابع" هو الجنس الأقرب. وقوله: "شبه الصفة" يريد أنه جار مجراها في بيان متبوعه / وإظهار، وكونه يتم به فهمه، ويتضح معناه.
أو هو جار مجراها فيما هو أعم من هذا، لكن الأول أولى، لقوله مفسرا لذلك:"حقيقة القصد به منكشفة".
فشبه الصفة هو كونه مبينا لمتبوعه، وذلك أنك إذا قلت: قام زيد، فأشكل على السامع أي الزيدين هو؟ فقلت: أخوك - تبين (زيد) من هو، ووضح أمره، كما لو كان طويلا فقلت: قام زيد الطويل، أو خياطا فقلت: قام زيد الخياط، فأشبه الصفة من هذا الوجه.
وخرج له بذلك النعت، وعطف النسق، والبدل.
أما النعت فجَعله مشبَّها به، والمشبَّه به لا يكون هو نفسَ المشبَّه، وبذلك ظهر أن عطف البيان من حقيقته أن يكون جامدا أو بمنزلته، لأن من حقيقة النعت أن يكون مشتقًا أو بمنزلته. وكلا الموضعين خاصٌ بموضعه، فلا يمكن أن يَشْرَك عطفُ البيان النعتَ في الاشتقاق، لأنه إن شاركه صار نعتا حقيقة.
وأما خروج العطف النَّسَقي فلبُعده عن شَبَه الصفة في كونه لا يُبَيَّن ولا يُوَضَّح، ولأنه قد جعله قسيما له في قوله:"إما ذُو بَيَانٍ أو نَسَق" وقسم الشيء لا يكون نفسَ الشىِء.
وأما خروج البدل فلأن البدل هو المقصود بالحكم على حسَب الاستقلال، ولذلك كان على تقدير تكرار العامل، بخلاف عطف البيان فإن متبوعه هو المقصود بالحكم، وإنما أتى بالعطف زيادةَ بيانٍ له. وبهذا المعنى أشبه النعت؛ إذ كان النعت غير مقصود لنفسه، وإنما جيء به للأوَّل، والأول هو المقصود بالحكم، فخرج البدل بذلك.
فإن قلت: هذا مشكل، فإن عطف البيان - حيث كان - يجوز فه البدل إلا في الموضعين المذكورين، وذلك يدل على أن المقصود فيهما واحد، ألا ترى أنك إذا قلت: قام زيدٌ أخوك، فـ (أخوك) يُعرب عطفَ بيان لأنه مبيَّن، ويُعرب بدلا، وهو مبيُن أيضا. فهل اختلف المعنى باختلاف الإعرابين؟ بل هذا الفَرْق الذي فَرَق به بينهما غيُر بَيَّن.
فالجواب أن الفرق صحيح، وإنما جاز الإعرابان على مقصدين.
فإن قصدتَ بالحكم الأولَ، وجعلت الثانىَ بيانًا له بحيث لا يُستغنى عن الأول فهو عطفُ البيان، وهو معنى شَبَهه بالنعت.
(1) سيأتي كلام الشارح عليها بالتفصيل.
وإن قصدتَ بالحكم الثانيَ، وجعلت الأولَ كالتوطئة فهو البدل، وهذا المعنى ليس النعت، فليس الإعرابان واردَيْن على قَصْد واحد.
والدليل على ذلك خروجُ المسألتين المذكورتين بعدُ عن احتمال البدل، وهما: يا رجلُ زيداً ومررت بالرجلِ الضاربِ زيدٍ، على ما سيبيَّن إن شاء الله؛ إذ كانت هاتان المسألتان لا يُتَصور فيهما إلا أحدُ القَصْدين، وهو قصدُ كون الثاني بياناً للأول، نعم لا يُنْكَر أن يكون البدل يقع بيانا، لأنه إنما قُصِد، وصُرِف القُصد عن الأول إليه لأنه أبْيَنُ من الأول. وهذا ظاهر، وقوله:" حقيقةُ / القَصْد به مُنْكَشِفَة" تفسيرٌ لما أراده بقوله: " شِبْهُ الصفة" إذا كان أصل الصفة أن تأتي للبيان والكشف عن مراد المتكلم بالموصوف، فكذلك عطف البيان كما تقدم.
لكنه يُعترض على هذا التفسير بدخول التوكيد، إذ يَصدق عليه أنه تابع يُشبه الصفة في أنه مبين لقصد المتكلم، لأنك إذا قلت: قَدِمَ الأميرُ احتَمل أن يكون القصد: قَدِمَ حَشَمُه، أو خَدَمُه، أو رسولهُ. وكذلك إذا قلت: قام القومُ- احتمل أن يكون القائم بعضَهم لا جميعَهم، فلم يتبيَّن إذاً قصدُ المتكلم من إرادة مقتضى اللفظ.
فلما قلت: قدم الأميرُ نفسُه، أو قام القومُ كلُّهم- ارتفع ذلك الاحتمال، وصارت حقيقةُ القصد بالتوكيد منكشفِة، كما تقدم في بابه، فدخل التوكيد إذاً في هذا التعريف، فصار غيرَ معرف لكونه غيرَ مانع، مع أنه لو لم يَزد هذه الزيادة لكفى قوله:" شِبْهُ الصفة" على إبهامٍ مَا، وهو أحسنُ من زيادةٍ مُخِلَّة.
والعذر عنه أنه لما قال: «شِبْه الصفة» كان هذا التعريف غير تام، لأن شَبَه الصفة يقع من وجوهٍ عِدَّة، منها الاشتقاق وغيره، فلو اقتصَر على ذلك لم يكن فيه بيانُ أنه يشبهها من جهة دون أخرى، ولا تعيَّنت جهةُ الشَبَه، فبين بقوله:«حقيقةُ القصدِ به مُنْكَشفِة» ما أراد بقوله «شِبْه الصفة»
وقد مَرَّ في «الصفة» أنه يبين ما سبَق بوَسْمه، فبيَانُه من جهة تعيين المتبوع وإيضاحه، حتى لا يختلط بغيره كما تقدم.
فـ (عطف البيان) مبين ذلك البيانَ المعلوم، والتوكيد ليس كذلك، وإنما بَيانُه على وجه آخر، وهو إبراز جهة الحقيقة عن جهة المجاز في المتبوع الذى يبين معناه.
فإذا قلت: (جاء الأمير) فهو محتاج إلى البيان من الجهتين:
إحداهما من جهة تعيين مدلوله من بين سائر الأمراء، والنعت هو المبين لهذا المعنى وعطفُ البيان، فتقول جاء الأميرُ أبو عبدِ الله، أو جاء الأميرُ الفاضلُ ولا يُحتاج هنا إلى التوكيد، إذ لا يؤكَّد إلا بعد معرفته.
والثانية من جهة كونه نسبة المجيء إليه حقيقة أو مجازا، إذ يمكن أن يريد المتكلم: جاء أمرُه، أو جاء غلامُه، أو نحو ذلك، حتى تقول: نفسُه أو عينُه.
والنعت وعطف البيان غير داخلين هنا، لأن مدلول لفظ (الأمير) معروف. وكذلك إذا قلت: قام القومُ كلُّهم.
فقد ظهر معنى قوله: «حقيقةُ القصدِ به منكشفة» حين كان بيانا لقوله: «شِبْه الصفة» وبَانَ أن التوكيد غيرُ وارد.
ويمكن أن يكون قوله: «حقيقةُ القصدِ به منكشفة» يَعني به أن عطف البيان بين ظاهر من إطلاق الاسم عليه، لا يَحتاج إلى تعريف، لأنه إنما سمي
عطفَ بيانٍ لكونه مَسُوقا لبيان الأول وإيضاحه فهذا المعنى قد فُهم من نفس / التسمية، ويكون هذا القول اعتذارا عن استغنائه في تعريفه بقوله:«تابعٌ شِبْهُ الصفة» فكأنه يقول: عطف البيان هو التابع الشبيه بالصفة، وحقيقةُ القصد به تُغْنى عن تعريفه لبيانه. وعلى هذا لا يبقى في كلامه إيهام، ولا يَدخل له التوكيد أيضا.
وبهذا التعريف يظهر أن تابع اسم الإشارة، إذا كان جامدا، عطفُ بيانٍ لا نعت، وهو رأيه في «التسهيل» أيضا.
قال في «الشرح» : وأكثر المتأخرين يقلد بعضُهم بعضا في أنه نعت، ودعاهم إلى ذلك اعتقادهم أن عطف البيان لا يكون متبوعه أخصَّ منه. قال: وهو غير صحيح، فإن عطف البيان يُقصد به في الجوامد، من تكميل المتبوع، ما يُقصد بالنعت في المشتق وما جرى مجراه، فلا يَمتنع أن يكون متبوعُ عطفِ البيان أخصَّ منه، كما لا يمتنع أن يكون المنعوت أخصَّ من النعت. قال: وقد هُدِي أبو محمد بن السيد إلى الحق في هذه المسألة، فجعل ما تبع اسم الإشارة من (الرَّجُل) ونحوه عطفَ بيان. وكذلك فعل ابنُ جنى، وحكاه أبو علي الشلَّوْبِين.
وهكذا ينبغي، لأن اسم الجنس لا يُراد به -وهو تابع لاسم الإشارة- إلا ما يراد به وهو غيرُ تابع له، فلو كان نعتاً حين يَتبع اسم الإشارة نحو: رأيتُ هذا الرجلَ لكان نعتا حين يَتبع غيره نحو رأيتُ شخصاً رجلاً، وأنت لا تريد إلا كونَه رجلاً لا امرأة. ولا خلاف في امتناع كونه في هذه الصورة نعتاً، فيجب ألا يكون في غيرها نعتا، وإلا لزم عدم النظير، بجعل اسمٍ واحد نعتاً لبعض الأسماء دون بعض مع عدم اختلاف المعنى.
هذا ما احتج به، وهو لَعَمْرى ظاهر. وإنما تَعَلَّق من قال: إنه نعت بظاهر كلام سيبويه في أبواب النداء، حيث حَكى عن الخليل أن (هذا الرَّجُلُ، ويَا أيُّها الرَّجُلُ) وقع (الرَّجُلُ) فيه وصفا.
والأولى عطفُ البيان، لأن الجامد لا يقع في اصطلاحهم وصفا. وهذا جامد فلا يقع وصفا.
ولعل الخليل وسيبويه أطلقا عليه لفظ الوصف مجازا، كما يُطلق على التوكيد لفظ الوصف أيضا. والله أعلم.
وقد وقع للناظم في باب «النداء» أن (الرَّجل) هنا صفةٌ لا عطف بيان، حيث قال:«وأيُّها مَصْحُوبَ أَلْ بَعْدُ صِفَة» ثم قال بعد ذلك: «وذو إشَارَةٍ كأي في الصفة» فنَصَّ كما ترى على أن ذا الألف واللام في الموضعين صفة مطلقا، من غير فرق بين كونه جامدا أو مشتقا، وهو راجع إلى مذهب غيره، فَبيْن هذا الظاهر وبين ما نَصَّ عليه في باب «النداء» تعارض، سنتكلم عليه هنالك إن شاء الله. ثم أخذ في بيان أحكام العطف، ووجهِ التبعيَّة فقال:
فَأَوْلِيَنْهُ مِنْ وِفَاقِ الأولِ
مَا مِنْ وِفَاقِ الأولِ النَّعتُ وَلِى
فَفْد يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ
كما يَكُونَانِ مُعَّرفَيْنِ
«أَوْلِيَنْهُ» أمرٌ من أَوْلَيْتُه كذا، إذا أعطيتَه إياه، وأصله من: أوليتُه الشئَ إذا أدنيتَه منه. يريد أنك / تُعطيه من موافقة المعطوف مثل مَا أعطيتَ النعت من موافقة المنعوت.
ولما كان قد تقرر في النعت أنه يوافق المنعوت في التعريف والتنكير، والإفراد والتثثنية والجمع، والتذكير والتأنيث، فكذلك عطفُ البيان لا بد فيه من موافقة المعطوف عليه في هذه الوجوه كلها، ولذلك أكد هذا المعنى بقوله:
فَقد يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ
كما يَكُونَانِ مُعَرفَيْنِ
فتقول: مررت بأخيك زيدٍ، وبأخوَيْكَ الزيدَيْن، وبإخوتك الزيدِين، وبأختك هِنْدٍ وبأختَيْكَ الهندَيْنِ وبأخواتك الهِنْداتِ.
ومررت برجلٍ أخٍ لك، وبرجالٍ، إخوةٍ لكَ، وكذلك في التأنيث.
وفي هذا الكلام تنبيهٌ على الخلاف في موضعين:
أحدهما الموافقةُ في التعريف والتنكير، فإنه نُقل عن الفارسي إجازةُ عطف النكرة على المعرفة، وبالعكس، وجَعل من ذلك قول الله تعالى:{فِيهِ آيَاتٌ بَيَّنَاتٌ مَقَامُ إبْرَاهِيمَ} فأجاز فيه البدلَ والعطفَ.
ووجه ذلك أن العطف شبيه بالبدل، إذ لا فرق بينهما إلا في نِيَّة تكرار العامل، والبدل يجوز فيه التخالف، بأن تُبدل النكرة من المعرفة، والعكس، فكذلك العطف.
وهذا معارَض بشَبَهه بالنعت، إذ لا فرق بينهما إلا في الاشتقاق وعدمه. ويَزيد العطفُ مع النعت بأن كل واحد منهما منزَّل من المتبوع منزلة الشيء الواحد، ألا ترى أن: زَيْدًا الأحمرَ عند من لا يعرفه بمنزلة (زَيْدٍ) وحدَه عند من يعرفه.
وأما البدل مع المبدل منه كالشيء الواحد باتفاق. فهذه العلة أوجبت في النعت مع المنعوت الاتفاقَ في التعريف والتنكير وغيرهما، كما مر ذكره، وأوجبت في البدل جوازَ الاختلاف.
وأيضا فيلزم من هذا المذهب مخالفةُ الإجماع، إذ قد حَكى المؤلف الإجماعَ على خلاف ما قال. وفي مخالفة إجماع العلماء ما عرفتَ، فالصحيح ما ذهب إليه الناظم.
والموضع الثاني صلاحيةُ عطف البيان في النكرات فإن من قَصر ذلك على المعارف، فَمنع أن يقال: مررتُ برجلٍ أخٍ لك، على العطف. وهذا المذهب يُنقل عن أكثر النحويين. ونَقل المؤلف عن الشَّلَوْبين أن هذا مذهب البصريين. ولم يرتضه الناظم، بل نصَّ على مخالفته بأنه مرجوح من جهة القياس والسماع.
أما القياس فإن الحاجة إليه في النكرة أشدُّ منها في المعرفة، لأن النكرة يلزمها الإبهامُ بحق الأصل، فهى أحوجُ إلى ما يبيَّنها من المعرفة، فتخصيصُ المعرفة بالبيان خلاف مقتضى القياس.
وأيضاً فقد تقدم أن العطف كالنعت، وليس بينهما إلا الجمود والاشتقاق، والنعتُ في النكرة سائغ اتفاقا، فكذلك ينبغي في العطف.
وأما السماع من القرآن الكريم: {يُوقَدُ / مِنْ شَجَرةٍ مُبَاركَةٍ زَيْتُونَةٍ} فالظاهر في «زَيْتُونَة» عطفُ البيان، وهو اختيار الفارسي.
وكذلك قوله تعالى: {ويُسْقَى مِنْ مَاءٍ صَدِيدٍ} وفي قراءة] غير [نافع وابن عامر {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكَيِن} وفي الموضع الآخر {وعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيةٌ طَعامُ مَسَاكيِنَ} في قراءة غير نافع وابن عامر.
وقال ذو الرمة:
لَمْيَاءُ في شَفَتَيْها حُوَّةٌ لَعَسٌ
وفي اللثاتِ وفي أَنْيابِها شَنَبُ
وقد أشعر الناظم بوجه القياس لقوله: «كَمَا يَكُونَانِ مُعَرَّفَيْنِ» أي أن المعرفة والنكرة في الاحتياج إلى البيان متساويان، وهو مَقْصد حسَن، والتشبيه للتنظير.
فإن قيل: لِمَ أتى الناظم بالشطرين، وهما قوله:«فَقَدْ يَكُونَانِ مُنَكَّرَيْنِ» إلى آخره.
مع أنه قد حصل ذلك المعنى في «العَقْد» قبله حين قال: «فأولينه مِنْ وِفَاقِ الأوَّلِ كذا» فالظاهر أن هذا فضلٌ لا زيادةَ فائدةٍ فيه.
فالجواب أنه أخرجه إلى التنصيص عليه، تنكيتاً على من ذهب إلى منع عطف النكرة.
فإن قلت: فإذا كان كذلك فكان ينبغى أن يَفعل مثل ذلك في المذهب الآخر المخالِف له في منع المخالفة في التعريف والتنكير، وهو المنقول عن الفارسي، فِلَم أغفل ذكر ذلك؟
فالجواب أنه لم ينكت على مذهب الفارسي لأمرين، أحدهما أنه على مذهب شاذ ومَنْحًى ضعيف، لم يقل به إلا الفارسيُّ، على ما حكاه المؤلف، فلم يَعتبر به
خصوصاً، ولكنه اكتفي فيه بقوله:«فأولينه» إلى آخره، بخلاف المسألة الأخرى، فإن الخلاف فيها منقول عن البصريين حسبما نقله الشَّلَوْبِينِ، وأسنده تلميذه الأبَّذِى إلى أكثر النحويين، فلذلك اعتَنى بالتنبيه عليه خوفاً أن يُتَوَهَّم أن مذهبه مذهب البصريين، فيُعترض عليه في «العَقْد» الذى عقده بقوله:«فأولينه مِنْ وِفَاقِ الأوَّلِ» وليس كذلك في إهمال التنبيه على خلاف الفارسي.
والثاني أن المؤلف ارْتَاب في هذا النقل عن الفارسي وقال: إنه لم يجده من غير جهة الشَّلَوْبِينِ، ولا يقول المؤلف هذا إلا بعد شدة البحث عن صحته، وذلك مَقامُ الوقوف والارتياب مع ما قام له من الدليل على صحة قول الناس، فلذلك زاد الشطرَيْن تأكيداً في مخالفة الناس، ولم يَزد شيئا في مخالفة الفارسي. والله أعلم.
و«ولى» من قوله: «مَا مِنْ وِفَاقِ الأولِ النَّعتُ وَلِى» مطاوع (أوليته) و «ما» في موضع نصب (أَوْلِ) على المفعول الثاني، وهي موصولة، وصلت بالجملة الاسمية التي هي «النعتُ وَلِى» و «مِنْ وِفَاقِ» متعلق بـ (وَلِىَ) أى: ما النعتُ وَلِىَ من وِفَاق الأول. و «الأَوَّل» في الشطر السابق واقع على المعطوف عليه. وفي الثاني على المنعوت.
ولَمَّا لم يكن عطف البيان متعينا في أكثر المواضع، وإنما يتعين في بعضها أَخذ يبيين مواضع التعيين فقال:
وصَالِحًا لبَدَلِيَّةٍ يُرَى
في غَيْرِ نَحْوِ يَا غُلامُ يَعْمُرَا
ونَحْوِ بِشْرٍ تَابعِ البَكْرى
ولَيْسَ أَنْ يُبْدَلَ بالمرْضِى
«صالحًا» حال من ضمير «يرى» وهو عائد على «عطف البيان»
ويَعنى أن عطف البيان، حيثما وقع صالحٌ لأن يُعرب بدلا، فإنك إذا قلت: قام أبو عبد الله زيدٌ- يمكن فيه عطفُ البيان، ويمكن فيه البدلُ، ولكن كل واحد منهما مبنى على قَصْده، إذ ليسا بواردَيْنِ على قصْد واحد حسبما تقدم ذكره.
وكذلك: هذا أبو عبد الله قُفَّةُ- يَحتمل البدل والعطف، فكما يصلح أن يكون الثاني بياناً للأول، والأول هو المقصود، كذلك يصلح أن يكون هو المقصود بالحكم دون الأول، إلا في موضعين، فإن العطف فيهما متعين، ولا يجوز البدل.
أحدهما باب «النداء» نحو: يا رجلُ زيداً بنصب (زيد) فإن البدل ههنا ممتنع، إذ كان على تقدير تكرير العامل، فلم يصح فيه إلا ما يصلح فيه لو كان مباشَراً بالنداء، ولو كان مباشرا به لم يكن فيه إلا البناء فتقول: يا رجلُ زيدُ، لأنه على تقدير: يا زيدُ.
وإلى هذا أشار الناظم بقوله: «في غيرِ نَحْو يا غُلَامُ يَعْمُرا» ويَعْمُر: اسمٌ عَلَمٌ للغلام.
وكذلك إذا رفعتَ (زيداً) فقلت: يا غلامُ زيدٌ، يا غلامُ يعمرُ- لا يجوز فيه إلا عطف البيان أيضا، فالنصب بالحمل على موضع المنادى، والرفع بالحمل على لفظه.
وهكذا الحكم إذا المنادى منصوبا لكونه مضافا أو ممطولا، و (زيد) منصوب، ويا أخانا زيدا لا يجوز فيه إلا العطف، إذ لو كان بدلا لوجب بناؤه على الضم.
وجميع هذا داخل تحت إشارته بالمثال، بخلاف ما إذا قلت: يا زيد أبا عبدالله، فإن التابع هنا يحتمل العطف والبدل، وكذلك يا أخانا أبا عبدالله.
والذي يضبط لك هذا في المثال كون التابع فيه مفردا، وهو (يعمر) وقد بين ذلك في «باب النداء» وإنما هذه إشارة إلى ما هنالك.
والموضع الثاني باب «اسم الفاعل» إذا كان المعطوف خاليا من الألف واللام، والمتبوع مقرون بها، وهو مضاف إلى صفة مقرونه أيضا بها، نحو: مررت بالضارب الرجل زيد، فإن «زيدا» هنا، وهو مجرور، لا يصح فيه البدل، وإنما يعرب عطف بيان خاصة.
والعلة فيه ما ذكر من أن البدل على تقدير تكرير العامل، وأنت لو قلت:(الضارب زيد) لم يجز، إذا القاعدة في «اسم الفاعل» أنه لا يضاف، وهو بالألف واللام، إلا إلى ما هما فيه. وقد بين الناظم ذلك في موضعه.
وأشار في تمثيل هذا النوع إلى البيت المشهور الذى أنشده سيبويه للمرار الأسدى:
أنا ابن التارك البكرى بشر
عليه الطير ترقبه وقوعا
ف (بشر) هو تابع (البكرى) وتبعيته إياه على العطف لا البدل، لأن «بشرا» لا يصح أن يلى التارك مضافا إليه، فلو كان مكان «بشر» غلام الرجل مثلا- لجاز كونه بدلا / ولا يته ل (التارك) فلابد في تعين العطف من كون المعطوف مفردا بغير ألف ولام كما في مثاله، أو مضافا إلى ما ليست فيه. وهذا مبنى على مذهب البصريين كما سيأتي.
وفي هذا الموضع نظر، وذلك أنه حصر تعين العطف في هذين الموضعين، وأعطى أن ما سواهما يصلح فيه البدل.
وذلك غير صحيح، فإن موضع ثم مواضع أخر يتعين فيها العطف، ويمتنع البدل. وقد نبه بعض من قيد ذلك على جملة منها.
والذى زاد على الموضعين عشرة مواضع:
أحدها: أن يكون الكلام مفتقرا إلى رابط، ولا رابط إلا التابع، على أنه عطف البيان، نحو: هند ضربت الرجل أخاها، فلا يجوز أن يكون نعتا، لأنه أعرف مما جرى عليه، ولا بدلا لئلا تعرو والجملة الأولى من رابط، فتعين عطف البيان.
والثاني: أن يضاف «أفعل التفضيل» إلى عام، ويتبع بقسمى ذلك العام، ويكون المفضل أحد قسمى ذلك العام، نحو: زيد أفضل الناس الرجال والنساء، ف (الرجال والنساء) عطف بيان لا بدل من (الناس) لأن البدل على نية تكرار العامل، فيكون التقدير: زيد أفضل الرجال والنساء، وذلك لا يسوغ.
وما جاء من قوله: أنا أشعر الجن والإنس. فقد غلط في ذلك، وتأوله أبو على أنه أراد: أشعر الخلق. قال: وهو قبيح، ولا يجوز القياس عليه.
والثالث: أن يتبع وصف (أى) بمضاف نحو: يا أيها الرجل غلام زيد، ف (غلام زيد) لا يكون بدلا من الرجل، لأنه ليس في تقدير جملتين، ولا وصفا، لأن ما فيه (ال) لا يوصف بالمضاف إلى (العلم).
والرابع: أن يفضل مجرور (أى) نحو: أى الرجلين زيد وعمرو أفضل؟
فلا يح بدل (زيد وعمرو) من (الرجلين) لأنه لا يجوز أن تقول: أى زيد وعمرو؟ لأن (أيا) لا تضاف إلى مفرد معرفة إلا عند قصد التجزئة نحو: أى الرجل أحسن؟ أعينه أم وجهه؟
والخامس: أن يفصل مجرور (كلا) نحو: كلا أخويك زيد وعمرو قائم، لأن (كلا) لا تضاف إلى مثنى لفظا ومعنى، أو معنى دون لفظ.
والسادس: أن يتبع المنادى المضموم باسم الإشارة، نحو: يا زيد هذا، لا يجوز أن يكون بدلا، لأنه لو كان بدلا لكان منادى، وحرف النداء لا يجوز أن يحذف من اسم الإشارة على رأي البصريين
والسابع: أن يتبع وصف (أي) في النداء بمنونه، نحو: يا أيها الرجل زيد، لأنه لو كان بدلا لكان غير منون.
والثامن: أن يتبع اسم الجنس أو غيره ذا (أل) لمنادى مضموم، نحو: يا زيد الرجل، ويا غلام الرجل الصالح ويارجل الحارث، أو منصوب نحو: يا أخانا الحارث، لأنه إن جعلناه بدلا أدى إلى تقدير مباشرة حرف النداء ما فيه الألف واللام، فيكون كقولك: ياالرجل، ويا الحارث.
والتاسع: أن يتبع المنادى المضاف باسم الإشارة، نحو: يا غلام زيد هذا.
والعاشر: أن يتبع وصف اسم الإشارة في النداء بمنون، نحو: يا هذا الطويل زيد وتعليل هذا الوجه وما قبله مفهوم مما تقدم.
فهذه عشرة مواضع زائدة على ما ذكره الناظم، ولعل ثم مواضع أخر لمن تتبع المسائل، وإنما هذا تنبيه على غيره.
وجميعه واضح في أن حصر الناظم قاصر جدا، وكذلك نص فى / «التسهيل» فلم يزد على الموضعين المذكورين إلا ثالثا، وهو أن يقرن ب (أل) بعد منادى، وهو الثامن هنا.
والجواب عن ذلك أن أكثر النحويين هكذا فعلوا، فتراهم ينصصون على معنى ما نص عليه، ويقصرون تعيين العطف على الموضعين، أعنى باب «النداء» وباب «اسم الفاعل» فالاعتراض وارد على جميعهم ولا يختص به.
ولكن يمكن الاعتذار عما فعلوا من أحد ثلاثة أوجه:
إما أن يقال: أن جميع ما استدرك عليه داخل له مثاليه، وذلك أن كله دائر على حرف واحد، وهو عدم صلاحية وقوع الثانى موقع الأول، وإذا تتبعت جميع المواضع وجدتها كذلك، فيكون على هذا قول الناظم:«في غير نحو كذا» مشيرا إلى كل موضع لا يحل فيه الثانى محل الأول. وإذا كان كذلك دخل جميع ما يحتاج إليه، مما ذكر ومما لم يذكر، وإنما عين الموضعين لشهرتهما في النقل.
وإما أن يكون اقتصر على الموضعين لوجود السماع فيهما، فإن الذى سمع عن العرب في تعيين العطف محصور في البابين، وما سواهما فإنما هو تفريع بالقياس لا اتباع للسماع ويكون إذ ذاك قد نبه على جميع المواضع المتصورة في باب «النداء» ولأن السماع وارد فيه وإن لم يرد في جميع مسائله، فيدخل له، مما استدرك عليه، مسائل «النداء» كلها وهي ست، وتبقى المسائل الأربع كأنه لم يتعرض لها، لإمكان أن يقول قائل بعدم القياس فيها، أو بعدها من النوادر التى لا يعتد بها في مثل هذا المختصر.
وإما أن يقال: إنه اتبع في ذلك الجمهور، وجرى على طريقهم من غير نظير فيما يلزم عن ذلك، وهذا خلاف عادته، ولكنه ممكن على الجملة.
وإذا ثبت هذا فتلك المواضع المعترض بها ليست بمخلصة كلها، بل في بعضها نظر. أما الأول، فإن البدلية فيه سائغة، والربط بالبدل فيه خلاف، فقد مر ذلك في باب «الاشتغال» وتقدم أن ظاهر كلامه هناك أن «العلقة» حاصلة بالبدل كما تحصل بالعطف. وتبين وجهه هنالك.
وضبط ذلك سيبويه بالصفة، فما صح أن يكون رابطا في الصفة السببية صح أن يكون رابطا في «الاشتغال» . والصفة السببية، في كونها صفة الموصوف أو خبرا المبتدأ، سواء، فما جاز في «الاشتغال» جاز في الصفة، وما جاز في الصفة جاز في الخبر. وهذا مسلم عند النحويين.
فالربط بالبدل جائز في الخبر لجوازه في «الاشتغال» فقولك: زيد ضربت هند أخته، أو هند ضربت زيدا أخاها- جائز على البدل، وعلى عطف البيان، فلم يتعين فيه عطف البيان، فخرج عن أن يعترض به وأما السادس فليس مما نحن فيه، فإن اسم الإشارة يجرى نعتا على العلم فتقول: مررت بزيد هذا. وقد نص عليه الناظم وغيره، لأنه في تقدير المشتق، ولا مانع من ذلك / فلا يحتاج إلى تكلف عطف البيان إن سلم أنه يجرى نعتا فلا مانع من البدل أيضا، لأن تكرار العامل إنما معناه أن يقدر واليا له حقيقة، لا أن يكون العامل قبله مقدر الحذف، لكن جريانه على المبدل منه جار مجرى تكراره، كأن العامل مع المبدل منه عوض ومعوض منه.
وإن قيل: إنه على تقدير طرح الأول فأوضح في الجواز، لأن حرف النداء ظاهر، فإذا وليه (هذا) جاز.
فإن قيل: فلو فرض حذفه فقلت: زيد هذا- لم يصح فيه ذلك التوجيه- قيل: بل يصح، فإن المنادى كالعوض من حرف النداء، ولو قدر طرحه لجئ بالحرف، ليعامل كل اسم بما يليق به، وكذلك القول في التاسع من غير فرق.
ورأيت لهذا المقيد مثالا في أحد الموضعين المتقدمين في نظر أيضا، وذلك أنه قال: ومثل (يا أخانا زيدا) قول الشاعر:
أيا أخوينا عبد شمس ونوفلا
أعيذكما بالله أن تحدثا حربا
في رواية من نصب «عبد شمس ونوفلا» قال: فلا يجوز هنا البدلية، لأن أحد المتعاطفين مفرد، وهما منصوبان، والبدل المجموع لا أحدهما، فلا يصح تقدير حرف النداء، وكلاهما تابع لمنصوب، لما يلزم من نصب أحدهما وهو المضاف، وبناء المفرد على الضم، والرواية بنصبهما.
هذا ما قال، وهو غير لازم، بل البدل جائز وإن كان الثانى مفردا، ويصح تقدير حرف النداء، ولا يلزم ضم المفرد، لأنه قد صار مع المضاف شيئا واحدا، فلا يمكن أن يختلفا في الإعراب والبناء، لأنه كاختلاف بعض الكلمة مع بعض، بل نقول: لو كان الاسمان معا مفردين لتعين النصب فيهما بدلين، وعطفى بيان.
أما مع البدلية فلأن مجموعهما هو البدل لا كل واحد منهما، إذ لو كان كل واحد منهما بدلا لكان من بدل المفرد من المثنى، وهو باطل، ولا يتأتى البناء فيهما إلا مع تقدير حرف النداء مع كل واحد، وذلك لا يصح، لأنه عند ذلك فلا يقدر حرف النداء إلا مع أول الاسمين، والمجموع هو البدل، فصار اسما مطولا بالعطف، كما لو سميت رجلا بزيد وعمرو، ثم ناديته لكنت قائلا:
يا زيدا وعمرا، فتنصب وجوبا كما تنصب المطولات، فمسالتنا بهذه المثابة من كل وجه، لأن الاسمين معا هما الاسم المثنى المنادى، فلو باشرا حرف النداء لانتصبا. وعلى هذا يبنى حكم عطف البيان، لأن مجموعهما هو المعطوف، وقد كانا في المثال تابعين لمنصوب، فلا يصح فيهما غير النصب.
وكذلك إن تبعا مفردا، نحو يا صاحبان زيدا وعمرا، ويا زيدان بطة وقفة. والعطف والبدل في ذلك سواء.
فثبت بهذا أن البيت لا يتعين فيه عطف البدل أصلا. وإنما ذكرت هذا لئلا يتوهم أنه مما يعترض به على الناظم في جملة تلك المواضع، وليظهر وجه يصوب في المسألة. وبالله التوفيق.
وتأمل مسألة الفارسى في «الإيضاح» فهي مبينة لهذا الموضع، وهي مسألة: يا ثلاثة وثلاثين في «باب النداء» وقول الناظم: «وليس أن يبدل بالمرضى» الضمير في «يبدل» يحتمل أن يعود على «بشر» في مثاله الأخير ونحوه، ويريد أن إعرابه بدلا غير مرضى، وإنما يعرب عطف بيان، ويتعين فيه ذلك، وكأنه أراد التنكيت على موضع الخلاف المنصوص، وذلك أن من النحويين من أجاز البدل في باب «اسم الفاعل» لكن على طريقتين، إحداهما طريقة من أجاز أن يضاف «اسم الفاعل» بالألف واللام إلى ما ليس فيه ألف ولام، وذلك مذهب الفراء، فهو يجيز: مررت بالضارب زيد، فإجازته لنحو: مررت بالضارب الرجل زيد، على البدل أولى.
والثانية طريقة من لا يعتبر حلول البدل في محل المبدل منه، وذلك مذهب الأعلم وابن خروف. وحجتهما أن التابع قد يحل حيث يحل محل المتبوع، والبدل هنا كالعطف في: يا زيد والحارث، مع أنه لا يحل محله. وكذلك رب رجل وأخيه، وكل شاة وسلختها بدرهم. فإن أردت أن يحل محله. فإن أردت أن يحل ذلك محل الأول أزلت الألف واللام من (الحارث والتارك) في قوله:
* أنا ابن التارك البكرى بشر *
والضمير من (الأخ والسخلة) وهذا كله على خلاف الاستقراء من البدل لأن مواضع البدل يصح فيها حلوله محل المبدل منه، فإذا لم توجد هذه الخاصية وقع الشك في كونه بدلا. ولولا السماع في العطف لما قيس مع أنه نادر في السماع فلا يعتد به فالأصح مذهب الناظم.
وفي إشارته إلى البيت أيضا تنبيه على أنه قائل بمذهب سيبويه والجمهور في صحة الجر في مثل هذا خلافا للمبرد، فإنه منع الجر في «بشر» ونحوه. وروى البيت بنصب «بشر» .
قال السيرافى: والقول قول سيبويه للقياس وإنشاد العرب والنحويين «بشر» بالجر.
ويحتمل أن يكون الضمير في «يبدل» عائدا على عطف البيان المعين في المثالين ونحوهما، فيكون المعنى على أن البدل في هذه المواضع وما أشبهها غير مرضى أن يقال به.
ويكون تنكيتا على الخلاف الحاصل فيه في جميع المواضع، أو تخريجا، فالنص ما تقدم، والتخريج على قول الأعلم وابن خروف، إذ ظهر وجه مذهبهما، ومذهب الفراء لا أدرى هل يعتبر في الجواز ذلك الوجه أم لا، فلذلك لا ألتزم التفريع عليه. والله أعلم.
عطف النسق
هذا هو الوجه الثاني من وجهي العطف، وهو عطف النسق.
والنسق في اللغة: الكلام الذي يأتي على نظام واحد، ونسقت الكلام نسقًا، بالتسكين، إذا عطفت بعضه على بعض، وأصله/ من التنسيق، أي التنظيم، لأن الكلام ينظم بعضه مع بعض، فالنسق في هذا الاستعمال من باب: الخبط والنفض فقولهم: (عطف النسق) بمعنى عطف الكلام المنسوق. وليس المصدر إلا مسكنًا، فإذا أضيف العطف إلى المصدر قلت: عطف النسق. وأتى الناظم بحد هذا العطف في قوله:
تالٍ بحرف متبع عطف النسق
…
كاخصص بود وثناءٍ من صدق
التالي هو التابع، وهو الجنس الأقرب، وقوله:"بحرف متبعٍ" أي بحرف وضع للتبعية، وهي أن يشرك الثاني مع الأول في عامله، فخرج بهذا الفصل سائر التوابع.
وسيذكر الحروف المتبعة، إلا أنه مثل بواحد منها وهو (الواو) فقال:"كاخصص بود وثناء" فـ (ثناء) معطوف على "ود" بالواو الموضوعة لذلك.
والكلام في هذا الباب في عطف المفردات لأن التبعية لا تتكون إلا فيها، وعليه يدل مثاله وكلامه.
و"عطف النسق" مبتدأ، خبره "تالٍ" وما تعلق به.
ثم أتى بحروف العطف فقال:
فالعطف مطلقًا بواو ثم فا
…
حتى أم او كفيك صدق ووفا
وأتبعت لفظًا فحسب بل ولا
…
لكن كلم يبد امرؤ لكن طلا
وهذه حروف العطف قد أتى بها، وهي تسعة: الواو، والفاء، وثم، وحتى، وأم وأو، وبل، ولا، ولكن.
ولم يذكر غيرها، فدل على أن ما عداها عنده ليس بحرف عطف، وإن ذهب إلى ذلك غيره.
والحروف التي اختلف فيها: هل هي للعطف أم لا، مما لم يذكره، سبعة:(إما) المكسورة، وإلا، وليس، وأين، وكيف، وهلا، و (أي) التفسيرية.
فأما (إما) فيشير إلى رأيه فيها.
وأما (إلا) فذهب الأخفش إلى جواز كونها حرف عطف، لأنها عنده تجئ بمعنى الواو، كقوله تعالى:{لئلا يكون للناس عليكم حجة إلا الذين ظلموا منهم} ، وكذلك جعلها الفراء في قوله تعالى:{إني لا يخاف لدى المرسلون إلا من ظلم} ، الآية، وقوله تعالى:{خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك} .
وهذه المواضع لا يلزم فيها ما قالاه، لأن بقاءها على أصلها من الاستثناء ممكن، وذلك الاستثناء المنقطع، مع أن (إلا) قد ثبت لها أصل وهو الاستثناء، فلا تخرج عنه إلا مع التعين، ولم يتعين ذلك في هذه المواضع، فلا تصح دعوى ما لم يثبت بمجرد الاحتمال.
وأما (ليس) فذهب الكوفيون إلى أنها تجئ حرف عطف، فيقولون قام زيد ليس عمرو، بمعنى: لا عمرو، محتجين بنحو قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه:
بأبي شبيه بالنبي
…
ليس شبيه بعلي
ويقول لبيد:
وإن أقرضت قرضًا فاجزه
…
إنما يجزى الفتى ليس الجمل
وذلك لا حجة فيه، لأنه على حذف خبر (ليس) وإذا اتجه هذا لم يبق لهم متعلق، ولا يجوز الخروج عما ثبت إلى ما لم يثبت، لأنه تحكم بغير دليل/.
وأما (أين، وكيف، وهلا) فحكى السيرافي عن الكوفيين جواز العطف بهن، فيقولون: ما مررت بزيدٍ ههنا فأين أبي عبد الله، وما مررت برجل فكيف امرأةٍ، وما مررت بزيدٍ فهلا عمروٍ. وهذا كله غير جائز.
ولما مثل سيبويه بـ (كيف) وأن ما بعدها مرفوع قال: فزعم يونس أن الجر خطأ، وقال: هو بمنزلة (أين) قال سيبويه أو يونس: ومن جر فهو ينبغي له أن يقول: ما مررت بعبد الله فلم أخيه، وما لقيت زيداً مرة فكم لقيت أبا عمرو؟ تريد: فلم مررت بأخيه؟ وفكم أبا عمرو؟ .
وقال السيرافي: والكوفيون لا يلتزمون هذا.
وأيضًا فما قالوا على خلاف شأن العاطف، فإن شأنه ألا يجتمع معه حرف عطف، فلا يقال: جاء زيد فو عمرو، ولا أكرمت الناس وحتى زيدًا إلا شاذًا في نحو قوله:
أراني ما بت بت على هوى
…
فثم إذا أصبحت أصبحت خاليَا
وأمثلتهم التي أجازوها قد اجتمعت فيها الفاء مع (أين، وكيف، وهلًا) وذلك خلاف القاعدة.
على أن بعض المتأخرين يزعم أن الكوفيين يوافقون على أنها ليست مع الفاء حروف عطف، وإنما تكون حروف عطف دونها. وما حكاه السيرافي أثبت، وهو يستشعر من كلام سيبويه.
وأما (أي) فحكى ابن مالك عن صاحب "المستوفي في شرح المستصفي"، أنها عاطفة لجريان ما بعدها على ما قبلها، كقولك: رأيت أسدًا، أي شجاعًا، ونهيتك عن الونى، أي الفتور.
ورد هذا بأن حروف العطف لا يصح حذفها إلا شذوذًا، و (أي) يجوز حذفها جوازًا حسنًا، فإنك تقول في (مررت بغضنفر أي أسد): مررت بغضنفر أسد، وتستغني عن (أي) وسائر الحروف العاطفة على خلاف ذلك.
وأيضًا فإن حق العاطف أن يكون ما بعده مباينًا لما قبله، نحو: مررت بزيد وعمرو. هذا في غير التوكيد، و (أي) بخلاف ذلك.
قال المؤلف: إنها حرف تفسير، وما يليها من تابع عطف بيان موافق لما قبلها في التعريف والتنكير.
فهذه السبعة هي الساقطة عن كلامه وفي اعتقاده فليست عنده عاطفة.
وما ذكر فهو الذي قال به، ولا أعلم في كونها للعطف خلاقًا إلا (لكن) فإنها مختلف فيها على حسب ما يأتي إن شاء الله في موضعه.
ولما أراد عد هذه الحروف قسمها أولًا قسمين:
أحدهما ما يأتي العطف المطلق، ومعنى ذلك أن يكون تشريك الثاني مع الأول في اللفظ والمعنى.
ويدل على هذا القصد قوله في القسم الثاني: "وأتبعت لفظًا فحسب كذا وكذا". فأشار بهذا إلى أن الأول أتبع في اللفظ والمعنى، فهو قوله:"مطلقًا".
واتى لهذا القسم بستة أحرف وهي: الواو، وثم، والفاء، وحتى، وأم، وأو.
وعطف بعضها على بعض بغير حرف عطف ضرورة، وقصر لفظ (فا) ونقل همزة (أو) إلى ميم (أم).
ثم مثل/ بالواو، وهو قوله:"كفيك صدق ووفا" أي: فيك هذان الأمران، فقد اشترك الصدق والوفاء في العامل الأول في لفظه ومعناه، فإنك إذا قلت: قام زيد وعمرو- فالقيام حاصل لهما معاً، وقد ارتفعا به على جهة واحدة.
وكذلك قام زيد ثم عمرو، وقام زيد فمرو، وقدم المسافرون حتى المشاة، فالمشاة من جملة القادمين.
وكذلك إذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ لأن قائل هذا الكلام عالم بأن الذي في الدار أحدهما، وغير عالم بتعيينه، فالذي بعد (أم) مساوٍ للذي قبله في الصلاحية لثبوت الاستقرار في الدار وانتفائه،
وحصول المساواة إنما هو بواسطة (أم) فقد شركتهما في المعنى كما شركتهما في اللفظ.
وكذلك (أو) إذا قلت: قام زيد أو عمرو- مشركة لما بعدها مع قبلها فيما يجاء بها لأجله من شك أو إبهام كما في المثال، أو تخيير أو غير ذلك.
وقد تقع موقع (الواو) فيكون حكمها حكم الواو. وهذا توجيه المؤلف لـ (أو، وأم) وهي طريقته فيهما، أعني أنهما عنده يشركان في اللفظ والمعنى.
وفي هذا القسم تنبيهان:
أحدهما أن كلامه في (أم، وأو) مخالف- فيما زعم- للنحويين، إذ قد نصوا على أنهما إنما يشركان في اللفظ لا في المعنى، لأنك إذا قلت: قام زيد أو عمرو، فما بعد (أو) مخالف في المعنى لما قبلها، لان القيام حاصل لأحدهما دون الآخر بلا بد في اعتقادك، بحيث لا يعريان عنه معًا، ولا يتلبسان به معًا.
وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم عمرو؟ فعندك أن أحدهما قائم، والآخر غير قائم، فسألت عن تعيين القائم منهما. وإذا كان كذلك فكيف يقال: إنهما يشركان في اللفظ والمعنى؟ بل صارا مثل قولك: قام زيد لا عمرو، أو: ما قام زيد لكن عمرو، إلا أن القائم في مسألتنا غير متعين، وهو مع (لا، ولكن) متعين.
وقد رأيت الأستاذ شيخنا أبا عبد الله بن الفخار، رحمه الله، يحكى الإجماع على هذه الطريقة، تنكيتاً منه- والله أعلم- على ما ذهب إليه ابن مالك.
وقد صرح ابن مالك في "الشرح" بالمخالفة، وأن الصحيح ما ذهب إليه.
وأقول: إنه لم يتوارد مع النحويين على قصد واحد في المسألة؛ فإن النحويين إنما تكلموا على التشريك في معنى العامل المتقدم، وعلى هذا المعنى اتفقوا في (الواو، وثم، والفاء، وحتى) ولا يشك أحد أن معنى العامل- في محل النزاع- إنما هو لأحدهما دون الآخر، لكنه غير معين، وعدم التعين لا يضر في هذا القصد.
وابن مالك تكلم فيما يؤول إليه الكلام في قصد المتكلم، من عدم التعيين. وعدم التعيين لمعنى العامل قد تساوي فيه ما قبل (أو، أم) وما بعدهما.
وما ذهب إليه مأخوذ من كلام سيبويه، فإنه قال في "باب العطف": ومن ذلك: مررت برجل أو امرأةٍ، فـ (أو) أشركت بينهما في الجر، وأثبتت المرور لأحدهما دون الآخر، وسوت بينهما في الدعوى.
فقوله: "وسوت بينهما في الدعوى" هو معنى كلام ابن مالك. وقوله قيل: "وأثبتت المرور لأحدهما" هو كلام غيره، فإذا ينبغي أن يكون بينهما في المسألة خلاف، لأن إحدى الطريقتين لا تخالف الأخرى. وقد اجتمعنا في كلام الإمام، فلم يكن ينبغي للمؤلف أن يصرح بمخالفة أصلًا.
والتنبيه الثاني أن (أم، وأو) على وجهين:
أحدهما أن يكونا بمعنى (بل) للإضراب: وحكمهما في المعنى حكم (بل) في أنهما من القسم الثاني الذي يشرهك في اللفظ فقط.
والآخر أن يكونا لغير ذلك، وحكمها كما قال. فيقتضي إطلاقه هنا أنهما يشركان في اللفظ والمعنى في كلا الوجهين، وذلك غير صحيح. ولذلك تحرز في "التسهيل" فقال: وكذا (أم، وأو) إن اقتضيا إضراباً، يعني أنهما كـ (بل، ولا).
والجواب أن كلامه هنا مطلق، قيده ما بعده، إذ تكلم على واحد منهما، وإذا كان مقيدًا لم يبق عليه فيه اعتراض.
والقسم الثاني ما يأتي للعطف المقيد. ومعنى المقيد أن يكون التشريك في اللفظ لا في المعنى. وهو قوله: "واتبعت لفظًا فحسب بل ولا" إلى آخره.
يعني أن هذه الأحرف الثلاثة، وهي (بل، ولا، ولكن) تتبع الثاني الأول في اللفظ خاصة، لا في اللفظ والمعنى معًا، كقولك: ما قام زيد بل عمرو، وقام زيد لا عمرو، وما قام زيد لكن عمرو.
ومثل الناظم هذا بقوله: "لم يبد امرؤ لكن طلا" قيل: أثبتت للثاني ما نفي عن الأول، و (لا) بالعكس، نفت عن الثاني ما ثبت الأول، و (لكن) بمعنى (بل) توجب للثاني ما نفي عن الأول، فأنت ترى كيف لم تشرك هذه الأحرف الثلاثة في معنى العامل أصلًا. و (الطلا) بفتح الطاء ولقصر: الولد من ذوات الظلف، وهو المراد هنا. وقد يطلق ويراد به الشخص، قاله الجوهري، وليس بمراد هنا.
وقد تم تعدادها جملة، ثم أخذ في تفصيل معانيها وأحكامها، فقال مبتدئًا بالواو لأنها أم الباب:
فاعطف بواو لاحقًا أو سابقًا
…
في الحكم أو مصاحبًا موافقًا
يعني أن الواو معناها في العطف الجمع المطلق من غير ترتيب ولامعية. فإذا قلت: (قام زيد وعمرو) احتمل أن يكون عمرو لاحقًا لزيد، أي قائمًا بعده، ولذلك يحسن أن يقال: قام زيد وعمرو بعده، واحتمل أن يكون سابقًا لزيد في القيام، ولذلك يصح أن يقال: قام زيد وعمرو قبله وقبله. واحتمل أن يكون مصاحبًا له في القيام، وموافقًا له في زمانه، فيكون فقيامها معًا، ولذلك يصلح أن يقال: قام زيد وعمرو معه.
قالوا: وليس فيها دلالة على شيء من ذلك، وهو نص سيبويه، ورأى البصريين والكوفيين. حكى السيرافي الاتفاق من الطائفتين على ذلك.
وبعضهم يحكى عن الفراء المخالفة في هذا، وليس بصحيح، إذ قد نص في "معاني القرآن" له على ما نص عليه غيره من/ عدم التزام الترتيب، لكن الأصوليين يحكون الخلاف في المسألة، فلعله ناشئ من جهتهم.
فمما جاء في الترتيب اللفظي موافقاً للترتيب الزماني قوله تعالى {إذا زلزلت الأرض زلزالها * وأخرجت الأرض أثقالها} ، وقوله تعالى:
{يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا} ، وقوله:{إنا نحن نحيى ونميت وإلينا المصير} ، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
هجوت محمدًا وأجبت عنه
…
وعند الله في ذاك الجزاء
وذلك كثير. ومما جاء على عكس الترتيب قوله تعالى: {أهم خير أم قوم تبع والذين من قبلهم} ، وقوله:{وجاء فرعون ومن قبله} في قراءة غير أبي عمرو والكسائي.
وقد اجتمع الضربان في قوله تعالى: {وإذا أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم} .
ومما جاء على المعية قوله تعالى: {وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل} ، ونحو: اختصم زيد وعمرو، وجلست بين زيد وعمرو، وهذان زيد وعمرو، وما أشبه ذلك. وهو كثير.
ومعنى قوله: "في الحكم" أي في الحكم الذي حكم به المتكلم على المعطوف، من تقدم أو تأخر أو مساواة.
وقد يكون ذلك الحكم لفظيًا كما إذا قلت: قام زيد وعمرو بعده، أو قلت: قام زيد وعمرو قبله، أو قلت: قام زيد وعمرو ومعه.
وقد لا يكون لفظيًا، كما إذا لم تلفظ بتلك الظروف، لكن معناها مستحضر عندك، فهو حكم منك أيضًا.
فكل ما كان هكذا فعطف بالواو فالمقصود منه (مجرد التشريك) في العامل الأول من غير تعرض لما حكم المتكلم به من غير وجه التشريك.
وتحرز بذلك من فهم السبقية في الوجود أو عدمها لا في الحكم. وليس ذلك بمراد، فإن المعتمد في الكلام حكم المتكلم بمقتضاه في الوجود، لا حصول الوجود، فقد يقول القائل:(قام زيد) اعتقادًا منه انه قام، ولم يقم. وقد يقوله كذبًا، وعلى غير ذلك، وليس في الخارج منه شيء. فلو كان ما في الخارج قيدًا في الكلام لم يكن ثم كذب ولا غلط ولا نسيان، فكذلك إذا قال: قام زيد وعمرو، قد يكون في اعتقاده أن زيدًا هو السابق لعمرو أو بالعكس، والأمر في الخارج على خلاف ذلك، فإذا قال:"في الحكم" كان متحرزًا من ذلك كله، ولم يستلزم الحكم على الخارج بأمر أن يكون كما حكم، بل قد يكون وقد لا يكون. وهذه المسألة مبينة في الأصول.
والسبقية هنا أطلقها، وهي التقدم، ولم يقيد ذلك، فكان في الكلام إبهام ما، وذلك أن التقدم والتأخر المتكلم فيه عند الأدباء، ليس الزماني خاصة. بل التقدمات كلها معتبرة عندهم على حسب المقاصد ومقتضيات الأحوال، وهي التقدم بالطبع والرتبة والشرف والسببية، ومنها التقدم
بالزمان، فما الذي يخصص له تقدم الزمان وتأخره دون غيره؟ وهو الذي أراد بلا بد، إذ لا يتكلم النحويون إلا فيه.
فقد يقال: إن الناظم اتكل في ذلك على ما عند النحويين، وأيضًا فإنه أسبق إلى الذهن/ فلذلك لم يحتج إلى تنبيه لبيانه.
واخصص بها عطف الذي لا يغني
…
متبوعة كاصطف هذا وابني
ضمير "بها" عائد على (الواو) يريد أن الواو تختص من بين سائر أخواتها بعطف مالا يغنى عنه متبوعة، وذلك أن من العوامل مالا يستغنى بواحد دون أن يعطف عليه غيره فذلك العطف لا يكون إلا بالواو، لأنها التي تفيد الجمع المطلق.
وأما مال عداها فلا يفيده إلا بزيادة تقتضي ترتب المعطوف على المعطوف عليه أو غير ذلك مما يناقض مقصود الجمع المراد في عطف مالا يغني متبوعة.
فإذا قلت: (اصطف هذا وابني) وهو مثال الناظم، فالعطف هنا لابد منه، لأن الفعل فيه لا يقع إلا من اثنين، فلا يقال: اصطف زيد وتسكت.
فكذلك لو قلت: اصطف زيد فعمرو، أو اصطف زيد ثم عمرو، لاقتضاء هذا الكلام انفراد كل واحد منهما بالفعل، وهو فاسد.
ومثله: اقتتل زيد وعمرو، واختصم زيد وعمرو، (وتفاخر خالد وبكر، وكذلك مخفوض (بين) إذا كان مفردًا، ولا يغني دون أن يعطف عليه، فلا يعطف عليه إلا بالواو، فلا تقول: جلست بين زيد فعمروٍ،
ولا بين زيدٍ ثم عمرٍو) ولا ما أشبه ذلك، كما لا تقول: جلست بين زيدٍ - مقتصرًا، لأن المتبوع (لا يغني.
فلو كان المتبوع)، مغنيًا عن التابع لجاز العطف بالواو وغيرها، فتقول: المال بين الورثة، وجلست بين الناس، ونحو ذلك، فعلى هذا تقول: المال بين أهل الفروض فالعصبة، أو ثم العصبة، وقعدت بين الرجال ثم النساء، وما أشبه ذلك.
ون هذا قول امرئ القيس:
قفانبك من ذكرى حبيب ونزل
…
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
…
لما نسجتها من جنوب وشمال
على ما سيأتي القول فيه بعيد هذا بحول الله.
ومن هذا قولك: هذان زيد وعمرو، وهو لا أبوك وأخوك وابنك، فلا يصح ههنا العطف إلا بالواو، إذا لا يغني المتبوع عن التابع، فلا تقول: هذان زيد، ولا هو أبوك، مقتصرًا.
فكذلك لا تقول: هذان زيد فعمرو، ولا هو أبوك ثم أخوك ثم ابنك، وذلك أن المعطوف هنا مع المعطوف عليه في قوة الاسم المثنى والمجموع، والمثنى والمجموع مرادفان لما يقتضي معناهما من الجمع المطلق، وذلك للواو لا لغيرها، وإنما كانا في قوة المثنى والمجموع لأنهما جاريان على مثنى أو مجموع، فليس المعطوف عليه بمعتبر فيه تقديم، كما أن المعطوف لا يعتبر فيه تأخير، لأن المتبوع يطلبهما طلبًا واحدًا من غير اعتبار ترتيب ولا غيره، فالعطف بغير الواو ينافي ذلك القصد، ويقتضي أن المعطوف عليه في حكم الاستقلال، لكن ترتب عليه ما أريد ترتيبه.
وكذلك الحكم في سائر حروف العطف، لا تقول:
هذان زيد لا عمرو وهذان زيد بل عمرو، ولا اصطف هذا/ بل ابني، أو لا ابني، أو ما أشبه لك، وذلك فيه أجلي، وهذا التعليل مشار إليه بقوله:"الذي لا يغني متبوعة".
ويدخل تحته أيضًا ما كان من نحو: مررت برجلين صالح وطالح، وبرجلين مسلم وكافر، ومررت برجال كاتب وشاعر وفقيه. قالوا: وتتعين هنا دون غيرها، إذ لا يغني المتبوع عن التابع، وأنشد سيبويه:
بكيت وما بكا رجلٍ حزينٍ
…
على ربعين مسلوب وبال
وانشد أيضًا الحجاج:
خوى على مستويات خمس
…
كركرة وثفناتٍ ملس
وأنشد لكثير:
وكنت كذي رجلين رجل صحيحةٍ
…
ورجل يرمي فيها الزمان فشلت
وفي قراءة مجاهد والحسن والزهري. {قد كان لكم آية في
…
فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله وأخرى كافرة}، على الإتباع.
وهذا كله إذا أتبعت. وأما القطع فلا يدخل تحت هذا الحكم./ وما ذكر هنا للواو هو أحد الحكمين الخاصين بها. وسيذكر الثاني بعد.
وفي هذا الفصل نظر في أمور.
أحدها أنه قد قدم قول السيرافي أنه لا خلاف في (الواو) أنها لا توجب تقديم ما قدم من لفظه، وتأخير ما أمر لفظه، غير أن المؤلف في "التسهيل""وشرحه" زعم أن جهة استعمالها أن يكون ما قبلها متحد الزمان مع ما بعدها راجحًا، ومتأخرات الزمان عما بعدها مرجوحًا، ومتقدم الزمان على ما بعدها متوسطًا بين الاستعمالين. هذا مع التجريد من القرائن، وهذا اختياره بعد القول بأنها لا تقتضي ترتيبًا، فلا تنافي بين كلامه هنا وفي "التسهيل"(وشرحه)، وهو المعتمد في معنى (الواو).
فإن ثبت خلاف في ذلك فالدليل على صحة مذهب الناظم من أوجه، أجلاها الاستقراء والنقل عن الأئمة، وقد تقدم من ذلك أشياء.
وأيضاً فإذا ثبت عن أئمة الأدباء اعتبار غير الزمان من التقدمات، كالتقدم بالشرف والرتبة وغيرهما، وأنه لابد منه في مراعاة البلاغة، فلو اعتبر الزمان وحده لم يتمكن اعتبار غيره معه إلا إذا كان تابعًا له، وعند ذلك لا يتعين اعتبار غير الزمان، لكن ذلك باطل بالاستقراء، فما أدى إليه كذلك.
فإن قيل: اعتبار غير الزمان مجاز وعلى خلاف الأصل، والكلام إنما هو في الأصل، والحقيقة قيل: دعوى المجاز خلاف الأصل، فلا ترتكب إلا لدليل.
وقد استدل على ذلك بأمور أخر، كقوله تعالى {وادخلوا الباب سجدًا وقولوا حطة} ، وفي الآية الأخرى على عكس هذا الترتيب. فلو كانت (الواو) تقتضي الترتيب لتناقضت الآيتان.
وأيضًا فقوله تعالى: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} ، وقد قال الصحابة: بأيهما نبدأ؟ وهم العارفون بلسانهم، فلو كانت الواو للترتيب عندهم لم يحتاجوا إلى سؤال، إلى غير ذلك من الأدلة.
والتطويل لا فائدة فيه، والمسألة قد تتبعها الناس، ولا زائد مع الاستقراء الصحيح.
والثاني: أن قوله: "في الحكم" إن كان مفسرًا بما تقدم فيبقى عليه ما لم يحكم عليه المتكلم بتقدم ولا تأخر ولا معية/ مهمل الاعتبار، فإن المتكلم قد يكون عارفًا بقيام زيد وعمرو (وغير عارف بزمان قيامها، فيخبر بذلك فيقول: قام زيد وعمرو)، فلا يكون عندهم حكم بتقدم شيء من ذلك، فلا يدخل له هذا القسم تحت نصه، ويبقى مسكلًا عليه، حيث ذكر نوعين، وهما ما حكم فيه المتكلم بالتقدم أو التأخر أو المعية لفظًا أو نية، وترك نوعًا آخر فلم يذكره، وهو متأكد الذكر.
إلا أن يقال: إنه أراد حكم من حكم على الجملة، لا حكم المتكلم، فإن المعطوف بـ (الواو) شأنه أن يحكم عليه بأحد الثلاثة المذكورة، فالحكم راجع إلى هذا المعنى. والله أعلم.
والثالث: أنه ذكر الموضع الذي تختص به (الواو) دون غيرها، ولم يقيد (الواو) التي شأنها ذلك، وليست كل (واو) تقع في ذلك الموضع، وإنما تقع هنالك (الواو) التي يكون ما بعدها مصاحبًا لما قبلها في الحكم، فإن قولك: جلست بين زيد وعمرو- يقتضي مصاحبتهما معًا في الجلوس بينهما، ولا يصح غير ذلك.
وكذلك اختصم زيد وعمرو، وسائر ما تقدم التمثيل به. هذا شرط لابد منه.
وشرط ثان، وهو أن يكون القصد الإخبار عن فعل واحد لا عن فعلين.
وبيان ذلك أنك إذا قلت: مررت بزيد وعمرو فهذا محتمل أن تكون أخبرت عن مرور واحد أشركتهما فيه، ولا يضر في ذلك كون المرور حصل من أحدهما قبل الآخر، ومعنى هذا أنك أخبرت عنهما معًا بوقوع جنس المرور منهما، ويحتمل أن تكون أخبرت عن مرور لكل واحد منهما، كأنك قلت: مررت بزيد، ومررت أيضًا بعمرو، فهما مروران، ولا يضر في هذا الوجه كون المرورين وقعًا معًا في زمان واحد، وكلا الاحتمالين موجود في الكلام، ونص عليه سيبويه وغيره.
فعلى الاحتمال الثاني لا يصح استعمال (الواو) المصاحب ما بعدها لما قبلها في تلك الأمثلة، لأنها تقتضي استئناف الإخبار عن (المرور بعمرو) والموضع لا يقتضي ذلك، بل يجب فيه اعتقاد الاحتمال الأول والجزم به، وعند ذلك يصح العطف في الأمثلة.
فهذان الشرطان لم يذكر الناظم واحدًا منهما، بل أطلق القول، فأفهم أنها يعطف بها ما لا يغني متبوعة على كل أحوالها، وليس كذلك.
والجواب عن هذا أن مراده الاختصاص بـ (الواو) دون غيرها على الجملة، فكأنه يقول: لا يقع غير (الواو) هنا. وبقى عليه العلم على أي معنى تقع (الواو) فلم يصرح به.
وأيضًا فإن كلامه اقتضى هذين الشرطين، لأنه قال:"واخصص بها عطف الذي لا يغنى متبوعة" وإذا كان (الواو) غير مصاحب ما بعدها لما قبلها أغنى المتبوع معها عن التابع، لجواز الإخبار عن فعل أحدهما دون الآخر. وكذلك إذا قصد الإخبار عن فعلين، لأن الكلام إذ ذاك في تقدير كلامين، فإذا اجتمع الشرطان فعند ذلك لا يغني المتبوع عن التابع.
فإن قيل: فقد تقول: قام زيد وعمرو، مع اجتماع الشرطين، ويكون لك أن تقتصر على المتبوع فتقول: قام زيد- قيل: لا أسلم جواز/ الاقتصار، بل يكون حكمه حكم.
قوله: {وجمع الشمس والقمر} وما أشبه. فتأمله، والله أعلم.
وإن سلم الاحتمال في: قام زيد وعمرو- فلا يحتمل ذلك في مسألتنا. ثم قال:
والفاء للترتيب باتصال
…
وثم للترتيب بانفصال
وأخصص بفاء عطف ما ليس صلة
…
على الذي استقر أنه الصلة
يعني أن (الفاء) العاطفة معناها ترتيب ما بعدها على ما قبلها في الزمان كترتيب اللفظ، لكن بشرط الاتصال، ومعناه اتصال فعل المعطوف بفعل المعطوف عليه.
فإذا قلت: (قام زيد فعمرو) فالقائم أولًا زيدً، وبعده عم لكن امهلة بينهما، ولا فصل بين زمانيهما إلا بمقدارٍ ما، لا يمكن الشروع في الثاني بعد الفراغ من الأول إلا به عادة، فلا يلزم أن يقال: إن الثاني متصل بالأول من غير فصل البتة، ولا تراخ قليلٍ ولا كثير، بل ما ذكر، وهو الذي ينبغي تفسير الاتصال به في كلام الناظم، وهو التحقيق عند شيخنا الأستاذ، رحمه الله.
قال: وقد أشار الفارسي في "الإيضاح" إلى هذا المعنى.
فقول الناظم" "باتصال" معناه الاتصال العرفي الذي لا يعد به الثاني منقطعا من الأول. وهذا يقتضي أنها لا تكون لغير ترتيب، وهو الذي عليه الجمهور.
وذهب بعض النحاة، فيما نقل، أن (الفاء) قد تكون للاجتماع كـ (الواو) فليس الترتيب يلازم لها عندهم. والاستقراء يشهد بخلاف ما قالوا.
وقد احتجوا على ما ذهبوا إليه بأشياء توهم دعواهم، منها قوله تعالى: {فنادوا صاحبهم فتعاطي فعقر {أي تعاطي الذنب فعقر، وتعاطي الذنب هو العقر نفسه.
وقوله: {وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا {الآية، لأن الإهلاك بعد مجيء البأس أو معه، لا أن مجيء البأس مرتب على الإهلاك. وقوله تعالى: {ثم دنا فتدلى {- المراد- والله أعلم- تدلى، يعني جبريل، فدنا.
وقال امرؤ القيس:
* بين الدخول فحومل *
فأتى بـ (الفاء) وهو موضع (الواو) كما تقدم. فدل على أنها في البيت مرادفة لها.
وليس فيما جلبوا دليل.
أما قوله: {فتعاطي فعقر} فمعناه أن قوم قدار بن سالف نادوه، وأشاروا عليه بعقر الناقة، فتعاطي، أي تناول أمرهم وقبله، فعقر بعد تعاطي ما رغبوا فيه.
وقيل: معنى (تعاطي) قام على أطراف أصابع رجليه، ثم رفع يده فضربها، فـ (الفاء) على معناها من الترتيب.
وأما قوله: {أهلكناها فجاءها بأسنا} فهو على المعنى: أردنا إهلاكنا، فمجيء البأس عقيب الإرادة، والهلاك في الواقع بعد مجيء البأس، فهذا من إطلاق المسبب، وهو كثير في القرآن وكلام العرب. ومنه قوله:{فإذا قرأت القرآن فأستعذ بالله} وقوله: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم} الآية.
وأما قوله: {ثم دنا فتدلى} فقيل: معناه: ثم دنا من النبي صلى الله عليه وسلم فتدلى، أي بقي متدليًا بعد الدنو، ولم يصل إليه، والتدلي: التعلق في الهواء، وليس
الهبوط. ومنه: دلى رجليه من السرير.
وأما بيت أمريء ألقيس:
* بين الدخول فحومل *
فإن الرواية المشهورة فيه (الواو) وهي القياس، فإذا ثبتت رواية (الفاء) فنجيزها حيث ثبتت، لا تتعدى ذلك، ولا نقيس على المسموع فيه حكم كل شاذ، قال خطاب ألماردي: وقد يجوز عندي على أن (الدخول) مكان يجوز أن يشتمل على أمكنة كثيرة، فتم الكلام، كما تقول: قعدت بين الكوفة، تريد: بين دورها وأماكنها أو طرقها، أو ما أشبه ذلك مما يشتمل عليه، فإذا جاز هذا في (الكوفة) لم يمتنع في مثل (الدخول) على مثل هذا، فجئت بـ (الفاء) على تقدير: فبين حومل، وجعلت (حوملًا) مكانا متضمنًا لأمكنة أيضا، فصار هذا كقولك: اختصم إخوتك فأعمامك، إذا كان كل فريق منهم خصمًا لصاحبه.
قال: وهذا عندي أصح من أن أجعله شاذًا إذا ثبتت الرواية، وقد قال ابن حلزة:
أوقدتها بين العقيق فشخصين
…
بعودٍ كما يلوح الضياء
وقال جرير:
بين المحيض فالعزاف منزلة
…
كالوحي من عهد موسى في القراطيس
كذا وجدته بحظ أبي عبيد البكري. وجميع ذلك يجري على هذا المهيع، وهو مع ذلك قليل.
وقال الآخر:
ربما ضربةٍ بسيف صقيلٍ
…
بين بصري وطعنةٍ نجلاء
ثم قوله: "والفاء للترتيب" يحتمل أن يريد الترتيب ألزماني وغيره، فإن العرب قد ترتب بالفاء في غير الزمان كثيرًا، كقواهم: نزل المطر بمكان كذا فمكان كذا.
وقال امرؤ ألقيس:
بسقط اللوى بين الدخول فحومل
…
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها
وقال قيس بن ذريح أو غيره:
عفا سرف من أهله فسراوع
…
فجنبا أريك فالتلاع الدوافع
فمكة فالأخساف أخساف ظبيةٍ
…
بها من لبيني مخرف ومطبع
وقال النابغة الذبياني:
عفاذ ذو وحسي من فرتني فالفوارغ
…
فجنبا أريكٍ فالتلاع الدوافع
فمجمع الأشراجٍ غير رسمها
…
مصايف مرت بعدنا ومرابع
وأكثر ما يكون هذا في الأماكن، والترتيب فيه ترتيب لفظي، فيدخل هذا كله تحت قوله:"والفاء للترتيب".
ويحتمل، وهو الأظهر، أن يكون مقصوده ترتيب الزمان، وهو الذي يشعر به قوله:"باتصال" لأن تقييد الترتيب بالاتصال يشعر بأنه زماني، وكأنه إنما لم ينبه على هذا الترتيب الآخر لقلته، ولأنه كالمفرغ عن ألزماني.
وأما (ثم) فذكر أنها لترتيب ما بعدها على ما قبلها، لكن منفصلًا عنه انفصالًا معتدًا به.
فإذا قلت: قام زيد بن عمرو- فالقائد أولًا (زيد) ثم تأخر عنه (عمرو) تأخرًا ينفسح عن ترتيب الفاء.
وقد اجتمع ترتيب (الفاء، وثم) في قوله في الحديث: "إن جبريل نزل فصلى، فصلى رسول الله عليه وسلم، ثم صلى فصلى رسول الله صلي الله عليه وسلم" إلى آخر الحديث.
والتزام الترتيب فيها، كما أشار إليه الناظم، وهو مذهب الجمهور، وذهب قوم إلى أنها ترادف (الواو) في بعض تصريفها، فلا تعطي ترتيبًا، واستدلوا على ذلك بأشياء: منها قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة} ثم قال: {ثم كان من الذين آمنوا} فلو كانت للترتيب والمهملة لكان طلب الإيمان مرتبًا على طلب فروعه، وذلك فاسد.
فالمعنى فلم يقتحم: ولا كان من الذين آمنوا، فالموضع موضع اجتماع. وقال تعالى:{ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لأدم} والخلق والتصوير في زمان واحد، لأنهما راجعان إلى معنى واحد. وقال سبحانه:{وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحًا ثم اهتدى} والهداية لا تتأخر عن التوبة والإيمان والعمل الصالح. وقال الشاعر:
إن من ساد ثم ساد أبوه
…
ثم قد ساد بعد ذلك جده
فهذا موضع (الواو) لأن الموضع لمدح الابن، والابن متأخر عن الأب، فسؤدد الابن بعد سؤدد الأب في المعتاد، فقد أتى ما بعد (ثم) سابقًا بالزمان، و (ثم) لا تعطف المتقدم على المتأخر إلا إذا عدت كالواو.
والجواب أن ما ذكر لا دليل فيه.
أما الآية الأولى فـ (ثم) فيها على بابها، بمعنى أن الله عز وجل خلق الإنسان، وهداه طريق الخير والشر، فلم يعط مما رزق يتيمًا ولا مسكينًا، ثم بعد هذا المنع لم يؤمن، ولم ينتظر في سلك المؤمنين المتواصين بالصبر والمرحمة.
وقيل: إن (ثم) فيه لترتيب الأخبار كالفاء، إلا أنه قصد هنا التنبيه على تراخي الإيمان وتباعده في الرتبة عن العتق والصدقة، لا ترتيب الزمان.
وأما قوله: {ثم اهتدى} فمعناه: تمادي على ذلك، ودام وثبت، كقوله:{أهدنا الصراط المستقيم} إنما طلبوا التثبيت على الهدى، لأنهم في الحين مهتدون.
وأما البيت فـ (ثم) فيه لترتيب الأخبار، أو تكون على بابها والسيادة حصلت لأبيه ثم لجده مرتبة على سيادته، كأنه ساد أولًا، ثم ساد أبوه بسيادته،
ثم جده، على مثال قول الآخر.
* كما علت برسول الله عدنان *
والدليل على لزمم الترتيب لها استقراء المتقدمين المتحققين بكلام العرب.
وأيضًا فلو صح جريانها مجرى (الواو) لجاز وقوعها حيث لا يصلح إلا معنى (الواو) فكنت تقول: اختصم زيد ثم عمرو، كما تقول: اختصم زيد وعمرو، لكن ذلك غير مقول باتفاق، فدل على أن ما ادعوه من معنى (الواو) غير صالح في (ثم) أصلا.
وقال ألماردي: الدليل على أن (ثم) لا تكون بمعنى (الواو) إجماع الفقهاء على أنه لا يجوز أن يقال: هذا بيمن الله ويمنك، بالواو، ولكن أجازوا أن يقال: هذا بيمن الله ثم يمنك قال: ولو كانت بمعنى/ (الواو) ما قروا إليها. قال: وفي الحديث أن بعض اليهود قال لبعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: تزعمون أنكم لا تشركون بالله وأنتم تقولون: ما شاء الله وشئت! فذكر ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: "لا تقولوها، وقالوا: ما شاء الله ثم شئت" حدث به قاسم بن اصبغ.
فإن قيل: فهل يجوز: ما شاء الله فشئت، بالفاء؟ قيل: لا، لأن فيه خلافًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن الفاء تدل على أن
ما بعدها يتلو ما قبلها بتراخٍ يسير، ومشيئة العباد لا تقارب مشيئة الله تعالى. فهذان دليلان يشترك فيهما الفاء وثم والله أعلم.
ثم قال: "وأخصص بفاءٍ عطف كذا" يعني أن (الفاء) أيضا تختص دون أخواتها بحكم، وهو أن تعطف من الجمل ما ليس بصلة، ولا يصلح أن يقع في موضع الصلة، على ما ثبت أنه صلة، أي للموصول.
ومعنى ذلك أنك تقول: أعجبني الذي رأيته فأكرمت زيدًا، فقولك:"رأيته" صلة "الذي" و "أكرمت" زيدًا" جملة معطوفة عن جملة الصلة، وليست بصلة. يريد أنها لا تصلح أن تكون صلة للموصول المتقدم، لأنك لو قلت: أعجبني الذي أكرمت عمرًا- لم يجز، لبقاء الموصول دون ضمير عائد عليه من صلته، وذلك أن الجملة المعطوفة على جملة الصلة لا بد فيها من ضمير به تصلح أن تكون صلة للموصول المتقدم.
فمن شرط المعطوف صلاحيته لوقوعه موقع المعطوف عليه إذا كان العطف بغير الفاء، فلا تقول: أعجبني الذي أكرمته وخرج عمرو، ولا ثم خرج عمرو، ولا ثم خرج عمرو، ولا ما أشبه ذلك.
وأما (الفاء) فجاز ذلك معها لما فيها من الربط المعنوي ألسببي، فصارت الجملتان بذلك كالجملة الوحدة، فصاغ العطف وإن لم يصح في الثانية وقوعها صلة، فتقول على هذا:(الذي يطير فيغضب زيد الذباب) و (الذي أكرمته فجاءني عمرو أخوك) ونحو ذلك.
ويشبه هاتين الجملتين جملتا الشرط والجزاء إذا وقعتا صلة للموصول، فإنه يكتفي بضمير واحد في إحدى الجملتين لحصول التسبب الذي يصيرهما كالجملة الواحدة، فتقول: أعجبني الذي إن أكرمته فرح الناس ولا فرق في
المسألتين بين كون الضمير في الجملة الأولى والثانية. وفي هذا ما يدل على أن غير الفاء لا يقع في هذا الموضع موقعها.
وقد زعم ابن عصفور أن (الواو) الجامعة مثل الفاء في هذا، فإن الواو قد تكون عاطفة غير جامعة، فلا يصير ما بعدها مع ما قبلها كشيء واحد، كقولك: هذان قائمان وضاحكان، فـ (قائمان) خبر هذين، و (ضاحكان) خبر ثان معطوف عليه.
وقد تكون جامعة تصير ما بعدها مع ما قبلها كشيء واحد، كقولك: هذان زيد وعمرو، ألا ترى أن (زيدًا) على انفراده ليس بخبر لهذين، وكذلك (عمرو) على انفراده ليس بخبر لهذين، وإنما الخبر (زيد وعمرو) معًا، فالواو صيرتهما بمنزلة خبر واحد.
وإذا ثبت هذا فإن قدرت (الواو) في قولك: (الذي يطير ويغضب زيد الذباب) جامعة، كأنك قلت: الذي يجتمع طيرانه وغضب زيدٍ الذباب.
- صارت الجملتان بمنزلة الجملة الواحدة، فيكون الحكم مثله مع (الفاء).
وإن قدرتها عاطفة غير جامعة كانت كل واحدة من الجملتين منفصلة من الأخرى فلم يجز.
وهذا التفصيل لم يقل به غيره، لأن (الواو) وإن قصد به الجمع، لا بد أن يصلح ما بعدها لوقوعه موقع ما قبلها، وهذا لا يصح هنا للزوم خلو الصلة من ضمير ما تقدم، بخلاف (الفاء) فإن ربط التسبيب فيها لا يصح معه تقدير وقوع ما بعدها موقع وما قبلها، لأن الثانية مسببة عن الأولى، فلا يمكن أن تقدر هنالك غير مسببة. وجمع (الواو) لا يقتضى ترتيبًا تسبيبًا، فلذلك يقدر ما بعدها في موضع ما قبلها.
وكذلك (ثم) وغيرها من حروف العطف حكم ما بعدها مع ما قبلها حكم (الواو) وما ذكره ابن عصفور من تقدير الجملتين مع (الواو) الجامعة جملة واحدة تقدير معنوي، لا تقاس عليه أحكام اللفظ، وقد نزل الجملتين، ولا موضع لهما من الإعراب، منزلة ما له موضع من الإعراب لفعل غير موجود. وهذا كله ضعيف، فالصحيح ما ذهب إليه غيره من اختصاص الموضع بالفاء، إلا أن في هذا الموضع نظرًا من وجهين:
أحدهما أنه خص هذا الحكم بالصلة وحدها، ولم يشرك معها غيرها.
والصلة والصفة والخبر والحال في هذا الحكم سواء، فكما يجوز أن يقال: الذي يطير فيغضب زيد الذباب، كذلك يجوز: مررت برجلٍ يبكي فيضحك عمرو، وزيد يقوم فيقعد عمرو، ومررت بزيدٍ يضحك فيبكي بشر.
لا مانع من هذا كله. وكلامه هذا يقتضي اختصاص ذلك بالصلة، وليس كذلك.
وقد نبه على هذا الموضع في "التسهيل" فقال في (الفاء): وتنفرد أيضًا بكذا، وبتسويغ الاكتفاء بضمير واحد فيما تضمن جملتين، من صلةٍ أو صفة أو خبرٍ. وقال في "الشرح": أو حالٍ.
ويمكن أن يعتذر عنه بأنه ذكر الصلة التي هي أشد افتقارا إلى الضمير العائد من غيرها، وترك ذكر ما سواها، ليلحقه الناظر به، فلا يعد تركه إغفالًا.
والثاني: أنه أتى بالمسألة قاصرة، فإنه ذكر في هذا الاختصاص عطف ما ليس بصلة على الصلة، وترك العكس، وهو عطف ما هو صلة وحده على
ما ليس وحده بصلة، كقولك: التي يقوم زيد فأكرمها هند، والذي يطير الذباب فيغضب زيد، فإن هذا جائز كالمسألة الأولى، والحكم فيهما سواء، فإن ربط الجملتين بالفاء يصيرهما كجملة الشرط والجزاء، ولا فرق في جملتي الشرط والجزاء بين أن يكون الضمير في الأولى، وأن يكون في الثانية، فتقول: زيد إن يقم يقم عمرو، [وزيد إن يقم عمرو] أكرمه، فكذلك هنا.
ولم ينبه على ذلك الناظم، فكأنه ذكر نصف المسألة، وترك النصف الآخر.
والعذر أنه قصد هنا أن يبين وجه الاختصاص على الجملة وترك ما عداه لأنه راجع إلى باب "الابتداء" لا إلى هذا الباب، وينهض هذا عذرًا عن السؤال الأول.
وأيضًا كما أنه يمكن أن يكون هنا نبه على إحدى المسألتين، وترك الأخرى لفهمها مما ذكر. والله أعلم.
ووجه ثالث، وهو أن تخصيص هذا الحكم بـ (الفاء) ليس على إطلاقه كما هو الظاهر من كلامه، بل هو مشروط بأن تكون (الفاء) تؤدي معنى السببية، فقد قالوا في قولهم:(يطير الذباب فيغضب زيد): لا يخلو أن تجعل (الفاء) رابطة لإحدى الجملتين بالأخرى ارتباط السبب بالمسبب أولًا، فإن لم تجعلها رابطة، بل قصدت أن تخبر عن الذباب بأنه يطير، وعن زيد بأنه يغضب، لا من أجل طيران الذباب، كان حكم كل واحدة من الجملتين حكمها لو انفردت.
وأما إن قصدت التسبيب، وأن غضب زيدٍ يقع لطيران الذباب، فحينئذٍ تصير الجملتان كالجملة الواحدة، فإذا كان كذلك كقولك: الذي يطير فيغضب زيد الذباب- جائز على وجه، وممتنع على وجه آخر، فيجوز إذا قصدت بـ (الفاء) معنى التسبيب، ويمتنع إذا قصدت بها مجرد العطف من غير تسبيب، كما يمتنع مع (ثم) وغيرها.
والناظم لم يفصل هذا التفصيل، بل قرينة ذكر الحروف العاطفة توهم أن هذا جائز مع قصد العطف من غير تسبيب، وذلك غير صحيح.
والجواب أنه إنما قصد تخصيص الفاء بذلك الحكم دون غيرها، ولا شك في صحة ذلك، وأهمل ما سوى ذلك لقصده إجمال الحكم. وهذا ضعيف، والله أعلم.
ووقع في هذين الشطرين لفظ واحد في القافيتين، لكن أحدهما منكر، والآخر معرف، وليس بإبطاء. وقد تقدم مثله.
بعضًا بحتي أعطف على كل ولا
…
يكون إلا غاية الذي تلا
لـ (حتى) في الكلام متصرفات، فقد تكون جارة، وقد تقدم ذكرها في (باب الجر).
وقد تكون حرف ابتداء، وسيأتي ذكرها في إعراب الفعل إن شاء الله تعالى.
وقد تكون عاطفة، وهي التي ذكر هنا، وهي أقل الأقسام في الكلام استعمالا.
ومعناها الغاية هنا، واشعر بذلك منصرفها في العطف، ولذلك قال: إنها لا تكون إلا غاية الذي تلا. وكذلك هي في باب الجر. وقد عرف بذلك ثمة.
ويريد هنا أنه لا يعطف بـ (حتى) إلا إذا اجتمع شرطان:
أحدهما أن يكون ما بعدها بعضًا، وما قبلها كلا لذلك البعض، وهو قوله:"بعضًا بحتي اعطف على كل" فلو كان ما بعدها غير بعضٍ لما قبلها لم يجز العطف بها بمقتضى مفهوم كلامه، فلا تقول: عجبت من الجارية حتى من ابنها، كما تقول: أعجبتني الجارية حتى كلامها، وحتى شعرها.
والثاني أن ذلك البعض لا يكون إلا غاية لما قبله، وذلك قوله:"ولا يكون إلا غاية الذي تلا" فضمير "يكون" عائد على "البعض" و "الذي" واقعة على "الكل" وعائده محذوف، وفاعل "تلا" هو "البعض" وتقديره: ولا يكون ما بعد (حتى) وهو البعض، إلا غاية الكل الذي تلاه بعضه.
ومعنى كونه غايةً أي في زيادة أو نقصان، أو كثرة أو قلة، أو قوة أو ضعف، أو صفر أو كبر، أو نحو ذلك. فلو لم يكن ما بعد (حتى) غاية لم يعطف بها. فلو قلت: خرج الفرسان حتى بنو فلان، وهم من وسط (الفرسان) لم يجز، لأن الغاية لا تصح إلا في الأطراف العالية أو السافلة.
وضابط ذلك أنه يزيد بذكره تعجبًا ومبالغةً في المعنى، بحيث لو لم يذكر لم يحصل الشعور به.
فإذا اجتمع الشرطان اقتضى العطف بـ (حتى) فقلت: فاق على الأبطال حتى عنترة، وعجز في العلم الأذكياء حتى الحكماء، وقصر عن وجوده الأجواد حتى حاتم.
ومن كلامهم "استنت الفصال حتى ألقرعي" و "كل شيء يحب ولده حتى الحباري" وفي الحديث "كل شيءٍ بقضاءٍ وقدرٍ حتى العجز الكيس" ومن ذلك كثير، وأنشد المؤلف:
قهرناكم حتى الكماه فأنتم
…
تهابوننا حتى بنينا الأصاغرا
والبعض الذي ذكر تارة يكون حقيقة كما مثل، وتارة يكون مجازًا، كقولك: أعجبتني الجارية حتى حديثهما. ومن ذلك قول الشاعر، وينسب للمتلمس، قال ابن سيده: ولم يقع في ديوان شعره، وإنما هو لابن مروان
النحوي قاله في قصة المتلمس:
ألقي الصحيفة كي يخفف رحله
…
والزاد حتى نعله ألقاها
على رواية نصب "النعل" كأنه جعل "النعل" بعضا لما قبل "حتى" مجازا، فصار في التقدير: ألقي ما يشغله حتى نعله. ويجوز في البيت غير هذا.
وهنا مسألتان، أحدهما أنه لم يذكر لـ (حتى) ما ذكر لما قبلها من الترتيب، فدل ذلك على أنها لا تقتضيه، فإذا قلت: قدم الحاج حتى المشاة، وزارني الناس حتى الأمير- لم يكن في ذلك دليل على تأخير قدوم المشاة عن جملة الحاج، ولا تأخير زيارة الأمير عن زيارة غيره من الناس.
وزعم بعض الناس أنها تقتضي الترتيب، فما بعدها مرتب على ما قبلها، فالأمير إنما زار بعد ما زار الناس، والمشاة إنما قدموا بعد قدوم الحاج، وكذلك سائر الأمثلة.
وهذه دعوى لا دليل عليها، وفي الحديث ما يدل على خلافها، وهو قوله عليه السلام:"كل شيء بقضاءٍ وقدرٍ حتى العجز والكيس" وليس في القضاء ولا في القدر ترتيب، وإنما الترتيب في ظهور المقضيات والمقدورات.
وكذلك من قال: "كل شيء يحب ولده حتى الحباري" فليست الحباري ممن يتأخر حبها ولدها عن غيرها. وإذا كان هذا مشهورًا لم يصح الحكم عليها باقتضاء ترتيب.
والثانية: أن الناظم نقصه هنا في اقتضاء (حتى) الغاية شرط، وهو حصول الإفادة. وقد اعتبره في "التسهيل"، وقال في "الشرح": وقيدت الغاية بأن يكون ذكرها مفيدًا تنبيها على أنك لو قلت: أتيتك الأيام حتى يومًا- لم يجز، لأنه لا فائدة فيه.
قال: فلو وقت ما بعد (حتى) حسن، وكانت فيه فائدة نحو: صمت الأيام حتى يوم الجمعة.
وإذا ثبت هذا دخل له في كلامه هنا ما أفاد وما لم يفد، وكان غير مستقيم. والجواب أن شرط الإفادة معلوم من أول الكتاب، فهو محال به على موضعه. وذكره بعد ذلك تكرارًا لا لقصدٍ آخر حسبما تقدم ذكره في موضع أخر. وأيضًا فإذا فسرنا الغاية بما تقدم أغنى ذلك عن اشتراط الإفادة. والله أعلم.
وأم بها أعطف إثر همز التسوية
…
أو همزة عن لفظ أي مغنيه
"أم" على وجهين، متصلة ومنقطعة. والمتصلة هي العاطفة، وهي التي بدأ بالكلام عليها، وإنما سميت متصلة لأن ما بعدها مع ما قبلها
لا يستغني أحدهما عن الآخر، ولا تحصل الفائدة بأحدهما عن الآخر، بل هما كلام واحد.
والمنقطعة بخلاف ذل، ما بعدها كلام منقطع مما قبلها. ولذلك سميت "منقطعة".
وأخير الناظم أن المتصلة، وهي العاطفة ها موضعان: أحدهما أن تقع بعد همزة التسوية وهمزة التسوية هي همزة الاستفهام الواقعة بعد (سواء) ونحو ذلك، مما تكون الهمزة معه على الأخبار لا على السؤال كقولك: ما أبالي أزيدًا لقيت أم حمارًا. وسواء على أقمت أم قعدت.
وفي القرآن الكريم {وإن أدري أقريب أم بعيد ما توعدون} وقوله {سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} و {سواء عليكم أدعوتموهم أم أنتم صامتون} وأنشد سيبويه لحسان بن ثابت رضي الله عنه:
ما أبالي أنب بالحزان تيس
…
أم لحاني بظهر غيبٍ لئيم
وإنما سميت هذه "همزة التسوية" لأنك سويت الأمرين عليك، كما استويا عليك علمًا حين قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ فجرى على الاستفهام، وإن لم يكن استفهامًا حقيقة، كما جرى "الاختصاص" على حرف النداء، وإن لم يكن
نداءً حقيقة في قولهم: اللهم اغفر لنا أيتها العصابة، لاجتماعهما في معنى الاختصاص والقصد، فالهمزة في التسوية على الإجبار لا على السؤال.
وكذلك إذا قلت: علمت أزيد في الدار أم عمرو- من هذا القبيل أيضا، لأنه ليس باستفهام حقيقة.
والموضع الثاني: أن تقع بعد همزة تغني عن لفظ "أي" أي تغني المتكلم عن إتيانه بلفظ "أي" الاستفهامية التي هي سؤال عن التعيين، يعني أنها مرادفتها.
فإذا قلت: أزيد في الدار أم عمرو؟ فالهمزة هنا مع (أم) مرادفة لـ (أي) كأنك قلت: أيهما في الدار؟ تسأل عن تعيين المستقر في الدار، لا عن وقوع الاستقرار.
فإذا اجتمعت الهمزة مع (أم) على هذا الوضع فـ (أم) متصلة عاطفة، وذلك نحو قوله تعالى:{قل أذلك خير أم جنة الخلد التي وعد المتقون} وقوله: {أذلك خير نزلًا أم شجرة الزقوم} وقوله: {أأنتم أشد خلقًا أم السماء} وهو كثير.
وما قاله الناظم هنا من كون الهمزة مع (أم) صالحةً لوقوع (أي) موقعها كافٍ في التعريف بـ (أم) المتصلة لأنه شرط واحد جامع لسائر الشروط التي ذكر غيره، لكنه تعريف مجمل، فلا بد من إيضاح الشروط التي تضمنها هذا الشرط. وإذ ذاك يتبين مراده حق التبيين بحول الله.
والذي تضمن هذا الشرط ستة شروط:
أحدها أن تقع (أم) بعد استفهام كما تقدم، فلو كان ما قبلها خبرًا لم تكن عاطفة، كقولك: إن زيدًا قائم أم قاعد، لأن (أيا) لا تصلح ههنا.
ومنه قولهم: إنها لإبل أم شاء، وفي القرآن المجيد- {آلم تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين أم يقولون افتراه} ومنه في أحد الاحتمالين ما أنشده سيبويه من قول الأخطل:
كذبتك عينك أم رأيت بواسط
…
غلس الظلام من الرباب خيالًا
وأنشد أيضًا لكثير:
أليس أبي بالنضر أم ليس والدي
…
لكل نجيب من خزاعة أزهرا
والثاني: أن يكون الاستفهام بالهمزة لا بغيرها من أدواته، وهو نص قوله:"أو همزة صفتها كذا" فلو كان الاستفهام بغير الهمزة لم تكن عاطفة نحو قولك: هل زيد في الدار أم عمرو؟ لأن (هل) لا تقع موقع (أي) لأن (أيًا) سؤال
عن التعيين، و (هل) سؤال عن الوقوع، فلم يصح أن تقع موقعها، فـ (أم) في المثال منقطعة.
ومن ذلك قول مالك بن الريب، أنشده سيبويه:
ألا ليت شعري هل تغيرت الرحى
…
رحى الحزن أم أضحت بفلجٍ كما هيا
على رواية "أم" وأنشد أيضًا لعلقمة بن عبدة:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
…
أم حبلها إذنأتك اليوم مصروم
والثالث: ألا تقع بعد (أم) أداة استفهام، ، فإنه يجوز أن تقع أدوات الاستفهام بعدها ما عدا الهمزة، فتقول: أعندك زيد أم هل عندك عمرو، وتقول: أيكرمني زيد أم من يكرمني؟ وتقول: أنتظرك أم كيف أصنع؟ فـ (أم) في هذه المواضع منقطعة. ومعنى (أي) فيها مفقود.
ومثله ما أنشده سيبويه لزفر بن الحارث، أو للجحاف بن حكيم السلمي:
أبا مالك هل لمتني مذ حضضتني
…
على القتل أم هل لامنى منك لائم
واجتمع في هذا البيت فقد هذا الشرط والذي قبله. وكذلك بيتًا علقمة أنشدهما سيبويه أيضًا:
هل ما علمت وما استودعت مكتوم
…
أم حبلها إذ نأتك اليوم مصروم
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
…
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
وقال أفنون التغلبي، أنشده ابن جني:
أني جزوا عامرًا سوأى بفعلهم
…
أم كيف يجزونني السوأى من الحسن
أم كيف ينفع ما تعطي العلوق به
…
رئمان أنفٍ إذا ما ضن باللبن
وقال جرير:
أين الذين بنار عمروٍ حرقوا
…
أم أين أسعد فيكم المسترضع
والرابع ألا يتكرر الخبر بعد (أم) كقولك: أزيد عندك أم عندك عمرو؟ فإن الهمزة هنا لا تغني عن لفظ (أي) لأنك لو قلت: أيها عندك؟ لم يصح إلا على التوكيد، ولم يكن ذلك في أصل الكلام، فلابد أن يكون ما بعد (أم) منقطعًا عما قبلها. وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم قام عمرو؟
وغن شئت قلت في هذا الشرط: ألا يكون ما بعد (أم) جملة ليست في معنى المفرد كما تمثيله- فهو صحيح. وكذلك إذا قلت: أقام زيد أم عمرو منطلق، لأن (أيا) لا تصلح هنا.
ومنه في القرآن الكريم {أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم/ ورسوله} وقوله حكاية عن فرعون: {أفلا تبصرون أم أنا خير من هذا الذي هو مهين} .
فأما إن وقع بعدها جملة في معنى المفرد فلا يلزم أن تكون منقطعة، كقولك: أقام زيد ام قعد؟ فالمعنى: أي الفعلين أوقع؟ وكذلك قول الأسود بن يعفر:
لعمرك مأدرى وإن كنت داريًا
…
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
لأن "ابن سهم" و"ابن منقر" وإن كانا خبرين لـ (شعيث) - لا صفتان على ما قرره المؤلف- فالمعنى معنى المفرد، أي: أشعيث بن سهم أم ابن منقر؟ .
وكذلك ما أنشده المؤلف:
ولست أبالي بعد فقدي مالكًا
…
أموتي ناءٍ أم هو الآن واقع
المعنى: أمونى بعيد أم قريب؟
والخامس: ألا يكون ما بعد (أم) ردًا ونفيًا لما قبلها، كقولك: أقام زيد أم لم يقم؟ وأعندك زيد أم لا؟ فإن (أم) ههنا غير عاطفة، قال سيبويه: كأنه حين قال: أعندك زيد كان يظن أنه عنده، ثم أدركه مثل ذلك الظن في أنه ليس عنده فقال: أم لا. ويحتمل أن يكون منه قول الأخطل:
* كذبتك عينك أم رأيت بواسط*
على تقدير حذف الهمزة، لأن المعنى: أكذبتك عينك أم لا؟ وهذا إنما يكون كذلك مع غير همزة التسوية. فأما مع همزة التسوية فالمعنى معنى (أي).
والسادس: أن يكون الكلام مع الهمزة و (أم) يؤدي معنى (أي) وهو المنصوص له الذي ضبط به هذه الشروط كلها، وذلك أنك إذا قلت:(أزيد عندك أم عمرو) فالشروط لخمسة موجودة ظاهرًا، ولكن الاحتمال في أن تكون متصلة أم منقطعة قائم، إذ يمكن أن يكون الكلام في تقدير: أيهما عندك؟ أو على تقدير: بل أعندك عمرو، فلابد من هذا الشرط. وبه حصل الناظم ذلك كله، وهو حسن.
فإن قيل: إن هذا التقدير مشكل من وجهين، أحدهما أن العطف بـ (أم) بعد همزة التسوية غير محتاج إلى التنصيص عليه، لأن ما بعده يحصله، ألا ترى أن همز التسوية مغن عن لفظ (أي) إذ كان قولك:(سواء على أقمت أم قعدت) يؤدي معنى: سواء على أيهما كان، وكذلك (ما أبالي أزيدًا لقيت أم عمرًا) تقديره: ما أبالي أي هذين لقيت، وبذلك قدرها سيبويه.
وإذا كان كذلك، وكان شأن الناظم الشح بالألفاظ جدًا حيث لا تعد حشوًا، فما ظنك بها إذا كانت تكرارًا من غير مزيد فائدة؟ !
والثاني: على تسليم أم تقدم فقوله: "أو همزة عن لفظ أي مغنيه" يقتضي بظاهره أن الهمزة وحدها هي المغنية عن لفظ (أي) وأن (أم) ليس لها في ذلك المعنى دخول. وهذا غير صحيح، بل المعطي لمعنى (أي) هو مجموعهما- ألا ترى أنك إنما تضيف (أيا) حين تقدر الكلام بها إلى ما دخلت عليه الهمزة و (أم)
معًا، ولا يصح غير ذلك، إذ ليس قولك/:(لا أدري أيهما قام) تقديرًا لقولك: (أقام زيد) وحده، دون قولك:(أم عمرو) وإذا ثبت هذا كان تخصيص الناظم هذا الحكم بالهمزة مشكلًا.
فالجواب عن الأول أن يقال: لعله قصد التفرقة بين همزة الاستفهام إذا خلع عنها الدلالة عليه، وبينها إذا بقيت على أصلها، فإنها في التسوية قد خلع عنها معناها ولم يبق فيها من حكم الاستفهام إلا الحكم اللفظي وذلك قد يخرج (أم عن الاتصال إلى الانقطاع. ألا ترى كيف وجهوا الانقطاع في قوله:
أليس أبي بالنضر أم ليس والدي
…
لكل نجيب من خزاعة أزهرا
بتكرار (ليس) وبالإثبات، فالاستفهام في الهمزة مستهلك، وذلك من أسباب الانقطاع، فربما يفهم ذلك في همزة التسوية، فيقضي بانقطاعها، بخلافها في غير ذلك الموضع، فإنه قال فيه:"أو همزة عن اللفظ أو مغنيه" وذلك مشعر بحصول معنى الاستفهام فيها، وبقائها على أصلها، فكأنه أراد بيان التفرقة بين الموضعين، والله أعلم.
وأما الثاني فلعله اجتزأ في الإغناء بالهمزة اتساعًا وإتكالًا على فهم المعنى، والله أعلم.
وربما حذفت الهمزة إن
…
كان خفا المعنى بحذفها أمن
يريد أن (الهمزة) المذكورة قد تحذف من اللفظ، وهي مرادة في المعنى، وذلك قليل في الكلام، ولكن لا يجوز ذلك إلا إذا أمن اللبس بالخبر عندما تحذف.
فإذا قلت: (ما أدري قام زيد أم قعد) فهو على تقدير الهمزة لدلالة الكلام عليها.
وفي قراءة ابن محيصن {سواء عليهم أنذرتهم أم لم تنذرهم} بهمزة واحدة، فالمراد "أأنذرتهم" فحذف الهمزة.
ومن ذلك ما أنشد سيبويه للأسود بن يعفر:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا
…
شعيث بن سهم أم شعيث بن منقر
وأنشد أبو الحسن في الكتاب لعمر بن أبي ربيعة:
لعمرك ما أدري وإن كنت داريًا
…
بسبع رمين الجمر أم بثمان
وأنشد المبرد وغيره لعمران بن حطان:
فأصبحت فيهم آمنًا لا كمعشرٍ
…
أتوني فقالوا من ربيعة أم مضر
أم الحي قحطان فتلكم سفاهة
…
كما قال لي روح وصاحبه زفر
والعرب قد تحذف الهمزة إذا دل عليها الدليل مطلقًا، فقد قيل في قوله:{وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل} إنه على تقدير: أو تلك نعمة.
وأنشد ابن جني للكميت:
طربت وما شوقًا إلى البيض أطرب
…
ولا لعبًا مني وذو الشيب يلعب
قيل: أراد: أوذوا الشيب يلعب؟
ولكن هذا كله قليل كما قال، ووجه قلته أن حذف الحرف إجحاف، لأنه من اختصار المختصر. قال ابن جني: أخبرنا أبو علي قال: قال أبو بكر: حذف الحرف ليس بقياس، وذلك أن الحرف نائب عن الفعل بفاعله. ألا ترى أنك إذا قلت:(ما قام زيد) فقد نابت (ما) عن (أنفى) كما نابت (إلا) عن (أستثني)
وكما نابت الهمزة عن (أستفهم) وكما نابت حروف/ العطف عن (أعطف) ونحو ذلك.
فلو ذهبت تحذف الحرف لكان ذلك اختصارًا، واختصار المختصر إجحاف به، إلا أنه إذا صح التوجه إليه جاز في بعض الأحوال حذفه لقوة الدلالة عليه.
والألف واللام في "الهمزة" للعهد في الهمزة المذكورة مع (أم) المتصلة، وهي همزة التسوية، والهمزة الأخرى، وأعاد ذكرها مفردة مع ذكره همزتين، إما لأنهما في الأصل واحدة، وإما لعطفه إحداهما على الأخرى بـ (أو) ولم يعرج على الهمزة في "المنقطعة" لعدم احتياجه إلى ذلك فيها، وإن كان حذف الهمزة معها جائزًا، فقد أجاز سيبويه في قوله:
* كذبتك عينك أم رأيت بواسط*
أن يكون على تقدير: أكذبتك، وإن كانت (أم) عنده منقطعة في البيت ثم ذكر المنقطعة فقال:
وبانقطاع وبمعنى بل وفت
…
إن تك مما قيدت به خلت
يعني أن (أم) إن خلت من ذلك القيد المتقدم، فلم تقع بعد همزة التسوية، ولا بعد همزة تغني عن ذكر (أي) فهي "المنقطعة" أو التي بمعنى (بل).
واقتضى هذا الكلام أنها إذا خلت من التقييد المذكور تفي بأمرين اثنين، أحدهما الانقطاع، والآخر الإضراب المجرد، وهو معنى (بل) فالتي تقتضي الانقطاع هي المؤدية معنى (بل) والهمزة معًا، فإذا قلت:(إنها لإبل أم شاء) فالتقدير: بل أهي شاء؟ كأنه رأى أشباحًا على بعد فتوهم أنها إبل، فقال: إنها إبل، ثم أدركه الشك فاستدرك الاستثبات فقال: أم شاء، فأضرب عن ذكر الكلام الأول، ثم أخذ يسأل: أهي شاء؟
وهكذا سائر ما تقدم من الأمثلة في تفصيل شروط الاتصال، فلا معنى لتكرارها. وقد تبين معنى الانقطاع، إذ كان بـ (أم) مضربًا عما تقدم، ومستأنفاً سؤالًا.
وجمهور النحويين متفقون على هذا المعنى لـ (أم) المنقطعة، وقد حكى الأبذى فيها خلافًا بين البصريين والكوفيين، فحكى عن البصريين ما ذكر، وعن الكوفيين قولين، أحدهما حكاه عن الفراء، أنها بمعنى (بل) وحدها مطلقًا، فإذا قلت: هل قام زيد أم عمرو قائم؟ أو قلت: قام زيد أم عمرو قائم؟ فالمعنى عنده: بل عمرو قائم.
والثاني حكاه عن الكسائي وهشام أنها بمعنى (بل) لكن ما بعدها بمنزلة ما قبلها، فإذا قلت: قام زيد أم عمرو قائم، فالتقدير: بل عمرو قائم. وإذا قلت: هل قام زيد أم عمرو قائم، فال تقدير بل هل عمرو قائم.
وهذا كله لا دليل عليه، بل الذي دل عليه الاستقراء ما تقدم. قال الأبذي: والدليل على ذلك عندي أن العرب لا تدخلها على همزة الاستفهام، لا تقول: قام زيد أم أعمرو قائم؟ كما تقول: قام زيد بل أعمرو قائم: ؟ وما ذاك إلا لتضمنها معنى الهمزة، إذ لا يجوز دخول همزة الاستفهام على مثلها، وإنما تدخل (أم) على كلام فيه غير الهمزة من أدوات الاستفهام، لأن الهمزة قد تدخل على غيرها من أخواتها، كما قال:
سائل فوارس يربوع بجهلتها
…
أهل رأونا بوادي القف ذي الأكم
فكذلك تدخل (أم) عليها، كقوله، وهو علقمة:
أم هل كبير بكى لم يقض عبرته
…
إثر الأحبة يوم البين مشكوم
وقوله فقيل هذا:
* أم حبلها إذا نأتك اليوم مصروم*
بمنزلة قوله: بل أحبلها، يشهد له الاستفهام الذي بعده هذا مجمل ما قال. وللمنازع أن ينازع فيه.
والثالث من ذلك ما تلقاه أهل الخبرة مشافهة من العرب/ كما تتلقى مفردات اللغة، ولاشك عند من مارس هذا الشأن من العارفين بمصادر اللغة ومواردها في ثبوت معنى (بل) والهمزة لـ (أم) هذه.
لكن يبقى أن يقال: هل ثبت لها استعمال آخر أم لا فأثبته الناظم، وهو الثاني مما وفت به (أم) وذلك أن تكون بمعنى (بل) وحدها. وهذا يشير إلى أنها ترادفها في العطف، وهو نصه في غير هذا النظم، وذلك إذا وقع بعدها المفرد، وهو مذهب الفراء، أنها تأتي بمعنى (بل) من غير استفهام، وأنشد الفراء على ذلك:
فو الله ما أدري أسلمي تغولت
…
أم النوم أم كل إلى حبيب
المعنى عنده: بل كل إلى حبيب. وعليه حمل قوله تعالى: {أم من
خلق السماوات والأرض} وما بعدها من الآيات في سورة "النمل".
قال ابن طاهر: ولا يمتنع عندي، إذا أرادت بها مذهب (بل) أن تكون عاطفة مثلها، وتدخل في الغلط والنسيان. قال ابن خروف: وهو قول ظاهر صحيح المعنى.
فابن مالك قال بقول الفراء في بعض مواردها، وجعل من ذلك في عطف المفرد قولهم:(إنها لإبل أم شاء) تقديره عنده: بل شاء. وظن أن بن جني هو المخالف في هذا المثال وحده، إذ قدره بـ (بل) والهمزة، فرد عليه بان ذلك دعوى لا دليل عليها، وأن العرب قالت: إن هناك إبلًا أم شاء، فنصب "الشاء" بعد (أم).
وظاهر "الكتاب" في المثال المرفوع أنه على ما قاله ابن جني. وهو مذهب جمهور الناس فيه، ولا يخالف أحد في المثال المنصوب إذا ثبت في السماع أنها فيه كـ (بل) وحدها ولكن ذلك- ولا يد- قليل، فعليه ينبني النظر في المثال المرفوع، وإذ ذاك يقال فيه باحتمال الوجهين، لا على سواء، بل على وزان اتساع البابين.
وإذا كان تقدير (أم) بـ (بل) والهمزة معًا هو الشائع الكثير، وتقديرها بـ (بل) وحدها قليل- فتجويز الوجهين على هذه النسبة. إلا أن الناظم قال:
"وبمعنى بل وفت" فلم يقيد ذلك بقلة، كما لم يقيد ذات الانقطاع بقلة، فيؤخذ من ذلك تجويز الوجهين عنده في المثال المذكور.
والتحقيق في كلامه وكلام غيره أنها تكون "منقطعة" بلا إشكال، وتكون أيضًا بمعنى (بل) كذلك، ولا ينبغي أن يكون فيها خلاف، وذلك إذا وقع بعدها أداة استفهام، نحو:
*أم هل كبير بكى*
*أم كيف يجزونني السوءى من الحسن*
وما أشبه ذلك، إذ لا يصح أن تتضمن معنى الاستفهام، ثم يتكرر بعدها، ولكن التأويل يختلف فيه هنا.
فمن قال بوقعها بمعنى (بل) كالفراء أو كابن مالك يجعل هذا الضرب من ذلك بغير تكلف تأويل.
ومن قال بنفي ذلك، كظاهر كلام سيبويه وابن جني، فيجعله من باب "خلع الأدلة" كأنهم خلعوا عن (أم) دلالتها على الاستفهام لوجود أدلة بعدها. (فهذا عنده عارض على غير الأصل، فإذا لم توجد الأداة بعدها) رجعت إلى/ أصلها من الانقطاع التام. وهذا المعنى معزز في الأصول.
ومن هذا القسم ما إذا وقع بعدها المفرد على غير تأويل الجملة، كما في قولهم:(إن فيها إبلا أم شاء) إن ثبت، فلا ينبغي في مثل هذا أيضًا خلاف، إلا في كونه يقاس عليه أولًا.
وأما إذا وقع بعدها المفرد، وأمكن تأويله بالجملة، كما في قولهم:(إنها لإبل أم شاء) فقد تقدم ما لابن مالك فيه من الخلاف، وأن الاحتمال فيه قائم، ولا يتعين عليه ما قال. وهو مقتضي إطلاقه هنا.
و(في، وأوفى): ؛ لغتان، والرباعية هي لغة القرآن، وقد جمع بينهما الشاعر في قوله:
أما ابن طوق فقد أوفى بذمته
…
كما وفى بقلاص النجم حاديها
وهو من الوفاء بالعهد، أي أتمت الدلالة على المعنيين، وحافظت على ذلك.
وفي هذا البيت ضرورة، وهو ظهور الجزم في فعل الشرط في قوله:"إن تك" مع أنه ليس له جواب ينجزم. وهو موجود في الشعر، وقد تقدم مثله، وسيأتي أيضًا إن شاء الله تعالى:
خير أبح قسم بأو وأبهم
…
واشكك وإضراب بها أيضًا نمي
وربما عاقبت الواو إذا
…
لم يلف ذو النطق للبس منفذًا
أتى لـ (أو) بأوجه من الاستعمال المعنوي سبعة وهي: التخيير، والإباحة، والتقسيم، والإبهام، والشك، والإضراب، ومعاقبة الواو.
وأصلها أن تكون لأحد الشيئين أو الأشياء. وأما استعمالها لخصوص تلك المعاني فإنما ذلك بحسب قرائن الكلام، لا أنها وضع لها أصلي، هذا هو القياس.
وما عد الناظم لها من المواضع فمن المعاني الاستعمالية. وليست هذه المعاني كلها متفقًا عليها، بل في ثبوت بعضها خلاف سيذكر إن شاء الله. فأما التخيير: فنحو قولك: (كل سمكًا أو اشرب لبنًا) فهذا على التخيير في استعمال أحد الشيئين، أيهما كان.
وفي القرآن الكريم: {فكفارته إطعام عشرة مساكين من أوسط ما تطعمون أهليكم أو كسوتهم أو تحرير رقبة} .
وأما الإباحة: فنحو (جالس الحسن أو ابن سيرين) أي جالس أيهما شئت.
ومنه في القرآن الكريم: {ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن} إلى قوله: {أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء} والفرق عند ابن مالك بين التخيير والإباحة أن الإباحة يجوز فيها الجمع، ولذلك يحسن وقوع (الواو) فيها موقع (أو) فتقول: جالس الحسن وابن سيرين، بخلاف التخيير، فإنه يقتضي الجمع، ولا تصلح فيه (الواو) في موضع (أو).
ومن ذلك أيضًا قوله تعالى: {ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما أو الحوايا أو ما اختلط بعظم} .
وأما التقسيم: فالمراد به عنده كون (أو) لم تأت لمعنى من تلك المعاني المذكورة، بل مجردة منها، فإن مع كل واحدة منها تقسيمًا. وعبر عن هذا/ المعنى في "التسهيل" بالتفريق المجرد، وزعم أنه أجود عبارة من التقسيم، قال: لأن استعمال (الواو) في التقسيم أجود من استعمال (أو) يعتني بخلاف التفريق، كقولك:(الكلمة اسم وفعل وحرف) و (الاسم ظاهر ومضمر) و (الفعل ماض وأمر ومضارع) و (الحرف عامل وغير عامل) ومنه قول الشاعر:
وننصر مولانا ونعلم أنه
…
كما الناس مجروم عليه وجارم
ومن مثل هذا القسم عند المؤلف قوله تعالى: {أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى} وقوله: {إن يكن غنيًا أو فقيرًا فالله أولى بهما} .
وقد يدخل في هذا ما كان نحو قوله: {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى} وقوله: {وقالوا كونوا هودًا أو نصارى تهتدوا} فالمعنى: وقالت اليهود: لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا، وقالت النصارى: لن يدخل الجنة إلا من كان نصارى. وكذلك الآية الأخرى، وقالت اليهود: كونوا هودًا، وقالت النصارى: كونوا نصارى.
وعن هذا عبروا بـ (التفصيل) وهو والتقسيم متقاربان، ولفظ التفصيل هنا أظهر.
وأما الإبهام: فنحو قولك: (لقيت زيدًا أو عمرًا) وأنت تعلم من لقيت، ولكنك أبهمت على السامع. وفي القرآن:{وإنا أو إياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين} .
وقد علم الرسول عليه السلام أنه هو ومن اتبعه على الهدى، وأن المعاندين في ضلال مبين، ولكنه أبهم ذلك تنزلًا للخصم، وكذلك قوله تعالى:
{وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} في رأي طائفة، وقوله:{أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا} فالله أعلم بما كان، إلا أنه أبهم على عباده.
وأما الشك: فكقولك: (قام زيد أو عمرو) إذا كنت شاكًا أيهما القائم. وقد يكون الكلام معها مبنيًا على الشك، وقد يكون الشك طارئًا بعدما انبنى على التحقيق بخلاف (إما) حسبما يذكر إن شاء الله تعالى.
وأما الإضراب بها: فنحو قراءة أبي السمال {أو كلما عاهدوا عهدًا نبذه فريق منهم) بإسكان الواو. ويؤكد ذلك قوله: {بل أكثرهم لا يؤمنون} فكأنه قال: بل كلما عاهدوا عهدًا، بل أكثرهم لا يؤمنون. وزعم أن ذلك موجود في الكلام كثيرًا، يقول الرجل لمن يتهدده والله لأفعلن بك كذا، فيقول صاحبه: أو يحسن الله رأيك، أو يغير الله ما في نفسك.
وإلى نحو هذا ذهب الفراء في قول ذي الرمة:
بدت مثل قرن الشمس في رونق الضحى
…
وصورتها أو أنت في العين أملح
قال: معناه: بل أنت، وكذلك قال في قوله:{وأرسلناه إلى مائة ألفٍ أو يزيدون} وقوله: {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} المعنى عنده: بل يزيدون، بل أشد قسوة وحكي الفراء: اذهب إلى زيدٍ أودع ذلك فلا تبرح اليوم.
ومعنى "نمي" روى وأسند، يقال: نميت الحديث نميًا، إذا أسندته ورفعته، أي روى هذا المعنى في (أو) عن العرب، وعرف من كلامها، غير أن في كلامه إشعارًا بقلة ذلك في الاستعمال.
وأما معاقبتها للواو: فهو قليل كما نبه بـ (ربما) لكنه شرط في ذلك ألا يقع في الكلام لبس باستعمالها في معنى (الواو) فيتوهم في (أو) أنها ليست بمعنى (الواو) بل بمعنى آخر من المعاني الثابتة لها، فلا بد من تعين ذلك فيها. وبهذا القيد ثبتت في السماع، فلا بد من اعتباره في القياس.
فمما يتعين لذلك عند بعضٍ ما في الحديث من قوله عليه السلام: " اسكن فما عليك إلا نبي أو صديق أو شهيد" وقول ابن عباس رضي الله عنه: "كل ما شئت، واشرب ما شئت ما أخطأك اثنتان، صرف أو مخيلة" وعند المؤلف أن قول الله تعالى: {ومن يكسب خطيئة أو
إثما} الآية. (أو) فيه معنى الواو، لأن الإثم بمعنى الخطيئة فهي بمعنى (الواو) التي في قول الشاعر:
وهند أتى من دونها النأي والبعد
وعلى ذلك أيضًا حمل قوله تعالى: {ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا} أي: وكفورًا.
وكذلك قول النابغة:
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنل
…
إلى حمامتنا أو نصفه فقد
قالوا: أراد: ونصفه، كالرواية الأخرى.
ومن ذلك أشياء تنقل، ولكنه ليس في كثرة ما تقدم. وأكثر ذلك محتمل، فلذلك، قال فيه:"وربما عاقبت الواو"
فلو كان الموضع موهمًا في (أو) معنى من المعاني المتقدمة، ولم يتعين فيه معنى (الواو) لم يجز وقوعها هنالك، لأن الناطق قد وجد منفذًا للبس، فلا تقول:
قام زيد أو عمرو، وأنت تعني: قام زيد وعمرو، لأن قصد (الواو) غير متعين. وهذا ظاهر.
ثم هنا نظران، أحدهما في مواضع الخلاف من معاني (أو) وذلك ثلاثة:
الأول: معنى (التقسيم والتفصيل) فلم يثبته المتقدمون، وإنما أثبته من بعدهم، والظاهر إثباته، إذ يبعد تأويل ما جاء من ذلك على إباحة أو غيرها، وكذلك ما حكي سيبويه من قولهم: وكل حق له سميناه أو لم نسمه، وكل حق داخلٍ في كذا أو خارجٍ عنه، فـ (أو) هنا للتقسيم، إذ المعنى على (الواو) لكنهم أتوا بـ (أو) لما كانا نوعين لا يجتمعان وكذلك قول الشاعر:
وكان سيان ألا يسرحوا نعمًا
…
أو يسرحوه بها واغبرت السوح
فهي هنا للتقسيم. وكذا قول أمريء ألقيس:
وظل طهاة اللحم من بين منضجٍ
…
صفيف شواءٍ أو قديرٍ معجل
وقول أبي ذؤيب:
فأبدهن حتوفهن فهارب
…
بذمائه أو بارك متجعجع
إلى أمثال ذلك، مما يبعد فيه الرجوع إلى المعاني المتفق عليها، فالأحسن التزام القول به.
والثاني: معنى (الإضراب) فجمهور البصريين على إنكاره. ونقل ابن مالك عن أبي على القول به، وعده ابن جني مما يقال به، ويذهب إليه، وإن لم يظهر منه التزامه. وإليه ذهب الكوفيون، ومال إليه الناظم لظهور وجهه، ووضوح الشواهد عليه. والحمل على الظاهر أصل يرجع إليه تحاميًا من تكلف التأويل من غير ضرورة.
/فقد تأول البصريون كثيرًا من الشواهد عليه، ولا حاجة إلى ذلك.
وقد علمت من مذهب ابن مالك أنه متبع للظاهر، غير متعمق في القياس النظري، وهذا من ذلك.
والثالث: معنى (الواو) فالبصريون لا يثبتونه، والكهفيون قائلون بثبوته على الجملة، ولم أر من يحكي عنهم أنهم يعدونه في (أو) نادرًا،
بل أطلق القول بالجواز عنهم، من غير تقييد بقلة، فكأن الناظم توسط بين المذهبين، فأجاز أن تأتي (أو) قليلًا. ومما جاء من ذلك قول جرير.
نال الخلافة أو كانت له قدرًا
…
كما أتى ربه موسى على قدر
فالظاهر فيه معنى (الواو). والله أعلم.
النظر الثاني: فيما ورد على الناظم في هذا الفصل، وذلك اعتراضان: أحدهما أنه أطلق القول في (أو) بالنسبة إلى استعمالها في هذا المعاني، ولم يقيدها. وهي مقيدة الاستعمال فيها.
فالتخيير والإباحة يختصان بالطلب وما أدى معناه، والشك والإبهام يختصان بالخبر، ولا يدخل أحد القسمين على الآخر، فلا تكون في الخبر للتخيير ولا للإباحة، ولا تكون في الطلب للشك ولا للإبهام.
وأما الثلاثة الباقية فظاهرها أنها تستعمل في الموضعين، وإذا كان كذلك فيوهم إطلاقه في الجميع عدم الاختصاص، وليس كذلك.
والثاني: أنه جعل معاقبة (أو) للواو قسمًا على حدته، ونادرًا لا شهيرًا، وذلك شكل، فإن قسم الإباحة قد جعله مرادفًا للواو كما تقدم، حيث جعل علامة قصد الإباحة حسن وقوع الواو موقعها.
ففي هذا شيئان، أحدهما تداخل التقسيم، فإن معاقبة (أو) للواو يدخل في قسم الإباحة بأسره، وكذلك يدخل فيه كثير مما تقدم في قسم التقسيم، إذا قال سيبويه هنالك: إن الواو تدخل في موضع (أو) وكل واحدة تجزيء من
أختها. فثلاثة الأقسام إذًا متداخلة، تقرب من الرجوع إلى قسم واحد، وذلك خلل في وضع التعليم.
والثاني ينبني على هذا، وهو أن معاقبتها للواو ليست بنادرة لما تقدم، لأن بابي الإباحة والتقسيم واسعان.
وأيضًا تعاقبهما في النفي وشبهه، فأما النفي فنحو قوله تعالى:{ولا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم أو بيوت أبائكم} إلى آخر ما جاء منها في قوله: {ليس عليكم جناح أن تأكلوا جميعًا أو أشتاتًا} .
وأما شبه النفي فقوله تعالى: {ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا} فالمعنى في هذا النوع أيضًا معنى (الواو). وليس بقليل، بل هو شائع كثير، فكان قوله:"وربما عاقبت الواو" مشكلا.
والجواب عن الأول أنه إنما تعرض لمعانيها على الجملة، ولم يقيد موضعها طلبا للاختصار، ولأن التخيير والإباحة حكمان يقتصان بمعناهما الطلب، لأنهما حكمان يقتضيان طلبا نفسيًا كالوجوب والتحريم.
وأما الشك والإبهام فتقتضيان للخبر، لأنهما تردد أو نحوه فيما من شأنه أن يقع في الخارج أولا يقع، فكأنه اجتزأ بذلك لعدم تأتي خلافه.
وأما سائر الأقسام فعلى مقتضى الإطلاق. وعلى أنه كذلك فعل في "التسهيل" فلم يعين لها موضعا إلا في وقوعها بمعنى (ولا) فإنه قيده بالنهي والنفي، بخلاف ما فعل في "الفوائد المحوية".
والجواب عن الثاني أن مرادفة (أو) للواو، ومعاقبتها لها معلوم أنه أراد به كون (أو) لمعنى الجمع، وهذا هو النادر كما قال.
وأما وقوع الواو موقع (أو) في الإباحة فليس على معنى الجمع المطلق، وذلك أن العرب قال: خذه بما عز أو هان، وهو الأكثر، وقال بعضهم: خذه بما عز وهان. فإذا كلن بـ (أو) فالمعنى: خذه بالهين، فإن لم تقدر فبالعزيز، فإن لم تقدر فيهما جميعا. والمعنى: لا يفوتك على حال، وهو المعنى في قولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، فـ (أو) بمعنى الواو في الحالة الثالثة، والواو في معنى (أو) في الحالة الأولى والثانية.
فليست (أو) بمعنى (الواو) على الإطلاق، ولا (الواو) بمعنى نفسها على الإطلاق. ولذلك قال سيبويه: وكل واحده منهما تجزيء من أختها في معنى: لا يفوتك على حال.
فليس إطلاق المؤلف أن (الواو) تحسن في موضع (أو) الإباحية يحسن على هذا، ولم يثبت تخلص (أو) فيها لمعنى (الواو) إلا باعتبار ما.
وكذلك (أو) التقسيمية، القول فيها كالقول في هذه، لا تكون (الواو) فيها إلا في معنى (أو) وذلك أن الرجل قد يشتري دارًا بجميع حقوقها، داخلها وخارجها، أو داخلها وليس لها من خارج حق. عانت قال الكاتب: وكل حق لها داخلٍ فيها أو خارجٍ عنها- عم جميع حقوقها، قليلة كانت أو كثيرة، داخلًا أو
خارجًا، أو داخلًا لا خارجًا، فإن ذكر هنا (الواو) على معناها من الجمع المطلق، أثبتت حقوقًا داخلًا وخارجًا، وقد لا يكون لها حق خارجًا. فإذا قال:(أو) وقعت على الداخل والخارج، وعلى الداخل وحده إن لم يكن لها من خارج حق. وجاز ذلك للمعنى الذي فيها من التقسيم. فإذا وقعت (الواو) هنا، وقد سمع، حملت على معنى (أو) على تقدير: إن كان داخلا، وإن كان خارجا.
فإذا نبين هذا علمت أن (أو) في الإباحة وفي التقسيم ليست معاقبة للواو الجامعة على معناها الأصيل أصلًا، وإنما تقع على معناه الأصيل نادرًا- كما قال- في غير الإباحة والتقسيم.
ولأجل ما يعرض للواو في الإباحة من معنى (أو) ذهب مالك في أية أصناف الزكاة {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها} إلى أخرها- إلى جواز إعطاء بعض الأصناف دون بعض؛ لأنها معطوفة بالواو في موضع الإباحة وموضع الإباحة تقع الواو فيه مجزئة من (أو) كما قال سيبوبه.
وأما على رأي غيره فالواو محمولة على أصلها عنده من الجمع المطلق. وأما ما اعترض به في النفي وشبهه فغير وارد. فإن النفي إنما يتسلط على ما استقر في الإيجاب، وإذا كان الإيجاب في الإباحة على معنى أن كل واحد من المذكورات مباح لك على الانفراد والاجتماع فنفى هذا على الانفراد والاجتماع. ومنه قوله:{ولا تطع منهم أثمًا أو كفورًا} .
فـ (أو) على بابها، وتفسير ابن مالك لها بـ (ولا) تفسير معنى لا تفسير لفظ، وعلى هذا الترتيب يجري النفي في التخيير أيضًا. فكلام الناظم وتقسيمه صحيح، لا تداخل فيه. والله أعلم. ثم قال:
ومثل أو في القصد إما الثانية
…
في نحو إما ذي وإما النائية
قوله: "إما الثانية" يشعر بأن ثم (إما) أولى لا بد منها في الكلام.
وهذا صحيح في القياس، فإنك تقول:(قام إما زيد وإما عمرو) و (اضرب وما بشرا إما بكرًا) فلا يجوز أن يؤتي في الكلام بواحدة، وما جاء من ذلك فنادر لا يقاس عليه. ومثال ذلك قول ذي الرمة أو الفرزدق، وأنشده الفارسي.
تهاد بدارٍ قد تقادم عهدها
…
وإما بأمواتٍ ألم خيالها
وأنشد سيبوبه للنمر تولب:
سقته الرواعد من صيفٍ
…
وإن من خريفٍ فلن يعدما
أصله عند سيبويه: وإما من خريف، فحذف (ما) كما قال، أنشده أيضًا:
لقد كذبتك نفسك فأكذبها
…
فإن جزعا وإن إجمال صبرٍ
تقديره: فإما جزعًا وإما إجمال صبر.
وهذا كله محظوظ غير مقيس، فللأجل هذا بني الناظم على تكرار (إما) في الكلام.
ويريد أن (إما) الثانية في قولك: (قام إما زيد وإما عمرو) و (اضرب إما زيدًا وإما عمرًا) مثل (أو) في المعنى المقصود بها، من أنها في المحصول لأحد الشيئين أو الأشياء، وفي التفصيل لتلك المعاني المذكورة في (أو) فتكون للتخيير نحو: اطعم إما سمكًا وإما لبنًا، وفي الكتاب العزيز {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنًا} وقال تعالى:{فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء} وتكون للإباحة نحو: جالس إما الحسن وإما ابن سيرين.
وتكون للتقسيم نحو قولك: الناس إما منصور وإما مخذول، ومنه في القرآن {إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا} وقال الراجز:
البس لكل حالةٍ لبوسها
…
إما نعيمها وإما بوسها
وأنشد ابن جني وغيره:
يا ليتما أمنا شالت نعامتها
…
إما إلى جنة إما إلى نادر
وتكون للإبهام كقولك: (قام إما زيد وإما عمرو) وأنت عالم، ولكنك أبهمت على المخاطب.
وتكون للشك، وهو أظهر المعاني فيها نحو (رأين إما زيدًا وإما عمرًا)
على المخاطب.
وتكون للشك، وهو أظهر المعاني فيها نحو (رأيت إما زيدًا وإما عمرًا) فعلى الجملة هي جاريها في معانيها مجرى (أو) وإنما قال:"في القصد" ولم
يطلق القول في المماثلة، احترازًُا من توهم كونها مثلها في الحكم اللفظي أيضًا، وهو العطف، فكأنه نفي أن تكون (إما) من حروف العطف، ولذلك لم يعدها في صدر الباب من جملة الحروف العاطفة كما عد (أو) فبين أنها مثل (أو) في المعنى لا في اللفظ.
وهذا هو أحد المذاهب الثلاثة، أنها ليست بعاطفة، وهو مذهب يونس وابن كيسان والفارسي وجماعة.
وذهب طائفة منهم الزجاجي والصيمري والجز ولي، إلى أنها حرف عطف كـ (أو) ومن الناس من زعم أنها مع (الواو) حرف واحد عاطف.
والصحيح ما ذهب إليه الناظم من إسقاطها من الباب، للزوم الواو لها في كل موضع، وهي حرف عطف باتفاق، فلو كانت (إما) عاطفة أيضًا للزم اجتماع حرفي عطف في غير ضرورة، كقولك:(إما زيد وإما عمرو) فلا يقال: (إما زيد إما عمرو) إلا في الشعر، نحو:
إما إلى جنة إنما إلى نار
فهذا كقوله:
كيف أصبحت كيف أمسيت مما
…
يزرع الود في فؤاد الكريم
تقديره: كيف أصبحت؟ وكيف أمسيت؟ فكذلك تقدير البيت: إما
إلى جنةٍ وإما إلى نار.
وأما القائل بأنها عاطفة فشبهته ما يلزم على كون (الواو) وهي العاطفة من التدافع، وهو الجمع اعتبارًا بالواو، والتفريق اعتبارًا بـ (إما)
وأيضًا فإن سيبويه ذكر (إما) في جملة الحروف العاطفة، فالظاهر أنها كذلك، وهذا لا شبهة فيه.
فأما التدافع فغير ثابت، لأنه يتصور بقاء كل واحد من الحرفين على وضعه الأصلي، فيستفاد من (الواو) الجمع بين الشيئين أو الأشياء في المعنى الذي سيقت له (إما) من الشك أو غيره، كما أن (لكن) لإفادة معنى الاستدراك، و (الواو) معها على وضعها من العطف اتفاقا.
وأما ذكر سيبويه لها مع الحروف العاطفة فتجوز لملازمتها لحرف العطف، كما تجوزوا في ألفي (الصحراء) ونحوه، والحرف المجاب به للشرط والقسم. ومعلوم أن الأمر على خلاف ذلك.
وأما المذهب الثالث فألزم أن يقول بذلك في (ولكن) ولا قائل به. وفرق بملازمة الواو لـ (إما) دون (لكن) وأجيب بأن تجريد (لكن) من الواو لم يثبت من كلام العرب، وهو ظاهر كلام سيبويه، مع أنه قائل بأنها حرف عطف، وكذلك منعه يونس. وفي ذلك كلام أوسع من هذا. فالأظهر ما ذهب إليه الناظم. والله أعلم.
فإن قيل: هذا الكلام فيه إشكال من وجهين:
أحدهما أن الناظم أحال في معاني (إما) على معاني (أو) وقد قام لـ (أو) سبعة معانٍ، فاقتضى أن (ما) كذلك، وهذا غير صحيح، فإن معنى (الإضراب) ومعنى (الواو) مفقودان فيها، فإطلاق المماثلة غير صحيح.
والثاني على تسليم ما تقدم فإطلاقه أيضًا مشكل، لأن (أو) يحتمل الكلام معها أمرين، أن يكون مبنيًا أولًا على الشك، وأن يكون مبنيًا على اليقين، ثم عرض الشك فاستدركه، بخلاف (إما) فإن الكلام معها مبني على الشك بلا بد. ولذلك وقعت في أول الكلام لتؤذن بالمراد، فهذا في الشك، ولا يبعد مثله في الإبهام وغيره.
فالجواب عن الأول أن المعاني المعتمد على القياس فيها، والمشهورة في (أو) هي الخمسة التي تشاركها فيها. وأما المعنيان الباقيان فمن القلة بمكان. ولذلك أشار إلى (النقل) في معنى (الإضراب) حين قال:"وإضراب بها أيضا نمي" وصرح بـ (الندور) في معنى (الواو) بقوله: " وربما عاقبت الواو" فلما كانت كذلك في المعنيين لم يعتبر بهما، وصارت المماثلة راجعة إلى ما كان قياسا.
وعن الثاني أن أطلاقه للماثلة إنما هي بالنسبة إلى (إما) الثانية، ولا شك أنها مثل (أو) في إعطاء الشك أو الإبهام أو التخيير أو غير ذلك من المعانب، لا فرق بينهما في هذا، وأما بناء الكلام على الشك أو غيره حتمًا مع (إما) فإنما حصل بـ (إما) الأولى لا الثانية، ولذلك عرفوا الأولى بأنها حرف إشعارٍ بما سيقت له الثانية، ويعضد ذلك أنها إذا جاءت في الشعر غير مكررة فالفراء يجعلها كـ (أو) كما في قول الفرزدق أو غيره:
تهاض بدار قد تقادم عهدها
…
وأما بأموات ألم خيالها
كأنه قال: أو بأموات، فتصلح إذ ذاك لما تصلح له (أو) ولما كانت (أو) غير متعرضة لما قبلها كانت (إما) الثانية كذلك. وكون البناء على الشك يأتي من جهة أخرى لا يضر في صحة أداء اللفظ معناه.
وإذا ثبت هذا كان قول الناظم: "ومثل أو في القصد إما الثانية" صحيحا بإطلاق، وزال الإشكال، والحمد لله.
وأتى لـ (إما) بمثال، وهو قوله:" إما ذي وإما النائبة" و "ذي" إشارة إلى القريب و"النائبة" البعيدة، فكأنه قال:(إما) القريبة، و (إما) البعيدة.
وأول لكن نفيًا أو نهيًا ولا
…
نداءً أو أمرًا أو أثباتًا تلا
قد تقدم أول الباب. عده (لكن) من حروف العطف، ونبه على أنها مختلف فيها.
فذهب الناظم إلى أثباتها عاطفة، وهو رأي الأكثر. وذهب إلى أنها لا تكون عاطفة، وإنما معناها عنده الاستدراك. وإليه ذهب المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" هذا إذا وقع بعدها المفرد، وكانت بغير واو.
فإن وقعت (الواو) قبلها فالعطف للواو، و "لكن" تؤدي معناها الزائد على العطف.
ودل على هذا من كلام الناظم عده لها حرف عطف، لأن حرف العطف لا يدخل على مثله.
ومن هنا ادعي في (إما) أنها غير عاطفة. وكذلك إذا وقع بعدها المفرد، فذلك موضع كلامه، لأنه أنما تكلم في عطف المفردات لا في عطف الجمل، وعلى أن الخلاف في (لكن) إذا وقع بعدها الجملة. ولكن الناظم لم يقصد ذكر ذلك، ودل على هذا القصد من كلامه شرط النفي قبل (لكن) وإذا وقعت بعدها الجملة لا يشترط فيها ذلك.
والأظهر ما ذهب إليه هاهنا، لأن سيبويه قد عدها من الحروف المشركة، وقرنها بـ (بل، ولا) بل وشبهها في التشريك بـ (الواو، والفاء، وثم) وغيرها.
وقد احتج في "الشرح" لنفي كونها حرف عطف بأنها لم يسمع فيها إسقاط (الواو) وأن ما جاء من نحو قولهم: ما قام زيد لكن عمرو، وما رأيت زيدًا لكن عمرًا، فمن كلام النحويين لا من كلام العرب. قال: ولذلك لم يمثل سيبويه في العطف إلا بـ (ولكن) بالواو، إذ قال: ما مرت برجل صالح ولكن طالح أراد: ومثل (بل) في العطف.
قال المؤلف: وهذا من شواهد أمانته، وكمال عدالته، لأنه يجيز العطف بها غير مسبوقة بواو، وترك التمثيل به لئلا يعتقد أنه مما استعملته العرب.
ثم قال: ومع هذا ففي المفرد الواقع بعد (ولكن) إشكال، لأنه، على ما قدرته، معطوف بالواو، مع أنه مخالف لما قبلها، وحق المعطوف
بالواو أن يكون موافقًا لما قبلها، فالواجب أن يجعل من (عطف الجمل) ويضمر له عامل، وكأنه قال: ما قام زيد لكن قام عمرو وما رأيت زيدًا لكن رأيت عمرًا، لأن الجملة المعطوفة [بالواو] يجوز كونها موافقة ومخالفة. نحو: قام زيد وقام عمرو، ونحو: قام زيد ولم يقم عمرو.
وما قاله فيه نظر؛ فإن النحويين لا يخترعون الكلام من عند أنفسهم على غير سماع من العرب، والقياس إنما يستعمل على المسموع، وليس لهم أن يجيزوا إسقاط الواو من (ولكن) كما لم يجز لهم ذلك مع (إما) الثانية، وفي غير ذلك. وإنما الشأن القياس على ما سمع.
وأشد من هذا أدعى على سيبويه أنه قائل بكونها حرف عطف غير مسبوقة بواو، ثم يمثل بالمسبوقة بالواو محافظة على السماع، فسيبويه إذًا خالف، وذهب إلى غير مسموع. وهذا مخالف لما علم من مذهبه في إتباع المسموع، فلا يعول على ما تأول المؤلف على سيبويه هنا، نعم هل مذهب سيبويه أنها عاطفة دون واو أم لا؟ هذا النظر فيه موضع آخر.
وأما ما أورده من الإشكال، والتزم بسببه من جعل المسألة من باب (عطف الجمل) فلا يستتب له، لأنه إن تأتى له في المرفوع والمنصوب فلا يتأتى له في مثال سيبويه: ما مررت برجلٍ صالحٍ ولكن طالحٍ، وما مرت برجلٍ ولكن حمارٍ، جر فيهما، وقد سلم ابن مالك أن مثل هذا مسموع.
والجواب عن الإشكال أن العطف مع (لكن) وإن كان من عطف المفردات في حكم عطف الجمل، فاغتفر لذلك، مع أن عطف المفردات معها صحيح بنص سيبويه.
بهذا وجهه الأستاذ أبو عبد الله ابن الفخار شيخنا رحمه الله، فالأظهر ما ذهب إليه الناظم هنا من كون (لكن) ثابتة الحكم في الحروف العاطفة. وكثيرًا ما يخالف هنا رأيه في "التسهيل" وقد تقدم من ذلك أشياء، وستأتي أخر إن شاء الله تعالى.
واعلم أن (لكن) على وجهين كما أشير أليه، أحدهما أن تقع في عطف الجمل، فهذه لا يقتصر بها على نفيٍ دون إثبات، ولا على نهيٍ دون أمر، بل تكون بعد الإثبات كما تقع بعد النفي، فتقول: قام القوم لكن عمرو لم يقم، وتقول: لم يقم القوم لكن عمرو قام.
وكذلك تقع بعد الأمر كما تقع بعد النهي وغيره، فتقول: أكرم زيدًا لكن عمرًا لا تكرمه، وما أشبه ذلك، لكن بشرط أن يكون ما بعدها مخالفًا لما قبلها، ولم يتكلم الناظم في هذا الوجه.
والثاني أن تعطف المفردات، وهي التي أخذ في تقرير حكمها، فبين أنها تقع بعد (النفي، والنهي) فلا تقع بعد (الإثبات) فتقول: ما وجدتني عاذلًا لكن عاذرًا، فلا تكن لي خاذلًا لكن ناصرًا.
ولا يجوز أن تقول: رأيت زيدًا لكن عمرًا، وممرت بصالحٍ لكن طالحٍ. قال سيبويه. فإن قلت: مررت برجلٍ صالحٍ ولكن طالحٍ فهو محال لأن (لكن) لا يتدارك بها بعد إيجاب، ولكنها يثبت بها بعد النفي. يريد: بلا يتدارك بها
الغلط والنسيان كنا يتدارك بـ (بل) ولو كانت يتدارك بها لصح وقوعها بعد الإثبات والنفي.
وهذا رأي البصريين أنها لا تقع إلا بعد النفي، والنهي نوع من النفي.
وذهب الكوفيون إلى جواز العطف بها في الإثبات كالنفي. وحجة البصريين ما تقدم من كلام سيبويه، وأن العطف بها في الإثبات إنما يكون في الغلط والنسيان، لأنك تثبت بها للثاني ما أثبته للأول، فيعلم أن الأول مرجوع عنه. وهذا مستغني عنه بـ (بل) في الإثبات، وبقي حكمها في النفي على أصله.
والاستغناء كثير في كلام العرب، وقد بوب عليه ابن جني في "الخصائص". وأتى له بنظائر كثيرة، ونبه عليه سيبويه في مواضع كثيرة، وعده من الأصول الثابتة، وبني في التعليل على مقتضاه، فهذا من ذلك.
وشبهة الكوفيين القياس على (بل) فإنها يتدارك بها في الإثبات كما يتدارك بها في النفي باتفاق، فكذلك ينبغي في (لكن) لأنها بمعناها. وأجيب بأنه لا يلزم من الاشتراك في المعنى الاشتراك في الأحكام اللفظية. ألا ترى أنه يحسن دخول الواو على (لكن) ولا يحسن دخولها على (بل) فإن صاغ الاجتماع في الأحكام عند الاجتماع في المعنى فليصغ مثل هذا، وهو غير سائغ باتفاق. فلما لم يكن الأمر كذلك لم يلزم ما قلوه. وأيضًا فإذا
كان عطف (بل) في الإثبات لا يتصور إلا على الغلط والنسيان، وهو قليل في كلام العرب، لم يلزم أن يحمل عليه في (لكن) حتى يسمع، ولم يسمع ذلك، فلا سبيل إلى القول به.
وقوله: "وأول لكن""لكن": مفعول أول "نفيًا" مفعول ثان لـ (أول) يريد: أول هذا الحرف نفيًا، أي اجعله يليه بعده.
ثم قال: "ولا نداء أو أمرًا أو إثباتا تلا".
"نداء" وما بعده منصوب بـ (تلا) والجملة خبر المبتدأ الذي هو "لا" كأنه قال: و "لا" تلا كذا وكذا.
ويعني أن العطف بـ (لا) إنما يكون بعد هذه الثلاثة، وهي النداء والأمر، والإثبات، وهو الخبر المثبت.
فالنداء نحو: يا زيد لا عمرو، ويا سلمان لا قاسم. والأمر نحو قولك: اضرب زيدًا لا عمرًا. ويدخل فيه الدعاء نحو: اللهم ارحم زيدًا لا عمرًا، واغفر لمحمد لا لفلان. وكذلك: غفر الله لزيد لا لعمرٍ. ومن كلامهم "به لا بظبيٍ بالصرائم أغفر" معناه: أحل الله الداهية به لا بكذا. وقالوا: "أمت في الحجر لا فيك".
والإثبات نحو: رأيت زيدًا لا عمرًا، وجاءني محمدً لا أخوك. وما أشبه ذلك.
ولما حصر مواضع العطف بـ (لا) دل على أن ما سواها لا يعطف فيه بها، كالنفي والنهي، فلا يقال: ما قام زيد لا عمرو، ولا تضرب زيدًا لا عمرًا، لعدم صحة المخالفة بين ما قبلها وما بعدها، فيفسد ما وضعت له (لا) من كون (لا) يخالف ما بعدها ما قبلها، فإن قدرت ما بعدها موجبًا، و (لا) نفي للنفي- لزم مخالفة وضعها، بأن صارت توجب ما بعدها لا تنفيه.
وكذلك لا تقع بعد الاستفهام، فلا تقول: هل رأيت زيدًا لا عمرًا.
قال بعضهم: لأن (لا) لنفي الثاني عمًا دخل فيه الأول، ولم يدخل الأول بعد الاستفهام في شيء، فلم يصلح أن ينفي بها ما لم يتحصل. ثم النظر في أمرين، أحدهما في مواقع الخلاف في هذه المسألة، وذلك ثلاثة مواضع:
الأول: النداء فقد زعم بعضهم أن العطف بـ (لا) في النداء لم يأت عليه شاهد من كلام العرب، وإنما أجيز على ما اقتضاه المعنى والقياس.
وهذا الذي قال غير بين، فقد نقل سيبويه في أمثلة العطف على المنادي: يا زيد لا عمرو، والظاهر أنه لا يمثل إلا يمثل إلا بما سمع بعينه، أو ما سمع مثله.
وقال ابن خروف: إن العطف في النداء بجميع حروف العطف سائغ، فالظاهر خلاف ما قال.
والثاني: أنه ذكر من مواضع العطف الخبر المثبت، وأطلق فيه، فاقتضى جواز العطف بها بعد الماضي نحو: قام زيد لا عمرو، وهو رأي جماعة.
وذهب بعضهم، وهو رأي ابن أبي الربيع، إلى المنع إلا مع التكرار، فإنك إذا عطف بها بعد الماضي فقلت قام زيد لا عمرو- كان التقدير: قام زيد لا قام عمرو، بناء على أن المعطوف على تقدير تكرير العامل، ولو أعدت العامل للزم التكرار فقلت: لا قام عمرو (ولا قام أخوه، إذ لا يقال: لا قام زيد) يا هذا، فكذلك ما كان في تقديره.
والأرجح ظاهر مذهب الناظم من الجواز، لأن ما بنوا عليه من التقدير غير مسوغ لما قالوا، فإن تقدير التكرار ليس بحقيقي حتى يعتبر اعتبار المنطوق به، والإلزام ألا يوجد العطف في المفردات البتة، إذ ما من معطوف إلا وهو على تقدير تكرار العامل، فإذا اعتبرت فيه تكرار العامل صار المفرد جملة مع العامل، فزال عطف المفردات رأسًا، وهذا باطل باتفاق. وإذا كان كذلك لم يكن العامل المقدر هنا في حكم المنطوق به، فلا يلزم ما قال.
وأيضًا فالسماع موافق للقول بالجواز إذا سلم أن سلم أن المقدر والمنطوق به سواء في الحكم، ففي الكتاب {فلا أقتحم العقبة} ، وقال
الراجز:
إن تغفر اللهم تغفر جما
…
وأي عبدٍ لك لا ألما
وقال الآخر، وهو امرؤ ألقيس، في العطف بها بعد الماضي:
كأن دثارًا حلقت بلبونه
…
عقاب تنوفى لا عقاب الفواعل
والثالث أن النفي، بمقتضى ما قال، لا يعطف بـ (لا) بعده، ونقل عن ألكسائي جواز ذلك، والسماع يمنع من ذلك، إذ هو مفقود في هذه المسألة، وقد تقدم وجه ذلك.
واستدل له على الجواز بقوله تعالى: {لا تكلف نفس إلا وسعها لا تضار
والدة بولدها}، وهذا ليس مما نحن فيه، بل الجملة الثانية بيان للأولى أو بدل منها، وليست (لا) الثانية عاطفة.
فإن قيل: هذا الكلام معترض من وجهين:
أحدهما: أن العطف بـ (لا) قد يجوز في موضع لا يكون السابق قبله نداًء، ولا أمرًا، ولا أثباتًا، وذلك في التحضيض والعرض، فتقول: هلا ضربت زيدًا لا عمرًا، وألا أكرمت عمرًا لا بشرًا، وما أشبه ذلك، بخلاف الاستفهام كما تقدم. وحصر الناظم مواضع العطف يقتضي ألا يعطف بها بعد هذين، وهو غير مستقيم.
والثاني: أنه يدخل له في الإثبات أن تقول: قام رجل لا عمرو، ورأيت امرأة لا هندًا، وما أشبه ذلك لا يجوز، إذ شرطوا في العطف بـ (لا) أن يكون السم الذي قبلها لا يصح تناوله لما بعدها، لأن العطف بها إنما جئ به على جهة التأكيد لصحة الاقتصار على الأول دون الثاني، وذلك لأن العطف بها إذا قلت: قام زيد لا عمرو ورد على من ظن قيام زيدٍ وعمروٍ معًا، أو ظن قيام عمرو معًا، أو ظن قيام عمروٍ لا يزيدٍ، فلو قلت: قام زيد، واقتصرت لجاز، ولكنك أكدت، فصار الكلام بمنزلة ما لو قلت: إنما قام زيد، أو ما قام إلا زيد، ولذلك لا يعطف مع (إلا) بلا، لأن (ما) و (إلا) كالعوض من ذلك، فلم يجز اجتماعهما.
وإذا كان كذلك فلا بد أن يكون ما بعد (لا) ظاهر المنافاة لما قبلها، بحيث لا يصح تناول ما قبلها لما بعدها.
وكذلك لا تقول: قام زيد لا رجل، وهو عكس المسألة الأولى، ولا قام رجل لا فارس، على العطف، ولا ما أشبه ذلك.
وما جاء من نحو: مررت برجلٍ لا فارسٍ ولا شجاعٍ- فعلى النعت لا على العطف (لا) وكلام الناظم يتناول ذلك كله، فكان غير سديد.
فالجواب عن الأول أن العرض والتحضيض راجعان في المعنى إلى الأمر، فما جاز في الأمر جاز فيهما.
وأما الثاني فلا جواب لي عنه، والموضع محل نظر والله اعلم.
وبل كلكن بعد مصحو بيها
…
كلم أكن في مربعٍ بل تيها
وانقل بها لثان حكم الأول
…
في الخبر المثبت والأمر الجلي
جعل (بل) هنا على وجهين:
أحدهما: أن تقع موقع (لكن) وذلك بعد (النفي، والنهي).
والثاني: أن تقع في غير ذلك الموقع، وذلك بعد (الأمر، والخبر المثبت).
فأما الأول فحكم (بل) فيه حكم (لكن) وذلك أن توجب للثاني ما نفي عن الأول، فإذا- قلت: ما قام زيد بل عمرو، ولا تكرم زيدًا بل عمرًا، فـ (عمرو) مثبت له الحكم المنفى عن (زيد) كما كان ذلك في (لكن) حيث قلت:(ما قام زيد لكن عمرو، ولا تكرم زيدًا. لكن عمرًا، فكل واحدة من الأداتين مخالف ما بعدها لما قبلها. والنفي المؤول في هذا كالصريح، نحو: زيد غير قائم بل قاعد، كما كان في (لكن)(نحو: زيد غير قائم لكن قاعد).
ومثل الناظم ذلك بقوله: "لم أكن في مربع بل تيها".
والمربع: منزل القوم في الربيع خاصة، تقول: هذه مرابعنا ومصايفنا، أي حيث نتربع ونصيف.
والتيهاء ممدودة: الفلاة التي يتاه فيها، فلا يهتدي فيها للمخرج منها، بل يتحير فيها إذا ولجت. و (أرض متيهة) من ذلك. أي لم أكن في منزلٍ أهلٍ بل بلدة قفز، لا أنيس فيها.
وأما الثاني فذكر أنك تثبت بـ (بل) للثاني حكم الأول في الموضعين المذكورين، وهما (الخبر المثبت، والأمر).
وأتى فيه بلفظ (النقل) لأن الحكم المذكور للأول ينقل بعينه للثاني بعد ما حكم به على الأول.
لكن هذا النقل على ضربين:
أحدهما أن يكون ذكر الأول فيه مقصودًا، والحكم عليه مقصودًا، ثم يضرب عنه إلى ذكر الثاني والحكم عليه، لقصد يقصده المتكلم في ذلك، كما تقول: زيد شجاع بل أسد، وهند بدر بل شمس.
ونظير هذا في عطف الجمل قول الله تعالى: {بل إدراك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها بل هم منها عمون} .
والثاني أن يكون ذكر الأول والحكم عليه غير مقصود، وإنما وقع غلطًا أو نسيانًا، فيضرب عنه إلى ذكر الثاني والحكم عليه، كما تقول: رأيت رجلًا بل حمارًا، وأنت عبدي بل سيدي.
وكقولك في النسيان: له على درهمان بل ثلاثة، وأنت أخي بل أبن أخي، وما أشبه ذلك.
وكذلك في الأمر نحوه: أضرب زيدًا بل عمرًا، وأعطني درهمين بل ثلاثة. واعلم أنه قال:"وبل كلكن" إلى أخره. فأقتضى أن ما بعد (بل) موجب لزوما، وإن كان بعد النفي أو النهي، كما أن ما بعد (لكن) كذلك. وهذا رأي الجمهور.
وذهب المبرد إلى كونه موجبًا غير لازم، وفرق بين (بل) و (لكن) بأن (بل) لا يتكلم بها إلا غلطً، مثل: رأيت زيدًا بل عمرًا، أي بل (رأيت عمرًا، فغلطت، وكذلك في النفي إذا قلت: ما رأيت زيدًا بل عمرًا، أي بل) ما رأيت عمرًا، اعتمدت في الجحد على الثاني.
قال: وفقد يكون في النفي كـ (لكن) أي: بل رأيته. قال: والجيد هذا، لأن (رأيت) أقرب، فيكون معناه: بل رأيت عمرًا.
والصحيح ما عليه الناس، لأن السماع لم يأت بما ذكر، وهو المتبع، وإنما الوجه إتباع ما اتفق الناس عليه، وما دل عليه كلام العرب، وأيضًا لو كان كما يقول المبرد لجاز في (ما) الحجازية أن تقول: ما زيد قائمًا بل قاعدًا بناء على بقاء النفي، وأن التقدير: بل ما هو قاعدًا، وهذا أليس بمقول باتفاق، وإنما كلام العرب على الرفع في (قاعد) وما ذاك إلا لمكان بطلان النفي.
ثم يبقى في كلامه مشاحة لفظية، ومشاحة معنوية.
فأما اللفظية ففي قوله: "والأمر الجلي" فقيد الأمر بكونه جليًا، وهذا حشو لا فائدة فيه (وأيضًا فهو حشو مخل، إذ يقتضي أن الأمر إذا لم يكن
جليًا ظاهرًا فلا يعطف بها فيه)، وليس كذلك، لأن (التحضيض) يجوز العطف بها بعده فتقول: هلا أكرمت زيدًا بل غمرًا، وكذلك (العرض) نحو: ألا أكرمت زيدًا بل عمرًا، على الغلط والنسيان وغيرهما، كما قلت: أكرم زيدًا بل عمرًا.
وأما المعنوية فإنه قال: "وبل كلكن" فأقتضى أنها مثلها في أحكامها اللفظية والمعنوية إذا وقعت بعد مصحوبيها.
فأما كونها مثلها في الحكم اللفظي فنعم، وأما في المعنوي فلا، لأنهما يفترقان، ألا ترى أن (بل) يستدرك بها الغلط والنسيان، و (لكن) لا يستدرك بها ذلك، فقد حصل الفرق بينهما على الجملة، فكيف يقول: إن (بل) كـ (لكن)!
والجواب أن (الجلي) ليس بقيد متحرز به، وإنما أتى به حشوا.
وقد يندر من الناظم مثل هذا لضيق المجال في الشعر.
وعن الثاني أن الكلام في (بل، ولكن) إنما هو عند وقوعهما معًا بعد (النفي والنهي) وليست (بل) عند ذلك يستدرك بها غلط ولا نسيان، وإنما يثبت بها للثاني ما نفي عن الأول كـ (لكن) من كل وجه.
وحذف الياء من "ألثان"للضرورة، كما قال الأعشى:
وأخو الغوان متى يشأ يصر منه
…
ويعدن أعداء بعيد وداد
وفي النظم من هذا النوع أشياء كثيرة.
وإن على ضمير رفع متصل
…
عطفت فافصل بالضمير المنفصل
أو فاصلٍ ما وبلا فصل يرد
…
في النظم فاشيًا وضعفه اعتقد
هذه مسألة كليه في حروف العطف، وذلك أن المعطوف عليه تارة يكون ظاهرًا، ولا إشكال في جواز العطف عليه، كان مرفوعًا أو منصوبًا أو مجرورًا، وسواء كان المعطوف عليه ظاهرا أو مضمرا.
وتارة يكون ضميرا، والضمير على قسمين، منفصل ومتصل.
فـ (المنفصل) حكمه حكم الظاهر مطلقا، فيجوز العطف عليه مرفوعًا كان أو منصوبا. ولا يكون مجرورا إلا في الاضطرار، فتقول: زيد ما جاءني إلا هو وهند، وما رأيت إلا إياك وعمرًا، وأنا وزيد منطلقان، وما أشبه ذلك، فإنهم حكموا له بحكم الظاهر هنا، وخرج هذا عن كلام الناظم بقوله:"متصل" ففهم أن غير المتصل لا يشترط فيه ما ذكر.
و(المتصل) إن كان منصوب الموضع جاز العطف عليه أيضًا مطلقا، لأنه في حكم المنفصل من حيث كان فضله، أو جاريًا مجرى الفضلة، فليس له مع عامله اتصال تام، كما كان لضمير الرفع مع عامله، فلذلك قيد ما أراد تقييده بقوله:"ضمير رفعٍ متصل".
وأما إن كان مرفوعًا أو مجرورًا فإذ ذاك لا يعطف عليه مطلقًا. بل بشرطٍ يقترن به.
وقدم الكلام على ضمير الرفع، فقرر أنه إذا عطف عليه فالقياس المعتمد فيه، والشهير في كلام العرب، أن يفصل بينه وبين ما عطف عليه بفاصل، أي فاصل كان، إلا أن الأكثر والأولى الفصل بالضمير المنفصل المناسب له في الرفع، ولذلك قدم ذكره قبل غيره فقال:"فافصل بالضمير المنفصل".
فتقول: قمت أنا وزيد، وقمت أنت وعمرو، وزيد يخرج هو وخالد، ونحو ذلك.
ومنه في القرآن: {اسكن أنت وزوجك الجنة} ، {فأذهب أنت وربك فقاتلا} ، {وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا} ، وهو كثير.
وقد يأتي الفصل بغير الضمير وهو قوله: " أو فاصل ما" كالمجرور والظروف و (لا) وغيرها. كقوله تعالى: {هو الذي يصلى عليم وملائكته} . فهذا فصل بالمجرور، والظرف مثله نحوه: جلست عندك وعمرو.
ومن الفصل بـ (لا) إذا وقعت بين العاطف والمعطوف قوله: {سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركتنا ولا إباؤنا} .
ومن الفصل بالمفعول قوله: {فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن} .
وبخبر (كان) قوله حكاية: {أئذا كنا ترابًا وإباؤنا} .
وبالتمييز كقول الشاعر:
ملئت رعبًا وقوم كنت راجيهم
…
لما دهمتك من قومي بآساد
وبالنداء قول الشاعر:
لقد نلت عبد الله وابنك غاية
…
من المجد من يظفر بها فاق سؤددا
والفصل بغير ذلك أيضًا سائغ، كما قال:(أو فاصلٍ ما).
وأما إذا لم يفصل بينهما بفاصل فهو في الشعر فاشٍ شائع مشتهر، وهو مع ذلك ضعيف في القياس، كما قلت: قمت وزيد، وهند قامت وأبوها.
ومما جاء في الشعر من ذلك قول عمر بن أبي ربيعة، أنشده سيبويه:
قلت إذا أقبلت وزهر تهادى
…
كنعاج الملا تعسفن رملًا
وأنشد أيضًا للراعي:
فلما لحقنا والجياد عشية
…
دعوا يا لبكرٍ واعترينا لعامر
وأنشد أيضًا:
فأقسم أن لو التقينا وأنتم
…
لكان لكم يوم من الشر مظلم
وأنشد السيرافي وغيره لجرير:
ورجا الأخيطل من سفاهة نفسه
…
ما لم يكن وأب له لينالا
وقال الآخر:
ألم تر أن النبع يصلب عوده
…
ولا يستوي والخروع المتقصف
وهذه المسألة مختلف فيها بين أهل البلدين، فذهب البصريون إلى منع العطف على الضمير المرفوع المتصل من غير فصل، وإنما يأتي عندهم في الشعر حيث لا يقاس عليه.
وذهب الكوفيون إلى جواز العطف بلا فصل مستدلين على ذلك بما جاء في الشعر، وبقوله تعالى:{فاستوي وهو بالأفق الأعلى} ، ففي "استوي" ضمير عندهم، و"هو" معطوف عليه، أي استوي جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا عند البصريين ليس فيه دليل.
أما الشعر: فظاهر، وأما الآية فتحتمل أن تكون الواو في (وهو) واو الحال لا واو العطف، والضميران معًا لجبريل عليه السلام، أي أستوي في صورته التي خلق عليها حال كونه بالأفق الأعلى.
وقد رأى المؤلف في "التسهيل" و "شرحه" رأيًا ثالثًا، وهو جواز العطف في الكلام على قلة،
واستشهد على ذلك بأمرين:
أحدهما: ما جاء من ذلك في الكلام من قولهم: مررت برجلٍ سواءٍ والعدم، وفي الحديث قول عمر بن الخطاب- رضي الله عنه: كنت وجار لي من الأنصار، وقول على بن أبي طالب- رضي الله عنه: كنت أسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، كنت وأبو بكر وعمر، وفعلت وأبو بكر وعمر، وانطلقت وأبو بكر وعمر، هكذا ثبت ضبطها في صحيح البخاري.
والثاني: أن ما جاء في الشعر من ذلك منه ما يلحق بالنثر لإمكان الإتيان به على غير ضرورة، لتمكن الشاعر أن ينصب ما بعد (الواو) على المفعول معه في بيت ابن أبي ربيعة، والراعي، وجرير، وكذلك قال المؤلف في بيتي ابن أبي ربيعة وجرير، بناءً على أصله في ذلك، وقد مر الكلام على ما في ذلك فيما تقدم.
فإن قيل: ظاهر الكلام متهافت، فإنه بين أن العطف بلا فصلٍ شائع في الشعر، وهذا يقتضي أنه قوي في قياس الضرائر، كصرف ما لا ينصرف، وقصر الممدود، فقوله بعد هذا:"وضعفه اعتقد" مضاد لهذا.
وأيضا فإن أراد أنه ضعيف في الكلام- إن قيل- فهذا أيضًا كذلك، لأنه لم يلتفت هنا إلى نقلٍ في النثر، ولا نبه على أنه يقاس في النثر
على ما اختص بالشعر، ولو نبه عليه لكلن متناقضًا.
ولا يقال: إنه أتي بقوله: (وضعفه اعتقد) تتمة للبيت لا لغير ذلك، فإن هذا أشنع عليه، فثبت أن هذه التتمة مشكلة.
فالجواب: أنه إنما أراد اعتقاد الضعف فيه في القياس مطلقا، لا بقيد كونه في نظم أو نثر، فسلط الضعف على وروده، ولما قال ذلك، مع النص على شياعة في الشعر، دل ذلك على جواز إتيانه في النثر قليلًا، أو يكون قوله:(وضعفه اعتقد) يريد به: في الكلام، فكأنه يقول: إنه في الشعر قوي، وفي الكلام ضعيف، وعلى هذا يتفق رأيه هنا مع رأيه في "التسهيل" و "شرحه" ويكون الدليل على صحة رأيه ما تقدم، والله أعلم.
وأما ضمير الجر فقال في العطف عليه:
وعود خافضٍ لدى عطف على
…
ضمير خفضٍ لازمًا قد جعلا
وليس عندي لازمًا إذ قد أتى
…
في النظم والنثر الصحيح مثبتًا
عود الخافض: بمعنى إعادته، يعني أن أعاده الخافض في العطف على الضمير المخفوض- ولا يكون إلا متصلًا- جعله النحويون شرطًا لازمًا فقالوا: لا يجوز العطف عليه إلا مع إعادة الخافض.
فإذا قلت: مررت بك، فأردت العطف عليه قلت: وبزيدٍ، ولا تقول: وزيدٍ، إلا في الشعر، كما في التنزيل الكريم: {قل الله ينجكم منها
ومن كل كرب}، {وعليها وعلى الفلك تحملون} ، {ومنك ومن نوح} . {فقال لها وللأرض ائتيا طوعًا أو كرهًا} .
وكذلك إن كان الخافض اسمًا نحو: جلست عندك وعند زيٍد، وأعجبني خروجك وخروج زيٍد.
وفي القرآن: {قالوا تعبد إلهك وآله أبائك} . وهو كثير أيضًا.
فهذا لازم عند هؤلاء، وهم البصريون. ورأى الكوفيون أن ذلك غير لازم، بل يجوز عندهم ألا يعاد الخافض فتقول: مررت بك وزيٍد، وجئت إليك وعمرو، وتبع الكوفيين يونس والأخفش. ونقل عن الشلوبين في بعض المواضع اختيار هذا الرأي.
وهو الذي ذهب إليه الناظم هنا: إذ قال: (وليس عندي لازمًا) أي اشتراط إعادة الخافض غير لازم في رأيي، لكن قد يشعر بأنه الأحسن، ولا شك في هذا، فإن الغالب في النقل إعادة الخافض وهو رأيه في "التسهيل" أيضًا.
ومما جاء في النثر من ذلك قراءة حمزة: {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} بالخفض في الأرحام، وهي مروية عن الحسن ومجاهد وقتادة
والنخعي ويحيى بن وثاب والأعمش وطلحة بن مصرف، وحملها على أن (الواو) للقسم ضعيف.
وحكي قطرب: ما فيها غيره وفرسه، وفي البخاري:"إنما مثلكم واليهود والنصارى"، بالجر.
واحتج المؤلف أيضًا بقوله: "وكفر به والمسجد الحرام"، وذلك لا يتعين شاهدًا وأن كان قد رجحه، لأن المعنى ليس على أنهم كفروا بالمسجد الحرام، وإنما المعنى على أنهم صدوا على المسجد الحرام، فهو عطف على "سبيل". كالآية الأخرى:{إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس} ، وعين الفارسي في "الحجة"، حمل الآية على هذا، ولم يعتبر ما اعتبره المؤلف الشلوبين من لزوم الفصل بين المصدر الموصول ومعمولة بأجنبي، بتقدير العطف على "سبيل الله".
ونقل ابن الأنبا ري، عن الكوفيين الاستشهاد بآيات أخر لا يتعين فيها ما قالوا، فهذا مما جاء في "النثر الصحيح مثبتًا".
وأما النظم فمنه ما أنشد سيبويه من قول الراجز:
أبك أية بي أو مصدر
…
من حمر الجلة جأبٍ حشور
فعطف على الياء من (بي) من غير إعادة الباء. وأنشد أيضًا:
فاليوم قربت تهجونا وتشتمنا
…
فأذهب فما بك والأيام من عجب
وأنشد الفراء:
تعلق في مثل السواري وسيوفنا
…
فما بينها والكعب غوط نفانف
وأنشد للعباس بن مرداس:
أكر على الكتيبة لا أبالي
…
احتفى كان فيها أم سواها
وأنشد قطرب والفراء
هلا سألت بذي الجماجم عنهم
…
وأبي نعيمٍ ذي اللواء المحرق
وقال الآخر:
إذا أوقدوا نارًا لحرب عدوهم
…
فقد خاب من يصلي بها وسعيرها
فهذه جملة أيضًا من النظم، المنقول عن الثقات ثابتًا غير نادر، فلا بد من القول بجوازه وإن كان الأولى إعادة الخافض فالسماع هو المتبع.
ووجه القياس في المنع، فيه نظر عند المؤلف، وذلك أنه نقل عنهم في ذلك وجهين:
أحدهما: أن الضمير المجرور شبيه بالتنوين، ومعاقب له، فلا يعطف عليه، كما لا يعطف على التنوين.
والثاني: أن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يصلحا لحلول كل واحد منهما محل الأخر، وضمير الجر غير صالح لحلوله محل ما يعطف عليه، فامتنع العطف عليه إلا مع إعادة الجار، وما نقل عنهم ضعيف عنده جدا.
أما الأول: فيلزم على اعتباره ألا يعطف عليه وأن أعيد الجار، لأن التنوين لا يعطف عليه بوجه.
وأيضًا فيلزم أن يمنع توكيده والبدل منه: إذ ليس في التنوين ذلك، والبدل والتوكيد من ضمير الجر جائز اتفاقًا، فللعطف أسوة بهما.
وأما الثاني: فلو كان من شرط المعطوف والمعطوف عليه حلول أحدها مكان الآخر لامتنع: رب رجلٍ وأخيه.
* وأي فتى هيجاء أنت وجارها *
"وكل شاةٍ وسخلتها"، وأمثال ذلك، فلما لم يمتنع في هذه الأشياء لم يمتنع في مسألتنا.
هذا ما قال، وكأنه نقل تعليلي سيبويه والمازني.
أما تعليل سيبويه فمعناه أن ضمير الخفض اجتمع فيه
أمران:
أحدهما: أنه لا يتكلم به إلا معتمدًا على غيره وهو الخافض، وأنه يقع من الخافض موقع التنوين، فصار عندهم بمنزلة التنوين، فلما اجتمع فيه هذان الوجهان من الضعف كرهوا أن يعطفوا عليه.
ووجه التعليل بهذا أنه لما صار كبعض اسمٍ كرهوا العطف عليه؛ إذ لو عطفوا عليه مع الجار لكان من عطف / اسمٍ على اسم وحرف، أي من عطف اسم على جاًر ومجرور، وذلك قبيح، فلم يكن بد من إعادة الخافض لأن الكلام يقتضيه، وللمناسبة أيضا بين المعطوف والمعطوف عليه، حتى يكون كعطف الجار والمجرور على مثله.
وأما تعليل المازني فمعناه أنه حمل الشيء على مقابله، فكما امتنع نحو: مررت بزيدٍ وكه، حتى تقول: وبك، كذلك امتنع نحو: مررت بك وزيدٍ، حتى يقال: وبزيدٍ، ومن شانهم أن يحملوا النظير أو المقابل الذي ليس فيه موجب على نظيره أو مقابله الذي فيه الموجب، ليجرى الجميع مجرى واحدًا، فهذا تعليل مشبه، كما أن تعليل سيبويه مشبه أيضا، فلم يجعل وقوع الضمير موقع التنوين علةً مستقلة، بل مجموع الأمرين هو العلة كما تقدم.
وإذا تقرر هذا فما أتى به المؤلف من الرد عليهما ينبغي أن يتأمل، وأمثل ما يتعلق به السماع، ومع هذا فقد تقدم في باب الإضافة ما يتعلق به هذا الموضع والله الموفق. ثم قال:
والفاء قد تحذف مع ما عطفت
…
والواو إذ لالبس وهي انفردت
بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى
…
معمولة دفعًا لوهم اتقى
هذا فصل يذكر فيه ما يجوز حذفه من التابع أو المتبوع، فتكلم أولا في التابع، يعني أن التابع، وهو المعطوف، قد يحذف مع عاطفه قليلا، لكن في الكلام، ولا يختص ذلك بالشعر، ويدل على أنه قليل إتبانه بـ (قد) إذ عادته أنه لا يأتي بها إلا إيذانًا بالقلة. وذلك صحيح هنا، إذ ليس له في النقل كثرة.
ويدل على أنه لا يختص بالشعر إطلاقه، إذ لو أراد الشعر لبينه، ولأنه إذا أشعر بالقلة دل ذلك من قصده أنه أراد في الكلام.
لكنه لا يحذف إلا بشرطين:
أحدهما: أن يكون الحرف (الفاء أو الواو) إذ لا يجوز ذلك في غيرهما، فلا تقول: جئت زيدًا لأكلمه ثم أجابني، تريده ثم كلمته ثم أجابني، إذ لا دليل على (ثم) وكذلك غيرها من حروف العطف ما عدا (أم) فإن الشاعر قد قال:
دعاني إليها القلب إني لأمرها
…
سميع فما أدري أرشد طلابها
يريد: أم غى، ولعله عنده قليل لا يقاس عليه فلم يعتبره.
والثاني: أن يكون في الكلام دليل على المحذوف وهو قوله: (إذ لابس) أي إنما حذفت لأجل أن في الكلام ما يدل عليه، فلا يلتبس معنى الكلام بحذفه، فلو كان الكلام يلتبس بذلك لم يحذف أصلا.
فإذا قلت: جاءني زيد فأكرمته، تريد جاءني فمدحني فأكرمته لم يجز، إذ لا دلالة على إرادة المحذوف، فإذا اجتمع الشرطان جاز.
فأما (الفاء) فقولك: أتيت زيدًا لأكلمه فأجابني بكذا. التقدير: فكلمته فأجابني هذا محصول المعنى ولابد، وهو مفهوم، وفي القرآن: } اذهب بكتابي هذا فألقه إليهم ثم تول عنهم فانظر ماذا يرجعون. قالت يا أيها الملأ {، فالمعنى: فذهب فألقاه فقالت. والآية شاهد / على حذف معطوفين اثنين وقد حذف أكثر من ذلك في قوله: } فأرسلون
يوسف أيها الصديق أفتنا {، فإن المعنى: فأرسلوه، فأتاه، فقال: يوسف أيها الصديق.
ومنه أيضا: } فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت {، المعنى: فضرب، فانفجرت. وقال تعالى} فقلنا اضربوه ببعضها كذلك يحيي الله الموتى {أي فضربوه فحيي، فقلنا: كذلك يحيي الله الموتى. وقال: } ذلكم خير لكم عند بارئكم فتاب عليكم {أي: فامتثلتم، فتاب عليكم. وهذا كله من "عطف الجمل".
وأما (الواو) فهو المنبه عليها بقوله: (والواو) وهو عطف على الفاء "عطف المفردات" وذلك عندهم جائز، كأنهم تناسوا الخبر للعلم به، ولذلك تقول العرب: زيد قائم لا عمرو، لأن (لا) إنما تعطف المفردات.
ويجوز أن تكون (الواو) مبتدًأ محذوف الخبر، لتقدم ما يدل عليه، كأنه قال: والواو كذلك تحذف مع ما عطفت، فتكون المسألة من "عطف الجمل".
ويجوز أن يعطف على الضمير في (تحذف) ويسهله الفصل بين المعطوف والمعطوف عليه.
ومثال حذف (الواو) ومعطوفها قوله تعالى: } وجعل لكم سرابيل تقيكم الحر {. المعنى عندهم: الحر والبرد، وقال تعالى: } وتلك نعمة تمنها على أن عبدت بني إسرائيل {. قالوا معناه: ولم تعبدني، وهذا من "عطف الجمل"
وقال: {نفرق بين أحدٍ من رسله {. أي بين أحدٍ وأحد، وقال: } لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل {. يريد: ومن أنفق بعده وقاتل، يدل على ذلك قوله: } أولئك أعظم درجةً من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا {، وقوله تعالى: } بيدك الخير {. قالوا معناه: والشر، لقوله تعالى: } تؤتى الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء {. إلى آخرها.
وقالت العرب: راكب الناقة طليحان، يريد: راكب الناقة والناقة طليحان، وأنشد سيبويه لميسون بنت بحدل الكلبية:
للبس عباءةٍ وتقر عيني
…
أحب إلى من لبس الشفوف
أي: ولا تقر عيني، وقال النابغة:
فما كان بين الخير لو جاء سالمًا
…
أبو حجرٍ إلا ليالٍ قلائل
المعنى: فما كان بين الخير وبيني، وقال امرؤ القيس:
كأن الحصى من خلفها وأمامها
…
إذا نجلته رجلها كف أعسرا
أراد: إذا نجلته رجلها ويدها، والبيت وما قبله دال على ذلك، وقال مساور العبسي:
قد سالم الحيات منه القدما
…
الأفعوان والشجاع الشجعما
* وذات قرنين ضموزًا ضرزما *
أراد: قد سالم الحيات منه القدم والقدم، الأفعوان وكذا وكذا، على هذا حمله بعضهم.
وظاهر كلامه أن مثل هذا الحذف يقاس عليه وإن كان قليلا في النقل إذ يسند ذلك إلى العرب، بل قال:(قد تحذف).
ويحتمل أن يريد أنها تحذف في كلام العرب، ويبقي مسكوتا عنه في القياس.
وعلى الجملة، فإذا تعين المحذوف ساغ حذفه.
ثم قال: "وهي انفردت بكذا"، "هي" ضمير عائد على أقرب مذكور لأنه الأصل، وأقرب مذكور هو (الواو) فيريد أن الواو انفردت عن (الفاء) بعطف عاملٍ مزال، أي محذوفٍ قد بقي معمولة، على عاملٍ ظاهر، وذلك ليس بجائز في (الفاء).
وأشار بهذه العبارة إلى نحو قوله / تعالى: } فأجمعوا أمركم وشركاءكم {فقوله: "وشركاءكم" لا يصح عطفه على "أمركم" إذ يلزم منه التشريك في العامل الذي هو "أجمعوا" وأنت لا تقول: أجمعوا شركاءكم، على (أفعل) وإنما يقال: اجمعوا، ثلاثيًا و (أجمع) مخصوص بالأمر والكيد ونحوه، وإذا كان كذلك فلابد من تقدير ما يصح أن يكون عاملا في "الشركاء" وذلك (جمع) الثلاثي، فكأنه قال: فأجمعوا أمركم، واجمعوا شركاءكم، فصارت (الواو) إنما عطفت عاملا محذوفا قد بقى معموله على عامل ظاهر.
ومن ذلك قوله تعالى: } والذين تبوؤا الدار والإيمان {التقدير واعتقدوا الإيمان، إذ لا يقال: تبؤوا الإيمان - إلا على مجاز، والأصل الحقيقة، وأنشد النحويون:
إذا ما الغانيات بررن يومًا
…
وزججن الحواجب والعيونا
أراد: وكحلن العيون، وأنشد أيضا:
علفتها تبنًا وماًء باردًا
…
حتى شتت هملةً عيناها
أي: وسقيتها ماء باردا، وأنشدوا أيضا:
يا ليت زوجك قد غدا
…
متقلدًا سيفًا ورمحا
أي: وحاملاً رمحا.
فهذه المثل مما عطفت فيه (الواو) العالم المزال على الظاهر.
ومن ذلك أيضا على رأى سيبويه: مررت بزيدٍ وعمرًا، لا يمكن أن يكون "عمرو" معطوفا على موضع "زيد" لأنه لا يمكن أن ينفصل الجار عنه فتقول: مررت زيدًا وعمرًا، كما جاز ذلك في قوله:
* فلسنا بالجبال ولا الحديدا *
وصحة العطف على الموضع متوقفة على صحة إظهار الموضع، فإنما صح: مررت بزيدٍ وعمرًا، على أضمار فعل، وذلك الفعل معطوف على (مررت) فدخل تحت ضابطه، وكذلك قولك: حسبك وزيدًا درهم. حمل سيبويه (زيدًا) على فعل مضمر دل عليه "حسبك" لأن معناه: يكفيك، فكأنه في التقدير: يكفيك ويكفى زيدًا درهم، ومثله: كفيك وزيدًا درهم ونحوه، وكذلك: ويل له وأباه، فـ (أباه) مفعول بفعل مضمر دل عليه (ويل له) لأن معناه ومعنى المنصوب واحد، فكأنه قال: وألزم الله أباه الويل.
ومن ذلك قولك: هذا ضارب زيدٍ أمس وعمرًا، فإنه منصوب بفعل دل عليه "ضارب" أي: وضرب عمرًا، أو يضرب عمرًا؛ إذ لا يصح حمله على موضع "زيد" لأنه لا موضع له عند المؤلف والبصريين، فتعين الإضمار.
وكذلك اسم الفاعل المراد به الحال أو الاستقبال إذا عطف على مخفوضه منصوب، سيبويه يحمله على إضمار الفعل، فإذا قلت: هذا ضارب زيدٍ غدًا وعمرًا، فـ (عمرا) منصوب بفعل، وليس عطفا على الموضع لفقد شرطه، وهو وجود المجوز للنصب، وهو هنا التنوين الذي كان في "ضارب" وقد ذهب.
فكل هذا داخل تحت قوله: (وهي انفردت بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى معموله) إذا فرضنا أن الناظم قائل بمقتضى هذه المسائل.
أما الأمثلة المتقدمة فلا مرية / أنه قصد التنبيه عليها.
وأما مررت بزيدٍ وعمرًا، فيمكن أن يكون قائلاً فيها بمذهب ابن جنى وابن خروف، وكذلك مسألة اسم الفاعل لغير الماضي، وقد تقدم في باب "اسم الفاعل" ما يشعر بأن لا حذف هنالك عنده، ويمكن في المسائل الأخر أن يقول فيها بالنصب على المفعول معه، فلا تتعين للتمثيل بها هنا.
فإن قيل: هذا الكلام غير بين من وجهين:
أحدهما: أن الناظم لم يبين فيه المعطوف عليه ماذا يكون، أهو عامل آخر أم لا؟ وإلى هذا فلعله ليس معطوفا إلا على جملة اسمية نحو: هذا لك وأباك، فإنه إنما يتصور نصب (الأب) على عامل مقدر وهو فعل، ولا فعل في (هذا لك) لكنها ممنوعة، فإطلاقه يدخلها في حكم الجواز على إضمار الفعل، وليس كذلك.
قال سيبويه: وأما (هذا لك وأباك) فقبيح، لأنه لم يذكر فعلاً ولا حرفًا فيه معنى الفعل، حتى يصير كأنه قد تكلم بالفعل.
وأيضًا فعلى تسليم أنه ذكر ذلك لم يبين أهو ظاهر أم مضمر، ولابد أن يكون ظاهرا، فنقصه من العبارة (بعطف عاملٍ مزالٍ قد بقى معموله على عاملٍ ظاهر.
والثاني: أن هذه المثل المتقدمة وما كان نحوها إنما جاز ذلك فيها بشرط أن يكون العاملان يجمعهما معنى واحد، وذلك هو الذي سوغ الحذف، ولأجل هذا والذي قبله قال في "التسهيل": وعامل مضمر على عاملٍ ظاهرٍ يجمعهما معنى واحد. لأن معنى الجمع في "أجمعوا" و "واجمعوا"، ظاهر، وإن كان "أجمعوا" مختصًا بالأمر ونحوه، وكذا "تبوؤا الدار والإيمان"، فيهما معنى "لازموا، أو صحبوا" أو نحوه. وقوله:
* وزججن الحواجب والعيونا *
فيهما معنى (حسن) وفي قوله:
* علفتها تبنًا وماًء باردًا *
فيهما معنى (أعطيتها كذا). وفي قوله:
* متقددًا سيفًا ورمحا *
معنى (حاملاً) ونحوه، فلو كان على غير هذا لم يجز على ما اقتضاه كلام "التسهيل"، ولم يقيدها هاهنا، فكان قصورا في أداء معنى المسألة.
فالجواب: أن شرط الحذف كما تقدم الدلالة على المحذوف، ولو كانت الجملة المعطوف عليها ليس فيها فعل ولا ما يدل على الفعل لم يكن ثم دال على المحذوف، فتكون المسألة ممتنعة من حيث أخرجها شرط الدلالة على المحذوف، وإذ ذاك تبقى مسألة سيبويه، خارجةً عن كلامه على مقتضى الشرط.
فإن قلت: وأين شرط هنا الدلالة على المحذوف؟
قيل: قد تقرر من نظمه في مواضع متعدده أن اللفظ لا يحذف إلا لدليل منها البيت قبل هذا، بل هذه المسألة كأنها فرع مما قبلها.
فإذا ثبت هذا لم يحتج إلى إعادة الاشتراط، وحصل / أن العامل لم يحذف حتى كان عليه دليل، وهو العامل المتقدم، فمن حيث
كان دليلاً عليه لابد أن يكون مجتمعا في المعنى معه، وإلا فليس بدليل، ولابد أن يكون ذلك الدليل هو المعطوف، لأنه الأصل، ولأنه دليل على ما حذف، ولو كان غير ظاهر لم يكن دليلا، بل محتاجا إلى ما يدل عليه.
والجواب عن الثاني قد تضمنه الجواب عن الأول، لأن شرط الدلالة على المحذوف يستلزم اجتماعهما في معنى واحد، فلم يفتقر إلى زيادة، وهذا من جملة اختصاراته المستحسنة.
وقوله: (دفعًا لوهمٍ اتقى مفعول له، يحتمل أن يرجع إلى قوله: (قد بقى معموله).
يريد أن ذلك المعمول قد بقى ولم يحذف مثل ما حذف عامله دفعًا للوهم الذي كان يحصل بحذفه، واللبس الواقع بسببه، لأنه لو حذف المعمول معه عامله لم يبق ما يدل على أن ثم محذوفًا، وهذا متقًى ومحذور في الكلام، وإن فرض أن ما تقدم دال على عامل فإنما يدل إذا تعين موضع الدلالة، والمعمول هو الذي يعينه، فإنك لو قلت: مررت بزيدٍ، ولم تذكر (عمرًا) بأن تقول: مررت بزيدٍ وعمرًا - لم يكن ثم ما يدل على حذف عامل لـ (عمرو) وهو (لقيت) أو نحوه، فلما جئ بالمعمول اقتضى عاملاً، لأن كل معمول لابد له من عامل، فجاء العامل المعطوف عليه بتعيينه موافقًا لذلك المعمول، ولائقًا به، فتقدره من معناه في نحو: مررت بزيدٍ وعمرًا، ونحوه:
* علفتها تبنًا وماًء باردًا *
ومن لفظه ومعناه في نحو: هذا ضارب زيدٍ وعمرًا على رأي سيبويه.
ويحتمل أن يكون راجعا إلى الحكم الأول، وهو عطف العامل المزال، كأنه قال: انفردت (الواو) بعطف كذا دفعًا لوهمٍ اتقى
ويعني أن هذا الحكم ثبت للواو، وهو عطفها للعامل المحذوف على العامل المذكور دفعًا لما يذهب إليه الوهم من عطف المعمول المذكور بعد (الواو) على ما قبلها، فإنك إذا قلت:
* علفتها تبنًا وماًء باردًا *
فالوهم يسبق إلى عطف "الماء" على "التبن" من غير تقدير شيء، وليس المعنى عليه.
وإنما المعنى على تقدير عامل للثاني، والعامل هو المعطوف، وكذلك سائر مثل الباب، وهذا فيه نظر، والأول أوضح.
ويقال: وهمت إلى الشيء وهمًا - بإسكان الهاء - إذا ذهب وهمك إليه، وهذا هو المراد، أي دفعًا لأن يذهب الوهم إلى غير المراد. وليس من (الوهم) المحرك الهاء، وهو الغلظ.
ثم أخذ يذكر حذف المتبوع فقال:
وحذف متبوعٍ بدا هنا استبح
…
وعطفك الفعل على الفعل يصح
واعطف على اسمٍ شبه فعلٍ فعلا
…
وعكسًا استعمل تجده سهلا
يعني أن المتبوع، وهو المعطوف عليه، قد يجوز حذفه إذا بدا وظهر معناه مع حذفه، ظاهر / إطلاقه أنه قياس وإن كان قد قال:"استبح"
وهذا لفظ يشعر بأن الأصل فيه المنع، ولذلك يقال فيما شأنه أن يمنع ويحتاط عليه هذا حمى لا يستباح، لكن السماع هو المتبع، وقد وجد الحذف كثيرا، فليقل به.
والمعطوف عليه هنا تارًة يحذف بعد "بلى، ونعم" وشبههما، وتارة يحذف مطلقا لا بعد حرف.
فالأول كقولك لمن قال: ألم تضرب زيدًا؟ فتقول: بلى وعمرًا، أو من قال: أأكرمت زيدًا؟ نعم وأخاه ومنه في القرآن الكريم: } أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بلى ورسلنا لديهم يكتبون {فالعطف على معطوف غير مذكور، والتقدير: بلى ضربت زيدًا وعمرا، ونعم أكرمت زيدًا وأخاه، وكذلك سائر الباب. وحرف التصديق هو الذي قام مقام ما حذف.
وجاء عن ابن الزبير أنه قال للرجل الأسدي إذ قال له: لعن الله ناقًة ساقتني إليك، فقال له ابن الزبير: إن وراكبها، وقال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
يقولون أعمى قلت: إن وربما
…
أكون وإني من فتًى لبصير
ومن أبيات الحماسة قول الشاعر:
لعمري لقد نادى بأرفع صوته
…
نعى حيي إن فارسكم هوى
أجل صادقًا والقائل الفاعل الذي
…
إذا قال قولاً أنبط الماء في الثرى
فقوله: "والقائل" معطوف على مقدر، كأنه قال: قلت حقًا إن فارسنا والقائل الفاعل لهو، ويجوز الرفع على تقدير: هو فارسنا والقائل والفاعل.
ومما يجرى في المعنى هذا المجرى حكاية القرآن: } وارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله واليوم الآخر قال ومن كفر فأمتعه قليلاً {فالمعنى على تقدير: أفعل ذلك ومن كفر فأمتعه قليلا، وقوله تعالى: } ويقولون سبعة وثامنهم كلبهم {. المعنى هم كذلك، وثامنهم كلبهم.
وحمل السهيلي الآيتين على تقدير: نعم، والمعنى واحد، وهذا هو الثاني من الضربين.
ومنه أيضًا قول بعض العرب: وبك وأهلاً وسهلاً، لمن قال: مرحبًا وأهلاً، أي بك مرحبًا وأهلاً وسهلاً.
ومن ذلك عند المؤلف قوله تعالى: } ولتصنع على عيني {أي لترحم ولتصنع على عيني، وقوله تعالى: } فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهبًا ولوافتدى به {أي لو ملكه وافتدى به.
ومنه أيضًا في الفاء قوله تعالى: } اضرب بعصاك الحجر فانفجرت" الآية.
التقدير: فضربن فانفجرت، وقوله: } أن اضرب بعصاك البحر فانفلق {كذلك.
وقدم الاستشهاد بهذا في حذف العاطف والمعطوف لصلاحيته شاهدا في الموضعين.
وهنا تنبيهان:
أحدهما: أن معظم هذه الأمثلة في كلامي متكلمين اثنين، لا في كلام متكلم واحد.
وقد اختلفوا هل من شرط الكلام أن يكون من متكلم واحدٍ أم لا؟
فمنهم من اشترط ذلك بناًء على أن الكلام عمل / واحد، فلا يكون عامله إلا واحدًا.
ومنهم من لم يشترط ذلك لأن المتكلمين إذا اصطلحا على التكلم بكلامٍ واحد، أحدهما يتكلم بجزئه، والآخر بالجزء الآخر - فقد اشتمل على قيوده المعتبرة، فكما لا يشترط اتحاد الكاتب [كذلك لا يشترط اتحاد المتكلم].
فإن قيل: إذا لم يتحد المتكلم لم يترتب على الكلام مفهوم، كما يترتب على الكلام إذا اتحد المتكلم؛ إذ لا يعلم ارتباط أحد الجزءين بالآخر، فلا يفيد الكلام فائدة، ومن شرط الكلام الفائدة.
فالجواب: أن هذا راجع إلى السامع لا إلى الوضع، فإن الوضع إنما كان لحصول الفائدة، وذلك هو المقصود، وإلا لزم أن يكون الكلام من متكلم واحد - إذا لم تحصل به للسامع فائدة لعدم فهمه له - أن لا يكون كلاما، وذلك باطل، فأصل الكلام لا خلل فيه، وإنما الخلل في فهم السامع، فلا يكر على الكلام بالإفساد، وهذا كله إنما هو نظر في أمر قياسي، والمعتمد إنما هو السماع، فإن سمع كلام واحد من متكلمين فذاك، وإن لا فلا ينبغي أن يهمل ذلك الشرط، وقد وجدنا كلاما من متكلمين، قال امرؤ القيس والتوأم:
أحار ترى بريقًا هب وهنًا
…
كنار مجوس تستعر استعارا
وفيها:
كأن هزيزه لوراء غيبٍ
…
عشار وله لاقت عشارا
فلما أن دنا لقفا أضاخٍ
…
وهت أعجاز ريقه فحارا
ففي هذين البيتين الأخيرين المتبدأ والشرط في كلام أحدهما، والخبر والجواب في كلام الآخر، فالظاهر على هذا عدم اشتراط ذلك الشرط، إلا أن يقال: إن كلا من المتكلمين إنما اقتصر على كلمة واحدة اتكالاً على نطق الآخر بالأخرى، فمعناها مستحضر في ذهنه، فإذا اجتمع مع اللفظ المنطوق به صار المجموع كلاما، كما يكون كلاما قول القائل لقوم رأوا شبحًا: زيد، أي المرئي زيد.
فإذًا كل واحد من المتكلمين متكلم بكلام تام، لكن أحد جزءيه غير ملفوظ به، وهذا الاحتمال بعيد وخلاف الظاهر.
فإذا تقرر هذا فالعطف على كلام الغير من هذا القبيل، فإن العطف يصير الشيئين شيئًا واحدا في المفرد والمركب.
فإذا قلنا باشتراط اتحاد المتكلم كان الكلام المعطوف في تلك الأمثلة ليس معطوفا على كلام الأول؛ بل على شيء آخر يقدر للثاني، ويصح التمثيل.
وإذا قلنا بعدم الاشتراط لم يصح التمثيل، لأن العطف إنما هو على كلام الأول فلا حذف.
ومن أمثلة ذلك أيضا قول امرئ القيس والتوآم:
فلم يترك بذات السر ظبيًا
…
ولم يترك بجلهتها حمارا
وليس في هذا "النظم" تصريح بأحد الرأيين.
وكلامه في "شرح التسهيل" في "شرح الكلام" وقع فيه بعض تصريحٍ بشيء، لأنه لما نقل قول من اشترط اتحاد المتكلم، ثم بحث معه - قال آخرا: فثبت أن الزيادة المذكورة مستغنى عنها.
فهذا يدل على أنه يجيز وقوعه من متكلمين، ويلزم على ذلك ألا يقدر معطوفا عليه في مسألتنا، لكنه في الوجه الثاني من وجهي البحث قدر أن كل واحد من المتكلمين / قد تكلم بكلامٍ بعضه ملفوظ به، وبعضه مقدر، فدل على اشتراط اتحاد المتكلم، وهذا تناقض فلا يعتبر كلامه هناك.
وحين مثل في "الشرح" هذه المسألة أتى بالأمثلة التي اجتمع فيها كلام كتكلمين، فانظر في هذا كله، وكذلك إذا جعلنا سكوته هنا عن اشتراط اتحاد المتكلم في قوله أول النظرم:"كلامنا لفظ مفيد كاستقم" إشعارًا بأنه لم يرتضه - لزم من ذلك مثل ما لزمه في "الشرح" من إسقاط هذه المثل، وألا يضمر شيئا.
والثاني من التنبيهين أنه قال: (هنا استبح) فقيد ما ذكر من الحكم بالمكان الذي أشار إليه، وذلك يحتمل وجهين:
أحدهما: أن تكون إشارته إلى الباب الذي هو فيه تحرزًا من إيهامٍ كان يلحقه لو لم يذكره، لأنه قال:(وحذف متبوعٍ) ولفظ "المتبوع" لا يتقيد بهذا الباب دون غيره، فإن "المتبوع" من حيث هو متبوع، يتبعه النعت والبدل وسائر التوابع، وحذف المتبوع لا يجوز على الإطلاق، بل في موضع دون موضع، كباب (النعت) [وهذا الباب] وقد ذكر حكم النعت في موضعه حين قال:"وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه" فبحق ما قيد الحكم بهذا الموضع. ولو قال: وحذف معطوفٍ عليه استبح إذا علم لم يحتج إي القيد المذكور.
والثاني: أن تكون الإشارة إلى المسألة القريبة الذكر، وهي مسألة الحذف، وقد قيدها بعطف (الواو والفاء) خاصة، فكأنه يقول: إن حذف المعطوف عليه إذا كان العطف بالواو والفاء مستباح لا حظر فيه، وندر ذلك مع (أو) فالنادر لا يعتد به هنا نحو قوله.
فهل لك أو من والدٍ لك قبلنا؟
قال: أراد فهل لك من أخٍ أو من والدٍ؟ فبقيت الواو والفاء، فصار كلامه هنا موافقا لما قال هنالك، واقتصر هنا على موضع السماع.
فدل على أنه أراد هنا ما كان من المثل من متكلم واحد، بخلاف ما كان من متكلمين، فإنه لا حذف فيه، فلا يسوغ أن يمثل له به، بناًء على أنه لم يشترط في الكلام اتحاد المتكلم.
وأيضا فإن العطف في كلام متكلمين لا يقتصر به على (الواو والفاء) دون غيرهما؛ إذ هو سائغ في جميع الحروف، وكذلك يسوغ في التوابع كلها، وهو لم يذكر حذف المتبوع إلا في "النعت" و"عطف النسق" فبان أن مراده في كلام المتكلم الواحد، فكلامه هنا غير متناقض، بخلاف "الشرح" كما تقدم، والله أعلم.
"وحذف" مفعول "استبح" و"بدا" في موضع الصفة لمتبوع، أي لمتبوع بادي المعنى، "وهنا" متعلق بـ"استبح" لا بـ (بدا)
ثم قال: "وعطفك الفعل على الفعل يصح"
لما تكلم على عطف "الأسماء" بعضها على بعض أردف ذلك بالكلام على عطف "الأفعال" بعضها على بعض، وعطف "الجمل" مفروغ منه على الجملة.
ويريد أن الفعل / يصح أن يعطف على الفعل، كما يصح أن يعطف الاسم على الاسم، وكما تعطف الجملة على الجملة، من غير مانع من ذلك.
وإطلاقه عطف الفعل على الفعل يقتضي أنه لا يقتصر في ذلك على المماثلة في وقوع الفعل، بأن يعطف الماضي على الماضي، والمضارع على مثله؛ بل يجوز عطفه على مثله وعلى خلافهه. وهذا صحيح.
لكنه شرط في ذلك في "الشرح" اتحاد الزمان، فلك أن تقول: إن يقم زيد وخرج أخوه أكرمهما، وإن قام زيد ويخرج أخوه أكرمهما.
ومنه في القرآن الكريم: } إن نشأ ننزل عليهم من السماء آيًة فظلت أعناقهم لها خاضعين {وقوله: } تبارك الذي إن شاء جعل لك خيرًا من ذلك جناتٍ تجرى من تحتها الأنهار ويجعل لك قصورًا {على قراءة الجزم، وهي لغير ابن كثير وابن عامر وأبي بكر، وأنشد سيبويه لقيس بن الخطيم:
إذا قصرت أسيافنا كان وصلها
…
خطانا إلى أعدائنا فنضارب
ومن اتفاق الفعلين قوله تعالى: } وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء {على قراءة الجزم أيضا، وهي لغير ابن عامر وعاصم، وقوله: } أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى {وقوله} وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون {وذلك كثير.
فإن قلت: من أين يؤخذ للناظم اشتراط اتحاد الزمان؟
فالجواب: أنه لم يتعرض لهذا المقدرار من التفسير، وإنما بين أن هذه المسألة صحيحة على الجملة، أو يقال: لعله لم يعتبر هذا الشرط، وذلك أن عطف الفعل على الفعل قد يتعين وقد لا يتعين.
فإذا تعين فإنما ذلك إذا تأثر الفعل بناصب أو جازم، أو كان في موضع ما يتأثر، كما تقدم في الأمثلة، فلا يصح هنالك أن يكون من "عطف الجمل" كما يأتي، وإذا كان معمولاً لناصب أو جازم، ثم عطف عليه اقتضى دخوله تحت مقتضى العامل من التخليص إلى زمان واحد، فكان كما شرط من اتحاد الزمان.
وإذا لم يتعين فإنما ذلك إذا لم يتأثر فيلتبس إذ ذاك بعطف الجملة على الجملة نحو: قام زيد ويقوم أخوه، فيمكن هنا الوجهان كما في قولك: قام زيد وخرج أخوه، ويقوم زيد ويخرج أخوه.
ولا مانع يمنع من تقدير هذه المسال من عطف الأفعال بعضها على بعض، وإذا كانت جائزة في باب "العطف" لم يلزم فيها اتحاد الزمان، فيعطف الماضي على المضارع، وبالعكس، مع بقاء كل فعل على أصله، فلأجل هذا والله أعلم - لم يشترط اتحاد الزمان، وهو حسن من النظر.
وبعد ففي هذه العبارة فوائد:
إحداها: التنبيه على أن عطف الأفعال بعضها على بعض لا يندرج تحت "عطف الجمل" بل الأفعال في ذلك كالأسماء المفردة، وهذا مما يفتقر إلى التنبيه عليه، لأنه في أول الأمر يشكل، ولأجل إشكاله اعترض ابن
الضائع / على ابن عصفور قوله في حد "العطف": هو حمل اسمٍ على اسم، أو فعلٍ على فعل، أو جملةٍ على جملة إلى آخره، فاعترضه ابن الضائع بالتداخل، من جهة أن قوله:"أو فعلٍ على فعل" داخل تحت قوله: "أو جملةٍ على جملة" لأن الفعل لا ينفرد بنفسه؛ إذ لابد له من فاعل أو نائب عنه.
قال شيخنا الأستاذ أبو عبد الله بن الفخار رحمه الله عليه: والظاهر أن هذا تحامل على ابن عصفور، لأنك إذا قلت: إن يقم زيد ويخرج أبوه فأكرمهما - فهذه (الواو) قد شركت بين الفعل الثاني والفعل الأول في حرف "إن" منفردين دون اعتبارٍ بمرفوعهما، لأن الجازم إنما يتعلق حكمه بالفعل دون توابعه، ولا حكم له في الجملة أصلا؛ إذ كان الجزم من خصائص الأفعال، ولو كان تعلقه بالجملة لم يؤثر فيها، لأن الجمل لا تؤثر فيها العوامل إذا كانت مطلوبة لها طلبا واحدا.
قال الأستاذ: والمسألة فيها طالب، ومطلوب مطلوبٍ، فحرف الشرط هو الطلب، والفعل بانفراده هو مطلوب الحرف، والفاعل هو الطالب الفعل، فإذًا لم يقع التشريك إلا بين الفعلين فقط، وما عدا الفعلين إنما هو تابع لهما، هذا كلامه رحمه الله وما قاله هو الصواب الذي لا إشكال فيه.
فقول الناظم: (وعطفك الفعل على الفعل يصح) منبه على هذا.
والثانية: التنبيه على أن "باب العطف النسقي" لا يختص بالأسماء، كالنعت والتوكيد المعنوي؛ بل يكون بالأفعال أيضا كما تقدم ذكره.
وأحسب أني رأيت نقلاً بجريان "عطف البيان" في الفعل، فقول الله تعالى: } ومن يفعل ذلك يلق أثامًا يضاعف له العذاب يوم القيامة {. فقوله: "يضاعف" يحتمل" عطف البيان" ويحتمل "البدل" وإذا كان البدل في الأفعال سائغا، وعطف البيان شبيه بالبدل، فليجز فيه ما جاز في شبيهه.
والنافي يقول: عطف البيان أشبه بالنعت منه بالبدل، ألا ترى أنه يجري على مثله في التعريف أو التنكير، بخلاف البدل فإنه تجرى النكرة منه على المعرفة وبالعكس.
وأيضا: فإن البدل عندهم في تقدير جملة أخرى، والعطف في تقدير الجزء من المعطوف عليه، كالنعت، فعطف البيان إذًا أقرب إلى النعت منه إلى البدل، فيبعد أن يكون في الأفعال بخلاف البدل.
وأيضا: فعامة النحويين على خلاف ما ذهب إليه هذا القائل، فالوجه إسقاط عطف البيان من الأفعال، كما فعل الناظم.
والثالثة: التنبيه على أن الفعل إنما يعطف على الفعل، كما أن الاسم إنما يعطف على الاسم، لأن عطف اللفظ على اللفظ يقتضي تشريكه معه في معناه المختص به، أو في عامله المختص به، وهذا المعنى يوجب ألا يعطف الاسم على الفعل /، ولا الفعل على الاسم،
لأن عوامل الأسماء لا تطلب الأفعال، ولا بالعكس، ومعاني الأسماء لا تقتضيها الأفعال، ولا بالعكس، فلا يصح عطف اللفظ على ما ليس من جنسه ولا من شكله.
ثم لما كان من الأسماء ما هو شبيه بالأفعال، ويعطي معنى الفعل - اقتضى هذا الشبه تسويغ عطف بعضها على بعض، اعتبارًا بالمشاركة في المعنى، فأخرجها الناظم من قاعدة الامتناع إلى الجواز فقال:"واعطف على اسمٍ شبه فعلٍ فعلا" إلى آخره.
يعني أن عطف الفعل على الاسم الذي يشبه الفعل، وعطف الاسم المذكور على الفعل، سائغ لسهولة الخطب فيه؛ إذ كان الاسم من حيث أشبه الفعل كأنه فعل، فكأنك لم تعطف إلا فعلا على فعل، فلم يبق فيه ما تقدم من المحظور، فتقول: أعجبني الضارب زيدًا وأكرم عمرًا، وجاءني رجل ضارب زيدًا ويكرم أخاه.
وتقول: إن زيدًا يقوم وخارج. فمن الأول قوله تعالى: } فالمغيرات صبحًا. فأثرن به نفعًا {وقوله: } أولم يروا إلى الطير فوقهم صافاتٍ ويقبضن {، وقوله: } إن لمصدقين والمصدقات وأقرضوا الله {الآية، وقوله: } فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا {على قراءة الكوفيين، ومن
الشعر قول الأخطل:
وما الجار بالقاليك ما دام آمنًا
…
ويدعوك عند المعضل المتفاقم
ومن الثاني: قوله تعالى: } يخرج الحي من الميت ومخرج الميت من الحي {.
وأنشد غير واحد:
* أم صبى قد حبا أو دارج *
وأنشد ابن السراج:
بات يغشيها بعضبٍ باتر
…
يعدل في أسؤقها وجائر
وقال الآخر:
فألفيته يومًا يبير عدوه
…
وبحر عطاءٍ يستخف المعابرا
وهو للنابغة.
وهذا الضرب الثاني هو المراد بقوله: "وعكسًا استعمل" أي استعمل عكس عطف الفعل على الاسم المذكور "تجده سهلا" وحقيقة العكس: واعطف على فعلٍ اسمًا شبه فعلٍ، والضمير في "تجده" للعكس.